موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادِسُ: حُكمُ مُرتَكِبِ الكبيرةِ عِندَ الماتُريديَّةِ


ذهبت الماتُريديَّةُ إلى أنَّ مرتَكِبَ الكبيرةِ غيرَ المستَحِلِّ لها فاسِقٌ وليس بكافرٍ، وهو تحت مشيئةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ إن مات من غيرِ توبةٍ؛ إن شاء عذبَّه، وإن شاء غفر له، وهو مؤمِنٌ كاملُ الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ عندَهم هو التَّصديقِ، فهو لا يزيدُ بالطَّاعاتِ ولا ينقُصُ بالمعاصي، فوافق الماتُريديَّةُ أهلَ السُّنَّةِ في عَدَمِ تكفيرِ مُرتَكِبِ الكبيرةِ، وفي القَولِ بأنَّه تحت المشيئةِ، وخالفوهم في القولِ بأنَّه كامِلُ الإيمانِ، وأنَّ المعاصيَ لا تنقُصُ الإيمانَ.
نقولاتٌ للماتُريديَّةِ حولَ حُكمِ مرتكِبِ الكبيرةِ عِندَهم:
1- قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (من ارتكب ذنبًا أو ظلمًا، فله الخوفُ، وهو في مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، وعفا عنه) [274] ((تفسير الماتريدي)) (4/ 150) و (7/ 134). .
2- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (أهل الحقِّ يقولون: إنَّ من اقترف كبيرةً غيرَ مُستحِلٍّ لها ولا مستَخِفٍّ بمن نهى عنها، بل لغَلَبةِ شهوةٍ أو حميَّةٍ، نرجو اللهَ تعالى أن يغفِرَ له، ونخافُ أن يعذِّبَه عليه، فهذا اسمُه المؤمِنُ، وبقي على ما كان عليه من الإيمانِ، ولم يَزَلْ عِندَ إيمانُه ولم ينتَقِصْ، ولا يخرجُ من الإيمانِ إلَّا من البابِ الذي دخله، وحُكمُه أنَّه لو مات من غيرِ توبةٍ فللَّه تعالى فيه المشيئةُ؛ إن شاء عفا عنه بفَضلِه وكرَمِه، أو ببركةِ ما معه من الإيمانِ والحسَناتِ، أو بشفاعةِ بعض ِالأخيارِ، وإن شاء عذَّبه بقَدرِ ذنبِه، ثمَّ عاقبةُ أمرِه الجنَّةُ لا محالةَ، ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ، أمَّا الاسمُ فلأنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، والكُفرُ هو التَّكذيبُ، وهو الذي ارتكب هذه الكبيرةَ لكَسَلٍ أو حميَّةٍ أو أنَفةٍ أو غَلَبةِ شَهوةٍ، كان التَّصديقُ معه باقيًا، وما دام التَّصديقُ موجودًا كان التَّكذيبُ منعَدِمًا لمضادَّةٍ بينهما، فالقولُ بكُفرِه والتَّكذيب منعَدِمٌ، فالقولُ بزوالِ الإيمانِ والتَّصديقُ قائِمٌ، أو بثبوتِ النِّفاقِ والتَّصديقُ في القلبِ متقرِّرٌ: قولٌ ظاهرُ الفسادِ) [275] ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 136، 137) بتصَرُّف يسير. .
3- قال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (مقترفُ الكبيرةِ عمدًا غيرَ مستحِلٍّ لها ولا مستخِفٍّ لِمَن نهى عنها، لا يخرُجُ من الإيمانِ لبقاءِ التَّصديقِ، ولا يخرُجُ أحدٌ من الإيمانِ إلَّا من البابِ الذي دخل فيه، والعاصي إذا مات بغيرِ توبةٍ فهو في مشيئةِ اللهِ تعالى؛ إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنَّةَ بفَضلِه وكَرَمِه، أو ببركةِ ما معه من الإيمانِ والطَّاعاتِ، أو شفاعةِ بعضِ الأخيارِ، وإن شاء عذَّبه بقدرِ ذنبِه صغيرًا كان أو كبيرًا، ثمَّ عاقبةُ أمرِه الجنَّةُ، ولا يخلَّدُ في النَّارِ... وقالت المُرجئةُ الخبيثيَّةُ: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنبٌ، كما لا ينفَعُ مع الكُفرِ طاعةٌ، وزعَموا أنَّ أحدًا من المُسلِمين لا يعاقَبُ على شيءٍ من الكبائِرِ) [276] ((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 397، 401). .
4- قال التَّفْتازانيُّ: (اختلف أهلُ الإسلامِ فيمن ارتكبَ الكبيرةَ من المؤمِنينَ، ومات قبل التَّوبةِ، فالمَذهَبُ عِندَنا عدَمُ القطعِ بالعَفوِ ولا بالعقابِ، بل كِلاهما في مشيئةِ اللهِ تعالى، لكِنْ على تقديرِ التَّعذيبِ نقطَعُ بأنَّه لا يخلَّدُ في النَّارِ) [277] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 228). .
وقد بَيَّنَ ابنُ تيميَّةَ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذه المسألةِ، فقال: (هم في بابِ الأسماءِ والأحكامِ والوَعدِ والوَعيدِ وَسَطٌ بين الوعيديَّةِ الذين يجعَلونَ أهلَ الكبائِرِ من المُسلِمينَ مُخَلَّدين في النَّارِ، ويُخرِجونَهم من الإيمانِ بالكُلِّيةِ، ويُكذِّبون بشَفاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ المرجِئةِ الذين يقولون: إيمانُ الفُسَّاقِ مِثلُ إيمانِ الأنبياءِ، والأعمالُ الصَّالحةُ ليست من الدِّينِ والإيمانِ، ويُكَذِّبون بالوَعيدِ والعِقابِ بالكُلِّية، فيؤمِنُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ بأنَّ فُسَّاق المُسلِمين معهم بعضُ الإيمانِ وأصلُه، وليس معهم جميعُ الإيمانِ الواجِبِ الذي يستوجِبون به الجَنَّةَ، وأنَّهم لا يُخَلَّدون في النَّارِ، بل يخرجُ منها من كان في قَلْبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن إيمانٍ أو مِثقالُ خَردَلةٍ مِن إيمانٍ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ادَّخَر شَفاعتَه لأهلِ الكبائِرِ مِن أُمَّتِه) [278] ((مجموع الفتاوى)) (3/374). .

انظر أيضا: