موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: العلاقةُ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ عِندَ الماتُريديَّةِ


ذهبت الماتُريديَّةُ وغيرُهم إلى أنَّ الإسلامَ والإيمانَ شَيءٌ واحِدٌ لا تغايُرَ بينهما، ولا ينفَكُّ أحَدُهما عن الآخَرِ، وإذا زال أحَدُهما زال الآخَرُ.
نقولاتٌ للماتُريديَّةِ حولَ العلاقةِ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ عِندَهم:
1- قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (الإسلامُ والإيمانُ هما في الحقيقةِ واحدٌ -أعني: في الحقيقةِ المعنى واحدٌ- وإن كانا مختلفينِ بجهةٍ؛ لأنَّ الإسلامَ هو أن يجعَلَ كُلَّ شيءٍ لله سالمًا خالصًا، لا يجعلُ لغيرِه فيه شِركًا ولا حقًّا، والإيمانَ هو التَّصديقُ لله بشهادةِ كُلِّ شيءٍ له بالوحدانيَّةِ والرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ، فمن جعل الأشياءَ كُلَّها لله خالصةً سالِمةً له، والذي صدَّق اللهَ بشهادةِ كُليَّةِ الأشياءِ له بالوحدانيَّةِ والرُّبوبيَّةِ واحِدٌ؛ لأنَّ المخلِصَ هو الذي يرى كُلَّ شيءٍ لله خالصًا، والموحِّدَ هو الذي يرى الوحدانيَّةَ له والرُّبوبيَّةَ في كُلِّ شيءٍ؛ فهما في حقيقةِ المعنى واحِدٌ، واللهُ أعلَمُ) [236] ((تفسير الماتريدي)) (8/ 385). .
وقال الماتُريديَّ أيضًا في تفسيرِ قَولِه تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] : (لا يصِحُّ الاستدلالُ بالآيةِ على أنَّ الإسلَام والإيمانَ غَيرانِ؛ فإنَّه غاير بينهما؛ حيث نهاهم أن يقولوا: آمَنَّا، وأمرهم أن يقولوا: أسلَمْنا، ولو كانا واحِدًا لم يصِحَّ هذا؛ لأنَّا نقولُ: لم يُرِدْ بهذا الإسلام هو الإسلام الذي هو الإيمانُ، ولكن أراد به الاستسلامَ والانقيادَ الظَّاهِرَ، وهو كما يُسَمَّى إسلامًا يسمَّى إيمانًا أيضًا من حيثُ الظَّاهِرُ، فأمَّا حقيقةُ الإيمانِ والإسلامِ ترجِعُ إلى واحدٍ؛ لأنَّ الإيمانَ هو أن يصدِّقَ كُلَّ شيءٍ في شهادتِه على الرُّبوبيَّةِ والوحدانيَّةِ لله تعالى، والإسلامَ هو أن يجعَلَ كُلَّ شيءٍ للهِ سالِمًا، لا شَرِكةَ لأحدٍ فيه، فمتى اعتقد أنَّ كُلَّ شيءٍ في العالمِ لله تعالى، وهو الخالِقُ له، وكلُّ مصنوعٍ شاهدٌ ودليلٌ على صانِعِه، فقد صدَّقه في شهادتِه على صانعِه، واللهُ الموفِّقُ) [237] ((تفسير الماتريدي)) (9/ 338). ويُنظر تفصيل هذه المسألة بتطويل في آخر كتاب ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 393 - 401). .
2- قال البَزْدَويُّ: (قال أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ: الإيمانُ لا ينفَصِلُ عن الإسلامِ، والإسلامُ عن الإيمانِ، ومن كان مؤمنًا كان مُسلِمًا، ومن كان مُسلِمًا كان مؤمِنًا، وإن كان الإيمانُ غيرَ الإسلامِ لغةً، كالبَطنِ لا تُتصوَّرُ بدونِ الظُّهرِ، والظُّهرِ بدونِ البَطنِ، وإن كانا غَيرينِ؛ فإنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، والإسلامُ هو الانقيادُ، فمن كان مُصَدِّقًا اللهَ تعالى ورسولَه، كان مُسلِمًا منقادًا لله تعالى ولرسولِه، ومن كان منقادًا له ولرسولِه كان مصَدِّقًا) [238] ((أصول الدين)) (ص: 157). .
3- قال الغَزْنَويُّ: (الإيمانُ والإسلامُ شيءٌ واحدٌ، والإيمانُ والإسلامُ يترادفانِ عليه، وكلُّ مؤمنٍ مُسلِمٌ، وكلُّ مُسلِمٍ مؤمِنٌ، دلَّ عليه قولُه تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، وقَولُه تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] أي: دينُ اللهِ تعالى هو الإسلامُ، وإن كان الإيمانُ غيرَ الإسلامِ، فهو غيرُ مقَبولٍ، والإيمانُ دينٌ لا محالةَ، فلو كان دينًا غيرَ الإسلامِ لم يكُنْ دينَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ولم يكُنْ مقَبولًا، والأمرُ بخلافِه) [239] ((أصول الدين)) (ص: 261، 262). .
4- قال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (الإيمانُ والإسلامُ واحدٌ، خلافًا لأصحابِ الظَّواهِرِ، لهم قولُه تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ، جعل الإسلامَ غيرَ الإيمانِ؛ حيث أثبت الإسلامَ ونفى الإيمانَ، وحديثُ جبريلَ عليه السَّلامُ: فإنَّه سأل النَّبيَّ عن الإيمانِ، فقال: ((أن تؤمِنَ باللهِ، وملائكَتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِرِ، والقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه من اللهِ تعالى ))، وسأل عن الإسلامِ، فقال: ((أن تشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وتقيمَ الصَّلاةَ، وتؤتيَ الزَّكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيتَ )) [240] أخرجه مسلم (8) مطولًا باختلاف يسير من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ، ففرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ بَينَ الأمرينِ. ولنا: أنَّهما من الأسماءِ المترادفةِ كالقعودِ والجلوسِ، فالإيمانُ هو تصديقُ اللهِ فيما أخبر على لسانِ رَسولِه، والإسلامُ هو الانقيادُ والخضوعُ للهِ تعالى في أوامِرِه ونواهيه، فلا يتصوَّرُ أن يأتيَ المرءُ بجميعِ شرائِطِ الإيمانِ، ثمَّ لا يكونُ مُسلِمًا، أو يأتي بجميعِ شرائِطِ الإسلامِ، ثمَّ لا يكونُ مُؤمِنًا، يدُلُّ عليه أنَّه تعالى قال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، والإيمانُ دينٌ، فلو كان غيرَ الإسلامِ لما كان مقَبولًا، وقالت الملائكةُ: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسلِمينَ [الذاريات: 35-36]، فصَيَّروا الذين كانوا مُسلِمين مؤمِنينَ. وقال خبرًا عن موسى عليه السَّلامُ أنَّه قال لقَومِه: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسلِمينَ [يونس: 84] ، وقال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات: 17] ... لكِنَّ الإسلامَ يكونُ على وجهَينِ؛ شرعيٌّ: وهو معنى الإيمانِ، ولُغويٌّ بمعنى: استسلم وانقاد، وهو الذي أثبته لهؤلاء الأعرابِ، مع نفيِ الإيمانِ عنهم، فكان معنى الآيةِ -واللهُ أعلمُ- قولوا: استسلَمْنا خوفًا من معرَّةِ السَّيفِ، وليس المرادُ به الإسلامَ الذي هو مرادٌ لقَولِه تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الْإِسْلَامِ [آل عمران: 85] .
وأمَّا الحديثُ فنقولُ: ذُكِر في الرِّواياتِ الصَّحيحةِ أنَّه سأل في المرَّةِ الثَّانيةِ عن شرائعِ الإسلامِ، فكان هذا الحديثُ، ويُحتَملُ أنَّه ذكر الإسلامَ، وأراد به الشَّرائعَ مجازًا، كما ذَكَر الإيمانَ وأراد به الصَّلاةَ في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] ) [241] ((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 393 - 396). .
5- قال التَّفْتازانيُّ: (الجمهورُ على أنَّ الإسلامَ والإيمانَ واحِدٌ؛ إذ معنى آمنتُ بما جاء به النَّبيُّ عليه السَّلامُ: صدَّقْتُه، ومعنى أسلَمْتُ له: سَلمتُه، ولا يظهَرُ بينهما كثيرُ فرقٍ؛ لرجوعِهما إلى معنى الاعترافِ والانقيادِ والإذعانِ والقَبولِ، وبالجملةِ لا يُعقَلُ بحسَبِ الشَّرعِ مؤمِنٌ ليس بمُسلِمٍ، أو مُسلِمٌ ليس بمؤمِنٍ، وهذا مرادُ القومِ بترادُفِ الاسمَينِ، واتحادِ المعنى، وعَدَمِ التَّغايرِ) [242] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 259). .
وقال التَّفْتازانيُّ أيضًا: (ظاهِرُ كلامِ المشايخِ: أنَّهم أرادوا عدمَ تغايُرِهما بمعنى أنَّه لا ينفَكُّ أحدُهما عن الآخَرِ، لا الاتِّحادِ بحسَبِ المفهومِ؛ لِما ذُكر في الكفايةِ من أنَّ الايمانَ هو تصديقُ اللهِ تعالى فيما أخبَرَ به من أوامِرِه ونواهيه، والإسلامُ هو الانقيادُ والخضوعُ للألوهيَّةِ، وذا لا يتحقَّقُ إلَّا بقَبولِ الأمرِ والنَّهيِ؛ فالإيمانُ لا ينفَكُّ عن الإسلامِ حُكمًا، فلا يتغايرانِ، ومن أثبت التَّغايُرَ يقالُ له: ما حُكمُ من آمن ولم يُسلِمْ، أو أسلمَ ولم يؤمِنْ؟ فإن أثبت لأحَدِهما حُكمًا ليس بثابتٍ للآخَرِ منهما، فبها ونِعْمَتْ، وإلَّا فقد ظهر بُطلانُ قَولِه) [243] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 83). .
وقد اختلف أئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنفُسُهم في مسمَّى الإسلامِ والإيمانِ: هل هما بمعنًى واحدٍ أم أنَّ أحَدَهما غيرُ الآخَرِ؟ والمتتَبِّعُ للآياتِ القرآنيَّةِ والأحاديثِ النَّبويَّةِ يجِدُ أنَّ اسمَ الإيمانِ تارةً يُذكَرُ مُفردًا غيرَ مَقرونٍ باسمِ الإسلامِ، وتارةً يُذكَرُ مقرونًا به؛ فالصَّحيحُ أنَّ مُسَمَّى الإسلامِ غيرُ مسمَّى الإيمانِ، وبينهما فَرقٌ؛ فباعتبارِ الحقيقةِ اللُّغويَّةِ يفترِقُ الإسلامُ والإيمانُ، وباعتبارِ الحقيقةِ الشَّرعيَّةِ يتضَمَّنُ الإيمانُ الإسلامَ؛ لأنَّ بينهما تلازُمًا في الوجودِ، فكُلُّ واحدٍ منهما مُكَمِّلٌ للآخَرِ بحيثُ لا ينفكَّانِ عن بعضِهما، وأنَّهما إذا اجتَمَعا في نصٍّ واحدٍ اختلفا في مدلولِهما، وإذا افتَرَقا اجتَمَعا في مدلولِهما، وإذا وُجِد أحدُهما في نصٍّ دونَ الآخَرِ فهو لازِمٌ له [244] يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) لابن تيمية (ص: 120 - 127)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 490 - 494)، ((الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة)) للأثري (ص: 83).  .
نقولاتٌ لابنِ تيميَّةَ في تحقيقِ العَلاقةِ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ:
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا قولُ من سوَّى بَينَ الإسلامِ والإيمانِ، وقال: إنَّ اللهَ سمَّى الإيمانَ بما سمَّى به الإسلامَ، وسمَّى الإسلامَ بما سمَّى به الإيمانَ، فليس كذلك؛ فإنَّ اللهَ ورسولَه قد فسَّر الإيمانَ بأنَّه الإيمانُ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه واليومِ الآخِرِ، وبيَّن أيضًا أنَّ العمَلَ بما أمر به يدخُلُ في الإيمانِ، ولم يسَمِّ اللهُ الإيمانَ بملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه والبعثِ بعد الموتِ إسلامًا، بل إنَّما سمَّى الإسلامَ الاستسلامَ له بقلبِه وقَصدِه، وإخلاصَ الدِّينِ والعَمَلِ بما أمر به؛ كالصَّلاةِ والزَّكاةِ خالِصًا لوجهِه، فهذا هو الذي سمَّاه اللهُ إسلامًا، وجعله دينًا، وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، ولم يُدخِلْ فيما خصَّ به الإيمانَ، وهو الإيمانُ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورسُلِه، بل ولا أعمالَ القلوبِ، مِثلُ حُبِّ اللهِ ورسولِه ونحوِ ذلك، فإنَّ هذه جَعَلَها من الإيمانِ، والمُسلِمُ المؤمِنُ يتَّصِفُ بها، وليس إذا اتَّصف بها المُسلِمُ المؤمِنُ يلزمُ أن تكونَ من الإسلامِ، بل هي من الإيمانِ، والإسلامُ فرضٌ، والإيمانُ فرضٌ، والإسلامُ داخلٌ فيه، فمن أتى بالإيمانِ الذي أُمِرَ به، فلا بدَّ أن يكونَ قد أتى بالإسلامِ المتناوِلِ لجميعِ الأعمالِ الواجبةِ، ومن أتى بما يسمَّى إسلامًا لم يلزَمْ أن يكونَ قد أتى بالإيمانِ إلَّا بدليلٍ منفصِلٍ، كما عُلم أنَّ من أثنى اللهُ عليه بالإسلامِ من الأنبياءِ وأتباعِهم إلى الحواريِّينَ، كُلُّهم كانوا مؤمنينَ كما كانوا مُسلِمين، كما قال الحواريُّون: آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] ، وقال: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] ؛ ولهذا أمرنا اللهُ بهذا وبهذا في خطاب واحد، كما قال: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسلِمونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136-137] ، وقال في الآيةِ الأخرى: وَمَن يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ من دان بغيرِ دينِ الإسلامِ فعمَلُه مردودٌ، وهو خاسِرٌ في الآخرةِ، فيقتضي وجوبَ دينِ الإسلامِ وبُطلانَ ما سواه، لا يقتضي أنَّ مسمَّى الدِّينِ هو مسمَّى الإيمانِ، بل أمرنا أن نقولَ: آمَنَّا بِاللهِ، وأمرنا أن نقولَ: وَنَحْنُ لَهُ مُسلِمونَ، فأمرنا باثنينِ، فكيف نجعَلُهما واحدًا؟!
وإذا جعلوا الإسلامَ والإيمانَ شيئًا واحدًا فإمَّا أن يقولوا: اللَّفظُ مترادِفٌ، فيكونَ هذا تكريرًا محضًا، ثمَّ مدلولُ هذا اللَّفظِ عينُ مدلولِ هذا اللَّفظِ، وإمَّا أن يقولوا: بل أحَدُ اللَّفظينِ يدُلُّ على صفةٍ غيرِ الصِّفةِ الأُخرى، كما في أسماءِ اللهِ وأسماءِ كتابِه، لكِنَّ هذا لا يقتضي الأمرَ بهما جميعًا، ولكِنْ يقتضي أن يُذكَرَ تارةً بهذا الوصفِ، وتارةً بهذا الوصفِ، فلا يقولُ قائِلٌ: قد فرض اللهُ عليك الصَّلواتِ الخمسَ، والصَّلاةَ المكتوبةَ، وهذا هو هذا، والعطفُ بالصِّفاتِ يكونُ إذا قُصِد بيانُ الصِّفاتِ لِما فيها من المدحِ أو الذَّمِّ، كقولِه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1-3] لا يقالُ: صلِّ لرَبِّك الأعلى، ولرَبِّك الذي خلَق فسوَّى.
وقال محمَّدُ بنُ نصرٍ المَرْوَزيُّ رحمه اللهُ: فقد بَيَّنَ اللهُ في كتابِه وسُنَّةِ رسولِه أنَّ الإسلامَ والإيمانَ لا يفترقانِ، فمن صدَّق باللهِ فقد آمَن به، ومن آمن باللهِ فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلَّى وقام بفرائِضِ اللهِ وانتهى عمَّا نهى اللهُ عنه، فقد استكمل الإيمانَ والإسلامَ المفترَضَ عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزولَ عنه اسمُ الإيمانِ ولا الإسلامِ، إلَّا أنَّه أنقصُ من غيرِه في الإسلامِ والإيمانِ من غيرِ نقصانٍ من الإقرارِ بأنَّ اللهَ حَقٌّ، وما قال حقٌّ لا باطِلٌ، وصِدقٌ لا كَذِبٌ، ولكِنْ يَنقُصُ من الإيمانِ الذي هو تعظيمٌ لله وخضوعٌ للهَيبةِ والجلالِ والطَّاعةِ للمُصَدَّقِ به، وهو اللهُ، فمن ذلك يكون النَّقصانُ لا من إقرارِهم بأنَّ اللهَ حَقٌّ، وما قال صِدقٌ.
فيقالُ: ما ذَكَره يدُلُّ على أنَّ من أتى بالإيمانِ الواجِبِ فقد أتى بالإسلامِ، وهذا حقٌّ، ولكن ليس فيه ما يدلُّ على أنَّ من أتى بالإسلامِ الواجِبِ فقد أتى بالإيمانِ، فقولُه: من آمن باللهِ فقد خضعَ له وقد استسلَمَ له، حقٌّ، لكنْ أيُّ شيءٍ في هذا يدُلُّ على أنَّ من أسلم لله وخضع له، فقد آمَنَ به وبملائكتِه وبكُتُبِه ورسُلِه والبعثِ بعد الموتِ؟ وقولُه: إنَّ اللهَ ورسولَه قد بَيَّنَ أنَّ الإسلامَ والإيمانَ لا يفترقانِ، إن أراد أنَّ اللهَ أوجبهما جميعًا، ونهى عن التَّفريقِ بينهما، فهذا حقٌّ، وإن أراد أنَّ اللهَ جَعَل مسمَّى هذا مسمَّى هذا، فنصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ تخالِفُ ذلك، وما ذَكَر قطُّ نصًّا واحِدًا يدُلُّ على اتِّفاقِ المُسلِمينَ.
وكذلك قولُه: من فعل ما أُمِر به وانتهى عمَّا نُهي عنه فقد استكمل الإيمانَ والإسلامَ، فهذا صحيحٌ إذا فعل ما أُمِر به باطنًا وظاهِرًا، ويكونُ قد استكمل الإيمانَ والإسلامَ الواجِبَ عليه، ولا يلزَمُ أن يكونَ إيمانُه وإسلامُه مساويًا للإيمانِ والإسلامِ الذي فعله أولو العَزمِ من الرُّسُلِ كالخليلِ إبراهيمَ، ومحمَّدٍ خاتَمِ النَّبيِّينَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل كان معه من الإيمانِ والإسلامِ ما لا يَقدِرُ عليه غيرُه ممَّن ليس كذلك ولم يؤمَرْ به. وقولُه: من ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسمُ الإسلامِ والإيمانِ إلَّا أنَّه أنقصُ من غيرِه في ذلك. فيقالُ: إن أريد بذلك أنَّه بقي معه شيءٌ من الإسلامِ والإيمانِ، فهذا حقٌّ كما دلَّت عليه النُّصوصُ، خلافًا للخوارجِ والمُعتزِلةِ، وإن أراد أنَّه يُطلَقُ عليه بلا تقييدٍ مُؤمِنٌ ومُسلِمٌ في سياقِ الثَّناءِ والوعدِ بالجنَّةِ، فهذا خلافُ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولو كان كذلك لدخلوا في قولِه: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التوبة: 72] وأمثالِ ذلك ممَّا وُعِدوا فيه بالجنَّةِ بلا عذابٍ. أيضًا فصاحِبُ الشَّرعِ قد نفى عنهم الاسمَ في غيرِ موضعٍ، بل قال: ((قتالُ المؤمِنِ كُفرٌ )) [245] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ((سِبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفرٌ)). ، وقال: ((لا ترجِعوا بعدي كفَّارًا، يضرِبُ بعضُكم رقابَ بَعضٍ )) [246] أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. . وإذا احتجَّ بقولِه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] ونحوِ ذلك، قيل: كُلُّ هؤلاء إنَّما سُمُّوا به مع التَّقييدِ بأنَّهم فعلوا هذه الأمورَ؛ ليذكُرَ ما يُؤمَرونَ به هم، وما يُؤمَرُ به غيرُهم.
وكذلك قولُه: لا يكونُ النَّقصانُ من إقرارِهم بأنَّ اللهَ حقٌّ وما قاله صِدقٌ، فيقالُ: بل النُّقصانُ يكونُ في الإيمانِ الذي في القلوبِ من معرفتِهم، ومِن عِلمِهم، فلا تكونُ معرفتُهم وتصديقُهم بالله وأسمائِه وصفاتِه، وما قاله من أمرٍ ونهيٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، كمعرفةِ غيرِهم وتصديقِه، لا من جهةِ الإجمالِ والتَّفصيلِ، ولا من جهةِ القُوَّةِ والضَّعفِ، ولا من جهةِ الذِّكرِ والغَفلةِ، وهذه الأمورُ كُلُّها داخلةٌ في الإيمانِ باللهِ وبما أرسَلَ به رسولَه، وكيف يكونُ الإيمانُ باللهِ وأسمائِه وصفاتِه متماثِلًا في القلوبِ؟! أم كيف يكونُ الإيمانُ بأنَّه بكُلِّ شَيءٍ عليمٌ، وعلى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّه غفورٌ رحيمٌ، عزيزٌ حكيمٌ، شديدُ العقابِ، ليس هو من الإيمانِ به؟! فلا يمكِنُ مُسلِمًا أن يقولَ: إنَّ الإيمانَ بذلك ليس من الإيمانِ به، ولا يدَّعي تماثُلَ النَّاسِ فيه. وأمَّا ما ذكره من أنَّ الإسلامَ ينقُصُ كما ينقُصُ الإيمانُ، فهذا أيضًا حَقٌّ، كما دلَّت عليه الأحاديثُ الصَّحيحةُ، فإنَّ من نَقَص من الصَّلاةِ والزَّكاةِ أو الصَّومِ أو الحَجِّ شيئًا، فقد نقص من إسلامِه بحسَبِ ذلك. ومن قال: إنَّ الإسلامَ هو الكَلِمةُ فقط، وأراد بذلك أنَّه لا يزيدُ ولا ينقُصُ، فقولُه خطَأٌ. وردُّ الذين جعلوا الإسلامَ والإيمانَ سواءً إنما يتوجَّهُ إلى هؤلاء؛ فإنَّ قولَهم في الإسلامِ يشبِهُ قولَ المرجئةِ في الإيمانِ) [247] ((الإيمان)) (ص: 320 - 323). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (اللهُ إنَّما قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ [آل عمران: 91] ولم يقُلْ قطُّ: إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإيمانُ، ولكِنَّ هذا الدِّينَ من الإيمانِ، وليس إذا كان منه يكونُ هو إيَّاه، فإنَّ الإيمانَ أصلُه معرفةُ القلبِ وتصديقُه، وقولُه، والعَمَلُ تابعٌ لهذا العِلمِ، والتَّصديقُ ملازمٌ له، ولا يكونُ العبدُ مؤمنًا إلَّا بهما، وأمَّا الإسلامُ فهو عَمَلٌ محضٌ مع قولٍ. والعِلمُ والتَّصديقُ ليس جزءَ مُسمَّاه، لكِنْ يلزمُه جنسُ التَّصديقِ، فلا يكونُ عَمَلٌ إلَّا بعِلمٍ، لكِنْ لا يستلزِمُ الإيمانَ المفصَّلَ الذي بيَّنه اللهُ ورسولُه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ، وقولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] ، وسائرِ النُّصوصِ التي تنفي الإيمانَ عمَّن لم يتَّصِفْ بما ذكَرَه، فإنَّ كثيرًا من المُسلِمين مُسلِمٌ باطنًا وظاهِرًا، ومعه تصديقٌ مجمَلٌ، ولم يتَّصِفْ بهذا الإيمانِ، واللهُ تعالى قال: وَمَن يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، ولم يقُلْ: ومن يبتغِ غيرَ الإسلامِ عِلمًا ومعرفةً وتصديقًا وإيمانًا، ولا قال: رضيتُ لكم الإسلامَ تصديقًا وعلمًا؛ فإنَّ الإسلامَ من جنسِ الدِّينِ والعَمَلِ والطَّاعةِ والانقيادِ والخُضوعِ، فمن ابتغى غيرَ الإسلامِ دينًا فلن يُقبَلَ منه، والإيمانُ طُمأنينةٌ ويقينٌ، أصلُه عِلمٌ وتصديقٌ ومعرفةٌ، والدِّينُ تابعٌ له، يقالُ: آمنتُ باللهِ، وأسلمتُ لله. قال موسى: يَا قَوْمِ إِن كُنْتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُسْلِمِينَ [يونس: 48] ، فلو كان مسمَّاهما واحِدًا كان هذا تكريرًا، وكذلك قولُه: إِنَّ الْمُسلِمينَ وَالْمُسلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] ، كما قال: والصَّادقينَ والصَّابِرينَ والخاشِعينَ؛ فالمؤمِنُ متَّصِفٌ بهذا كلِّه، لكِنَّ هذه الأسماءَ لا تطابِقُ الإيمانَ في العُمومِ والخصوصِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((اللَّهُمَّ لك أسلَمتُ، وبك آمَنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنَبتُ، وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمتُ )) كما ثبت في الصَّحيحينِ أنَّه كان يقولُ ذلك إذا قام من اللَّيلِ [248] أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) مطولًا من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ، وثبت في صحيحِ مُسلِمٍ وغيرِه أنَّه كان يقولُ في سجودِه: ((اللَّهُمَّ لك سجَدتُ، وبك آمَنتُ، ولك أسلَمتُ )) [249] أخرجه مسلم (771) مطولًا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ، وفي الرُّكوعِ يقولُ: ((لك ركعتُ، ولك أسلمتُ، وبك آمَنتُ )) [250] أخرجه مسلم (771) مطولًا باختلاف يسير من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ، ولمَّا بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةَ كُلٍّ منهما قال: ((المُسلِمُ من سَلِم المُسلِمون من لسانِه ويَدِه، والمؤمِنُ من أَمِنَه النَّاسُ على دمائِهم وأموالِهم )) [251] أخرحه الترمذي (2627)، والنسائي (4995)، وأحمد (8931) مطولًا مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (180)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2627)، وقوى إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8931). ، ومعلومٌ أنَّ السَّلامةَ من ظُلْمِ الإنسانِ غيرُ كونِه مأمونًا على الدَّمِ والمالِ، فإنَّ هذا أعلى، والمأمونُ يَسلَمُ النَّاسُ من ظُلمِه، وليس من سَلِموا من ظلمِه يكونُ مأمونًا عندَهم... فإن قيل: فإذا كان كُلُّ مؤمنٍ مُسلِمًا، وليس كُلُّ مُسلِمٍ مؤمنًا الإيمانَ الكامِلَ كما دلَّ عليه حديثُ جبريلَ [252] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ ولفظ مسلم: (كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمانُ؟ قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتابِه ولقائِه ورسُلِه، وتؤمِنَ بالبعثِ الآخِرِ. قال: يا رسولَ الله، ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ أن تعبُدَ اللهَ ولا تُشرِكُ به شيئًا، وتقيمَ الصلاةَ المكتوبةَ، وتؤدِّيَ الزكاةَ المفروضةَ، وتصومَ رمضانَ ... فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا جبريلُ جاء ليعلِّمَ الناسَ دينهم). وغيرُه من الأحاديثِ مع القرآنِ، وكما ذُكر ذلك عمن ذُكر عنه من السَّلَفِ؛ لأنَّ الإسلامَ الطَّاعاتُ الظَّاهِرةُ... والإسلامُ في الأصلِ هو الاستسلامُ والانقيادُ... والإيمانُ فيه معنى التَّصديقِ والطُّمأنينةِ، وهذا قدرٌ زائدٌ، فما تقولون فيمن فعل ما أمَره اللهُ وترَك ما نهى اللهُ عنه، مخلصًا للهِ تعالى ظاهِرًا وباطِنًا؟ أليس هذا مُسلِمًا باطنًا وظاهرًا، وهو من أهلِ الجنَّةِ؟ وإذا كان كذلك فالجنَّةُ لا يدخُلُها إلَّا نفسٌ مؤمنةٌ، فهذا يجِبُ أن يكونَ مؤمِنًا. قُلنا: قد ذكَرْنا غيرَ مرَّةٍ أنَّه لا بدَّ أن يكونَ معه الإيمانُ الذي وجب عليه؛ إذ لو لم يؤدِّ الواجِبَ لكان معرَّضًا للوعيدِ، لكن قد يكونُ من الإيمانِ ما لا يجِبُ عليه؛ إمَّا لكونِه لم يخاطَبْ به، أو لكونِه كان عاجزًا عنه، وهذا أولى؛ لأنَّ الإيمانَ الموصوفَ في حديثِ جبريلَ والإسلامَ لم يكونا واجِبَينِ في أوَّلِ الإسلامِ، بل ولا أُوجِبا على من تقدَّم قَبلَنا من الأُمَمِ أتباعِ الأنبياءِ أهلِ الجنَّةِ، مع أنَّهم مؤمنون مُسلِمون، ومع أنَّ الإسلامَ دينُ اللهِ الذي لا يقبَلُ دينًا غَيرَه، وهو دينُ اللهِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ؛ لأنَّ الإسلامَ عبادةُ اللهِ وَحدَه لا شريكَ له بما أَمَر؛ فقد تتنوَّعُ أوامِرُه في الشَّريعةِ الواحدةِ، فضلًا عن الشَّرائعِ، فيصيرُ في الإسلامِ بعضُ الإيمانِ بما يخرُجُ عنه في وقتٍ آخَرَ، كالصَّلاةِ إلى الصَّخرةِ، كان من الإسلامِ حين كان اللهُ أمَر به، ثمَّ خرج من الإسلامِ لمَّا نهى اللهُ عنه، ومعلومٌ أنَّ الخمسَ المذكورةَ في حديثِ جبريلَ لم تجِبْ في أوَّلِ الأمرِ، بل الصِّيامُ والحجُّ والصَّلواتُ الخمسُ إنما وجبت ليلةَ المعراجِ، وكثيرٌ من الأحاديثِ ليس فيها ذكرُ الحجِّ؛ لتأخُّرِ وجوبِه إلى سنةِ تِسعٍ، أو عَشرٍ على أصحِّ القولينِ، ولمَّا بعث اللهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان من اتَّبَعه وآمن بما جاء به مؤمنًا مُسلِمًا، وإذا مات كان من أهلِ الجنَّةِ، ثمَّ إنَّه بعد هذا زاد الإيمانَ والإسلامَ حتَّى قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ، وكذلك الإيمانُ؛ فإنَّ هذا الإيمانَ المفصَّلَ الذي ذكره في حديثِ جِبريلَ لم يكُنْ مأمورًا به في أوَّلِ الأمرِ لَمَّا أنزل اللهُ سورةَ العَلَقِ والمدَّثِّرِ، بل إنما جاء هذا في السُّوَرِ المدنيَّةِ، كالبَقَرةِ، والنِّساءِ، وإذا كان كذلك لم يلزمْ أن يكونَ هذا الإيمانُ المفصَّلُ واجِبًا على من تقدَّم قَبلَنا، وإذا كان كذلك فقد يكونُ الرَّجُلُ مُسلِمًا يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يشرِكُ به شيئًا، ومعه الإيمانُ الذي فُرِضَ عليه، وهو من أهلِ الجنَّةِ، وليس معه هذا الإيمانُ المذكورُ في حديثِ جبريلَ، لكِنْ هذا يقالُ: معه ما أُمِرَ به من الإيمانِ والإسلامِ، وقد يكونُ مُسلِمًا يعبدُ اللهَ كما أَمَر، ولا يعبُدُ غَيرَه، ويخافُه ويرجوه، ولكِنْ لم يخْلُصْ إلى قَلبِه أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، ولا أن يكونَ اللهُ ورسولُه والجهادُ في سبيلِه أحبَّ إليه من جميعِ أهلِه ومالِه، وأن يحِبَّ لأخيه ما يحِبُّ لنفسِه، وأن يخافَ اللهَ لا يخافُ غيرَه، وألَّا يتوكَّلَ إلَّا على اللهِ، وهذه كُلُّها من الإيمانِ الواجِبِ، وليست من لوازمِ الإسلامِ؛ فإنَّ الإسلامَ هو الاستسلامُ، وهو يتضمَّنُ الخضوعَ لله وَحدَه، والانقيادَ له، والعبوديَّةَ للهِ وَحدَه، وهذا قد يتضَمَّنُ خَوفَه ورجاءَه، وأمَّا طُمَأنينةُ القَلبِ بمحبَّتِه وَحدَه، وأن يكونَ أحَبَّ إليه ممَّا سواهما، وبالتَّوكُّلِ عليه وَحدَه، وبأن يحِبَّ لأخيه المؤمِنِ ما يحبُّ لنفسِه، فهذه من حقائقِ الإيمانِ التي تختصُّ به، فمن لم يتَّصِفْ بها لم يكنْ من المؤمنينَ حَقًّا وإن كان مُسلِمًا، وكذلك وَجَلُ قَلبِه إذا ذُكِر اللهُ، وكذلك زيادةُ الإيمانِ إذا تُلِيَت عليه آياتُه.
فإن قيل: ففواتُ هذا الإيمانِ من الذُّنوبِ أم لا؟ قيل: إذا لم يبلُغِ الإنسانَ الخِطابُ الموجِبُ لذلك، لا يكون تركُه من الذُّنوبِ، وأمَّا إن بلغه الخِطابُ الموجِبُ لذلك فلم يعمَلْ به، كان تركُه من الذُّنوبِ إذا كان قادِرًا على ذلك، وكثيرٌ من النَّاسِ أو أكثَرُهم ليس عندهم هذه التَّفاصيلُ التي تَدْخُلُ في الإيمانِ، مع أنَّهم قائمون بالطَّاعةِ الواجبةِ في الإسلامِ، وإذا وقعت منهم ذنوبٌ تابوا واستغفروا منها، وحقائقُ الإيمانِ التي في القلوبِ لا يعرفون وجوبَها، بل ولا أنَّها من الإيمانِ، بل كثيرٌ ممَّن يعرفُها منهم يظنُّ أنَّها من النَّوافِلِ المستحبَّةِ إن صدَّق بوجودِها.
فالإسلامُ يتناولُ من أظهَرَ الإسلامَ وليس معه شيءٌ من الإيمانِ، وهو المنافِقُ المحضُ، ويتناوَلُ من أظهر الإسلامَ مع التَّصديقِ المجمَلِ في الباطِنِ، ولكِنْ لم يفعَلِ الواجِبَ كُلَّه لا من هذا ولا هذا، وهم الفُسَّاقُ يكونُ في أحَدِهم شُعبةُ نفاقٍ، ويتناوَلُ من أتى بالإسلامِ الواجِبِ وما يلزَمُه من الإيمانِ، ولم يأتِ بتمامِ الإيمانِ الواجِبِ، وهؤلاء ليسوا فُسَّاقًا، تاركون فريضةً ظاهرةً، ولا مرتكبون محرَّمًا ظاهِرًا، لكن تركوا من حقائقِ الإيمانِ الواجبةِ عِلمًا وعملًا بالقلبِ يتبعُه بعضُ الجوارحِ ما كانوا به مذمومين، وهذا هو النِّفاقُ الذي كان يخافُه السَّلَفُ على نفوسِهم، فإنَّ صاحبَه قد يكونُ فيه شُعبةُ نفاقٍ، وبعد هذا ما ميَّز اللهُ به المقرَّبين على الأبرارِ أصحابِ اليمينِ من إيمانٍ وتوابِعِه، وذلك قد يكونُ من بابِ المستحبَّاتِ، وقد يكونُ أيضًا ممَّا فضَّل اللهُ به المؤمِنَ إيمانًا وإسلامًا ممَّا وجب عليه، ولم يجِبْ على غيرِه؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرْه بيدِه، فإنْ لم يستطِعْ فبلسانِه، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ )) [253] أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [254] ((الإيمان)) (ص: 296، 297، 331 - 333) بتصَرُّف يسير جدًّا. .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (المقصودُ هنا: أنَّ هنا قولين متطرِّفينِ؛ قولُ من يقولُ: الإسلامُ مجرَّدُ الكَلِمةِ، والأعمالُ الظَّاهرةُ ليست داخِلةً في مسمَّى الإسلامِ، وقولُ من يقولُ: مسمَّى الإسلامِ والإيمانِ واحدٌ، وكلاهما قولٌ ضعيفٌ مخالفٌ لحديثِ جبريلَ، وسائِرِ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ولهذا لمَّا نصر محمَّدُ بنُ نصرٍ المَرْوَزيُّ القولَ الثَّانيَ، لم يكنْ معه حُجَّةٌ على صِحَّتِه، ولكنِ احتجَّ بما يُبطِلُ به القولَ الأوَّلَ؛ فاحتجَّ بقولِه في قِصَّةِ الأعرابِ: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] ، قال: فدَلَّ ذلك على أنَّ الإسلامَ هو الإيمانُ، فيقالُ: بل يدلُّ على نقيضِ ذلك؛ لأنَّ القومَ لم يقولوا: أسلَمْنا، بل قالوا: آمنَّا، واللهُ أمرَهم أن يقولوا: أسلَمْنا، ثمَّ ذكَر تسميتَهم بالإسلامِ، فقال: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في قولِكم: آمَنَّا، ولو كان الإسلامُ هو الإيمانَ لم يقُلْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ فإنَّهم صادقون في قولِهم: أَسْلَمْنَا مع أنَّهم لم يقولوا، ولكِنَّ اللهَ قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ [الحجرات: 17] أي: يمنُّون عليك ما فعلوه من الإسلامِ، فاللهُ تعالى سمَّى فِعلَهم إسلامًا، وليس في ذلك ما يدلُّ على أنَّهم سمَّوه إسلامًا، وإنَّما قالوا: آمَنَّا، ثمَّ أخبر أنَّ المنَّةَ تقعُ بالهدايةِ إلى الإيمانِ، فأمَّا الإسلامُ الذي لا إيمانَ معه فكان النَّاسُ يفعلونه خوفًا من السَّيفِ، فلا منَّةَ لهم بفِعلِه، وإذا لم يمُنَّ اللهُ عليهم بالإيمانِ كان ذلك كإسلامِ المنافِقينَ فلا يقبَلُه اللهُ منهم، فأمَّا إذا كانوا صادقينَ في قولهم: آمنَّا، فاللهُ هو المانُّ عليهم بهذا الإيمانِ وما يدخُلُ فيه من الإسلامِ، وهو سُبحانَه نفى عنهم الإيمانَ أوَّلًا، وهنا علَّق منَّةَ اللهِ به على صدقِهم، فدلَّ على جوازِ صِدقِهم) [255] ((الإيمان)) (ص: 294، 295) بتصَرُّف يسير جدًّا. .
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (قال الَّذين نَصَروا مَذهَبَ جَهْمٍ في الإيمانِ مِن المُتأخِّرينَ، كالقاضي أبي بَكرٍ، وهذا لَفظُه: فإن قال قائلٌ: وما الإسلامُ عندَكم؟ قيلَ له: الإسلامُ: الانقِيادُ والاستِسلامُ، فكلُّ طاعةٍ انقادَ العَبدُ بها لرَبِّه واستَسلَمَ فيها لأمرِه فهي إسلامٌ، والإيمانُ: خَصلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، وكلُّ إيمانٍ إسلامٌ، وليس كلُّ إسلامٍ إيمانًا، فإن قال: فلِمَ قُلْتُم: إنَّ مَعنى الإسلامِ ما وَصَفْتُم؟ قيلَ: لأجْلِ قَولِه تَعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ، فنَفى عنهم الإيمانَ وأثبَتَ لهم الإسلامَ، وإنَّما أرادَ بما أثبَتَه الانقِيادَ والاستِسلامَ، ومِنه: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 90] ، وكلُّ مَن استَسلَمَ لشيءٍ فقد أسلَمَ، وإن كانَ أكثَرُ ما يُستَعمَلُ ذلك في المُستَسلِمِ للهِ ولنَبيِّه.
قُلْتُ: وهذا الَّذي ذَكَروه معَ بُطلانِه ومُخالَفتِه للكِتابِ والسُّنَّةِ هو تَناقُضٌ؛ فإنَّهم جَعَلوا الإيمانَ خَصْلةً مِن خِصالِ الإسلامِ، فالطَّاعاتُ كلُّها إسلامٌ، وليس فيها إيمانٌ إلَّا التَّصديقَ. والمُرْجِئةُ وإن قالوا: إنَّ الإيمانَ يَتَضمَّنُ الإسلامَ، فهم يَقولونَ: الإيمانُ هو تَصديقُ القَلْبِ واللِّسانِ، وأمَّا الجَهْميَّةُ فيَجعَلونَه تَصديقَ القَلْبِ، فلا تكونُ الشَّهادتانِ، ولا الصَّلاةُ، ولا الزَّكاةُ، ولا غَيرُهنَّ مِن الإيمانِ، وقد تَقدَّمَ ما بَيَّنَه اللهُ ورَسولُه مِن أنَّ الإسلامَ داخِلٌ في الإيمانِ، فلا يكونُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا حتَّى يكونَ مُسلِمًا، كما أنَّ الإيمانَ داخِلٌ في الإحسانِ، فلا يكونُ مُحسِنًا حتَّى يكونَ مُؤمِنًا. وأمَّا التَّناقُضُ فإنَّهم إذا قالوا: الإيمانُ خَصْلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، كان مَن أتى بالإيمانِ إنَّما أتى بخَصْلةٍ مِن خِصالِ الإسلامِ، لا بالإسلامِ الواجِبِ جَميعِه، فلا يكونُ مُسلِمًا حتَّى يَأتيَ بالإسلامِ كلِّه، كما لا يكونُ عندَهم مُؤمِنًا حتَّى يَأتيَ بالإيمانِ كلِّه، وإلَّا فمَن أتى ببعضِ الإيمانِ عِندَهم لا يكونُ مُؤمِنًا، ولا فيه شيءٌ مِن الإيمانِ، فكذلك يَجِبُ أن يَقولوا في الإسلامِ، وقد قالوا: كلُّ إيمانٍ إسلامٌ، وليس كلُّ إسلامٍ إيمانًا، وهذا إن أرادوا به أنَّ كلَّ إيمانٍ هو الإسلامُ الَّذي أمَرَ اللهُ به ناقَضَ قَولَهم: إنَّ الإيمانَ خَصْلةٌ مِن خِصالِه، فجَعَلوا الإيمانَ بعضَه ولم يَجعَلوه إيَّاه، وإن قالوا: كلُّ إيمانٍ فهو إسلامٌ، أي: هو طاعةٌ للهِ، وهو جُزءٌ مِن الإسلامِ الواجِبِ، وهذا مُرادُهم، قيلَ لهم: فعلى هذا يكونُ الإسلامُ مُتَعدِّدًا بتَعَدُّدِ الطَّاعاتِ، وتكونُ الشَّهادَتانِ وَحدَهما إسلامًا، والصَّلاةُ وَحدَها إسلامًا، والزَّكاةُ إسلامًا، بل كلُّ دِرهَمٍ تُعْطيه للفَقيرِ إسلامًا، وكلُّ سَجدةٍ إسلامًا، وكلُّ يَومٍ تَصومُه إسلامًا، وكلُّ تَسبيحةٍ تُسبِّحُها في الصَّلاةِ أو غَيرِها إسلامًا. ثُمَّ المُسلِمُ إن كانَ لا يكونُ مُسلِمًا إلَّا بفِعلِ كلِّ ما سَمَّيتُموه إسلامًا، لَزِمَ أن يكونَ الفُسَّاقُ ليسوا مُسلِمينَ معَ كَونِهم مُؤمِنينَ، فجَعَلْتُم المُؤمِنينَ الكامِلي الإيمانِ عِندَكم ليسوا مُسلِمينَ، وهذا شَرٌّ مِن قَولِ الكَرَّاميَّةِ، ويَلزَمُ أنَّ الفُسَّاقَ مِن أهْلِ القِبلةِ ليسوا مُسلِمينَ، وهذا شَرٌّ مِن قَولِ الخَوارِجِ والمُعْتَزِلةِ وغَيرِهم، بل وأن يكونَ مَن تَرَكَ التَّطوُّعاتِ ليس مُسلِمًا؛ إذ كانَتِ التَّطوُّعاتُ طاعةً للهِ، إن جَعَلْتُم كلَّ طاعةٍ فَرْضًا أو نَفْلًا إسلامًا. ثُمَّ هذا خِلافُ ما احتَجَجْتُم به مِن قَولِه للأعرابِ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] . فأثبَتَ لهم الإسلامَ دونَ الإيمانِ، وأيضًا فإخراجُكم الفُسَّاقَ مِن اسمِ الإسلامِ إن أخرَجْتُموهم أعظَمُ شَناعةً مِن إخْراجِهم مِن اسْمِ الإيمانِ، فوَقَعْتُم في أَعظَمِ ما عِبْتُموه على المُعْتَزِلةِ، فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ تَنْفي عنهم اسْمَ الإيمانِ أَعظَمَ ممَّا تَنْفي اسْمَ الإسلامِ. واسْمُ الإيمانِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ أَعظَمُ. وإن قُلْتُم: بل كلُّ مَن فَعَلَ طاعةً سُمِّيَ مُسلِمًا، لَزِمَ أن يكونَ مَن فَعَلَ طاعةً مِن الطَّاعاتِ ولم يَتَكلَّمْ بالشَّهادَتَينِ مُسلِمًا، ومَن صَدَّقَ بقَلْبِه ولم يَتَكلَّمْ بلِسانِه أن يكونَ مُسلِمًا عِندَكم؛ لأنَّ الإيمانَ عِندَكم إسلامٌ، فمَن أتى به فقد أتى بالإسلامِ، فيكونُ مُسلِمًا عِندَكم مَن تَكلَّمَ بالشَّهادَتَينِ ولا أتى بشيءٍ مِن الأعْمالِ!
واحْتِجاجُكم بقَولِه: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قُلْتُم: نَفى عنهم الإيمانَ وأَثبَتَ لهم الإسلامَ. فيُقالُ: هذه الآيةُ حُجَّةٌ عليكم؛ لأنَّه لمَّا أَثبَتَ لهم الإسلامَ معَ انْتِفاءِ الإيمانِ دَلَّ ذلك على أنَّ الإيمانَ ليس بجُزءٍ مِن الإسلامِ؛ إذ لو كانَ بعضَه لَما كانوا مُسلِمينَ إن لم يَأتوا به، وإن قُلْتُم: أرَدْنا بقَولِنا: أَثبَتَ لهم الإسلامَ أيْ إسلامًا ما، فإنَّ كلَّ طاعةٍ مِن الإسلامِ إسلامٌ عِندَنا، لَزِمَكم ما تَقدَّمَ، مِن أن يكونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسلامًا، وصَدَقةُ دِرْهَمٍ إسلامًا، وأمْثالُ ذلك. وهُمْ يَقولونَ: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، قالوا: هذا مِن حيثُ الإطْلاقُ، وإلَّا فالتَّفْصيلُ ما ذَكَرْناه مِن أنَّ الإيمانَ خَصْلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ والدِّينِ، وليس هو جَميعَ الإسلامِ والدِّينِ، فإنَّ الإسلامَ هو الاسْتِسْلامُ للهِ بِفِعْلِ كلِّ طاعةٍ وَقَعَتْ مُوافِقةً للأمْرِ، والإيمانُ أَعظَمُ خَصْلةٍ مِن خِصالِ الإسلامِ، واسمُ الإسلامِ شامِلٌ لكلِّ طاعةٍ انْقادَ بِها العَبْدُ للهِ مِن إيمانٍ وتَصْديقٍ وفَرْضٍ سِواه ونَفْلٍ، غَيرَ أنَّه لا يَصلُحُ التَّقرُّبُ بفِعْلِ ما عَدا الإيمانَ مِن الطَّاعاتِ دونَ تَقْديمِ فِعْلِ الإيمانِ. قالوا: والدِّينُ مَأخوذٌ مِن التَّدَيُّنِ، وهو قَريبٌ مِن الإسلامِ في المَعْنى. فيقالُ لهم: إذا كانَ هذا قَولَكم، فقَولُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، يُناقِضُ هذا؛ فإنَّ المُسلِمَ هو المُطيعُ للهِ، ولا تَصِحُّ الطَّاعةُ مِن أحَدٍ إلَّا معَ الإيمانِ، فيَمْتنِعُ أن يكونَ أحَدٌ فَعَلَ شَيئًا مِن الإسلامِ إلَّا وهو مُؤمِنٌ، ولو كانَ ذلك أَدْنى الطَّاعاتِ، فيَجِبُ أن يكونَ كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، سواءٌ أُريدَ بالإسلامِ فِعْلُ جَميعِ الطَّاعاتِ، أو فِعْلُ واحِدةٍ مِنها، وذلك لا يَصِحُّ كلُّه إلَّا معَ الإيمانِ، وحينَئذٍ فالآيةُ حُجَّةٌ عليكم لا لكم.
ثُمَّ قَولُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، إنْ كُنْتُم تُريدونَ بالإيمانِ تَصْديقَ القَلْبِ فقط، فيَلزَمُ أن يكونَ الرَّجُلُ مُسلِمًا ولو لم يَتَكلَّمْ بالشَّهادتَينِ، ولا أتى بشيءٍ مِن الأعْمالِ المَأمورِ بِها، وهذا ممَّا يُعلَمُ بُطْلانُه بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ، بل عامَّةُ اليَهودِ والنَّصارى يَعلَمونَ أنَّ الرَّجُلَ لا يكونُ مُسلِمًا حتَّى يَأتيَ بالشَّهادتَينِ أو ما يَقومُ مَقامَهما، وقَولُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، لا يُريدونَ أنَّه أتى بالشَّهادتَينِ ولا بشيءٍ مِن المَباني الخَمْسِ، بل أتى بما هو طاعةٌ، وتلك طاعةٌ باطِنةٌ، وليس هذا هو المُسلِمَ المَعْروفَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولا عِندَ الأئِمَّةِ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُم بالآيةِ، والأعْرابُ إنَّما أَتَوا بإسلامٍ ظاهِرٍ نَطَقوا فيه بالشَّهادتَينِ، سواءٌ كانوا صادِقينَ أو كاذِبينَ، فأَثبَتَ اللهُ لهم الإسلامَ دونَ الإيمانِ، فيَظُنُّ مَن لا يَعرِفُ حَقيقةَ الأمْرِ أنَّ هذا هو قَولُ السَّلَفِ الَّذي دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ كلَّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، وبَيْنَهما مِن التَّبايُنِ أَعظَمُ ممَّا بَيْنَ قَولِ السَّلَفِ وقَولِ المُعْتَزِلةِ في الإيمانِ والإسلامِ؛ فإنَّ قَولَ المُعْتَزِلةِ في الإيمانِ والإسلامِ أَقرَبُ مِن قَولِ الجَهْميَّةِ بكَثيرٍ، ولكنَّ قَولَهم في تَخْليدِ أهْلِ القِبْلةِ أَبعَدُ عن قَولِ السَّلَفِ مِن قَولِ الجَهْميَّةِ.
فالمُتَأخِّرونَ الَّذين نَصَروا قَولَ جَهْمٍ في مَسْألةِ الإيمانِ يُظهِرونَ قَولَ السَّلَفِ في هذا، وفي الاسْتِثْناءِ، وفي انْتِفاءِ الإيمانِ الَّذي في القَلْبِ حيثُ نَفاه القُرْآنُ، ونَحْوِ ذلك، وذلك كلُّه مُوافِقٌ للسَّلَفِ في مجرد اللَّفْظ، وإلَّا فقَولُهم في غايةِ المُبايَنةِ لقَولِ السَّلَفِ، ليس في الأقْوالِ أَبعَدُ عن السَّلَفِ مِنه، وقَولُ المُعْتَزِلةِ والخَوارِجِ والكَرَّاميَّةِ في اسْمِ الإيمانِ والإسلامِ أَقرَبُ إلى قَولِ السَّلَفِ مِن قَولِ الجَهْميَّةِ، لكنَّ المُعْتَزِلةَ والخَوارِجَ يَقولونَ بتَخْليدِ العُصاةِ، وهذا أَبعَدُ عن قَولِ السَّلَفِ مِن كُلِّ قَولٍ، فهُمْ أَقرَبُ في الاسْمِ وأَبعَدُ في الحُكْمِ، والجَهْميَّةُ وإن كانوا في قَولِهم بأنَّ الفُسَّاقَ لا يُخَلَّدونَ أَقرَبَ في الحُكْمِ إلى السَّلَفِ، فقَولُهم في مُسمَّى الإسلامِ والإيمانِ وحَقيقتِهما أَبعَدُ مِن كلِّ قَولٍ عن الكِتابِ والسُّنَّةِ، وفيه مِن مُناقَضةِ العَقْلِ والشَّرْعِ واللُّغةِ ما لا يوجَدُ مِثلُه لغَيرِهم) [256] ((الإيمان)) (ص: 125 - 129). .

انظر أيضا: