موسوعة الفرق

المَبحَثُ الخامِسُ: حُكمُ إيمانِ المُقَلِّدِ عِندَ الماتُريديَّةِ


اختلف المُتكلِّمون في صِحَّةِ إيمانِ المُقَلِّدِ، وقد قال الماتُريديَّةُ بصِحَّةِ إيمانِه، لكنَّهم حكموا بإثمِه لتركِه النَّظرَ والاستدلالَ على وجودِ اللهِ سُبحانَه، فقد جعلوا أوَّلَ الواجباتِ هو النَّظرَ والاستِدلالَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (المُتكلِّمون جعلوا هذا أصلَ دينِهم وإيمانِهم، وجعلوا النَّظَرَ في هذا الدَّليلِ هو النَّظَرَ الواجِبَ على كُلِّ مُكَلَّفٍ، وأنَّه من لم ينظُرْ في هذا الدَّليلِ فإمَّا أنَّه لا يصِحُّ إيمانُه، فيكونُ كافرًا على قولِ طائفةٍ منهم، وإمَّا أن يكونَ عاصيًا على قولِ آخرينَ، وإمَّا أن يكونَ مُقَلِّدًا لا عِلمَ له بدينِه، لكنَّه ينفَعُه هذا التَّقليدُ، ويصيرُ به مؤمنًا غيرَ عاصٍ. والأقوالُ الثَّلاثةُ باطلةٌ؛ لأنَّها مفرَّعةٌ على أصلٍ باطلٍ، وهو أنَّ النَّظَرَ الذي هو أصلُ الدِّينِ والإيمانِ هو هذا النَّظرُ في هذا الدَّليلِ؛ فإنَّ عُلَماءَ المُسلِمين يعلمون بالاضطرارِ أنَّ الرَّسولَ لم يدْعُ الخلقَ بهذا النَّظرِ، ولا بهذا الدَّليلِ، فامتنع أن يكونَ هذا شرطًا في الإيمانِ والعِلمِ، وقد شَهِد القرآنُ والرَّسولُ لمن شهد له من الصَّحابةِ وغَيرِهم بالعِلمِ، وأنَّهم عالِمون بصِدقِ الرَّسولِ، وبما جاء به، وعالِمون باللهِ، وبأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولم يكُنِ الموجِبُ لعِلمِهم هذا الدَّليلَ المعيَّنَ،... فتبيَّن أنَّ هذا النَّظرَ والاستدلالَ الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصلَ الدِّينِ، ليس ممَّا أوجبه اللهُ ورسولَه، ولو قُدِّرَ أنَّه صحيحٌ في نفسِه، وأنَّ الرَّسولَ أخبر بصحَّتِه، ولم يلزَمْ من ذلك وجوبُه؛ إذ قد يكونُ للمطلوبِ أدِلَّةٌ كثيرةٌ) [257] ((النبوات)) (1/ 255 - 257) باختصار وتصَرُّف. .
نقولاتٌ للماتُريديَّةِ حولَ مسألةِ إيمانِ المُقَلِّدِ عندَهم:
1- قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (إنَّا وجَدْنا النَّاسَ مختَلِفي المذاهِبِ في النِّحَلِ في الدِّينِ، متَّفِقين -على اختِلافِهم في الدِّينِ- على كَلِمةٍ واحدةٍ؛ أنَّ الذي هو عليه حقٌّ، والذي عليه غيرُه باطِلٌ، على اتِّفاقِ جملتِهم من أنَّ كُلًّا منهم له سَلَفٌ يُقلَّد، فثبت أنَّ التَّقليدَ ليس ممَّا يُعذَرُ صاحبُه لإصابةِ مِثلِه ضِدَّه، على أنَّه ليس فيه سوى كثرةِ العَدَدِ، اللهُمَّ إلَّا أن يكونَ لأحدٍ ممَّن ينتهي القولُ إليه حُجَّةُ عَقلٍ يُعلَمُ بها صدقُه فيما يدَّعي، وبُرْهانٌ يقهَرُ المنصفينَ على إصابتِه الحَقَّ، فمن إليه مرجِعُه في الدِّينِ بما يوجِبُ تحقيقَه عنه فهو المحِقُّ، وعلى كُلِّ واحدٍ منهم معرفةُ الحقِّ فيما يدينُ هو به، كأنَّ الذي دان به هو مع أدِلَّةِ صِدقِه وشهادةِ الحقِّ له قد حصرَهم؛ إذ منتهى حُجَجِ كُلٍّ منهم ما يضطَرُّ التَّسليمَ له لو ظفِرَ بها، وقد ظهَرت لمن ذكَرْتُ، ولا يجوزُ ظهورُ مِثلِها لضِدِّه في الدِّينِ؛ لِما يتناقَضُ حُجَجُ ما غلبت حُجَجُه، وأظهر تمويهَ أسبابِ الشبهِ في غيرِه، ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العظيمِ) [258] ((التوحيد)) (ص: 3، 4). .
2- قال أبو اليسرِ البَزْدَويُّ: (قال عامَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: إنَّ المُقَلِّدَ مؤمِنٌ حقيقةً، وهو الذي اعتقَد جميعَ أركانِ الإسلامِ وأقَرَّ بها من غيرِ دليلٍ، وقالت المُعتزِلةُ: إنَّه ليس بمؤمنٍ، واختلفت الرِّاوياتُ عن الأشْعَريِّ، والصَّحيحُ من الرِّواياتِ أنَّه مؤمِنٌ، والدَّليلُ على صِحَّةِ ما ذهب إليه عامَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: أنَّ الأمَّةَ بأجمعِهم قضوا بإيمانِ العامَّةِ صحيحًا، وكذلك الصَّحابةُ رَضِيَ الله عنهم، فمن قال خلافَ ذلك فقد خالف جميعَ الأمَّةِ، وخلافُ إجماعِ الأمَّةِ ضلالٌ وبِدعةٌ) [259] ((أصول الدين)) (ص: 155). .
3- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (كلُّ بالغٍ عاقِلٍ يجِبُ عليه أن يستَدِلَّ بأنَّ للعالمِ صانِعًا، كما استدلَّ سيِّدُنا إبراهيمُ صلواتُ اللهِ عليه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] ، وأصحابُ الكَهفِ فقالوا: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف: 14] )  [260]((بحر الكلام)) (ص: 85). .
وقال النَّسَفيُّ أيضًا: (الإيمانُ هو التَّصديقُ،... فمن كان مُصَدِّقًا كان مؤمنًا، سواءٌ وُجِد منه التَّصديقُ عن الدَّليلِ، أو عن غيرِ الدَّليلِ... فلا ينعَدِمُ ثوابُ إيمانِ المُقَلِّدِ وإن لم يتحمَّلْ مَشقَّةً لتناوُلِ مُطلَقِ الوعدِ إيَّاه... والمُقَلِّدُ الذي لا دليلَ معه مؤمِنٌ، وحُكمُ الإسلامِ له لازمٌ، وهو مطيعٌ للهِ باعتقادِه، وسائِرِ طاعاتِه، وإن كان عاصيًا بتركِ النَّظَرِ والاستدلالِ، وحُكمُه حُكمُ غيرِه من فُسَّاقِ أهلِ المِلَّةِ، من جوازِ مَغفرتِه، أو تعذيبِه بقَدرِ ذَنبِه، وعاقبةُ أمرِه الجنَّةُ لا محالةَ) [261] ((تبصرة الأدلة)) (ص: 38، 41، 42) باختصار وتصَرُّف. .
4- قال الغَزْنَويُّ: (إيمانُ المُقَلِّدِ صحيحٌ، وهو الذي اعتقد جميعَ ما فُرِضَ عليه من حدوثِ العالمِ، ووجودِ الصَّانعِ وقِدَمِه، ووحدانيَّتِه بجميعِ صِفاتِه، وإرسالِ رُسُلِه، وإنزالِ كُتُبِه، وغيرِ ذلك اعتقادًا صحيحًا جزْمًا بلا شكٍّ وارتيابٍ، من غيرِ دليلٍ عقليٍّ، فهذا مؤمِنٌ، وإيمانُه صحيحٌ في الدُّنيا والآخرةِ) [262] ((أصول الدين)) (ص: 258). .
5- قال أبو البَرَكاتِ النَّسَفيُّ: (إذا ثبت أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، كان إيمانُ المُقَلِّدِ صحيحًا؛ لوجودِ التَّصديقِ منه حقيقةً، وإن كان عاصيًا بتركِ الاستدلالِ خلافًا للمُعتزِلةِ. اعلَمْ أنَّ المُقَلِّدَ الذي لا دليلَ معه مؤمِنٌ، وحُكمُ الإسلامِ له لازمٌ، وهو مطيعٌ لله تعالى باعتقادِه وسائِرِ طاعاتِه. وإن كان عاصيًا بتركِ النَّظَرِ والاستدلالِ، وهو كفُسَّاقِ أهلِ الملَّةِ في جوازِ مَغفرتِه، أو تعذيبِه بقَدرِ ذنبِه، وعاقبةُ أمرِه الجنَّةُ لا محالةَ. وهو مَذهَبُ أبي حنيفةَ، والثَّوريِّ، ومالكٍ، والشَّافعيِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ بنِ حنبَلٍ، وأهلِ الظَّاهِرِ، وعبدِ اللهِ بنِ سعيدٍ القَطَّانِ، والحارِثِ بنِ أسَدٍ، وعبدِ العزيزِ بنِ يحيى المكِّيِّ، رحمهم اللهُ) [263] ((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 385). .
6- قال التَّفْتازانيُّ: (ذهب كثيرٌ من العُلَماءِ وجميعِ الفُقَهاءِ إلى صحَّةِ إيمانِ المُقَلِّدِ، وترتُّبِ الأحكامِ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَنَعَه الشَّيخُ أبو الحسَنِ والمُعتزِلةُ وكثيرٌ من المُتكلِّمين) [264] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 264). .
وقال أيضًا: (فإن قيل: أكثَرُ أهلِ الإسلامِ آخِذون بالتَّقليدِ قاصِرون أو مُقَصِّرون في الاستدلالِ ولم تَزَلِ الصَّحابةُ ومن بعدَهم من الأئمَّةِ والخلفاءِ والعُلَماءِ يكتفون منهم بذلك، ويُجْرُونَ عليهم أحكامَ المُسلِمين، فما وجهُ هذا الاختلافِ وذهابِ كثيرٍ من العُلَماءِ والمجتهدين إلى أنَّه لا صحَّةَ لإيمانِ المُقَلِّدين؟ قُلنا: ليس الخلافُ في هؤلاء الذين نشؤوا في ديارِ الإسلامِ من الأمصارِ والقرى والصَّحاري، وتواتَر عندهم حالُ النَّبيِّ عليه السَّلامُ وما أُوتيَ به من المعجزاتِ، ولا في الذين يتفكَّرون في خلقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ؛ فإنَّهم كلَّهم من أهلِ النَّظَرِ والاستدلالِ، بل فيمن نشأ على شاهِقِ جَبَلٍ مثلًا ولم يتفكَّرْ في ملكوتِ السَّمواتِ والأرضِ، فأخبره إنسانٌ بما يُفتَرَضُ عليه اعتقادُه فصَدَّقه فيما أخبره بمجَرَّدِ إخبارِه من غيرِ تفكُّرٍ وتدبُّرٍ. وأمَّا ما يُحكى عن المُعتزِلةِ من أنَّه لا بُدَّ في صحَّةِ الإسلامِ من النَّظَرِ والاستدلالِ والاقتدارِ على تقريرِ الحُجَجِ ودَفعِ الشُّبهةِ، فبطلانُه يكادُ يَلحَقُ بالضَّرورياتِ من دينِ الإسلامِ) [265] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 267). .
وقال التَّفْتازانيُّ أيضًا: (الحقُّ أنَّ المعرفةَ بدليلٍ إجماليٍّ يرفَعُ النَّاظِرَ عن حضيضِ التَّقليدِ فَرضُ عَينٍ لا مخرَجَ عنه لأحدٍ من المكَلَّفينِ، وبدليلٍ تفصيليٍّ يتمكَّنُ معه من إزاحةِ الشُّبَهِ وإلزامِ المنكِرينَ وإرشادِ المُسترشِدينَ فَرضُ كفايةٍ لا بدَّ من أن يقومَ به البعضُ) [266] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (1/ 46). .
7- جاء في كتابِ (فواتِح الرَّحَموت بشَرح مُسلم الثُّبوت): (المَذهَبُ الصَّحيحُ لصِحَّةِ ايمانِ المُقَلِّدِ عِندَ الأئمَّةِ الأربعةِ، الإمامِ أبي حنيفةَ، والإمامِ الشَّافعيِّ، والإمامِ مالِكٍ، والإمامِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، رضوانُ اللهِ تعالى عليهم، وكثيرٍ من المُتكلِّمين خِلافًا للأشْعَريِّ، وإن كان آثمًا في تركِ النَّظَرِ والاستِدلالِ، أمَّا قَبولُ إيمانِ المُقَلِّدِ فثابتٌ بالدَّلائِلِ القطعيَّةِ؛ فإنَّه تواتر أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقبَلُ إيمانَ كُلِّ أحدٍ، وإن حصل من دونِ نَظَرٍ، حتى من الصِّبيانِ الذين لم يَقدِروا على النَّظَرِ أصلًا، وكذا تواتَر من الصَّحابةِ والتَّابعينَ من غيرِ نكيرٍ، والخلافُ إنما نشأ بعدَهم، وأمَّا التَّأثيمُ بتركِ النَّظَرِ فلم ينُصَّ عليه الأئمَّةُ، إنما حكم المتأخِّرون به من جهةِ تَركِ النَّظَرِ الذي كان واجِبًا، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنَّ النَّظَرَ ما كان واجبًا إلَّا لتحصيلِ الإيمانِ، وإذا حصل الإيمانُ ارتفع سَبَبُ وُجوبِه، فلا إثمَ في التَّركِ) [267] ((فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت)) (4/ 293). .
وما أحسَنَ ما قاله النَّوويُّ في شرحِ حديثِ: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ ويُؤمنوا بي وبما جئتُ به )) [268] أخرجه مسلم (21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (فيه دَلالةٌ ظاهِرةٌ لمذهَبِ المحَقِّقينَ والجماهيرِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ أنَّ الإنسانَ إذا اعتقد دينَ الإسلامِ اعتِقادًا جازِمًا لا ترَدُّدَ فيه، كفاه ذلك، وهو مؤمِنٌ مِن المُوَحِّدينَ، ولا يجِبُ عليه تعَلُّمُ أدِلَّةِ المتكَلِّمينَ ومَعرفةُ الله تعالى بها، خِلافًا لمن أوجَبَ ذلك، وجعَلَه شَرْطًا في كونِه مِن أهلِ القِبلةِ، وزَعَم أنَّه لا يكونُ له حُكمُ المسلِمينَ إلَّا به، وهذا المذهَبُ هو قَولُ كثيرٍ مِن المعتَزِلةِ، وبَعضِ أصحابِنا المتكَلِّمينَ، وهو خَطَأٌ ظاهِرٌ؛ فإنَّ المرادَ التَّصديقُ الجازِمُ، وقد حَصَل، ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اكتفى بالتَّصديقِ بما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يشتَرِطِ المعرفةَ بالدَّليلِ؛ فقد تظاهَرَت بهذا أحاديثُ في الصَّحيحينِ يحصُلُ بمَجموعِها التَّواتُرُ بأصلِها، والعِلْمُ القَطْعيُّ) [269] ((شرح مسلم)) (1/ 210، 211). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الذين أوجَبوا النَّظَرَ من الطَّوائِفِ العامَّةِ نوعان: أحَدُهما: من يقولُ: إنَّ أكثَرَ العامَّةِ تارِكوه، وهؤلاء على قولينِ: فغُلاتُهم يقولون: إنَّ إيمانَهم لا يَصِحُّ، وأكثَرُهم يقولون: يصِحُّ إيمانُهم تقليدًا، مع كونِهم عُصاةً بتَرْكِ النَّظَرِ، وهذا قَولُ جُمهورِهم، قد ذَكَر هذا طوائِفُ من الحَنَفيَّةِ وغيرِهم، كما ذَكَر من ذَكَر من الحنَفِيَّةِ في شَرحِ الفِقهِ الأكبَرِ، فقالوا: قال أبو حنيفةَ وسُفيانُ ومالِكٌ والأوزاعيُّ وعامَّةُ الفُقَهاءِ وأهلُ الحَديثِ بصِحَّةِ إيمانِ المقَلِّدِ، ولكِنَّه عاصٍ بتركِ الاستدلالِ،... والنَّوعُ الثَّاني من مُوجِبي النَّظَرِ -وهم جمهورُهم- يقولون: إنَّه متيسِّرٌ على العامَّةِ، كما يقولُه القاضي أبو بكرٍ، والقاضي أبو يَعْلى وغَيرُهما ممَّن يقولُ ذلك) [270] ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/93). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أمَّا التَّقليدُ الباطِلُ المذمومُ فهو قَبولُ قَولِ الغَيرِ بلا حُجَّةٍ؛ قال اللهُ تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ في البقرة، وفي المائدة وفي لقمان: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ، وفي الزَّخرف: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وفي الصَّافات: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ، وقال: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل [الأحزاب: 66-67] الآيات، وقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] ، وقال: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر: 47] ، وفي الآية الأخرى: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وقال: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ، فهذا الاتِّباعُ والتَّقليدُ الذي ذَمَّه اللهُ هو اتِّباعُ الهوى إمَّا للعادةِ والنَّسَبِ كاتِّباعِ الآباءِ، وإمَّا للرِّئاسةِ، كاتِّباعِ الأكابِرِ والسَّادةِ والمتكَبِّرين، فهذا مِثلُ تقليدِ الرَّجُلِ لأبيه أو سَيِّدِه أو ذي سُلْطانِه، وهذا يكونُ لِمن لم يستَقِلَّ بنَفْسِه، وهو الصَّغيرُ؛ فإنَّ دينَه دينُ أُمِّه، فإن فُقِدَت فدِينُ مَلِكِه وأبيه، فإن فُقِد كاللَّقيطِ فدِينُ المتوَلِّي عليه، وهو أهلُ البَلَدِ الذي هو فيه، فأمَّا إذا بَلَغ وأعرَبَ لسانُه فإمَّا شاكِرًا وإمَّا كَفُورًا، وقد بَيَّن اللهُ أنَّ الواجِبَ الإعراضُ عن هذا التَّقليدِ إلى اتِّباعِ ما أنزَلَ اللهُ على رسُلِه؛ فإنَّهم حُجَّةُ اللهِ التي أعذَرَ بها إلى خَلْقِه... فإنْ عَلِمَ أنَّ مُقَلَّدَه مُصيبٌ، كتَقليدِ الرَّسولِ، أو أهلِ الإجماعِ؛ فقد قلَّده بحُجَّةٍ، وهو العِلمُ بأنَّه عالمٌ، وليس هو التَّقليدَ المذكورَ، وهذا التَّقليدُ واجِبٌ؛ للعِلمِ بأنَّ الرَّسولَ معصومٌ، وأهلُ الإجماعِ مَعصومون) [271] ((مجموع الفتاوى)) (20/ 15). .
فوُجوبُ الإيمانِ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ لا يُشتَرَطُ فيه أن يكونَ عن نَظَرٍ واستدلالٍ، بل يكفي اعتقادٌ جازمٌ بذلك، فالمختارُ الذي عليه السَّلَفُ وأئِمَّةُ الفتوى من الخَلَفِ، وعامَّةُ الفُقَهاءِ: صِحَّةُ إيمانِ المقَلِّدِ؛ فإنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ فَتَحوا أكثَرَ بلادِ العَجَمِ، وقَبِلوا إيمانَ عَوامِّهم، كأجلافِ العَرَبِ، وإن كان تحتَ السَّيفِ، أو تبعًا لكبيرٍ منهم أسلَمَ، ولم يأمروا أحدًا منهم بترديدِ نَظَرٍ، ولا سألوه عن دليلِ تصديقِه، ولا أرجَؤوا أمْرَه حتى ينظُرَ، والعَقلُ يجزِمُ في نحوِ هذا بعَدَمِ وُقوعِ الاستِدلالِ منهم؛ لاستحالتِه حينَئذٍ، فكان ما أطبَقوا عليه دليلًا على إيمانِ المقَلِّدِ [272] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 270). .
قال السَّفَّارينيُّ: (النَّظَرُ ليس بشَرطٍ في حُصولِ المعرفةِ مُطلَقًا، وإلَّا لَما وُجِدَت بدونِه؛ لوُجوبِ انتِفاءِ المشروطِ بانتفاءِ الشَّرطِ، لكِنَّها قد توجَدُ؛ فظهر أنَّ النَّظَرَ لا يتعَيَّنُ على كُلِّ أحدٍ، وإنَّما يتعَيَّنُ على من لا طريقَ له سِواه، بأن بلَغَتْه دعوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلَ ما بلغَتْه دَعْوَتُه، وصَدَّق به تصديقًا جازِمًا بلا ترَدُّدٍ، فمع صِحَّةِ إيمانِه بالاتِّفاقِ لا يأثَمُ بتَرْكِ النَّظَرِ، وإن كان ظاهِرُ ما تقَدَّمَ الإثمَ مع حُصولِ الإيمانِ؛ لأنَّ المقصودَ الذي لأجْلِه طُلِبَ النَّظَرُ مِن المكَلَّفِ -وهو التَّصديقُ الجازِمُ- قد حصل بدونِ النَّظَرِ، فلا حاجةَ إليه، نَعَمْ، في رتبتِه انحِطاطٌ، وربَّما كان متزلزِلَ الإيمانِ، فالحَقُّ أنَّه يأثَمُ بتَرْكِ النَّظَرِ وإن حصل له الإيمانُ، ومن ثمَّ نَقَل بعضُهم الإجماعَ على تأثيمِه؛ لأنَّ جَزْمَه حينئذٍ لا ثِقةَ به؛ إذ لو عَرَضَت له شُبهةٌ، عَكَّرت عليه، وصار مترَدِّدًا، بخِلافِ الجَزمِ النَّاشئِ عن الاستِدلالِ؛ فإنَّه لا يفوتُ بذلك، واللهُ تعالى وَلِيُّ التَّوفيقِ) [273] ((لوامع الأنوار البهية)) (1/270). .

انظر أيضا: