موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: رأيُ المُعتَزِلةِ في أفعالِ اللهِ ومُناقَشتُهم


نستعرِضُ في هذا الفصلِ بعضَ آراءِ المُعتَزِلة حَولَ أفعالِ اللهِ تعالى، وأقسامِها، ونُتبِعُ ذلك بمُناقَشتِهم [814] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمعتق (ص: 153- 162). .
تعريفُ الفِعلِ عندَ المُعتَزِلةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ الفِعلَ هو: ما وُجِد مِن جهةِ مَن كان قادِرًا عليه) [815] ((المغني في أبواب العدل)) (6 /5). .
أحكامُ الفِعلِ:
ذكَر القاضي عبدُ الجبَّارِ أنَّ الفِعلَ ينقسِمُ إلى قِسمَينِ:
الأوَّلُ: ما لا صفةَ له زائِدةٌ على وُجودِه
وهذا لا يوصَفُ بقُبحٍ ولا حُسنٍ عندَهم [816] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) (6 /7). .
ويُعلِّلُ عبدُ الجبَّارِ ذلك بأنَّ الحَسَن والقبيحَ لا بُدَّ مِن أن يكونَ لهما حُكمٌ زائِدٌ على الوُجودِ؛ لأنَّه لو لم يحصُلْ لهما ذلك لم يكنْ أحدُهما بأن يكونَ حَسنًا أَولى مِن صاحِبِه، ولا الآخَرُ بأن يكونَ قبيحًا أَولى منه؛ لأنَّ الوُجودَ حصَل لهما على السَّواءِ، ولأنَّه لو كان قُبحُ القبيحِ منهما لوُجودِه فقط، لوجَب قُبحُ كُلِّ فِعلٍ، ولو كان حُسنُ الحَسنِ لوُجودِه فقط لوجَب حُسنُ كُلِّ فِعلٍ، وذلك يوجِبُ كونَ الفِعلِ حَسنًا قبيحًا، وهذا معلومٌ فسادُه، ثُمَّ قال: فيجِبُ إذًا فيما لا صفةَ له زائِدةٌ على وُجودِه أن نحكُمَ بأنَّه ليس بحَسَنٍ ولا قبيحٍ [817] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6 /9). ، وعلى ذلك؛ فهذا النَّوعُ مِن الأفعالِ لا يوصَفُ بالحُسنِ والقُبحِ، فلا يصِحُّ وُقوعُه في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لا بُدَّ مِن كونِ فِعلِه حَسنًا [818] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) (6 /13). .
الثَّاني: ما له صفةٌ زائِدةٌ على وُجودِه
ذكَر القاضي عبدُ الجبَّارِ أنَّ هذا النَّوعَ إمَّا أن يقعَ ممَّن هو عالِمٌ به، أو يقعَ ممَّن لا يعلَمُه.
فإذا وقَع الفِعلُ ممَّن لا يعلَمُه ولا يتمكَّنُ مِن ذلك، مِثلُ: حرَكاتِ النَّائِمِ والسَّاهي؛ فهذا لا حُكمَ له، ولا يدخُلُ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ عالِمٌ لِذاتِه، فلا يصِحُّ وُقوعُ شيءٍ منه مِن غَيرِ أن يَعلَمَه [819] يُنظر: ((المحيط بالتكليف)) (ص: 231)، ((المغني في أبواب العدل)) (6 /13) كلاهما لعبد الجبار. .
أمَّا إذا وقَع ممَّن هو عالِمٌ به؛ فإمَّا أن يقعَ ولا إلجاءَ ولا إكراهَ، أو يقعَ وهناك إلجاءٌ وإكراهٌ.
فإن وقَع وهناك إلجاءٌ وإكراهٌ فهذا لا حُكمَ له، وإن وُصِف بأنه حَسنٌ أو قبيحٌ، ولكنَّ حُكمَ القبيحِ والحَسنِ لا يثبُتُ فيه [820] يُنظر: ((المحيط بالتكليف)) لعبد الجبار (ص: 232، 233). ؛ لأنَّه لا يدخُلُ في حيِّزِ ما يستحقُّ به الذَّمَّ أو المَدحَ [821] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (6 /7). .
وهذا النَّوعُ أيضًا لا يدخُلُ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه سُبحانَه وتعالى يستحِقُّ المَدحَ في أفعالِه، وتُفارِقُ حالُه حالَ المَلجَأِ [822] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (6 /17). مِن حيثُ لا تصِحُّ المنافِعُ والمضارُّ عليه [823] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (7 /13). .
وإن وقَع ممَّن هو عالِمٌ به أو مُتمكِّنٌ مِن ذلك، ولا إلجاءَ ولا ضرورةَ؛ فهذا النَّوعُ لا يخلو مِن أمرَينِ:
الأوَّلُ: إمَّا ألَّا يكونَ له فِعلُه، وهو القبيحُ [824] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 326). ، كالظُّلمِ والكذِبِ، وهذا لا يقعُ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لا يفعَلُ القبيحَ ولا يختارُه [825] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 301). .
الثَّاني: أن يكونَ له فِعلُه، وهو الحَسنُ: وهو ما لفاعِلِه أن يفعَلَه، ولا يستحِقُّ عليه ذمًّا، ثُمَّ إنَّ الحَسنَ ينقسِمُ إلى قِسمَينِ:
1- ما يكونُ له صفةٌ زائِدةٌ على حُسنِه.
2- ما لا يكونُ له صفةٌ زائِدةٌ على حُسنِه: وهذا لا يستحِقُّ بفِعلِه المَدحَ، ويُسمَّى مُباحًا، وحَدُّه: ما عرَف فاعِلُه حُسْنَه أو دلَّ عليه.
وأفعالُ القديمِ تعالى لا توصَفُ بالمُباحِ، وإن وُجِد منها ما صورتُه صورةُ المُباحِ كالعِقابِ [826] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص326، 327). ؛ لأنَّ مِن حقِّ المُباحِ أن يكونَ فِعلُ الفاعِلِ له وألَّا يفعَلَه بمنزِلةٍ واحِدةٍ، في أنَّه لا يستحِقُّ به ذمًّا ولا مَدحًا، وذلك ممَّا لا يتأتَّى في أفعالِه سُبحانَه وتعالى؛ لأنَّه يستحِقُّ على أفعالِه كُلِّها المَدحَ والشُّكرَ [827] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (6/34، 35). .
وأمَّا القِسمُ الأوَّلُ: وهو الفِعلُ الحَسنُ الذي له صفةٌ زائِدةٌ على حُسنِه؛ فإنَّه ينقسِمُ إلى قِسمَينِ:
أحدُهما: أن يُستحَقَّ بفِعلِه المَدحُ، ولا يُستحَقَّ الذَّمُّ إذا لم يُفعَلْ، وذلك كالنَّوافِلِ وغَيرِها.
ثانيهما: أن يُستحَقَّ بفِعلِه المَدحُ، والذَّمُّ إذا لم يُفعَلْ، وذلك كالواجِباتِ [828] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص327). .
فأمَّا الأوَّلُ: وهو ما يُستحَقُّ بفِعلِه المدحُ، ولا يُستحَقُّ الذَّمُّ إذا لم يُفعَلْ؛ فهذا هو المندوبُ، وينقسِمُ إلى قِسمَينِ:
1- ما يكونُ مقصورًا على فاعِلِه، وإنَّما يُسمَّى بأنَّه نَدبٌ ونَفلٌ وما شاكَله.
2- ما يتعدَّاه إلى غَيرِه، ويُسمَّى إحسانًا وتفضُّلًا وما شاكَله [829] يُنظر: ((المجموع المحيط)) لعبد الجبار (1/233). .
فأمَّا الأوَّلُ: فلا يقعُ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه يقتضي أن يكونَ هناك نادِبٌ ندَبه إليه، ثُمَّ قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: وذلك يصِحُّ في العُقلاءِ منَّا دونَ اللهِ تعالى [830] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (6/38). .
وأمَّا الثَّاني: وهو التَّفضُّلُ؛ فإنَّه يقعُ في فِعلِ اللهِ تعالى، كابتِداءِ الخَلقِ والإحياءِ والأقدارِ وغَيرِ ذلك [831] يُنظر: ((المجموع المحيط)) لعبد الجبار (1/233). .
القِسمُ الثَّاني مِن أقسامِ الفِعلِ الحَسنِ الذي له صفةٌ زائِدةٌ على حُسنِه:
وهو ما يُستحَقُّ المدحُ لفِعلِه، والذَّمُّ إذا لم يُفعَلْ، وهو الواجِبُ، وذلك نَحوُ الإنصافِ وشُكرِ المُنعِمِ [832] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) (6/43). ، وهذا لا يثبُتُ في فِعلِه تعالى ابتداءً، وإنَّما يكونُ عندَ سببٍ يفعَلُه، وذلك كالتَّكليفِ الذي به يلتزِمُ الأقدارَ واللُّطفَ والإثابةَ والتَّعويضَ [833] يُنظر: ((المجموع المحيط)) لعبد الجبار (ص: 233). .
وهو ينقسِمُ إلى قِسمَينِ:
أحدُهما: الذي إذا لم يفعَلْه بعَينِه يستحِقُّ الذَّمَّ، فوُصِف بأنَّه واجِبٌ مُضيَّقٌ فيه، وذلك كالتَّفرِقةِ بَينَ المُحسِنِ والمُسيءِ، وشُكرِ المُنعِمِ في أوقاتٍ مخصوصةٍ، ونَحوِ ذلك [834] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (6/43). ، وهذا ثابِتٌ في أفعالِ اللهِ تعالى.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ وهو يتكلَّمُ عن الواجِبِ بالنِّسبةِ للهِ: (وما يتعيَّنُ في فِعلِه تعالى، وهو كإعادةِ مَن يستحِقُّ الثَّوابَ أو العُروضَ؛ فإنَّ غَيرَ تلك الأجزاءِ لا تقومُ مقامَها أصلًا، بل يجِبُ إعادتُها بأعيانِها) [835] ((المجموع المحيط)) (ص234). .
ثانيهما: وهو الذي إذا لم يفعَلْه ولم يفعَلْ ما يقومُ مقامَه؛ يستحِقُّ الذَّمَّ، فوُصِف بأنَّه واجِبٌ مُخيَّرٌ فيه، وذلك كالكفَّاراتِ الشَّرعيَّةِ التي خُيِّر فيها [836] ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (6/43). ، وهذا أيضًا ثابِتٌ في أفعالِ اللهِ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وأمَّا ما كان مِن فِعلِه تعالى على طريقةِ الوُجوبِ المُخيَّرِ فيه فهو أنَّه تعالى إذا علِم مِن حالِ نَفسَينِ أنَّهما يصلُحانِ للبَعثةِ فهو في حُكمِ المُخيَّرِ، إن شاء بعَث هذا، وإن شاء بعَث ذاك، وكذلك لو علِم أنَّ اللَّذَّةَ تقومُ مقامَ الألمِ في الصَّلاحِ لكان في حُكمِ المُخيَّرِ فيهما) [837] ((المجموع المحيط)) (ص234). .
مِن هذا العَرضِ نخلُصُ إلى أنَّ الأحكامَ التي يصِحُّ ثُبوتُها في أفعالِ اللهِ عندَ المُعتَزِلةِ هي التَّفضُّلُ والواجِبُ بقِسمَيه المُخيَّرِ والمُضيَّقِ، وما عدا ذلك مِن الأحكام فلا يصِحُّ ثُبوتُها في أفعالِ اللهِ تعالى.
وبناءً على هذا؛ فاللهُ سُبحانَه وتعالى لا يفعَلُ القبيحَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، وكما أنَّه لا يفعَلُه؛ فكذلك لا يُريدُه [838] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 462). .
وقد دلَّل القاضي على الأمرَينِ؛ فمِن أدلَّتِه على أنَّ اللهَ لا يفعَلُ القبيحَ: أنَّه تعالى عالِمٌ بقُبحِ القبيحِ، ومُستغنٍ عنه، عالِمٌ باستِغنائِه عنه، ومَن كان هذا حالَه لا يختارُ القبيحَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، وهذه الدَّلالةُ تُنبئُ عن أنَّ اللهَ تعالى عالِمٌ بقُبحِ القبيحِ، وأنَّه مُستغنٍ عنه، وعالِمٌ باستِغنائِه عنه، وأنَّ مَن هذا حالُه لا يختارُ القبيحَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ.
أمَّا الذي يدُلُّ على أنَّه تعالى عالِمٌ بقُبحِ القبيحِ فلأنَّه تعالى عالِمٌ لذاتِه، ومِن حقِّ العالِمِ لذاتِه أن يعلَمَ جميعَ المعلوماتِ على الوُجوهِ التي يصِحُّ أن تُعلَمَ عليها، ومِن الوُجوهِ التي يصِحُّ أن يُعلَمَ المعلومُ عليه قُبحُ القبائِحَ؛ فيجِبُ أن يكونَ القديمُ تعالى عالِمًا به.
وأمَّا الذي يدُلُّ على أنَّه تعالى مُستغنٍ عن القبيحِ فلأنَّه تعالى غنيٌّ لا تجوزُ عليه الحاجةُ أصلًا.
وأمَّا الذي يدُلُّ على أنَّه تعالى عالِمٌ باستِغنائِه عن القبيحِ، فهو داخِلٌ في الدَّلالةِ الأولى التي تنبني على أنَّه تعالى عالِمٌ لذاتِه.
وأمَّا الذي يدُلُّ على أنَّ مَن كان هذا حالَه لا يختارُ القبيحَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ هو أنَّا نعلَمُ ضرورةً في الشَّاهِدِ أنَّ أحدَنا إذا كان عالِمًا بقُبحِ القبيحِ مُستغنيًا عنه عالِمًا باستِغنائِه عنه؛ فإنَّه لا يختارُ القبيحَ البتَّةَ، وإنَّما لا يختارُه لعِلمِه بقُبحِه ولِغِناه عنه، يُبيِّنُ ما ذُكِر ويُوضِّحُه أنَّ أحدَنا لو خُيِّر بَينَ الصِّدقِ والكذِبِ، وكان النَّفعُ في أحدِهما كالنَّفعِ في الآخَرِ، وقيل له: إن كذَبْتَ أعطَيناك دِرهَمًا، وإن صدقْتَ أعطَيناك دِرهَمًا، وهو عالِمٌ بقُبحِ الكذِبِ مُستغنٍ عنه عالِمٌ باستِغنائِه عنه؛ فإنَّه لا يختارُ الكذِبَ على الصِّدقِ؛ لعِلمِه بقُبحِه وبغِناه عنه، وهذه العِلَّةُ بعَينِها قائِمةٌ في حقِّ القديمِ تعالى، فيجِبُ ألَّا يختارَه البتَّةَ؛ لأنَّ طُرُقَ الأدلَّةِ لا تختلِفُ شاهِدًا وغائِبًا [839] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 302-303). .
أمَّا الأدلَّةُ على أنَّه تعالى لا يُريدُ القبيحَ؛ فمنها ما هو نَقليٌّ.
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ كتابَ اللهِ المُحكَمَ يُوافِقُ ما ذكَرْناه مِن القولِ بالتَّوحيدِ والعَدلِ) [840] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 459). ، ثُمَّ أورَد القاضي بعضَ الآياتِ مُستدِلًّا بها على أنَّ اللهَ لا يُريدُ القبيحَ، كقولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205] ، وقولِه تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزُّمَر: 7] .
ثُمَّ قال: (هذه الآياتُ تدُلُّ على أنَّه تعالى لا يُريدُ الفسادَ ولا يُحِبُّه، سواءٌ كان مِن جهتِه أو مِن جهةِ غَيرِه) [841] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 460). .
ومِن الآياتِ التي استدلَّ بها القاضي أيضًا على أنَّ اللهَ لا يُريدُ القبيحَ قولُه تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر: 31] .
وعلَّق القاضي على هذه الآيةِ فقال: (إنَّ قولَه ظُلْمًا نكرةٌ، والنَّكرةُ في النَّفيِ تعُمُّ؛ فظاهِرُ الآيةِ يقتضي أنَّه تعالى لا يُريدُ شيئًا ممَّا وقَع عليه اسمُ الظُّلمِ) [842] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 459). .
ومنها ما هو عقليٌّ: قال القاضي: (إنَّ إرادةَ القبيحِ قبيحةٌ)، ويُعلِّلُ ذلك بقولِه: (وإنَّ إرادةَ القبيحِ إنَّما تقبُحُ لكونِها إرادةً للقبيحِ؛ بدليلِ أنَّها متى عُرِف كونُها على هذه الصِّفةِ عُرِف قُبحُها) [843] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 462). .
وقال في موضِعٍ آخَرَ: (وأحدُ ما يدُلُّ على أنَّه تعالى لا يجوزُ أن يكونَ مُريدًا للمعاصي هو أنَّه تعالى لو كان مُريدًا لها لوجَب أن يكونَ حاصِلًا على صفةٍ مِن صفاتِ النَّقصِ، وذلك لا يجوزُ على اللهِ تعالى، وبهذه الطَّريقةِ نفَينا الجهلَ عن اللهِ تعالى) [844] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 462). .
ويُؤيِّدُ القاضي هذه الدَّلالةَ بقياسِ الغائِبِ على الشَّاهِدِ، فيقولُ: (فإن قيل: ولِمَ قُلْتُم: إذا كان مُريدًا للمعاصي وجَب أن يكونَ حاصِلًا على صفةٍ مِن صفاتِ النَّقصِ؟ قُلْنا: الدَّليلُ على ذلك الشَّاهِدُ؛ فإنَّ أحدَنا متى كان كذلك كان حاصِلًا على صفةٍ مِن صفاتِ النَّقصِ، وإنَّما وجَب ذلك لكونِه مُريدًا للقبيحِ؛ فيجِبُ مِثلُه مِن اللهِ تعالى) [845] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 462- 463). .
والمُعتَزِلةُ كما رأَينا تُقَرِّرُ أنَّه تعالى لا يفعَلُ القبيحَ ولا يُريدُه، وأنَّ أفعالَه كُلَّها لا بُدَّ أن تكونَ حَسَنةً، وأنَّه لا يُخِلُّ بما هو واجِبٌ عليه، وعلى ذلك: فكُلُّ فِعلٍ يفعَلُه سُبحانَه وتعالى إنَّما هو حَسنٌ.
قال عبدُ الجبَّارِ: (يجِبُ إذا عرَفْنا في فِعلٍ مِن الأفعالِ أنَّه فعَلَه عزَّ وجلَّ أن نَقضيَ بحُسنِه، ونعرِفَ أنَّ فيه وَجهًا مِن وُجوهِ الحُسنِ؛ إمَّا على جُملةٍ أو تفصيلٍ، وإذا انتَهَينا إلى فِعلٍ قبيحٍ فيَجِبُ أن نَقضيَ بأنَّه ليس مِن جهتِه) [846] ((المحيط بالتكليف)) (ص: 262). .
وقد ترتَّب على مُبالَغةِ المُعتَزِلةِ في نَفيِ القبيحِ عن اللهِ أن نفَوا أن يكونَ خالِقًا لأفعالِ العِبادِ [847] ((المغني في أبواب العدل)) (8 /3). .
هذا هو رأيُ المُعتَزِلةِ في أفعالِ اللهِ.
المُناقَشةُ:
عرَفْنا فيما سبَق عندَ عَرضِنا لرأيِ المُعتَزِلةِ في أفعالِ اللهِ أنَّهم يرَونَ أنَّ اللهَ تعالى لا يفعَلُ القبيحَ، كالظُّلمِ، بل أفعالُه كُلُّها حَسنةٌ، وأنَّه لا يُخِلُّ بما هو واجِبٌ عليه، وأنَّهم يُرتِّبونَ على قولِهم: إنَّ اللهَ لا يفعَلُ القبيحَ القولَ بأنَّ العبدَ هو الخالِقُ لأفعالِه؛ لأنَّ منها ما هو الحَسنُ، ومنها القبيحُ، فلو كان اللهُ خالِقَها لكان فاعِلًا للقبيحِ.
ونقولُ: أمَّا قولُكم: إنَّ اللهَ لا يفعَلُ القبيحَ، بل أفعالُه كُلُّها حَسنةٌ؛ فهذا نُوافِقُكم عليه.
قال ابنُ القيِّمِ: (وخَلقُه وفِعلُه وقضاؤُه وقَدرُه خَيرٌ كُلُّه؛ ولهذا نزَّه سُبحانَه نَفسَه عن الظُّلمِ الذي حقيقتُه وَضعُ الشَّيءِ في غَيرِ موضِعِه...؛ فلا يضعُ الأشياءَ إلَّا في مواضِعِها اللَّائِقةِ بها، وذلك خَيرٌ كُلُّه، والشَّرُّ: وَضعُ الشَّيءِ في غَيرِ محَلِّه، فإذا وُضِع في محَلِّه لم يكنْ شرًّا، فعُلِم أنَّ الشَّرَّ ليس إليه، وأسماؤُه الحُسنى تشهَدُ بذلك؛ فإنَّ منها: القُدُّوسَ... والقُدُّوسُ: هو المُنزَّهُ عن كُلِّ شرٍّ ونَقصٍ وعَيبٍ، كما قاله أهلُ التَّفسيرِ...، وهو قولُ أهلِ اللُّغةِ) [848] ((شفاء العليل)) (ص: 179). .
وممَّا يدُلُّ على أنَّه تعالى لا يفعَلُ القبيحَ أنَّه نزَّه نَفسَه عن الظُّلمِ؛ قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112] ، والظُّلمُ هنا: أن يَحمِلَ عليه مِن سيِّئاتِ غَيرِه، والهضمُ: أن يَنقُصَ مِن حَسناتِه، وقال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] ؛ ففي هذه الآيةِ نَفيُ الظُّلمِ عن نَفسِه؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّه لا يفعَلُ القبيحَ، بل أفعالُه كُلُّها حَسنةٌ [849] يُنظر: ((مجموع الرسائل والمسائل)) لابن تَيميَّة (5 /121). .
وقال اللهُ تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألةِ عندَ الكلامِ على رأيِ المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ، ومُناقَشتِهم.
وأمَّا قولُكم: إنَّه تعالى لا يُخِلُّ بما هو واجِبٌ عليه، فنقولُ: ما مقصودُكم بهذا الواجِبِ على اللهِ؟ هل هو إيجابٌ مِن العِبادِ على اللهِ؟ أم إيجابٌ مِن اللهِ على نَفسِه؟
إن كان الأوَّلَ: فهذا لا نُوافِقُكم عليه؛ لأنَّ العِبادَ لا يُوجِبونَ على اللهِ شيئًا؛ إذ إنَّه يلزَمُ أن يكونَ هناك موجِبٌ فوقَ اللهِ أوجَب عليه شيئًا، ولا موجِبَ عليه سُبحانَه وتعالى [850] يُنظر: ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 79)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تَيميَّة (ص: 409-410). .
وأيضًا: فإنَّه يلزَمُ مِن القولِ بأنَّ العِبادَ يوجِبونَ على اللهِ ألَّا يكونَ سُبحانَه وتعالى فاعِلًا مُختارًا، وهو باطِلٌ بالأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أنَّ له تعالى التَّصرُّفَ المُطلَقَ فيما شاء مِن عِبادِه، وهو المُختارُ بقُدرتِه ومشيئتِه في أفعالِه الحميدةِ؛ فثُبوتُ حَمدِه دليلٌ على أنَّه مُختارٌ في أفعالِه سُبحانَه وتعالى، وأيضًا فإنَّ ثُبوتَ رُبوبيَّتِه تعالى يقتضي فِعلَه بمشيئتِه واختيارِه، وأيضًا فإنَّ ثُبوتَ مُلكِه دليلٌ على أنَّه فاعِلٌ مُختارٌ؛ إذ إنَّ حُصولَ مُلكٍ لمَن لا اختيارَ له ولا فِعلَ له ولا مشيئةَ: غَيرُ معقولٍ. وأيضًا فإنَّ كونَه تعالى مُستعانًا دليلٌ على اختيارِه؛ لأنَّ الاستِعانةَ بمَن لا اختيارَ له مُحالٌ [851] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/66). ، وعلى ذلك فاللهُ سُبحانَه وتعالى فاعِلٌ مُختارٌ، وإذا كان كذلك بطَل قولُكم: إنَّ العِبادَ يوجِبونَ عليه تعالى.
وإن كان مقصودُكم بالوُجوبِ أنَّه واجِبٌ عليه بحُكمِ ما أوجَبه على نَفسِه فهذا نُوافِقُكم فيه، لكن لا يلزَمُ منه ألَّا يكونَ تعالى مُختارًا؛ لِما ذكَرْناه آنِفًا مِن اللَّوازِمِ الباطِلةِ، ولأنَّ مَن أوجَب على نَفسِه شيئًا يُعدُّ مُتفضِّلًا بما أوجَب، والمُتفضِّلُ مُختارٌ بما تفضَّل به.
قال ابنُ القيِّمِ: (فعليك بالفُرقانِ في هذا الموضِعِ الذي افترقَت فيه الفِرَقُ، والنَّاسُ فيه ثلاثُ فِرَقٍ: فِرقةٌ رأَت أنَّ العبدَ أقَلُّ وأعجَزُ مِن أن يوجِبَ على ربِّه حقًّا، فقالَت: لا يجِبُ على اللهِ شيءٌ البتَّةَ، وأنكرَت وُجوبَ ما أوجَبه اللهُ على نَفسِه، وفِرقةٌ رأَت أنَّه سُبحانَه أوجَب على نَفسِه أمورًا لعبدِه، فظنَّت أنَّ العبدَ أوجَبها عليه بأعمالِه، والفِرقةُ الثَّالثةُ: أهلُ الهُدى والصَّوابِ: قالت: لا يستوجِبُ العبدُ على اللهِ بسعيِه نجاةً ولا فَلاحًا، ولا يُدخِلُ أحدًا عَمَلُه الجنَّةَ أبدًا...، واللهُ تعالى بفَضلِه وكَرمِه أكدَّ إحسانَه وجُودَه بأن أوجَب لعبدِه عليه حقًّا بمُقتضى الوعدِ؛ فإنَّ وعدَ الكريمِ إيجابٌ، ولو بعسى ولعلَّ؛ ولهذا قال ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنه: عسى مِن اللهِ واجِبٌ) [852] ((مدارج السالكين)) (2/ 338- 339). .

انظر أيضا: