موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: بِمَ يُدرَكُ حُسنُ الأفعالِ وقُبحُها والثَّوابُ عليها والعِقابُ عندَ المُعتَزِلةِ؟


تُعرَضُ في هذا الفصلِ خُلاصةُ رأيِ المُعتَزِلةِ في حُسنِ الأفعالِ وقُبحِها عندَ المُعتَزِلةِ، معَ مُناقَشةِ ذلك.
إنَّ الحَسنَ والقبيحَ قد يُعنى بهما كونُ الشَّيءِ مُلائِمًا للطَّبعِ أو مُنافِرًا له، وبهذا التَّفسيرِ لا نِزاعَ في كونِهما عقليَّينِ، وقد يُرادُ بهما كونُ الشَّيءِ صفةَ كمالٍ أو صفةَ نَقصٍ، كقولِنا: العِلمُ حَسنٌ، والجَهلُ قبيحٌ، ولا نِزاعَ أيضًا في كونِهما عقليَّينِ [853] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1 /159). ويُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (1 /56). .
إذًا ما هو محَلُّ النِّزاعِ؟ يُجيبُنا على ذلك الرَّازيُّ، فيقولُ: (وإنَّما النِّزاعُ في كونِ الفِعلِ مُتعلَّقَ الذَّمِّ عاجِلًا وعقابِه آجِلًا، وفي كونِ الفِعلِ مُتعلَّقَ المَدحِ عاجِلًا والثَّوابِ آجِلًا، هل يثبُتُ بالشَّرعِ أو بالعقلِ؟) [854] ((المحصول)) (1/160). .
إنَّ ظاهِرَ قولِ المُعتَزِلةِ في هذا هو أنَّ العقلَ هو الحاكِمُ بالحُسنِ والقُبحِ، والفِعلُ حَسنٌ أو قبيحٌ في نَفسِه؛ إمَّا لذاتِه كما يقولُه البغداديُّونَ، أو لصفةٍ حقيقيَّةٍ توجِبُ ذلك، كما يقولُه بعضُهم، أو لوُجوهٍ واعتِباراتٍ هو عليها، كما يقولُه القاضي ومُعظَمُ البَصريِّينَ؛ فالمُعتَزِلةُ قد نسَبوا إلى العقلِ الحُكمَ والكَشفَ [855] يُنظر: ((نظرية التكليف: آراء القاضي عبد الجبار الكلامية)) لعبد الكريم عثمان (ص: 437-438). ؛ فالعقلُ يَعلَمُ العِلمَ الكامِلَ بحُسنِ الفِعلِ وقُبحِه، ومِن ثَمَّ يَحكُمُ عليه.
قال أبو الهُذَيلِ: (يجِبُ على المُكلَّفِ قَبلَ وُرودِ السَّمعِ... أن يعرِفَ اللهَ تعالى بالدَّليلِ مِن غَيرِ خاطِرٍ، وإن قصَّر في المعرفةِ استوجَب العُقوبةَ أبدًا، ويعلَمَ أيضًا حُسنَ الحَسنِ وقُبحَ القبيحِ، فيجِبُ عليه الإقدامُ على الحَسنِ كالصِّدقِ والعدلِ، والإعراضُ عن القبيحِ كالكذِبِ والفُجورِ) [856] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/55). .
وقال النَّظَّامُ: (إنَّ المُكلَّفَ قَبلَ وُرودِ السَّمعِ إذا كان عاقِلًا مُتمكِّنًا مِن النَّظرِ يجِبُ عليه تحصيلُ معرفةِ الباري تعالى بالنَّظرِ والاستِدلالِ) [857] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/60). ، وقال أيضًا (بتحسينِ العقلِ وتقبيحِه في جميعِ ما يتصرَّفُ فيه مِن أفعالِه) [858] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/60). .
وقال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وكُلُّ عاقِلٍ يعلَمُ بكمالِ عقلِه قُبحَ كثيرٍ مِن الآلامِ، كالظُّلمِ الصَّريحِ وغَيرِه، وحُسنَ كثيرٍ منها، كذَمِّ المُستحِقِّ للذَّمِّ وما يجري مجراه) [859] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 484). .
وقال الغَزاليُّ: (ذهَب المُعتَزِلةُ إلى أنَّ الأفعالَ تنقسِمُ إلى حَسنةٍ وقبيحةٍ؛ فمنها ما يُدرَكُ بضرورةِ العقلِ، كحُسنِ إنقاذِ الغَرْقى والهَلْكى، وشُكرِ المُنعِمِ، ومعرفةِ حُسنِ الصِّدقِ وقُبحِ الكُفرانِ...، ومنها ما يُدرَكُ بنَظرِ العقلِ، كحُسنِ الصِّدقِ الذي فيه ضَررٌ، وقُبحِ الكذِبِ الذي فيه نَفعٌ، ومنها ما يُدرَكُ بالسَّمعِ، كحُسنِ الصَّلاةِ وسائِرِ العِباداتِ، وزعَموا أنَّها مُتميِّزةٌ بصفةِ ذاتِها مِن غَيرِها بما فيها مِن اللُّطفِ المانِعِ مِن الفَحشاءِ، الدَّاعي إلى الطَّاعةِ، لكنَّ العقلَ لا يستقِلُّ بدَرَكِه) [860] ((المستصفى)) (1/56). .
مِن هذه الأقوالِ يظهَرُ أنَّ الأفعالَ عندَ المُعتَزِلةِ قد ثبَت قُبحُها والعِقابُ عليها عقلًا، كما ثبَت حُسنُها والثَّوابُ عليها عقلًا، ما عدا العِباداتِ.
هذا هو موجَزُ رأيِ المُعتَزِلةِ في هذه المسألةِ.
المُناقَشةُ:
عرَفْنا آنِفًا أنَّ المُعتَزِلةَ ترى أنَّ قُبحَ الأشياءِ وحُسنَها، والعِقابَ عليها والثَّوابَ: ثابِتٌ عقلًا؛ فهُم يرَونَ أنَّ هناك تلازمًا بَينَ إدراكِ قُبحِها، وبَينَ العِقابِ عليها.
ويُقالُ لهم: إنَّه لا تلازُمَ بَينَ هذَينِ الأمرَينِ؛ فالأفعالُ في نَفسِها حَسنةٌ وقبيحةٌ، لكن لا يترتَّبُ عليها ثوابٌ ولا عِقابٌ إلَّا بالأمرِ والنَّهيِ، وقَبلَ وُرودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ قبيحًا موجِبًا للعِقابِ معَ قُبحِه في نَفسِه، بل هو في غايةِ القُبحِ، واللهُ لا يُعاقِبُ عليه إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسلِ. فمَثلًا: الكذِبُ والزِّنا كُلُّها قبيحةٌ في ذاتِها، لكنَّ العِقابَ عليها مشروطٌ بالشَّرعِ.
وقد دلَّ القُرآنُ على أنَّه لا تلازُمَ بَينَ الأمرَينِ، وأنَّه تعالى لا يُعاقِبُ إلَّا بإرسالِ الرُّسلِ، وأنَّ الفِعلَ نَفسَه حَسنٌ وقبيحٌ؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ؛ ففي هذه الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ العذابَ لا يكونُ إلَّا بَعدَ بَعثةِ الرُّسلِ، وذلك دليلٌ على أنَّ العِقابَ لا يثبُتُ إلَّا بالشَّرعِ، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8-9] ؛ ففي هذه الآيةِ كسابِقتِها دليلٌ على أنَّ العِقابَ لا يثبُتُ إلَّا بالشَّرعِ؛ بدليلِ أنَّ الخَزَنةَ لم يسألوهم عن مُخالَفتِهم للعقلِ، بل للنُّذُرِ، وبذلك دخلوا النَّارَ، وهذا ممَّا يُبطِلُ قولَ المُعتَزِلةِ: إنَّ العقابَ على القبائِحِ ثابِتٌ بالعقلِ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ.
ومِن الآياتِ الدَّالَّةِ على الأمرَينِ قولُه تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ، وعلى أحدِ القولَينِ في معنى الآيةِ، وهو أن يكونَ المعنى: لم يُهلِكْهم بظُلمِهم قَبلَ إرسالِ الرُّسلِ، تكونُ الآيةُ دالَّةً على الأمرَينِ: أنَّ أفعالَهم وشِركَهم ظُلمٌ وقبيحٌ قَبلَ البَعثةِ، وأنَّه لا يُعاقِبُهم عليه إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسلِ، وهذه الآيةُ في دَلالتِها على الأمرَينِ نظيرُ قولِه تعالى: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] .
فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ ما قدَّمَت أيديهم سببٌ لنُزولِ المُصيبةِ بهم، ولولا قُبحُه لم يكنْ سببًا، لكنِ امتنَع إصابةُ المُصيبةِ لانتِفاءِ شَرطِها، وهو عَدمُ مجيءِ الرَّسولِ إليهم، فمنذُ جاء الرَّسولُ انعقَد السَّببُ ووُجِد الشَّرطُ؛ فأصابَهم سيِّئاتُ ما عمِلوا، وعوقِبوا بالأوَّلِ والآخِرِ.
ومِن الآياتِ الدَّالةِ على أنَّ الفِعلَ في نَفسِه حَسنٌ وقبيحٌ قولُه تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28] إلى قولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 31-33] .
فقد أخبَر سُبحانَه وتعالى أنَّ فِعلَهم فاحشةٌ قَبلَ نهيِهم عنه، وأَمرَ باجتِنابِه بأخذِ الزِّينةِ، والفاحِشةُ هنا: طوافُهم بالبيتِ عُراةً، ثُمَّ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف: 28] ، أي: لا يأمرُ بما هو فاحِشٌ في العُقولِ والفِطَرِ، ولو كان إنَّما عُلِم كونُه فاحِشةً بالنَّهيِ، وأنَّه لا معنى لكونِه فاحِشةً إلَّا لتعلُّقِ النَّهيِ به، لصار معنى الكلامِ: إنَّ اللهَ لا يأمرُ بما ينهى عنه، وهذا لا يتكلَّمُ به آحادُ النَّاسِ فَضلًا عن اللهِ سُبحانَه وتعالى، ثُمَّ أيُّ فائِدةٍ في قولِه: إنَّ اللهَ لا يأمرُ بما ينهى عنه؟ فإنَّه ليس لمعنى كونِه "فاحِشةً" عندَهم إلَّا أنَّه مَنهيٌّ عنه، لا أنَّ العُقولَ تستفحِشُه!
ثُمَّ قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ؛ فقد دلَّت الآيةُ على أنَّه طيِّبٌ قَبلَ التَّحريمِ، وأنَّ وَصفَ الطَّيِّبِ فيه مانِعٌ مِن تحريمِه مُنافٍ للحِكمةِ، ثُمَّ قال سُبحانَه وتعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33] ، ولو كان كونُها فواحِشَ إنَّما هو لتعلُّقِ التَّحريمِ بها، وليست فواحِشَ قَبلَ ذلك، لكان حاصِلُ الكلامِ: "قُلْ إنَّما حرَّم ربِّي ما حرَّم"، وذلك تحريمُ الإثمِ والبَغيِ؛ فكونُ ذلك فاحِشةً وإثمًا وبَغيًا بمنزِلةِ كونِ الشِّركِ شِركًا، فهو شِركٌ في نَفسِه قَبلَ النَّهيِ وبَعدَه، فمَن قال: إنَّ الفاحِشةَ والقبائِحَ والآثامَ إمَّا صارت كذلك بَعدَ النَّهيِ، فهو بمنزِلةِ مَن يقولُ: الشِّركُ إنَّما صار شِركًا بَعدَ النَّهيِ، وليس شِركًا قَبلَ ذلك، ومعلومٌ أنَّ هذا مُكابرةٌ صريحةٌ للعقلِ والفِطرةِ؛ فالظُّلمُ ظُلمٌ في نَفسِه قَبلَ النَّهيِ وبَعدَه، والقبيحُ قبيحٌ في نَفسِه قَبلَ النَّهيِ وبَعدَه، والفاحِشةُ كذلك، وكذلك الشِّركُ، لا أنَّ هذه الحقائِقَ صارت بالشَّرعِ كذلك؛ فعلى هذا: فالأشياءُ قبيحةٌ في ذاتِها وازدادَت قُبحًا عن العقلِ بنَهيِ الرَّبِّ عنها، كما أنَّ العدلَ والصِّدقَ حَسنٌ في نَفسِه، وازداد حُسنًا إلى حُسنِه بأمرِ الرَّبِّ به وثنائِه على فاعِلِه، وإخبارِه بمحبَّتِه ومحبَّةِ فاعِلِه [861] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/231-235) بتصَرُّفٍ. .
وبهذا يظهَرُ بُطلانُ قولِ المُعتَزِلةِ: إنَّ الأفعالَ إنَّما يُدرَكُ حُسنُها والثَّوابُ عليها، وقُبحُها والعِقابُ عليها: بالعقلِ.

انظر أيضا: