موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادسُ: مِن منهَجِ المُعتَزِلةِ في التَّعامُلِ معَ اللُّغةِ العربيَّةِ لتقريرِ عقائِدِها: التَّصرُّفُ في دَلالاتِ الصِّيَغِ الفِعليَّةِ تخريجًا على أُصولِهم العَقَديَّةِ


وذلك كتصرُّفِهم في صيغتَي "أفْعَلَ" و"فَعَل" المُسندَتَينِ إلى المولى عزَّ وجلَّ، الدَّالَّتَينِ على خَلقِه لأفعالِ العِبادِ؛ حيثُ أحدَثوا لها دلالاتٍ أُخرى، وجعَلوها تدُلُّ على معنى: سمَّاه، أو وجَده، أو صادَفه، أو حَكَم عليه، أو شَهِد له بذلك؛ فِرارًا ممَّا تدُلُّ عليه مِن خَلقِ اللهِ لأفعالِ العِبادِ، وتصرُّفِه فيها؛ مُستِندينَ إلى قاعِدتِهم في العَدلِ؛ أنَّه تعالى عادِلٌ لا يظلِمُ أحدًا، وهو مُنزَّهٌ عن فعلِ القبيحِ؛ ولذلك قالوا في قولِ اللهِ تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: 23] ، وقولِه: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146] ، وقولِه: ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم [التوبة: 127] ، وقولِه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] ، ونَحوِها مِن الآياتِ أنَّ معناه: سمَّاهم ضُلَّالًا، أو وجَدهم كذلك، أو حَكَم عليهم بالضَّلالِ [1456] يُنظر: ((أمالي المرتضى)) لابن المرتضى (1/312)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 340-341)، ((الكشاف)) للزمخشري (1/26-27، 57-58)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (2/137-141). .
واحتجُّوا على ذلك بقولِ الكُمَيتِ:
فطائِفةٌ قد أكفَرَتْني بحُبِّكم
وطائِفةٌ قالوا: مُسيءٌ ومُذنِبُ [1457] ((أمالي المرتضى)) لابن المرتضى (1/312)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 340-341)، ((الكشاف)) للزمخشري (1/26-27، 57-58)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (2/137-141).
أي: وجَدوني بحُبِّكم، أو حكَموا عليَّ به [1458] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (2/137-141)، ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (10/225). .
قال ابنُ قُتَيبةَ: (ذهَب أهلُ القَدَرِ في قولِ اللهِ تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل: 93] إلى أنَّه على جهةِ التَّسميةِ، والحُكمِ عليهم بالضَّلالةِ، ولهم بالهِدايةِ، وقال فَريقٌ منهم: يُضِلُّهم: يَنسُبُهم إلى الضَّلالةِ، ويَهديهم: يُبيِّنُ لهم ويُرشِدُهم، فخالَفوا بَينَ الحُكمَينِ، ونحن لا نعرِفُ في اللُّغةِ: أفعَلْتُ الرَّجلَ: نسبْتُه، وإنَّما يُقالُ إذا أردْتَ هذا المعنى: فَعَّلْتُ، تقولُ: شَجَّعْتُ الرَّجلَ، وجبَّنْتُه، وسرَّقْتُه، وخطَّأْتُه، وكفَّرْتُه، وفسَّقْتُه، وفجَّرْتُه، ولحَّنْتُه، ولا يُقالُ في شيءٍ مِن هذا كُلِّه: أفعَلْتُه، وأنت تُريدُ: نَسَبْتُه إلى ذلك) [1459] ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 123-124). ويُنظر: ((التفسير اللغوي للقرآن الكريم)) للطيار (ص: 550-555). .
وقال أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ: (هذا التَّأويلُ فاسِدٌ؛ لأنَّ العربَ إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلَّل يُضلِّلُ، واحتِجاجُهم ببيتِ الكُمَيتِ باطِلٌ؛ لأنَّه لا يلزَمُ مِن قولِنا: "أكفَرَ" في الحُكمِ صحَّةُ قولِنا: "أضَلَّ"، وليس كُلُّ موضِعٍ صحَّ فيه "فَعَّل" صحَّ "أفْعَلَ"؛ ألا ترى أنَّه يجوزُ أن يُقالَ: كَسَّره، ولا يجوزُ أن يُقالَ: أَكْسَرَه، بل يجِبُ فيه الرُّجوعُ إلى السَّماعِ) [1460] ((مفاتيح الغيب)) للرازي (16/212-213)، ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (10/225). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (أمَّا تحريفُهم هذه النُّصوصَ وأمثالَها بأنَّ المعنى: ألفاهم، ووجَدهم؛ ففي أيِّ لِسانٍ وأيِّ لغةٍ وجَدْتُم: "هَدَيتُ الرَّجلَ" إذا وجدْتَه مُهتدِيًا؟ أو ختَم اللهُ على قلبِه وسمعِه، وجعَل على بَصرِه غِشاوةً: وجَده كذلك؟ وهل هذا إلَّا افتِراءٌ محضٌ على القرآنِ واللُّغةِ؟ فإن قالوا: نحن لم نقُلْ هذا في نَحوِ ذلك، وإنَّما قُلْناه في نَحوِ: أضلَّه اللهُ، أي: وجَده ضالًّا، كما يُقالُ: أحمَدْتُ الرَّجلَ، وأبخَلْتُه، وأجبَنْتُه: إذا وجَدْتَه كذلك، أو نسَبْتَه إليه، فيُقالُ لفِرقةِ التَّحريفِ: هذا إنَّما ورَد في ألفاظٍ معدودةٍ نادِرةٍ، وإلَّا فوَضعُ هذا البِناءِ على أنَّك فعلْتَ ذلك به، ولا سيَّما إذا كانت الهمزةُ للتَّعديةِ مِن الثُّلاثيِّ، كقام وأقمْتُه، وقعَد وأقعدْتُه، وذهَب وأذهبْتُه، وسمِع وأسمعْتُه، ونام وأنمْتُه، وكذا ضلَّ وأضلَّه اللهُ، وأسعَده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبَه، وأقامه إلى طاعتِه، وأيقَظه مِن غَفلتِه، وأراه آياتِه، وأنزَله مَنزِلًا مُبارَكًا، وأسكَنه جنَّتَه.. إلى أضعافِ ذلك، هل تجِدُ فيها لفظًا واحِدًا معناه أنَّه وجَده كذلك؟! تعالى اللهُ عمَّا يقولُ المُحرِّفونَ، ثُمَّ انظرْ في كتابِ: (فَعَل وأفْعَل) هل تظفَرُ فيه بأفعَلْتُه بمعنى: وجَدْتُه، معَ سَعةِ البابِ، إلَّا في الحرفَينِ أو الثَّلاثةِ نَقلًا عن أهلِ اللُّغةِ؟ ثُمَّ انظرْ هل قال أحدٌ مِن الأوَّلينَ والآخِرينَ مِن أهلِ اللُّغةِ: إنَّ العربَ وضعَت أضلَّه اللهُ، وهداه، وختَم على سَمعِه وقَلبِه، وأزاغ قَلبَه، وصرَفه عن طاعتِه، ونَحوَ ذلك لمعنى: وجَده كذلك؟ ولمَّا أراد سُبحانَه الإبانةَ عن هذا المعنى قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ، ولم يقُلْ: وأضلَّك، وقال في حقِّ مَن خالَف الرَّسولَ، وكفَر بما جاء به: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: 23] ، ولم يقُلْ: ووجَده اللهُ ضالًّا) [1461] ((شفاء العليل)) (ص: 177). ويُنظر أيضًا: (ص: 139) من المرجع نفسه. .
والقاعِدةُ الغالِبةُ في العربيَّةِ: أنَّ الزِّيادةَ في المبنى زيادةٌ في المعنى، والاختِلافُ في الحركاتِ يُؤدِّي إلى الاختِلافِ في المعنى [1462] يُنظر: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 15)، ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (26/263). ؛ فحَملُ "أفعَل" على "فَعَل" مُخالِفٌ للعربيَّةِ.
وحمَلوا معانيَ "هدى" و"ختَم"، و"طبَع"، و"غَشِي" وأمثالِها على الحُكمِ بذلك، أو الوَسْمِ به، أو أنَّه تجوُّزٌ وتمثيلٌ، لا إحداثُ معانيها في العِبادِ [1463] يُنظر: ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (3/302-304)، ((تلخيص البيان في مجازات القرآن)) للرضي (ص: 11-12) ((الكشاف)) للزمخشري (1/26-27). .
وذهَب الأخفَشُ وأبو عليٍّ الفارِسيُّ إلى أنَّ صيغةَ "فاعَلَ" قد تكونُ مِن جهةٍ واحِدةٍ، كما في قولِه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وأمثالِها؛ حِرصًا منهما على نَفيِ ما تدُلُّ عليه الآيةُ مِن المُفاعَلةِ التي تقتضي وُقوعَ المُخادَعةِ مِن اللهِ على سبيلِ المُقابَلةِ [1464] يُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (1/38-39)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (1/312-317). .

انظر أيضا: