موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: اعْتِقادُ أنَّ نُصوصَ الصِّفاتِ مِن المُتَشابِهِ


إنَّ مَنشَأَ فِتْنةِ الأشاعِرةِ وضَلالِهم في بابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ ظَنُّهم أنَّ جَميعَ آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ مِن المُتَشابِهِ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِ تَأويلِه، وأنَّه لا يُفهَمُ مَعْناه، معَ أنَّه لا يُعلَمُ عن أحَدٍ مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ جَعْلُ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه مِن المُتَشابِهِ، ولا أحَدَ مِن العُلَماءِ المُتَقدِّمينَ جَعَلَ آياتِ وأحاديثَ الصِّفاتِ كالكَلامِ الأعْجَميِّ، وكالحُروفِ المُقَطَّعةِ في أوائِلِ السُّوَرِ، بل نُصوصُهم صَريحةٌ في أنَّهم يُمِرُّونَ آياتِ وأحاديثَ الصِّفاتِ على ما دَلَّتْ عليه مِن غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ولا تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ، ويَفهَمونَ المُرادَ مِنها، ويُنكِرونَ تَأويلاتِ الجَهْميَّةِ والمُعَطِّلةِ ويُبطِلونَها [696] يُنظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) للآمدي (1/ 167)، ((مجموع الفتاوى)) (3/ 160 - 277)، ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 265 - 556)كلاهما لابن تيمية، ((شرح التلويح على التوضيح)) للتفتازاني (1/ 236 - 238)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير حاج (1/ 159)، ((الأشاعرة في ميزان أهل السنة)) للجاسم (ص: 254). .
وقد ذَكَرَ ابنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ في تَفْسيرِ الآياتِ المُتَشابِهاتِ خَمْسةَ أقْوالٍ للسَّلَفِ، ليس مِنها قَوْلٌ بأنَّها آياتُ الصِّفاتِ، فقالَ: (قدِ اخْتَلَفَ أهْلُ التَّأويلِ في تَأويلِ قَوْلِه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] وما المُحكَمُ مِن آيِ الكِتابِ؟ وما المُتَشابِهُ مِنه؟ فقالَ بعضُهم: المُحكَماتُ مِن آيِ القُرْآنِ: المَعْمولُ بهنَّ، وهنَّ النَّاسِخاتُ، أو المُثْبَتاتُ الأحْكامِ؛ والمُتَشابِهاتُ مِن آيِهِ: المَتْروكُ العَمَلُ بهنَّ، المَنْسوخاتُ...، وقالَ آخَرونَ: المُحكَماتُ مِن آيِ الكِتابِ: ما أَحكَمَ اللهُ فيه بَيانَ حَلالِه وحَرامِه؛ والمُتَشابِهُ مِنها: ما أَشبَهَ بعضُه بعضًا في المَعاني وإن اخْتَلَفَتْ ألْفاظُه...، وقالَ آخَرونَ: المُحكَماتُ مِن آيِ الكِتابِ: ما لم يَحْتمِلْ مِن التَّأويلِ غَيْرَ وَجْهٍ واحِدٍ؛ والمُتَشابِهُ مِنه: ما احْتَمَلَ مِن التَّأويلِ أَوْجُهًا...، وقالَ آخَرونَ: مَعْنى المُحكَمِ: ما أَحكَمَ اللهُ فيه مِن آيِ القُرْآنِ وقِصَصِ الأُمَمِ ورُسُلِهم الَّذين أُرسِلوا إليهم، ففَصَّلَه ببَيانِ ذلك لمُحمَّدٍ وأمَّتِه، والمُتَشابِهُ: هو ما اشْتَبَهَتِ الألْفاظُ به مِن قِصَصِهم عنْدَ التَّكْريرِ في السُّوَرِ؛ فقِصَّةٌ باتِّفاقِ الألْفاظِ واخْتِلافِ المَعاني، وقِصَّةٌ باخْتِلافِ الألْفاظِ واتِّفاقِ المَعاني...، وقالَ آخَرونَ: بل المُحكَمُ مِن آيِ القُرْآنِ: ما عَرَفَ العُلَماءُ تَأويلَه، وفَهِموا مَعْناه وتَفْسيرَه؛ والمُتَشابِهُ: ما لم يكُنْ لأحَدٍ إلى عِلمِه سَبيلٌ ممَّا اسْتأثَرَ اللهُ بعِلمِه دونَ خَلْقِه، وذلك نَحْوُ الخَبَرِ عن وَقْتِ مَخرَجِ عيسى بنِ مَرْيَمَ، ووَقْتِ طُلوعِ الشَّمْسِ مِن مَغرِبِها، وقِيامِ السَّاعةِ، وفَناءِ الدُّنْيا، وما أَشبَهَ ذلك، فإنَّ ذلك لا يَعلَمَه أحَدٌ، وقالوا: إنَّما سمَّى اللهُ مِن آيِ الكِتابِ المُتَشابِهِ الحُروفَ المُقَطَّعةَ الَّتي في أوائِلِ بعضِ سُوَرِ القُرْآنِ مِن نَحْوِ: الم، والمص، والمر، والر، وما أَشبَهَ ذلك...)، ثُمَّ رَجَّحَ ابنُ جَريرٍ هذا القَوْلَ الأخيرَ، وقالَ: (جَميعُ ما أَنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مِن آيِ القُرْآنِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّما أَنزَلَه عليه بَيانًا له ولأمَّتِه، وهُدًى للعالَمينَ، وغَيْرُ جائِزٍ أن يكونَ فيه ما لا حاجةَ بِهم إليه، ولا أن يكونَ فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثُمَّ لا يكونَ لهم إلى عِلمِ تَأويلِه سَبيلٌ، فإذا كانَ ذلك كذلك، فكلُّ ما فيه لخَلْقِه إليه الحاجةُ وإن كانَ في بعضِه ما بِهم عن بعضِ مَعانيه الغِنى، وإن اضْطَرَّتْه الحاجةُ إليه في مَعانٍ كَثيرةٍ، وذلك كقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] فأَعلَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه أنَّ تلك الآيةَ الَّتي أَخبَرَ اللهُ جَلَّ ثَناؤُه عِبادَه أنَّها إذا جاءَت لم يَنفَعْ نَفْسًا إيمانُها لم تكنْ آمَنَتْ مِن قَبْلِ ذلك، هي طُلوعُ الشَّمْسِ مِن مَغرِبِها، فالَّذي كانَت بالعِبادِ إليه الحاجةُ مِن عِلمِ ذلك هو العِلمُ مِنهم بوَقْتِ نَفْعِ التَّوْبةِ بصِفتِه بغَيْرِ تَحْديدِه بَعْدُ بالسِّنينَ والشُّهورِ والأيَّامِ، فقدْ بَيَّنَ اللهُ ذلك لهم بدَلالةِ الكِتابِ، وأَوضَحَه لهم على لِسانِ رَسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُفَسَّرًا، والَّذي لا حاجةَ لهم إلى عِلمِه مِنه هو العِلمُ بمِقْدارِ المُدَّةِ الَّتي بَيْنَ وَقْتِ نُزولِ هذه الآيةِ، ووَقْتِ حُدوثِ تلك الآيةِ، فإنَّ ذلك ممَّا لا حاجةَ بِهم إلى عِلمِه في دينٍ ولا دُنْيا، وذلك هو العِلمُ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ جَلَّ ثَناؤُه به دونَ خَلْقِه، فحَجَبَه عنهم، وذلك وما أَشبَهَه هو المَعْنى الَّذي طَلَبَتِ اليَهودُ مَعْرفتَه في مُدَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّتِه مِن قِبَلِ قَوْلِه: «الم، والمص، والر، والمر»، ونَحْوِ ذلك مِن الحُروفِ المُقَطَّعةِ المُتَشابِهاتِ الَّتي أَخبَرَ اللهُ جَلَّ ثَناؤُه أنَّهم لا يُدرِكونَ تَأويلَ ذلك مِن قِبَلِه، وأنَّه لا يَعلَمُ تَأويلَه إلَّا اللهُ. فإذا كانَ المُتَشابِهُ هو ما وَصَفْنا، فكلُّ ما عَداه فمُحكَمٌ؛ لأنَّه لن يَخْلوَ مِن أن يكونَ مُحكَمًا بأنَّه بمَعنًى واحِدٍ، لا تَأويلَ له غَيْرُ تَأويلٍ واحِدٍ، وقد اسْتَغْنى بسَماعِه عن بَيانٍ يُبَيِّنُه، أو يكونَ مُحكَمًا، وإن كانَ ذا وُجوهٍ وتَأويلاتٍ وتَصرُّفٍ في مَعانٍ كَثيرةٍ، فالدَّلالةُ على المَعْنى المُرادِ مِنه إمَّا مِن بَيانِ اللهِ تَعالى ذِكْرُه عنه، أو بَيانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمَّتِه، ولن يَذهَبَ عِلمُ ذلك عن عُلَماءِ الأمَّةِ؛ لِما قد بَيَّنَّا) [697] ((تفسير ابن جرير)) (5/ 192، 196 - 201). .
وقد عَقَدَ الحارِثُ المُحاسِبيُّ في كِتابِه (فَهْم القُرْآنِ) قِسْمًا في المحكَمِ والمُتَشابِهِ، وذَكَرَ أقْوالَ النَّاسِ في المُحكَمِ والمُتَشابِهِ، ولم يَذكُرْ أنَّ منها آياتِ الصِّفاتِ [698] يُنظر: ((فهم القُرْآن)) (ص: 325 - 331). .
وعَقَدَ أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ فَصْلًا في كِتابِه (مَقالاتِ الإسْلاميِّينَ) في حِكايةِ أقاويلِ النَّاسِ في المُحكَمِ والمُتَشابِهِ، ولم يَنقُلْ عن أحَدٍ أنَّ مِن المُتَشابِهِ آياتِ الصِّفاتِ [699] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 177). .
وجَميعُ كُتُبِ السُّنَّةِ الَّتي نَقَلَتْ آثارَ السَّلَفِ في العَقيدةِ؛ كـكِتابِ (الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ) لأَحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، والدَّارِميِّ، وابنِ مَنْدَهْ، وكِتابِ (السُّنَّة) للمُزَنيِّ، وابنِ أبي عاصِمٍ، والخَلَّالِ، والبَرْبهاريِّ، وكِتابِ (صَريح السُّنَّةِ) لابنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ، وكِتابِ (أُصول السُّنَّةِ) لابنِ أبي زَمَنينَ، وكِتابِ (شَرْح أُصولِ اعْتِقادِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) لِلَّالَكائيِّ، وغَيْرُها كَثيرٌ، ولم يُنقَلْ في أيِّ مِنها عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ الصَّالِحِ أنَّه جَعَلَ آياتِ الصِّفاتِ مِن المُتَشابِهِ.
ولابنِ قُتَيْبةَ كَلامٌ نَفيسٌ يَتَعلَّقُ بآياتِ الصِّفاتِ، وممَّا قالَ فيه: (لسْنا ممَّن يَزعُمُ أنَّ المُتَشابِهَ في القُرْآنِ لا يَعلَمُه الرَّاسِخونَ في العِلمِ، وهذا غَلَطٌ مِن مُتَأوِّليه على اللُّغةِ والمَعْنى، ولم يُنزِلِ اللهُ شَيئًا مِن القُرْآنِ إلَّا ليَنفَعَ به عِبادَه، ويَدُلَّ به على مَعنًى أرادَه، فلو كانَ المُتَشابِهُ لا يَعلَمُه غَيْرُه للَزِمَنا للطَّاعِنِ مَقالٌ، وتَعلَّقَ علينا بعِلَّةٍ، وهلْ يَجوزُ لأحَدٍ أن يقولَ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَعرِفُ المُتَشابِهَ؟! وإذا جازَ أن يَعرِفَه معَ قَوْلِ اللهِ تَعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] جازَ أن يَعرِفَه الرَّبَّانِيُّونَ مِن صَحابتِه، فقد دَعا لابنِ عبَّاسٍ فقالَ: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْه التَّأويلَ، وفَقِّهْه في الدِّينِ )) [700] أخرجه أحمد (3032)، وابن حبان (7055)، والطبراني (10/293) (10587) مِن حديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما. صَحَّحه ابنُ حِبَّان، وابنُ عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/67)، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2589)، والوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (245). وأصلُ الحديثِ في صحيحِ البُخاريِّ (143)، ومسلمٍ (2477) دونَ قَولِه: "وعَلِّمْه التَّأويلَ". ...، ولو لم يكنْ للرَّاسِخينَ في العِلمِ حَظٌّ في المُتَشابِهِ إلَّا أن يَقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] لم يكنْ للرَّاسِخينَ فَضْلٌ على المُتَعلِّمينَ، بل على جَهَلةِ المُسلِمينَ؛ لأنَّهم جَميعًا يَقولونَ: آمَنَّا به كلٌّ مِن عنْدِ رَبِّنا! وبَعْدُ: فإنَّا لم نَرَ المُفَسِّرينَ تَوَقَّفوا عن شيءٍ مِن القُرْآنِ فقالوا: هذا مُتَشابِهٌ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، بل أَمَرُّوه كلَّه على التَّفْسيرِ، حتَّى فَسَّروا الحُروفَ المُقَطَّعةَ في أوائِلِ السُّوَرِ، مِثلُ: الر، وحم، وطه، وأشْباهِ ذلك.
بابُ القَوْلِ في المَجازِ، وأمَّا المَجازُ فمِن جِهتِه غَلِطَ كَثيرٌ مِن النَّاسِ في التَّأويلِ، وتَشَعَّبَتْ بهم الطُّرُقُ...، وذَهَبَ قَوْمٌ في قَوْلِ اللهِ وكَلامِه إلى أنَّه ليس قَوْلًا ولا كَلامًا على الحَقيقةِ، وإنَّما هو إيجادٌ للمَعاني، وصَرَفوه في كَثيرٍ مِن القُرْآنِ إلى المَجازِ... قالوا: ونَحْوُ هذا قَوْلُه تَعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] ، وليس يَوْمَئذٍ قَوْلٌ مِنه لجَهنَّمَ، ولا قَوْلٌ مِن جَهَنَّمَ، وإنَّما هي عِبارةٌ عن سَعتِها...، وقد تَبَيَّنَ لِمَن قد عَرَفَ اللُّغةَ أنَّ القَوْلَ يَقَعُ فيه المَجازُ) [701] ((تأويل مشكل القُرْآن)) (ص: 66 – 69، 71 - 73). .
وما ذَكَرَه ابنُ قُتَيْبةَ في تَفْسيرِ قَوْلِه تَعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] هو أحَدُ القَوْلَينِ في مَعْنى الآيةِ، قالَ ابنُ كَثيرٍ في تَفْسيرِه: (قَوْلُه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] اخْتَلَفَ القُرَّاءُ في الوَقْفِ هاهنا؛ فقيلَ: على الجَلالةِ، كما قالَ ابنُ عبَّاسٍ: التَّفْسيرُ على أرْبَعةِ أنْحاءٍ: فتَفْسيرٌ لا يُعذَرُ أحَدٌ في فَهْمِه، وتَفْسيرٌ تَعرِفُه العَرَبُ مِن لُغاتِها، وتَفْسيرٌ يَعلَمُه الرَّاسِخونَ في العِلمِ، وتَفْسيرٌ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ. ويُرْوى هذا القَوْلُ عن عائِشةَ، وعُرْوةَ، وأبي الشَّعْثاءِ، وأبي نُهَيْكٍ، وغَيْرِهم...، ورَوى ابنُ جَريرٍ عن عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزيزِ ومالِكِ بنِ أَنَسٍ: أنَّهم يُؤمِنونَ به ولا يَعلَمونَ تَأويلَه. واخْتارَ ابنُ جَريرٍ هذا القَوْلَ. ومِنهم مَن يَقِفُ على قَوْلِه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] وتَبِعَهم كَثيرٌ مِن المُفَسِّرينَ وأهْلِ الأُصولِ، وقالوا: الخِطابُ بما لا يُفهَمُ بَعيدٌ، وقد رَوى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قالَ: أنا مِن الرَّاسِخينَ الَّذين يَعلَمونَ تَأويلَه. وقالَ ابنُ أبي نَجيحٍ عن مُجاهِدٍ: والرَّاسِخونَ في العِلمِ يَعلَمونَ تَأويلَه ويَقولونَ: آمَنَّا به. وكَذا قالَ الرَّبيعُ بنُ أَنَسٍ. ومِن العُلَماءِ مَن فَصَّلَ في هذا المَقامِ فقالَ: التَّأويلُ يُطلَقُ ويُرادُ به في القُرْآنِ مَعْنيانِ، أحَدُهما: التَّأويلُ بمَعْنى حَقيقةِ الشَّيءِ، وما يَؤولُ أمْرُه إليه، ومِنه قَوْلُه تَعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف: 100] ، وقَوْلُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي: حَقيقةُ ما أُخبِروا به مِن أمْرِ المَعادِ، فإن أُريدَ بالتَّأويلِ هذا فالوَقْفُ على الجَلالةِ؛ لأنَّ حَقائِقَ الأمورِ وكُنْهَها لا يَعلَمُه على الجَلِيَّةِ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، ويكونُ قَوْلُه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُبتَدَأً، ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خَبَرَه. وأمَّا إن أُريدَ بالتَّأويلِ المَعْنى الآخَرُ، وهو التَّفْسيرُ والتَّعْبيرُ والبَيانُ عن الشَّيءِ، كقَوْلِه تَعالى: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف: 36] أي: بتَفْسيرِه، فإن أُريدَ به هذا المَعْنى فالوَقْفُ على: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ لأنَّهم يَعلَمونَ ويَفهَمونَ ما خوطِبوا به بِهذا الاعْتِبار، وإن لم يُحيطوا عِلمًا بحَقائِقِ الأشْياءِ على كُنْهِ ما هي عليه، وعلى هذا فيكونُ قَوْلُه: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالًا مِنهم، وقَوْلُه إخْبارًا عنهم أنَّهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي: بالمُتَشابِه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: الجَميعُ مِن المُحكَمِ والمُتَشابِهِ حَقٌّ وصِدْقٌ، وكلُّ واحِدٍ مِنهما يُصدِّقُ الآخَرَ ويَشهَدُ له؛ لأنَّ الجَميعَ مِن عنْدِ اللهِ، وليس شيءٌ مِن عنْدِ اللهِ بمُخْتلِفٍ ولا مَتَضادٍّ؛ لقَوْلِه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] ؛ ولِهذا قالَ تَعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] أي: إنَّما يَفهَمُ ويَعقِلُ ويَتَدبَّرُ المَعانيَ على وَجْهِها أُولو العُقولِ السَّليمةِ، والفُهومِ المُسْتَقيمةِ) [702] ((تفسير ابن كَثير)) (2/ 10 - 12) باختِصارٍ. .
قال الأوزاعيُّ: (كُنَّا والتَّابعونَ مُتوافِرونَ نقولُ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه فوقَ عَرشِه، ونؤمِنُ بما ورَدَت السُّنَّةُ به من صفاتِه جلَّ وعلا) [703] رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (865). .
وقال محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ صاحِبُ أبي حنيفةَ: (اتَّفق الفُقَهاءُ كُلُّهم من المشرِقِ إلى المغرِبِ على الإيمانِ بالقُرآنِ والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ، من غيرِ تغييرٍ ولا وصفٍ ولا تشبيهٍ، فمن فسَّر اليومَ شيئًا من ذلك فقد خرج ممَّا كان عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفارَق الجماعةَ؛ فإنَّهم لم يَصِفوا ولم يُفسِّروا، ولكِنْ أفتَوا بما في الكِتابِ والسُّنَّةِ ثمَّ سكتوا، فمَن قال بقولِ جَهمٍ فقد فارق الجماعةَ؛ لأنَّه قد وصَفه بصِفةِ لا شَيءٍ!) [704] رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (740). .
وقال ابنُ جريرٍ: (فإن قال لنا قائِلٌ: فما الصَّوابُ من القَولِ في معاني هذه الصِّفاتِ التي ذُكِرَت، وجاء ببعضِها كتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ ووَحيُه، وجاء ببعضِها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قيل: الصَّوابُ من هذا القولِ عِندَنا أن نُثبِتَ حقائقَها على ما نعرِفُ من جهةِ الإثباتِ ونَفيِ التشبيهِ، كما نفى ذلك عن نفسِه جلَّ ثناؤه، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، فيقالُ: اللهُ سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصَرٌ؛ إذ لا يُعقَلُ مسمًّى سميعًا بصيرًا في لغةٍ ولا عقلٍ في النُّشوءِ والعادةِ والمُتعارَفِ إلَّا مَن له سمعٌ وبَصَرٌ... فنُثبِتُ كُلَّ هذه المعاني التي ذكَرْنا أنَّها جاءت بها الأخبارُ والكتابُ والتنزيلُ على ما يُعقَلُ من حقيقةِ الإثباتِ، وننفي عنه التَّشبيهَ) [705] ((التبصير في معالم الدين)) (ص: 140، 142). .
وقال الخَطيبُ البغداديُّ: (ما رُوِيَ من الصِّفاتِ في السُّنَنِ الصِّحاحِ مَذهَبُ السَّلَفِ إثباتُها وإجراؤُها على ظواهِرِها، ونفيُ الكيفِ والتشبيهِ عنها، والأصلُ في هذا أنَّ الكلامَ في الصِّفاتِ فَرعٌ على الكلامِ في الذَّاتِ، وإذا كان معلومًا أنَّ إثباتَ ربِّ العالَمينَ إنَّما هو إثباتُ وُجودٍ لا إثباتُ تحديدٍ وتكييفٍ، فكذلك إثباتُ صفاتِه إنَّما هو إثباتُ وُجودٍ لا إثباتُ تحديدٍ وتكييفٍ) [706] ((العرش)) للذهبي (2/ 457). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أهلُ السُّنَّةِ مُجمِعون على الإقرارِ بالصِّفاتِ الواردةِ كُلِّها في القرآنِ والسُّنَّةِ، والإيمانِ بها، وحَملِها على الحقيقةِ لا على المجازِ، إلَّا أنَّهم لا يُكيِّفونَ شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّونَ فيه صفةً محصورةً، وأمَّا أهلُ البِدَعِ والجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ كُلُّها والخوارجُ فكُلُّهم يُنكِرُها، ولا يحمِلُ شيئًا منها على الحقيقةِ) [707] ((التمهيد)) (7/ 145). ويُنظر: ((سنن الترمذي)) (3/ 41)، ((التبصير في معالم الدين)) للطبري (ص: 132 - 147)، ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 118)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 457)، ((الهداية)) لمكي بن أبي طالب (10/ 6378)، ((ذم التأويل)) للمقدسي (ص: 11، 39، 40)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 294، 295)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/ 212 - 214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 113)، ((قطف الثمر)) للقنوجي (ص: 59)، ((منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)) للشنقيطي (ص: 38)، ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 34). .
وقال البَغَويُّ: (كُلُّ ما جاء من هذا القبيلِ في الكتابِ أو السُّنَّةِ، كاليدِ والإصبَعِ والعَينِ والمجيءِ والإتيانِ، فالإيمانُ بها فَرضٌ، والامتناعُ عن الخوضِ فيها واجِبٌ؛ فالمُهتدي مَن سلك فيها طريقَ التسليمِ، والخائِضُ فيها زائغٌ، والمنكِرُ مُعطِّلٌ، والمُكيِّفُ مُشبِّهٌ، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمون علوًّا كبيرًا) [708] ((شرح السنة)) (15/ 257). .
وقال عبدُ القادِرِ الجيلانيُّ: (هو بجِهةِ العُلُوِّ مُستوٍ على العَرشِ... وهو باينٌ مِن خَلقِه، لا يخلو من عِلمِه مكانٌ، ولا يجوزُ وَصفُه بأنَّه في كُلِّ مكانٍ، بل يُقالُ: إنَّه في السَّماءِ على العَرشِ، كما قال جلَّ ثناؤه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وقَولِه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان: 59] ، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حكَمَ بإسلامِ الأمَةِ لمَّا قال لها: ((أين اللهُ؟)) فأشارت إلى السَّماءِ [709] أخرجه مسلم (537) من حديثِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ... وكونُه عزَّ وجَلَّ على العَرشِ مذكورًا في كُلِّ كتابٍ أُنزِل على كُلِّ نبيٍّ أُرسِلَ بلا كيفٍ، ولأنَّ اللهَ تعالى فيما لم يَزَلْ موصوفٌ بالعُلُوِّ والقُدرةِ والاستيلاءِ والغَلَبةِ على جميعِ خَلقِه مِن العَرشِ وغَيرِه، فلا يُحمَلُ الاستواءُ على ذلك. فالاستواءُ من صفاتِ الذَّاتِ بعدما أخبَرَنا به، ونصَّ عليه، وأكَّده في سبعِ آياتٍ من كتابِه، والسُّنَّةِ المأثورةِ به، وهو صِفةٌ لازمةٌ له، ولائقةٌ به، كاليدِ والوَجهِ والعينِ والسَّمعِ والبَصَرِ والحياةِ والقُدرةِ، وكونُه خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا، موصوفٌ بها، ولا نَخرُجُ من الكتابِ والسُّنَّةِ، نقرأُ الآيةَ والخبَرَ، ونؤمِنُ بما فيهما، ونَكِلُ الكيفيَّةَ في الصِّفاتِ إلى علمِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، كما قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ رحمه اللهُ: كُلُّ ما وصف اللهُ تعالى نفسَه في كتابِه فتفسيرُه قراءتُه، لا تفسيرَ له غيرُها، ولا نتكَلَّفُ غيرَ ذلك؛ فإنَّه غيبٌ، لا مجالَ للعَقلِ في إدراكهِ، ونسألُ اللهَ تعالى العَفوَ والعافيةَ، ونعوذُ به من أن نقولَ فيه وفي صفاتِه ما لم يخبِرْنا به هو أو رسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ) [710] ((الغنية لطالبي طريق الحق)) (1/ 121، 124، 125). .
وقال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ الوَزيرُ: (لا يجوزُ القَولُ بأنَّ ظاهِرَ هذه الأسماءِ كُفرٌ وضلالٌ، وأنَّ الصَّحابةَ والسَّلَفَ الصَّالحَ لم يفهَموا ذلك، أو فَهِموا ولم يقوموا بالواجِبِ عليهم من نُصحِ المُسلِمين، وبيانِ التأويلِ الحقِّ لهم،... العادةُ توجِبُ في كُلِّ ما كان كذلك أن يظهَرَ التحذيرُ منه من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومن أصحابِه أعظَمَ ممَّا حَذَّروا من الدَّجَّالِ الأعوَرِ الكذَّابِ، ولا يجوزُ عليهم مع كمالِ عُقولهِم وأديانِهم أن يتُركوا صِبيانَهم ونساءَهم وعامَّتَهم يسمعون ذلك منسوبًا إلى اللهِ وإلى كتابِه ورسولِه، وظاهِرُه الكُفرُ، وهم سكوتٌ عليه!) [711] ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 130) باختصار وتصرف. ويُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/ 75 - 77). .

انظر أيضا: