موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: مِن منهَجِ المُعتَزِلةِ في التَّعامُلِ معَ اللُّغةِ العربيَّةِ لتقريرِ عقائِدِها: الاعتِمادُ على العقلِ في تفسيرِ المُفرَداتِ الشَّرعيَّةِ اللُّغويَّةِ


لمَّا كان العقلُ مُرتَكَزَ المُعتَزِلةِ الأوَّلَ لتقريرِ العقائِدِ، جعَلوه حَكمًا على غَيرِه مِن المُصطلَحاتِ الشَّرعيَّةِ واللُّغويَّةِ، دونَ مُراعاةٍ لِما تعرِفُه العربُ مِن لغاتِها، وما تدُلُّ عليه النُّصوصُ مِن المعاني الشَّرعيَّةِ بصِيَغِها العربيَّةِ؛ فعلى ضَوءِ ذلك فسَّروا المُفرَداتِ الشَّرعيَّةَ واللُّغويَّةَ مُعتبِرينَ ما يُوافِقُ أهواءَهم، وأوضَحُ مثالٍ على ذلك: الاستِواءُ؛ فإنَّه في اللُّغةِ دالٌّ على الارتِفاعِ والعُلوِّ، لكنَّ المُعتَزِلةَ استخدَموا العقلَ في تفسيرِه، فحمَلوه على الاستِيلاءِ والاقتِدارِ؛ لأنَّ العقلَ قد دلَّ عندَهم على تنزيهِ اللهِ عن الأماكِنِ والجهاتِ!
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ في الاستِواءِ: (قد بيَّنَّا أنَّ المُرادَ بالاستِواءِ هو الاستيلاءُ والاقتِدارُ، وبيَّنَّا شواهِدَ ذلك في اللُّغةِ والشِّعرِ، وبيَّنَّا أنَّ القولَ إذا احتمَل هذا والاستِواءَ الذي هو بمعنى الانتِصابِ وجَب حَملُه عليه؛ لأنَّ العقلَ قد اقتضاه مِن حيثُ دلَّ أنَّه تعالى قديمٌ، ولو كان جسمًا يجوزُ عليه الإمكانُ لكان مُحدَثًا. تعالى اللهُ عن ذلك) [1439] ((متشابه القرآن)) (1/315). .
وقال الشَّريفُ المُرتَضى وهو مِن لُغويِّي القَرنِ الرَّابعِ والخامِسِ: (فكُلُّ ما ورَد في القرآنِ ممَّا له ظاهِرٌ يُنافي العِصمةَ، ويقتضي وُقوعَ الخطأِ منهم؛ فلا بُدَّ مِن صرفِ الكلامِ عن ظاهِرِه، وحَملِه على ما يليقُ بأدلَّةِ العُقولِ؛ لأنَّ الكلامَ يدخُلُه الحقيقةُ والمجازُ، ويعدِلُ المُتكلِّمُ به عن ظاهِرِه، وأدلَّةُ العُقولِ لا يصِحُّ فيها ذلك، ألا ترى أنَّ القرآنَ قد ورَد بما لا يجوزُ على اللهِ تعالى مِن الحركةِ والانتِقالِ، كقولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، وقولِه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، ولا بُدَّ معَ وُضوحِ الأدلَّةِ على أنَّ اللهَ تعالى ليس بجسمٍ، واستِحالةِ الانتِقالِ عليه، الذي لا يجوزُ إلَّا على الأجسامِ- مِن تأوُّلِ هذه الظَّواهِرِ، والعدولِ عمَّا يقتضيه صريحُ ألفاظِها، قَرُب التَّأويلُ أو بَعُد) [1440] ((أمالي المرتضى)) (2/399). .

انظر أيضا: