موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: معنى الإيمانِ وحقيقتُه عندَ الماتُريديَّةِ


ذهب أبو منصورٍ الماتُريديُّ إلى أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلبِ فقط، وتَبِعه على ذلك بعضُ الماتُريديَّةِ، وذهب بعضُ الماتُريديَّةِ إلى أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلبِ، والإقرارُ باللِّسانِ.
نقولاتٌ للماتُريديَّةِ حولَ معنى الإيمانِ وحقيقتِه عندَهم:
1- قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (الإيمانُ عندَنا هو التَّصديقُ بالقلبِ، دليلُه قولُ جميعِ أهلِ التَّأويلِ والأدَبِ أنَّهم فسَّروا «آمنوا»: صدَّقوا، في جميعِ القرآنِ) [207] ((تفسير الماتريدي)) (1/385). ويُنظر فيه أيضًا: (3/367، 520) و (4/53) و (5/242). .
وقال أيضًا: (قد ثبت بأدِلَّة القرآنِ وما عليه أهلُ الإيمانِ والذي جرى به من اللِّسانِ أنَّ الإيمَان هو التَّصديقُ به) [208] ((التوحيد)) (ص: 332، 380، 381، 394). .
2- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (الإيمانُ في اللُّغةِ: عبارةٌ عن التَّصديقِ، فكُلُّ من صدَّق غيرَه فيما يخبِرُه يُسَمَّى في اللُّغةِ مؤمنًا، ومؤمنًا له. قال اللهُ تعالى خبرًا عن إخوةِ يوسُفَ صلواتُ اللهِ عليهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17] ؛ أي: بمُصَدِّقٍ لنا، ثمَّ إنَّ هذا المعنى اللُّغويَّ -وهو التَّصديقُ بالقَلبِ- هو حقيقةُ الإيمانِ الواجبِ على العبدِ حَقًّا لله تعالى، وهو أن تُصَدِّقَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما جاء به من عندِ اللهِ تعالى، فمن أتى بهذا التَّصديقِ فهو مؤمِنٌ فيما بينه وبَينَ اللهِ تعالى، والإقرارُ يحتاجُ إليه ليقِفَ عليه الخلقُ فيُجْروا أحكامَ الإسلامِ، هذا هو أصَحُّ الرَّوايتينِ عن أبي الحسَنِ الأشعَريِّ) [209] ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 146). .
3- قال الغَزنويُّ: (الإيمانُ هو التَّصديقُ بالقلبِ، وهو الإيمانُ المفروضُ على العبدِ، والإقرارُ باللِّسانِ ليظهَرَ عِندَ النَّاسِ ما في الجَنانِ، فتَجري عليه أحكامُ الإسلامِ، فمن أتى بالتَّصديقِ بالقلبِ يكونُ مؤمِنًا بينه وبَينَ اللهِ تعالى، ومن أتى بهما يكونُ مؤمِنًا عِندَ اللهِ وعندَ النَّاسِ، والإيمانُ أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورَسولِه واليومِ الآخِرِ دلالةَ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلبِ، وأنَّ ضِدَّ الإيمانِ هو كفرٌ وتكذيبٌ، والتَّصديقُ والتَّكذيبُ عَمَلُ القلبِ) [210] ((أصول الدين)) (ص: 251، 252) بتصَرُّف يسير. .
وقال الغَزْنَويُّ أيضًا: (الإيمانُ لا يزيدُ ولا ينقُصُ بانضمامِ الطَّاعاتِ إليه، ولا ينتَقِصُ بارتكابِ المعاصي؛ لأنَّ الإيمانَ عبارةٌ عن التَّصديقِ والإقرارِ) [211] ((أصول الدين)) (ص: 254). .
4- قال أبو البرَكاتِ النَّسَفيُّ: (الإيمانُ في اللُّغةِ عبارةٌ عن التَّصديقِ؛ قال اللهُ تعالى خبرًا عن إخوةِ يوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] ، أي: بمُصَدِّقٍ لنا، ثمَّ هذا اللُّغَويُّ -وهو التَّصديقُ بالقلبِ- هو الإيمانُ الواجِبُ على العبدِ حتمًا للهِ تعالى، وهو أن يُصَدِّقَ الرَّسولَ عليه السَّلامُ فيما جاء به من عِندِ اللهِ تعالى؛ إذ فيه تصديقٌ بجميعِ ما يجِبُ التَّصديقُ به، ففيه الإيمانُ باللهِ، وملائكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِرِ، وبجميعِ ما يجبُ الإيمانُ به على التَّفصيلِ، فمن صدَّق الرَّسولَ فيما جاء به من عِندِ اللهِ تعالى فهو مؤمِنٌ فيما بينه وبَينَ اللهِ تعالى، والإقرارُ شرطُ إجراءِ أحكامِ الإسلامِ، وهو المرويُّ عن أبي حنيفةَ رَضِيَ الله عنه، وإليه ذهب الشَّيخُ أبو منصورٍ الماتُريديُّ، وهو أصحُّ الرَّوايتينِ عن الأشْعَريِّ... والأعمالُ ليست من الإيمانِ، كما قال أهلُ الحديثِ، ويُحكى هذا عن مالكٍ، والأوزاعيِّ، وأهلِ الظَّاهِرِ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ رَحِمهم اللهُ؛ فإنَّهم قالوا: الإيمانُ هو تصديقٌ بالجَنانِ، والإقرارُ باللِّسانِ، والعَمَلُ بالأركانِ) [212] ((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 369، 370، 373). .
5- قال التَّفْتازانيُّ: (حقيقةُ الايمانِ هو التَّصديقُ القَلبيُّ... وليس حقيقةُ التَّصديقِ أن يقعَ في القَلبِ نِسبةُ الصِّدقِ إلى الخبرِ أو المُخبِرِ عن غيرِ إذعانٍ وقَبولٍ، بل هو إذعانٌ وقَبولٌ لذلك، بحيث يقعُ عليه اسمُ التَّسليمِ، على ما صرَّح به الإمامُ الغَزاليُّ... هذا الذي ذكره من أنَّ الإيمَان هو التَّصديقُ والإقرارُ مَذهَبُ بعضِ العُلَماءِ، وهو اختيارُ الإمامِ شَمسِ الأئمَّةِ وفخرِ الإسلامِ رحمهما اللهُ، وذهب جمهورُ المحقِّقينَ إلى أنَّه التَّصديقُ بالقلبِ، وإنما الإقرارُ شرطٌ لإجراءِ الأحكامِ في الدُّنيا؛ لِما أنَّ التَّصديقَ بالقلبِ أمرٌ باطِنٌ لا بدَّ له من علامةٍ، فمن صدَّق بقَلبِه ولم يُقِرَّ بلسانِه، فهو مؤمِنٌ عِندَ اللهِ، وإن لم يكُنْ مُؤمِنًا في أحكامِ الدُّنيا، ومن أقرَّ بلسانِه ولم يُصَدِّقْ بقلبِه كالمنافِقِ، فبالعكس، وهذا هو اختيارُ الشَّيخِ أبي منصورٍ رحمه اللهُ) [213] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 72، 78، 79). .
6- قال علي القاري: (الإيمانُ هو التَّصديقُ بالجَنانِ، والإقرارُ باللِّسانِ، وأمَّا العَمَلُ بالأركانِ فهو من كمالِ الإيمانِ، وجمالِ الإحسانِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وشَرطٌ أو شَطرٌ عِندَ الخوارجِ والمُعتزِلةِ) [214] ((منح الروض الأزهر)) (ص: 219). .
وقال أيضًا: (اعتبارُ الإقرارِ في مفهومِ الإيمانِ مَذهَبُ بعضِ العُلَماءِ، وهو اختيارُ الإمامِ شمسِ الأئمَّةِ الحَلوانيِّ وفَخرِ الإسلامِ، من أنَّ الإقرارَ رُكنٌ إلَّا أنَّه قد يحتَمِلُ السُّقوطَ، كما في حالةِ الإكراهِ. وذهب جمهورُ المحَقِّقينَ إلى أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلبِ، وإنَّما الإقرارُ شرطٌ لإجراءِ الأحكامِ في الدُّنيا؛ لِما أنَّ تصديقَ القلبِ أمرٌ باطنيٌّ لا بُدَّ له من علامةٍ، فمن صدَّق بقلبِه ولم يُقِرَّ بلسانِه فهو مؤمِنٌ عِندَ اللهِ تعالى، وإنْ لم يكُنْ مؤمِنًا في أحكامِ الدُّنيا، ومن أقرَّ بلسانِه ولم يُصَدِّقْ بقَلبِه، كالمنافِقِ، فبالعكسِ، وهذا هو اختيارُ الشَّيخِ أبي منصورٍ الماتُريديِّ رحمه اللهُ) [215] ((منح الروض الأزهر)) (ص: 219). .
7- قال عبدُ الحقِّ الدِّهْلَويُّ: (الإيمانُ في أصلِ اللُّغةِ «إفعالٌ» من الأمنِ، متعَدٍّ بنفسِه، يقالُ: آمَنَه: جعله آمِنًا،... وقد نُقِل إلى معنى التَّصديقِ متعَدِّيًا بالباءِ باعتبارِ تضمينِ معنى الاعترافِ، وباللَّامِ باعتبارِ معنى الإذعانِ، ثمَّ نُقِل في الشَّرعِ إلى تصديقٍ فيما أخبر، إمَّا وَحدَه، وهو مَذهَبُ المحقِّقينَ، أو مع الإقرارِ إن لم يمنَعْ منه مانعٌ، وهو قولُ الجمهورِ، أو مع الإقرارِ والعمَلِ عِندَ المُعتزِلةِ، وأمَّا ما يُحكى من المحدِّثينَ من أنَّ الإيمانَ اعتقادٌ بالجَنانِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأركانِ، فالمرادُ الإيمانُ الكامِلُ لا أصلُه... التَّصديقُ الإيمانيُّ يُعتَبَرُ معه شيءٌ آخَرُ المعبَّرُ عنه بالتَّسليمِ والإذعانِ، وهو حالةٌ في نفسِ المصَدِّقِ تنافي الجُحودَ والعِنادَ، وتبعَثُه على الانقيادِ والاستسلامِ، وتَركِ التَّمرُّدِ والإباءِ، وعَدَمِ وِجدانِ الحَرَجِ في النَّفسِ، على ما يُشْعِرُ به قولُهُ سُبحانَه: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] ) [216] ((لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)) (1/ 193، 194)، وتفسيرُه قولَ المحَدِّثين بأنَّهم يريدون الإيمانَ الكاملَ فيه نظرٌ؛ ولذلك ذهب كثيرٌ من السَّلَفِ وأهلِ الحديثِ إلى تكفيرِ تاركِ الصَّلاةِ. .
وقد بَيَّنَ أهلُ العِلمِ وَجهَ الحقِّ في مسألةِ معنى الإيمانِ وحقيقتِه وحَرَّروا الصَّوابَ فيها.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الألفاظُ الموجودةُ في القرآنِ والحديثِ إذا عُرِفَ تفسيرُها وما أُريدَ بها من جهةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُحتَجْ في ذلك إلى الاستدلالِ بأقوالِ أهلِ اللُّغةِ ولا غيرِهم؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ: الأسماءُ ثلاثةُ أنواعٍ: نوعٌ يُعرَفُ حَدُّه بالشَّرعِ، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ. ونوعٌ يُعرَفُ حَدُّه باللُّغةِ كالشَّمسِ والقَمَرِ. ونوعٌ يُعرَفُ حَدُّه بالعُرفِ، كلفظِ القبضِ، ولفظِ المعروفِ في قولِه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] ، ونحوِ ذلك... فاسمُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ ونحوِ ذلك، قد بَيَّنَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يرادُ بها في كلامِ اللهِ ورسولِه، وكذلك لفظُ الخَمرِ وغيرِها، فلو أراد أحدٌ أن يُفَسِّرَها بغيرِ ما بيَّنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُقبَلْ منه... واسمُ الإيمانِ والإسلامِ والنِّفاقِ والكُفرِ هي أعظَمُ مِن هذا كُلِّه، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بَيَّنَ المرادَ بهذه الألفاظِ بيانًا لا يحتاجُ معه إلى الاستدلالِ على ذلك بالاشتقاقِ وشواهِدِ استعمالِ العَرَبِ ونحوِ ذلك؛ فلهذا يجِبُ الرُّجوعُ في مُسَمَّياتِ هذه الأسماءِ إلى بيانِ اللهِ ورسولِه، فإنَّه شافٍ كافٍ، بل معاني هذه الأسماءِ معلومةٌ من حيثُ الجملةُ للخاصَّةِ والعامَّةِ، بل كُلُّ من تأمَّل ما تقولُه الخوارجُ والمُرجِئةُ في معنى الإيمانِ، عَلِم بالاضطرارِ أنَّه مخالِفٌ للرَّسولِ، ويعلَمُ بالاضطرارِ أنَّ طاعةَ اللهِ ورسولِه من تمامِ الإيمانِ، وأنَّه لم يكُنْ يجعَلُ كُلَّ من أذنب ذنبًا كافِرًا، ويعلَمُ أنَّه لو قُدِّر أنَّ قومًا قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نحن نؤمِنُ بما جئتَنا به بقلوبِنا من غيرِ شكٍّ، ونُقِرُّ بألسِنَتِنا بالشَّهادتينِ، إلَّا أنَّا لا نطيعُك في شيءٍ ممَّا أمرتَ به ونهيتَ عنه، فلا نصلِّي ولا نصومُ ولا نحُجُّ، ونشرَبُ الخمرَ، وننكِحُ ذواتَ المحارِمِ بالزِّنا الظَّاهِرِ، ونقتُلُ من قدَرْنا عليه من أصحابِك وأمَّتِك، ونأخُذُ أموالهم، بل نقتُلُك أيضًا ونقاتِلُك مع أعدائِك، هل كان يتوهَّمُ عاقِلٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لهم: أنتم مؤمنون كامِلو الإيمانِ، وأنتم من أهلِ شفاعتي يومَ القيامةِ، ويُرجى لكم ألَّا يدخُلَ أحدٌ منكم النَّارَ؟!... وكذلك كُلُّ مُسلِمٍ يعلَمُ أنَّ شاربَ الخمرِ والزَّانيَ والقاذِفَ والسَّارِقَ لم يكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجعلُهم مرتدِّين يجِبُ قتلُهم، بل القرآنُ والنَّقلُ المتواتِرُ عنه يبيِّنُ أنَّ هؤلاء لهم عقوباتٌ غيرُ عُقوبةِ المرتدِّ عن الإسلامِ... وأهلُ البِدَعِ إنما دخل عليهم الدَّاخِلُ؛ لأنَّهم أعرضوا عن هذه الطَّريقِ، وصاروا يبنون دينَ الإسلامِ على مقدِّماتٍ يظنُّونَ صِحَّتَها، إمَّا في دلالةِ الألفاظِ، وإمَّا في المعاني المعقولةِ، ولا يتأمَّلون بيانَ اللهِ ورسولِه، وكُلُّ مقدِّماتٍ تخالِفُ بيانَ اللهِ ورَسولِه فإنَّها تكونُ ضلالًا... مثالُ ذلك: أنَّ المرجئةَ لمَّا عدَلوا عن معرفةِ كلامِ اللهِ ورسولِه أخذوا يتكلَّمون في مسمَّى الإيمانِ والإسلامِ وغيرِهما بطُرُقٍ ابتدعوها، مِثلُ أن يقولوا: الإيمانُ في اللُّغةِ: هو التَّصديقُ، والرَّسولُ إنما خاطب النَّاسَ بلغةِ العَرَبِ لا بغيرِها، فيكونُ مرادُه بالإيمانِ التَّصديقَ، ثمَّ قالوا: والتَّصديقُ إنما يكونُ بالقلبِ واللِّسانِ، أو بالقلبِ، فالأعمالُ ليست من الإيمانِ، ثمَّ عُمدتهُم في أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ قَولُه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17] أي: بمصَدِّقٍ لنا. فيقالُ لهم: اسمُ الإيمانِ قد تكرَّر ذِكرُه في القرآنِ والحديثِ أكثَرَ من ذكرِ سائِرِ الألفاظِ، وهو أصلُ الدِّينِ، وكلُّ مُسلِمٍ محتاجٌ إلى معرفةِ ذلك، أفيجوزُ أن يكونَ الرَّسولُ قد أهمل بيانَ هذا كلِّه، ووكَلَه إلى هاتينِ المقَدِّمتينِ؟!... فلا يجوزُ أن يُجعَلَ بيانُ أصلِ الدِّينِ مبنيًّا على مثلِ هذه المقَدِّماتِ... ثمَّ يقالُ: هاتانِ المقدِّمتانِ كلتاهما ممنوعةٌ، فمن الذي قال: إنَّ لفظَ الإيمانِ مرادِفٌ للفظِ التَّصديقِ؟ وهَبْ أنَّ المعنى يصحُّ إذا استُعمِلَ في هذا الموضعِ، فلِمَ قُلتَ: إنَّه يوجِبُ التَّرادُفَ؟... ليس هو مرادِفًا له من وُجوهٍ:
أحدُها: أن يُقالَ للمُخبِرِ إذا صدَّقْتَه: صدَّقَه، ولا يقالُ: آمَنَه وآمنَ به. بل يقالُ: آمَنَ له... فإن قيل: فقد يقالُ: ما أنت بمصَدِّقٍ لنا. قيل: اللَّامُ تدخُلُ على ما يتعدَّى بنفسِه إذا ضَعُف عَمَلُه، إمَّا بتأخيرِه أو بكونِه اسمَ فاعلٍ أو مصدرًا، أو باجتماعِهما، فيقالُ: فلانٌ يعبدُ اللهَ ويخافُه ويتَّقيه، ثمَّ إذا ذُكِرَ باسمِ الفاعِلِ قيل: هو عابِدٌ لرَبِّه مُتَّقٍ لرَبِّه، خائفٌ لربِّه،... فيقولُ القائِلُ: ما أنت بمُصَدِّقٍ لنا، أدخل فيه اللَّامَ؛ لكونِه اسمَ فاعلٍ، وإلَّا فإنما يقالُ: صدَّقْتُه، لا يقالُ: صدَّقتُ له، ولو ذكَروا الفعلَ لقالوا: ما صدَّقْتَنا، وهذا بخلافِ لفظِ الإيمانِ، فإنَّه تعدى إلى الضَّميرِ باللَّامِ دائمًا، لا يقالُ: آمَنْتُه قطُّ، وإنَّما يقالُ: آمَنْتُ له، كما يقالُ: أقرَرْتُ له، فكان تفسيرُه بلفظِ الإقرارِ أقرَبَ من تفسيرِه بلفظِ التَّصديقِ، مع أنَّ بينهما فرقًا.
الثَّاني: أنَّه ليس مرادِفًا للفظِ التَّصديقِ في المعنى، فإنَّ كُلَّ مخبِرٍ عن مشاهَدةٍ أو غيبٍ، يقالُ له في اللُّغةِ: صَدَقْتَ، كما يقالُ: كذَبْتَ. فمَن قال: السَّماءُ فوقَنا، قيل له: صَدَق، كما يقالُ: كَذَب، وأمَّا لفظُ الإيمانِ فلا يُستعمَلُ إلَّا في الخبرِ عن غائِبٍ، لم يوجَدْ في الكلامِ أنَّ من أخبر عن مشاهَدةٍ، كقولِه: طلَعَت الشَّمسُ وغَرَبَت، أنَّه يقالُ: آمَنَّاه. كما يقالُ: صدَّقْناه.
الثَّالِثُ: أنَّ لفظَ الإيمانِ في اللُّغةِ لم يقابَلْ بالتَّكذيبِ كلَفظِ التَّصديقِ؛ فإنَّه من المعلومِ في اللُّغةِ أنَّ كُلَّ مخبرٍ يقالُ له: صدَقْتَ أو كذَبْتَ، ويقالُ: صدَّقْناه أو كذَّبْناه، ولا يقالُ لكُلِّ مخبرٍ: آمَنَّا له أو كذَّبْناه، ولا يقالُ: أنت مؤمِنٌ له أو مكَذِّبٌ له، بل المعروفُ في مقابلةِ الإيمانِ لَفظُ الكُفرِ، يقالُ: هو مؤمِنٌ أو كافِرٌ، والكُفرُ لا يختصُّ بالتَّكذيبِ، بل لو قال: أنا أعلَمُ أنَّك صادِقٌ لكن لا أتَّبِعُك، بل أعاديك وأبغِضُك وأخالِفُك ولا أوافِقُك، لكان كفرُه أعظَمَ، فلمَّا كان الكُفرُ المقابِلُ للإيمانِ ليس هو التَّكذيبَ فقط، عُلم أنَّ الإيمانَ ليس هو التَّصديقَ فقط، بل إذا كان الكفرُ يكونُ تكذيبًا ويكونُ مخالفةً ومعاداةً وامتناعًا بلا تكذيبٍ، فلا بدَّ أن يكونَ الإيمانُ تصديقًا مع موافقةٍ وموالاةٍ وانقيادٍ، لا يكفي مجرَّدُ التَّصديقِ، فيكونُ الإسلامُ جُزءَ مُسَمَّى الإيمانِ، كما كان الامتناعُ من الانقيادِ مع التَّصديقِ جُزءَ مُسمَّى الكُفرِ، فيجِبُ أن يكونَ كُلُّ مؤمنٍ مُسلِمًا منقادًا للأمرِ، وهذا هو العَمَلُ.
فإن قيل: فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَّر الإيمانَ بما يؤمَنُ به، قيل: فالرَّسولُ ذكر ما يؤمَنُ به لم يذكُرْ ما يؤمَنُ له، وهو نفسُه يجبُ أن يؤمِنَ به ويؤمِنَ له؛ فالإيمانُ به من حيثُ ثبوتُه غيبٌ عنَّا أخبَرَنا به، وليس كُلُّ غيبٍ آمَنَّا به علينا أن نطيعَه، وأمَّا ما يجبُ من الإيمانِ له فهو الذي يوجِبُ طاعتَه، والرَّسولُ يجِبُ الإيمانُ به وله، فينبغي أن يُعرَفَ هذا، وأيضًا فإنَّ طاعتَه طاعةٌ للهِ، وطاعةُ اللهِ من تمامِ الإيمانِ به.
الرَّابعُ: أنَّ من النَّاسِ من يقولُ: الإيمانُ أصلُه في اللُّغةِ من الأمنِ الذي هو ضِدُّ الخوفِ؛ فآمَنَ، أي: صار داخِلًا في الأمنِ...
وأمَّا المقَدِّمةُ الثَّانيةُ، فيقالُ: إنَّه إذا فُرِض أنَّه مرادِفٌ للتصديقِ فقولُهم: إنَّ التَّصديقَ لا يكونُ إلَّا بالقلبِ أو اللِّسانِ، عنه جوابانِ:
أحَدُهما: المَنعُ، بل الأفعالُ تُسَمَّى تصديقًا، كما ثبت في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((العينانِ تزنيانِ وزناهما النَّظَرُ، والأذُنُ تزني وزناها السَّمعُ، واليدُ تزني وزناها البَطشُ، والرِّجْلُ تَزني وزناها المشيُ، والقلبُ يتمنَّى ذلك ويشتهي، والفَرجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يُكَذِّبُه )) [217] أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ ولفظ مسلم: ((كُتِب على ابن آدمَ نصيبُه من الزنى، مدرِكٌ ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللِّسان زناه الكلامُ، واليدُ زناها البطشُ، والرِّجْل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدِّقُ ذلك الفرجُ ويُكَذِّبُه)). . وكذلك قال أهلُ اللُّغةِ وطوائِفُ من السَّلَفِ والخَلَفِ. قال الجَوهريُّ: والصِّدِّيقُ: الدَّائمُ التَّصديقِ، ويكونُ الذي يُصَدِّقُ قولَه بالعمَلِ. وقال الحَسَنُ البصريُّ: ليس الإيمانُ بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكِنَّه ما وقر في القلوبِ وصَدَّقَته الأعمالُ... فالعمَلُ يُصَدِّقُ أنَّ في القلبِ إيمانًا، وإذا لم يكُنْ عملٌ كَذبَ أنَّ في قَلبِه إيمانًا؛ لأنَّ ما في القلبِ مُستلزِمٌ للعَمَلِ الظَّاهِرِ، وانتفاءُ اللَّازمِ يدُلُّ على انتفاءِ الملزومِ... وكذلك الجواب الثاني: أنَّه إذا كان أصلُه التَّصديقَ، فهو تصديقٌ مخصوصٌ، كما أنَّ الصَّلاةَ دُعاءٌ مخصوصٌ، والحَجَّ قَصدٌ مخصوصٌ، والصِّيامَ إمساكٌ مخصوصٌ، وهذا التَّصديقُ له لوازِمُ، صارت لوازِمُه داخِلةً في مُسَمَّاه عندَ الإطلاقِ؛ فإنَّ انتفاءَ اللَّازمِ يقتضي انتفاءَ الملزومِ، ويبقى النِّزاعُ لفظيًّا: هل الإيمانُ دالٌّ على العَمَلِ بالتَّضَمُّنِ أو باللُّزومِ؟) [218] ((الإيمان)) (ص: 224 - 232) باختصار وتصَرُّف. .

انظر أيضا: