موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابِعُ: صِفةُ الإرادةِ


يُثبِتُ الأشاعِرةُ للهِ سُبْحانَه صِفةَ الإرادةِ، ووافَقوا في إثْباتِها السَّلَفَ الصَّالِحَ مِن حيثُ الجُمْلةُ، ويُرجِعُ الأشاعِرةُ كَثيرًا مِن الصِّفاتِ إلى صِفةِ الإرادةِ، مِثلُ الرَّحْمةِ، والمَحَبَّةِ، والرِّضا، والغَضَبِ، وأَنْكَروا على أهْلِ البِدَعِ الَّذين نَفَوا عن اللهِ سُبْحانَه صِفةَ الإرادةِ، وخاضوا فيما خاضَ فيه أهْلُ عِلمِ الكَلامِ فيما يَتَعلَّقُ بتلك الصِّفةِ، وذَكَروا في كُتُبِهم أقْوالَ المُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ في شَأنِها، وتَكَلَّفوا في الرَّدِّ عليهم بعُقولِهم مُجاراةً لهم، وقدْ تَأثَّروا بتلك المَباحِثِ الكَلامِيَّةِ والفَلْسَفيَّةِ الَّتي فيها تَنَطُّعٌ وخَوْضٌ فيما لا يَجوزُ الخَوْضُ فيه، حتَّى إنَّ بعضَ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ صَرَّحَ بأنَّ الإرادةَ في حَقِّ اللهِ غَيْرُ مَعْقولةٍ، كما أنَّ الأشاعِرةَ لا يُوَضِّحونَ الفَرْقَ بَيْنَ الإرادةِ الشَّرْعيَّةِ والإرادةِ الكَوْنيَّةِ، ويَنْفي الأشاعِرةُ أن يكونَ اللهُ يُريدُ ما شاءَ متى شاءَ، بلْ يُثبِتونَ إرادةً أزَلِيَّةً؛ ولِذلك فهُمْ في الحَقيقةِ لا يُثبِتونَ صِفةَ الإرادةِ كما يُثبِتُها السَّلَفُ الصَّالِحُ للهِ سُبْحانَه بما يَليقُ بعَظَمةِ اللهِ وكَمالِه، مِن غَيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ، ومِن غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ.
أقْوالُ الأشاعِرةِ في صِفةِ الإرادةِ:
1- قالَ الباقِلَّانيُّ: (بابٌ في أنَّه مُريدٌ، فإن قالَ قائِلٌ: فما الدَّليلُ على أنَّه مُريدٌ؟ قيلَ له: وُجودُ الأفْعالِ مِنه، وتَقدُّمُ بعضِها على بعضٍ في الوُجودِ، وتَأخُّرُ بعضِها عن بعضٍ في الوُجودِ، فلولا أنَّه قَصَدَ إلى إيجادِ ما أَوجَدَ مِنها لَما وُجِدَ، ولا تَقدَّمَ مِن ذلك ما تَقدَّمَ ولا تَأخَّرَ مِنه ما تَأخَّرَ، معَ صِحَّةِ تَقدُّمِه بَدَلًا مِن تَأخُّرِه، وتَأخُّرِه بَدَلًا مِن تَقدُّمِه) [547] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 47). .
وقالَ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ الباريَ عالِمٌ بعِلمٍ قَديمٍ مُتَعلِّقٍ بجَميعِ المَعْلوماتِ، ولا يوصَفُ عِلمُه بأنَّه مُكْتَسَبٌ ولا ضَروريٌّ، وأنَّه قادِرٌ بقُدْرةٍ قَديمةٍ شامِلةٍ لجَميعِ المَقْدوراتِ، مُريدٌ بإرادةٍ قَديمةٍ مُتَعلِّقةٍ بجَميعِ الكائِناتِ) [548] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 36). .
2- قالَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ الباريَ تَعالى مُريدٌ بإرادةٍ قَديمةٍ) [549] ((الإرشاد إلى قواطع الأدِلَّة في أصول الاعتقاد)) (ص: 114). .
3- قالَ الغَزاليُّ: (اللهُ تَعالى عالِمٌ بعِلمٍ، حَيٌّ بحَياةٍ، قادِرٌ بقُدْرةٍ، ومُريدٌ بإرادةٍ، ومُتَكلِّمٌ بكَلامٍ، وسَميعٌ بسَمْعٍ، وبَصيرٌ ببَصَرٍ، وله هذه الأوْصافُ مِن هذه الصِّفاتِ القَديمةِ) [550] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 188). .
4- قالَ الآمِدِيُّ: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ الباريَ تَعالى مُريدٌ بإرادةٍ قائِمةٍ بذاتِه قَديمةٍ، أزَلِيَّةٍ، وُجوديَّةٍ، واحِدةٍ، لا تَعدُّدَ فيها، مُتَعلِّقةٍ بجَميعِ الجائِزاتِ، غَيْرِ مُتَناهيةٍ بالنَّظَرِ إلى ذاتِها، ولا بالنَّظَرِ إلى مُتَعلِّقاتِها...، وأمَّا المَحَبَّةُ والرِّضا: فقدِ اخْتَلَفَ أصْحابُنا فيه؛ فذَهَبَ المُعظَمُ مِنهم إلى أنَّ الإرادةَ هي نَفْسُ المَحَبَّةِ والرِّضا، وذَهَبَ الباقونَ: إلى المُغايَرةِ بَيْنَهما) [551] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/298، 303). .
وقالَ أيضًا: (الرَّحْمنُ الرَّحيمُ: مَعْناهما مُريدُ الإنْعامِ على الخَلْقِ؛ فيَرجِعُ حاصِلُهما إلى صِفةِ الإرادةِ...، الغَفَّارُ: مَعْناه المُريدُ لإزالةِ العُقوبةِ بَعْدَ اسْتِحقاقِها، وهو راجِعٌ إلى صِفةِ الإرادةِ) [552] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (2/504، 508). .
وقالَ الآمِدِيُّ أيضًا: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ البارِيَ تَعالى مُريدٌ على الحَقيقةِ، وليس مَعْنى كَوْنِه مُريدًا إلَّا قِيامَ الإرادةِ بذاتِه، وذَهَبَ الفَلاسِفةُ والمُعْتَزِلةُ والشِّيعةُ إلى كَوْنِه غَيْرَ مُريدٍ على الحَقيقةِ، وإذا قيلَ: إنَّه مُريدٌ فمَعْناه عنْدَ الفَلاسِفةِ لا يَرجِعُ إلَّا إلى سَلْبٍ أو إضافةٍ، ووافَقَهم على ذلك النَّجَّارُ مِن المُعْتَزِلةِ؛ حيثُ إنَّه فَسَّرَ كَوْنَه مُريدًا بسَلْبِ الكَراهِيَةِ والعِلِّيَّةِ عنه، وأمَّا النَّظَّامُ والكَعْبيُّ فإنَّهما قالا: إن وُصِفَ بالإرادةِ شَرْعًا فليس مَعْناه إن أُضيفَ ذلك إلى أفْعالِه إلَّا أنَّه خالِقُها، وإن أُضيفَ إلى أفْعالِ العِبادِ فالمُرادُ به أنَّه أمَرَ بها، وزادَ الجاحِظُ على هؤلاء بإنْكارِ وُجودِ الإرادةِ شاهِدًا، وقالَ: مَهْما كانَ الإنْسانُ غَيْرَ غافِلٍ ولا ساهٍ عمَّا يَفعَلُه، بلْ كانَ عالِمًا به، فهو مَعْنى كَوْنِه مُريدًا، وذَهَبَ البَصْريُّونَ مِن المُعْتَزِلةِ إلى أنَّه مُريدٌ بإرادةٍ قائِمةٍ لا في مَحَلٍّ، وذَهَبَ الكَرَّاميَّةُ إلى أنَّه مُريدٌ بإرادةٍ حادِثةٍ في ذاتِه، تَعالى اللهُ عن قَوْلِ الزَّائِغينَ) [553] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 52). .
وقالَ أيضًا: (الطَّريقُ الموصِلُ إلى ثُبوتِ صِفةِ الإرادةِ إنَّما هو كَوْنُ الكائِناتِ، وذلك إنَّما يَدُلُّ على أنَّه لا بُدَّ مِن إرادةٍ يكونُ بها التَّخْصيصُ، والقَوْلُ بتَعَدُّدِها ممَّا يَزيدُ على القَوْلِ الواجِبِ مِن غَيْرِ دَليلٍ، فإنَّه لا مانِعَ مِن أن تكونَ الإرادةُ واحِدةً، والمُتَعلِّقاتُ مُتَعدِّدةً، وذلك على نَحْوِ تَعَلُّقِ الشَّمْسِ بما قابَلَها واسْتَضاءَ بِها، فإنَّه وإن كانَ مُتَعدِّدًا لا يوجِبُ تَعَدُّدَها في نَفْسِها، وإن أَوجَبَ تَعَدُّدَ مُتَعلِّقاتِها على ما لا يَخْفى، وهذا هو الأَقرَبُ إلى الإنْصافِ، والأَبعَدُ عن الاعْتِسافِ مِن جِهةِ أنَّ العَقْلَ قد دَلَّ على وُجودِ أصْلِ الإرادةِ، فالقَوْلُ بنَفْيِها تَقْصيرٌ، والقَوْلُ بتَكَثُّرِها إفْراطٌ، وكلٌّ خارِجٌ عن حَوْزةِ الاحْتِياطِ، ولَعَمْري إنَّ مَن رامَ نَفْيَ التَّكثُّرِ مِن صِفةِ الإرادةِ أو غَيْرِها مِن الصِّفاتِ بغَيْرِ ما سَلَكْناه لم يَجِدْ فيه كَلامًا مُحَصَّلًا...، الإرادةُ صِفةٌ واحِدةٌ لا انْقِسامَ فيها، لا بالحَدِّ، ولا بالكَمِّ، وإن وَقَعَ التَّعَدُّدُ في مُتَعلِّقاتِها وتَعَلُّقِها، وذلك على نَحْوِ ما ذَكَرْناه مِن تَعَلُّقِ الشَّمْسِ بما قابَلَها واسْتَضاءَ بِها، فإنَّه وإن كانَ مُتَعدِّدًا أو مُتَغايِرًا لا يوجِبُ وُقوعَ التَّعَدُّدِ في الشَّمْسِ نَفْسِها، وهو المَعْنيُّ بسَلْبِ النِّهايةِ عن ذاتِ واجِبِ الوُجودِ، وكَذا في غَيْرِ الإرادةِ مِن صِفاتِ الذَّاتِ، وأمَّا سَلْبُ النِّهايةِ عنها بالنَّظَرِ إلى مُتَعلِّقاتِها فليس المَعْنيُّ به أيضًا إلَّا أنَّ ما يَصِحُّ أن تَتَعلَّقَ به الإرادةُ مِن الجائِزاتِ لا نِهايةَ له بالقُوَّةِ، لا أنَّه غَيْرُ مُتَناهٍ بالفِعْلِ، وهذا ممَّا لا مِراءَ فيه، ولا دَليلَ يُنافيه) [554] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 73، 75). .
5- قالَ ابنُ أبي شَريفٍ المَقْدِسيُّ: (مَذهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ تَعالى مُريدٌ في صُنْعِه بإرادةٍ قَديمةٍ قائِمةٍ بذاتِه تَعالى، خِلافًا للفَلاسِفةِ وغَيْرِهم مِن المُعْتَزِلةِ. مَعْنى الإرادةِ عنْدَ العَقْلِ واضِحٌ؛ إذ كلُّ أحَدٍ مِنَّا يَعلَمُ قَبْلَ صُدورِ فِعْلٍ عنه أو تَرْكٍ يُظهِرُ في نَفْسِه حالةً مَيَلانيَّةً تَقْتَضي تَرْجيحَ أحَدِهما على الآخَرِ) [555] ((المسامرة في شرح المسايرة في علم الكَلام)) (ص: 59). .
6- قالَ الباجوريُّ: (اعْلَمْ أنَّ للإرادةِ تَعَلُّقَينِ: تَعَلُّقًا صلوحيًّا قَديمًا، وهو صَلاحِيَّتُها في الأزَلِ لتَخْصيصِ المُمْكِنِ بالوُجودِ أو بالعَدَمِ، وبالغِنى أو بالفَقْرِ وهكذا، وتَعَلُّقًا تَنْجيزيًّا قَديمًا، وهو تَخْصيصُ اللهِ بِها أزَلًا المُمْكِنَ ببعضِ ما يَجوزُ عليه مِن المُمْكِناتِ السَّابِقةِ) [556] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 144). .
نُقولٌ نافِعةٌ مِن كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ وغَيْرِه تُبَيِّنُ مَذهَبَ السَّلَفِ ومَذاهِبَ المُخالِفينَ لهم في صِفةِ الإرادةِ:
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (لَفْظُ الإرادةِ مُجمَلٌ له مَعْنيانِ: فيُقصَدُ به المَشيئةُ لِما خَلَقَه، ويُقصَدُ به المَحَبَّةُ والرِّضا لِما أمَرَ به) [557] ((مجموع الفَتاوى)) (8/ 159). .
وقالَ أيضًا: (يَنْبَغي أن يُعرَفَ أنَّ الإرادةَ في كِتابِ اللهِ على نَوْعَينِ؛ أحَدُهما: الإرادةُ الكَوْنيَّةُ، وهي الإرادةُ المُسْتَلْزِمةُ لوُقوعِ المُرادِ الَّتي يُقالُ فيها: ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وهذه الإرادةُ في مِثلِ قَوْلِه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] ...، وأمَّا النَّوْعُ الثَّاني: فهو الإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرْعيَّةُ، وهي مَحَبَّةُ المُرادِ ورِضاه، ومَحَبَّةُ أهْلِه والرِّضا عنهم، وجَزاؤُهم بالحُسْنى كما قالَ تَعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ...، فهذه الإرادةُ لا تَسْتَلْزِمُ وُقوعَ المُرادِ إلَّا أن يَتَعلَّقَ به النَّوْعُ الأوَّلُ مِن الإرادةِ) [558] ((مجموع الفَتاوى)) (8/ 187). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (قالَتِ الجَهْميَّةُ ومَن اتَّبَعها مِن الأشْعَريَّةِ وأمْثالِهم: قد عُلِمَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ أنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، ورَبُّه ومَليكُه؛ ولا يكونُ خالِقًا إلَّا بقُدْرتِه ومَشيئتِه؛ فما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وكلُّ ما في الوُجودِ فهو بمَشيئتِه وقُدْرتِه وهو خالِقُه؛ سَواءٌ في ذلك أفْعالُ العِبادِ وغَيْرُها؛ ثُمَّ قالوا: وإذا كانَ مُريدًا لكلِّ حادِثٍ، والإرادةُ هي المَحَبَّةُ والرِّضا، فهو مُحِبٌّ راضٍ لكلِّ حادِثٍ، وقالوا: كلُّ ما في الوُجودِ مِن كُفْرٍ وفُسوقٍ وعِصْيانٍ فإنَّ اللهَ راضٍ به، مُحِبٌّ له، كما هو مُريدٌ له! فقيلَ لهم: فقدْ قالَ تَعالى: لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205] ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] . فقالوا: هذا بمَنزِلةِ أن يُقالَ: لا يُريدُ الفَسادَ، ولا يُريدُ لعِبادِه الكُفْرَ؛ وهذا يَصِحُّ على وَجْهَينِ؛ إمَّا أن يكونَ خاصًّا بمَن لم يَقَعْ مِنه الكُفْرُ والفَسادُ، ولا رَيْبَ أنَّ اللهَ لا يُريدُ ولا يُحِبُّ ما لم يَقَعْ عنْدَهم، فقالوا: مَعْناه: لا يُحِبُّ الفَسادَ لعِبادِه المُؤمِنينَ، ولا يَرْضاه لهم. وحَقيقةُ قَوْلِهم: أنَّ اللهَ أيضًا لا يُحِبُّ الإيمانَ ولا يَرْضاه مِن الكُفَّارِ؛ فالمَحَبَّةُ والرِّضا عنْدَهم كالإرادةِ عنْدَهم مُتَعَلِّقةٌ بما وَقَعَ دونَ ما لم يَقَعْ؛ سَواءٌ كانَ مَأمورًا به أو مَنْهِيًّا عنه، وسَواءٌ كانَ مِن أسْبابِ سَعادةِ العِبادِ أو شَقاوتِهم، وعنْدَهم أنَّ اللهَ يُحِبُّ ما وُجِدَ مِن الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ، ولا يُحِبُّ ما لم يوجَدْ مِن الإيمانِ والطَّاعةِ، كما أرادَ هذا دونَ هذا.
والوَجْهُ الثَّاني: قالوا: لا يُحِبُّ الفَسادَ دينًا، ولا يَرْضاه دينًا، وحَقيقةُ هذا القَوْلِ: أنَّه لا يُريدُه دينًا، فإنَّه إذا أرادَ وُقوعَ الشَّيءِ على صِفةٍ لم يكنْ مُريدًا له على خِلافِ تلك الصِّفةِ، وهو إذا أرادَ وُقوعَ شيءٍ معَ شيءٍ لم يُرِدْ وُقوعَه وَحْدَه، فإنَّه إذا أرادَ أن يَخلُقَ زَيدًا مِن عَمْرٍو لم يُرِدْ أن يَخلُقَه مِن غَيْرِه، وإذا أرادَ أن يُنزِلَ مَطَرًا فتَنبُتُ الأرْضُ به، فإنَّه أرادَ إنْزالَه على تلك الصِّفةِ، وإذا أرادَ أن يَركَبَ البَحْرَ قَوْمٌ فيَغرَقَ بعضُهم، ويَسلَمَ بعضُهم، ويَربَحَ بعضُهم، فإنَّما أرادَه على تلك الصِّفةِ، فكذلك الإيمانُ والكُفْرُ؛ قُرِنَ بالإيمانِ نَعيمُ أصْحابِه، وبالكُفْرِ عَذابُ أصْحابِه، وإن لم يكنْ عنْدَهم جَعْلُ شيءٍ لشيءٍ سَبَبًا، ولا خَلْقُ شيءٍ لحِكْمةٍ؛ لكنْ جَعْلُ هذا معَ هذا. وعنْدَهم جَعْلُ السَّعادةِ معَ الإيمانِ لا به، كما يَقولون: إنَّه خَلَقَ الشِّبَعَ عنْدَ الأكْلِ لا به...، ثُمَّ الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ ونُفاةُ الصِّفاتِ مِن المُعْتَزِلةِ ونَحْوِهم لا يُثبِتونَ إرادةً قائِمةً بذاتِه، بلْ إمَّا أن يَنْفوها، وإمَّا أن يَجعَلوها بمَعْنى الخَلْقِ والأمْرِ، وإمَّا أن يَقولوا: أَحدَثَ إرادةً لا في مَحَلٍّ! وأمَّا مُثبِتةُ الصِّفاتِ كابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ وغَيْرِهما مِمَّن يُثبِتِ الصِّفاتِ، ولا يُثبِتُ إلَّا واحِدًا مُعيَّنًا، فلا يُثبِتُ إلَّا إرادةً واحِدةً تَتَعلَّقُ بكلِّ حادِثٍ، وسَمْعًا واحِدًا مُعيَّنًا مُتَعلِّقًا بكلِّ مَسْموعٍ، وبَصَرًا واحِدًا مُعيَّنًا مُتَعلِّقًا بكلِّ مَرْئِيٍّ، وكَلامًا واحِدًا بالعَيْنِ يَجمَعُ جَميعَ أنْواعِ الكَلامِ، فهؤلاء يَقولونَ: جَميعُ الحادِثاتِ صادِرةٌ عن تلك الإرادةِ الواحِدةِ العَيْنِ المُفْرَدةِ، الَّتي تُرَجِّحُ أحَدَ المُتَماثِلَينِ لا بمُرَجِّحٍ، وهي المَحَبَّةُ والرِّضا وغَيْرُ ذلك. وهؤلاء إذا شَهِدوا هذا لم يَبْقَ عنْدَهم فَرْقٌ بَيْنَ جَميعِ الحَوادِثِ في الحُسْنِ والقُبْحِ إلَّا مِن حيثُ مُوافَقتُها للإنْسانِ، ومُخالَفةُ بعضِها له، فما وافَقَ مُرادَه ومَحْبوبَه كانَ حَسَنًا عنْدَه، وما خالَفَ ذلك كانَ قَبيحًا عنْدَه، فلا يكونُ في نَفْسِ الأمْرِ حَسَنةٌ يُحِبُّها اللهُ، ولا سَيِّئةٌ يَكرَهُها، إلَّا بمَعْنى أنَّ الحَسَنةَ هي ما قُرِنَ بِها لَذَّةُ صاحِبِها، والسَّيِّئةَ ما قُرِنَ بِها أَلَمُ صاحِبِها، مِن غَيْرِ فَرْقٍ يَعودُ إليه، ولا إلى الأفْعالِ أصْلًا؛ ولِهذا يَجوزُ عنْدَهم أن يَأمُرَ اللهُ بكلِّ شيءٍ حتَّى الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ، ويَنْهى عن كلِّ شيءٍ حتَّى عن الإيمانِ والتَّوْحيدِ، ويَجوزُ نَسْخُ كلِّ ما أمَرَ به بكلِّ ما نَهى عنه، ولم يَبْقَ عنْدَهم في الوُجودِ خَيْرٌ ولا شَرٌّ، ولا حَسَنٌ ولا قَبيحٌ إلَّا بِهذا الاعْتِبارِ، فما في الوُجودِ ضُرٌّ ولا نَفْعٌ، والنَّفْعُ والضُّرُّ أمْرانِ إضافيَّانِ، فرُبَّما نَفَعَ هذا ما ضَرَّ هذا، كما يُقالُ: مَصائِبُ قَوْمٍ عنْدَ قَوْمٍ فَوائِدُ) [559] ((مجموع الفَتاوى)) (8/ 340 - 344) باختصارٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (جَهْمٌ ومَن وافَقَه مِن المُعْتَزِلةِ اشْتَرَكوا في أنَّ مَشيئةَ اللهِ ومَحَبَّتَه ورِضاه بمَعنًى واحِدٍ، ثُمَّ قالَتِ المُعْتَزِلةُ: وهو لا يُحِبُّ الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصْيانَ فلا يَشاؤُه، فقالوا: إنَّه يكونُ بِلا مَشيئةٍ، وقالَتِ الجَهْميَّةُ: بلْ هو يَشاءُ ذلك، فهو يُحِبُّه ويَرْضاه، وأبو الحَسَنِ وأَكثَرُ أصْحابِه وافَقوا هؤلاء؛ فذَكَرَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ أنَّ أبا الحَسَنِ أوَّلُ مَن خالَفَ السَّلَفَ في هذه المَسْألةِ، ولم يُفَرِّقْ به بَيْنَ المَشيئةِ والمَحَبَّةِ والرِّضا، وأمَّا سَلَفُ الأُمَّةِ، وأئِمَّتُها، وأكابِرُ أهْلِ الفِقْهِ والحَديثِ والتَّصوُّفِ، وكَثيرٌ مِن طَوائِفِ النُّظَّارِ؛ كالكُلَّابيَّةِ، والكَرَّاميَّةِ، وغَيْرِهم، فيُفَرِّقونَ بَيْنَ هذا وهذا، ويَقولونَ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ ويَرْضى به، كما لا يَأمُرُ ولا يَرْضى بالكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيانِ، ولا يُحِبُّه، كما لا يَأمُرُ به وإن كانَ قد شاءَه) [560] ((مجموع الفَتاوى)) (8/ 474). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (الإرادةُ الَّتي يُثبِتونَها لم يَدُلَّ عليها سَمْعٌ ولا عَقْلٌ؛ فإنَّه لا تُعرَفُ إرادةٌ تُرَجِّحُ مُرادًا على مُرادٍ بلا سَبَبٍ يَقْتَضي التَّرْجيحَ، ومَن قالَ مِن الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ: إنَّ القادِرَ يُرَجِّحُ أحَدَ مَقْدورَيه على الآخَرِ بلا مُرَجِّحٍ فهو مُكابِرٌ، وتَمْثيلُهم ذلك بالجائِعِ إذا أخَذَ أحَدَ الرَّغيفَينِ، والهارِبِ إذا سَلَكَ أحَدَ الطَّريقَينِ حُجَّةٌ عليهم، فإنَّ ذلك لا يَقَعُ إلَّا معَ رُجْحانِ أحَدِهما؛ إمَّا لكَوْنِه أَيسَرَ في القُدْرةِ، وإمَّا لأنَّه الَّذي خَطَرَ ببالِه وتَصَوَّرَه أو ظَنَّ أنَّه أَنفَعُ، فلا بُدَّ مِن رُجْحانِ أحَدِهما بنَوْعٍ ما؛ إمَّا مِن جِهةِ القُدْرةِ، وإمَّا مِن جِهةِ التَّصَوُّرِ والشُّعورِ، وحينَئذٍ يُرَجِّحُ إرادتَه والآخَرُ لم يُرِدْه، فكيف يُقالُ: إنَّ إرادتَه رَجَّحَتْ أحَدَهما بِلا مُرَجِّحٍ، أو إنَّه رَجَّحَ إرادةَ هذا على إرادةِ ذاك بِلا مُرَجِّحٍ؟! وهذا مُمْتنِعٌ، يَعرِفُ امْتِناعَه مَن تَصَوَّرَه حَقَّ التَّصَوُّرِ، ولكن لمَّا تَكَلَّموا في مَبدَأِ الخَلْقِ بكَلامٍ ابْتَدَعوه خالَفوا به الشَّرْعَ والعَقْلَ احْتاجوا إلى هذه المُكابَرةِ، وبِذلك تَسَلَّطَ عليهم الفَلاسِفةُ مِن جِهةٍ أخرى، فلا لِلإسْلامِ نَصَروا، ولا لِلفَلاسِفةِ كَسَروا، ومَعْلومٌ بصَريحِ العَقْلِ أنَّ القادِرَ إذا لم يكنْ مُريدًا للفِعْلِ، ولا فاعِلًا، ثُمَّ صارَ مُريدًا فاعِلًا، فلا بُدَّ مِن حُدوثِ أمْرٍ اقْتَضى ذلك. والكَلامُ هنا في مَقامَينِ؛ أحَدُهما: في جِنْسِ الفِعْلِ والقَوْلِ، هلْ صارَ فاعِلًا مُتَكلِّمًا بمَشيئتِه بَعْدَ أنْ لم يكُنْ، أو ما زالَ فاعِلًا مُتَكلِّمًا بمَشيئتِه؟ والثَّاني: إرادةُ الشَّيءِ المُعيَّنِ وفِعْلُه، كقَوْلِه تَعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، وقَوْلِه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] . وهو سُبْحانَه إذا أرادَ شَيئًا مِن ذلك فلِلنَّاسِ فيه أقْوالٌ: قيلَ: الإرادةُ قَديمةٌ أزَلِيَّةٌ واحِدةٌ، وإنَّما يَتَجدَّدُ تَعَلُّقُها بالمُرادِ. ونِسْبتُها إلى الجَميعِ واحِدةٌ، ولكنْ مِن خَواصِّ الإرادةِ أنَّها تُخَصَّصُ بلا مُخَصِّصٍ، فهذا قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ ومَن تابَعَهما، وكَثيرٌ مِن العُقَلاءِ يَقولُ: إنَّ هذا فَسادُه مَعْلومٌ بالاضْطِرارِ، حتَّى قالَ أبو البَرَكاتِ: ليس في العُقَلاءِ مَن قالَ بِهذا! وما عَلِمَ أنَّه قَوْلُ طائِفةٍ كَبيرةٍ مِن أهْلِ النَّظَرِ والكَلامِ! وبُطْلانُه مِن جِهاتٍ: مِن جِهةِ جَعْلِ إرادةِ هذا غَيْرَ إرادةِ ذاك، ومِن جِهةِ أنَّه جَعَلَ الإرادةَ تُخَصَّصُ لِذاتِها، ومِن جِهةِ أنَّه لم يَجعَلْ عنْدَ وُجودِ الحَوادِثِ شَيئًا حَدَثَ حتَّى تُخَصَّصَ أو لا تُخَصَّصَ، بلْ تَجَدَّدَتْ نِسْبةٌ عَدَميَّةٌ ليستْ وُجودًا، وهذا ليس بشيءٍ، فلم يَتَجَدَّدْ شيءٌ، فصارَتِ الحَوادِثُ تَحدُثُ وتَتَخَصَّصُ بِلا سَبَبٍ حادِثٍ ولا مُخَصِّصٍ. والقَوْلُ الثَّاني: قَوْلُ مَن يَقولُ بإرادةٍ واحِدةٍ قَديمةٍ مِثلَ هؤلاء لكنْ يَقولُ: تَحدُثُ عنْدَ تَجَدُّدِ الأفْعالِ إراداتٌ في ذاتِه بتلك المَشيئةِ القَديمةِ، كما تَقولُه الكَرَّاميَّةُ وغَيْرُهم، وهؤلاء أَقرَبُ مِن حيثُ أثْبَتوا إراداتِ الأفْعالِ، ولكنْ يَلزَمُهم ما لَزِمَ أولئك مِن حيثُ أَثْبَتوا حَوادِثَ بلا سَبَبٍ حادِثٍ، وتَخْصيصاتٍ بِلا مُخَصِّصٍ، وجَعَلوا تلك الإرادةَ واحِدةً تَتَعلَّقُ بجَميعِ الإراداتِ الحادِثةِ، وجَعَلوها أيضًا تُخَصَّصُ لِذاتِها، ولم يَجْعلوا عنْدَ وُجودِ الإراداتِ الحادِثةِ شَيئًا حَدَثَ حتَّى تُخَصِّصَ تلك الإراداتُ الحُدوثَ. والقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ الَّذين يَنْفونَ قِيامَ الإرادةِ به، ثُمَّ إمَّا أن يَقولوا بنَفْيِ الإرادةِ، أو يُفَسِّروها بنَفْسِ الأمْرِ والفِعْلِ، أو يَقولوا بحُدوثِ إرادةٍ لا في مَحَلٍّ، كقَوْلِ البَصْريِّينَ. وكلُّ هذه الأقْوالِ قد عُلِمَ أيضًا فَسادُها. والقَوْلُ الرَّابِعُ: أنَّه لم يَزَلْ مُريدًا بإراداتٍ مُتَعاقِبةٍ، فنَوْعُ الإرادةِ قَديمٌ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المُعيَّنِ فإنَّما يُريدُه في وَقْتِه، وهو سُبْحانَه يُقدِّرُ الأشْياءَ ويَكتُبُها، ثُمَّ بَعْدَ ذلك يَخلُقُها، فهو إذا قَدَّرَها عَلِمَ ما سيَفعَلُه، وأرادَ فِعْلَه في الوَقْتِ المُسْتَقبَلِ، لكن لم يُرِدْ فِعْلَه في تلك الحالِ، فإذا جاءَ وَقْتُه أرادَ فِعْلَه، فالأوَّلُ عَزْمٌ، والثَّاني قَصْدٌ، وهل يَجوزُ وَصْفُه بالعَزْمِ؟ فيه قَوْلانِ: أحَدُهما المَنْعُ، كقَوْلِ القاضي أبي بَكْرٍ والقاضي أبي يَعْلى، والثَّاني الجَوازُ، وهو أَصَحُّ، فقدْ قَرَأَ جَماعةٌ مِن السَّلَفِ: فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] بالضَّمِّ، وفي الحَديثِ الصَّحيحِ مِن حَديثِ أُمِّ سَلَمةَ: (ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لي)، وسَواءٌ سُمِّيَ عَزْمًا أو لم يُسَمَّ فهو سُبْحانَه إذا قَدَّرَها عَلِمَ أنَّه سيَفعَلُها في وَقْتِها وأرادَ أن يَفعَلَها في وَقْتِها، فإذا جاءَ الوَقْتُ فلا بُدَّ مِن إرادةِ الفِعْلِ المُعيَّنِ ونَفْسِ الفِعْلِ، ولا بُدَّ مِن عِلمِه بما يَفعَلُه، ثُمَّ الكَلامُ في عِلمِه بما يَفعَلُه: هلْ هو العِلمُ المُتَقدِّمُ بما سيَفعَلُه، وعِلمُه بأن قد فَعَلَه هل هو الأوَّلُ؟ فيه قَوْلانِ مَعْروفانِ، والعَقْلُ والقُرْآنُ يَدُلُّ على أنَّه قَدْرٌ زائِدٌ كما قالَ: لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] ، وحينَئذٍ فإرادةُ المُعيَّنِ تَتَرَجَّحُ لعِلمِه بما في المُعيَّنِ مِن المَعْنى المُرَجِّحِ لإرادتِه. فالإرادةُ تَتْبَعُ العِلمَ، وكونُ ذلك المُعيَّنِ مُتَّصِفًا بتلك الصِّفاتِ المُرَجِّحةِ إنَّما هو في العِلمِ والتَّصَوُّرِ ليس في الخارِجِ شيءٌ، ومِن هنا غَلِطَ مَن قالَ: المَعْدومُ شيءٌ؛ حيثُ أثْبَتوا ذلك المُرادَ في الخارِجِ، ومَن لم يُثبِتْه شَيئًا في العِلمِ أو كانَ ليس عنْدَه إلَّا إرادةٌ واحِدةٌ، وعِلمٌ واحِدٌ، ليس للمَعْلوماتِ والمُراداتِ صورةٌ عِلمِيَّةٌ عنْدَ هؤلاء، فهؤلاء نَفَوا كَوْنَه شَيئًا في العِلمِ والإرادةِ، وأولئك أَثبَتوا كَوْنَه شَيئًا في الخارِجِ، وتلك الصُّورةُ العِلمِيَّةُ الإرادِيَّةُ حَدَثَتْ بَعْدَ أن لم تكنْ، وهي حادِثةٌ بمَشيئتِه وقُدْرتِه كما يُحدِثُ الحَوادِثَ المُنْفَصِلةَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، فيُقَدِّرُ ما يَفعَلُه ثُمَّ يَفعَلُه، فتَخْصيصُها بصِفةٍ دونَ صِفةٍ، وقَدْرٍ دونَ قَدْرٍ هو للأُمورِ المُقْتَضِيةِ لِذلك في نَفْسِه، فلا يُريدُ إلَّا ما تَقْتَضي نَفْسُه إرادتَه، بمَعْنى يَقْتَضي ذلك، ولا يُرَجِّحُ مُرادًا على مُرادٍ إلَّا لِذلك، ولا يَجوزُ أن يُرَجِّحَ شَيئًا لمُجَرَّدِ كَوْنِه قادِرًا، فإنَّه كانَ قادِرًا قَبْلَ إرادتِه، وهو قادرٌ على غَيْرِه، فتَخْصيصُ هذا بالإرادةِ لا يَكونُ بالقُدْرةِ المُشْترَكةِ بَيْنَه وبَيْنَ غَيْرِه، ولا يَجوزُ أيضًا أن تكونَ الإرادةُ تُخَصِّصُ مِثْلًا على مِثْلٍ بلا مُخَصِّصٍ، بلْ إنَّما يُريدُ المُريدُ أحَدَ الشَّيْئَينِ دونَ الآخَرِ لمَعنًى في المُريدِ والمُرادِ، لا بُدَّ أن يكونَ المُريدُ إلى ذلك أَميَلَ، وأن يكونَ في المُرادِ ما أَوجَبَ رُجْحانَ ذلك المَيْلِ، والقُرْآنُ والسُّنَّةُ تُثبِتُ القَدَرَ وتَقْديرَ الأمورِ قَبْلَ أن يَخلُقَها، وأنَّ ذلك في كِتابٍ، وهذا أصْلٌ عَظيمٌ يُثبِتُ العِلمَ والإرادةَ لكلِّ ما سيَكونُ، ويُزيلُ إشْكالاتٍ كَثيرةً ضَلَّ بسَبَبِها طَوائِفُ في هذا المَكانِ في مَسائِلِ العِلمِ والإرادةِ، فالإيمانُ بالقَدَرِ مِن أُصولِ الإيمانِ كما ذَكَرَه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ جِبْريلَ، قالَ: ((الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ، ومَلائِكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، وبالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه)) [561] أخرجه مُسلِم (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظِ: فأخبِرْني عن الإيمانِ، قال: ((أن تُؤمِنَ باللهِ، وملائِكَتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه)). ، وقدْ تَبَرَّأَ ابنُ عُمَرَ وغَيْرُه مِن الصَّحابةِ مِن المُكَذِّبينَ بالقَدَرِ [562] عن يحيى بنِ يَعْمَرَ قال: كان أوَّلَ مَن قال في القَدَرِ بالبَصْرةِ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، فانطلَقْتُ أنا وحُمَيدُ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ الحِمْيَريُّ حاجَّينِ أو مُعتَمِرَينِ، فقُلْنا: لو لَقِينا أحَدًا من أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأَلْناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القَدَرِ، فوُفِّقَ لنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ داخِلًا المسجِدَ، فاكتنَفْتُه أنا وصاحِبي أحَدُنا عن يمينِه، والآخَرُ عن شِمالِه، فقُلْتُ: أبا عَبدِ الرَّحمنِ إنَّه قد ظَهَر قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤون القُرْآنَ، ويتقفَّرونَ العِلمَ، وأنَّهم يَزْعُمون أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ! قال: (فإذا لَقِيتَ أولئك فأخبِرْهم أنِّي بَريءٌ منهم، وأنَّهم برآءُ مِنِّي، والَّذي يَحلِفُ به عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لو أنَّ لأحَدِهم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فأنفَقَه، ما قَبِلَ اللهُ منه حتى يؤمِنَ بالقَدَرِ). أخرجه مُسلِم (8). ، ومعَ هذا فطائِفةٌ مِن أهْلِ الكَلامِ وغَيْرِهم لا تُثبِتُ القَدَرَ إلَّا عِلمًا أزَلِيًّا، وإرادةً أزَلِيَّةً فقط!) [563] ((مجموع الفَتاوى)) (16/ 300 - 306) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ أيضًا: (الإرادةُ ذَكَروا لها ثَلاثةَ لَوازِمَ تُناقِضُ الإرادةَ، قالوا: إنَّها تكونُ ولا مُرادَ لها، بلْ لم يَزَلْ كذلك ثُمَّ حَدَثَ مُرادُها مِن غَيْرِ تَحَوُّلِ حالِها، وهذا مَعْلومُ الفَسادِ ببَديهةِ العَقْلِ؛ فإنَّ الفاعِلَ إذا أرادَ أن يَفعَلَ فالمُتَقدِّمُ كانَ عَزْمًا على الفِعلِ، وقَصْدًا له في الزَّمَنِ المُسْتَقبَلِ، لم يكنْ إرادةً للفِعْلِ في الحالِ، بلْ إذا فَعَلَ فلا بُدَّ مِن إرادةِ الفِعلِ في الحالِ، ولِهذا يُقالُ: الماضي عَزْمٌ، والمُقارِنُ قَصْدٌ، فوُجودُ الفِعْلِ بمُجَرَّدِ عَزْمٍ مِن غَيْرِ أن يَتَجَدَّدَ قَصْدٌ مِن الفاعِلِ مُمْتنِعٌ، فكانَ حُصولُ المَخْلوقاتِ بِهذه الإرادةِ مُمْتَنِعًا لو قُدِّرَ إمْكانُ حُدوثِ الحَوادِثِ بِلا سَبَبٍ، فكيف وذاك أيضًا مُمْتنِعٌ في نَفْسِه؟! فصارَ الامْتِناعُ مِن جِهةِ الإرادةِ، ومِن جِهةٍ تَعَيَّنَتْ بما هو مُمْتنِعٌ في نَفْسِه. الثَّاني: قَوْلُهم: إنَّ الإرادةَ تُرَجِّحُ مِثلًا على مِثلٍ، فهذا مكابَرةٌ، بلْ لا تكونُ الإرادةُ إلَّا لِما تَرَجَّحَ وُجودُه على عَدَمِه عنْدَ الفاعِلِ؛ إمَّا لعِلمِه بأنَّه أَفضَلُ، أو لكَوْنِ مَحَبَّتِه له أَقْوى، وهو إنَّما يَتَرَجَّحُ في العِلمِ لكَوْنِ عاقِبتِه أَفضَلَ، فلا يَفعَلُ أحَدٌ شَيئًا بإرادتِه إلَّا لكَوْنِه يُحِبُّ المُرادَ أو يُحِبُّ ما يَؤولُ إليه المُرادُ، بحيثُ يكونُ وُجودُ ذلك المُرادِ أَحَبَّ إليه مِن عَدَمِه، لا يكونُ وُجودُه وعَدَمُه عنْدَه سَواءً. الثَّالِثُ: أنَّ الإرادةَ الجازِمةَ يَتَخَلَّفُ عنها مُرادُها معَ القُدْرةِ، فهذا أيضًا باطِلٌ، بلْ متى حَصَلَتِ القُدْرةُ التَّامَّةُ والإرادةُ الجازِمةُ وَجَبَ وُجودُ المَقْدورِ، وحيثُ لا يَجِبُ فإنَّما هو لنَقْصِ القُدْرةِ أو لعَدَمِ الإرادةِ التَّامَّةِ، والرَّبُّ تَعالى ما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وهو يُخبِرُ في غَيْرِ مَوضِعٍ أنَّه لو شاءَ لفَعَلَ أمورًا لم يَفعَلْها، كما قالَ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود: 118] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة: 253] ، فبَيَّنَ أنَّه لو شاءَ ذلك لكانَ قادِرًا عليه، لكنَّه لا يَفعَلُه؛ لأنَّه لم يَشَأْه؛ إذ كانَ عَدَمُ مَشيئتِه أَرجَحَ في الحِكْمةِ معَ كَوْنِه قادِرًا عليه لو شاءَه. ومِن هؤلاء مَن يَقولُ: إنَّما يَقدِرُ على الأُمورِ المُبايِنةِ له دونَ الأفْعالِ القائِمةِ بنَفْسِه، كما يَقولُ ذلك المُعْتَزِلةُ، والجَهْميَّةُ، ومَن وافَقَهم مِن الأشْعَريَّةِ، وغَيْرُهم. ومِنهم مَن يَقولُ: بلْ يَقدِرُ على ما يَقومُ به مِن الأفْعالِ، وعلى ما هو بايِنٌ عنه كما يُحْكى عن الكَرَّاميَّةِ، والصَّوابُ الَّذي دَلَّ عليه القُرْآنُ والعَقْلُ أنَّه يَقدِرُ على هذا وهذا، قالَ تَعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 4] ، وقالَ: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 18] ، وهذا كَثيرٌ في القُرْآنِ أَكثَرَ مِن النَّوْعِ الآخَرِ، فإنَّ ما قالَه الكَرَّاميَّةُ والهشاميَّةُ أَقرَبُ إلى العَقْلِ والنَّقْلِ ممَّا قالَتِ الجَهْميَّةُ ومَن وافَقَهم، وإن كانَ فيما حَكَوه عنهم خَطَأٌ مِن جِهةِ نَفْيِهم القُدْرةَ على الأُمورِ المُبايِنةِ، واللهُ تَعالى قد أَخبَرَ أنَّه على كلِّ شيءٍ قَديرٌ) [564] ((مجموع الفَتاوى)) (16/ 458 - 460) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (ابنُ رُشْدٍ الحَفيدُ قالَ في إلْزامِه للمُتَكلِّمينَ: وأيضًا فإنَّ الإرادةَ الَّتي تَتَقدَّمُ المُرادَ وتَتَعلَّقُ به بوَقْتٍ مَخْصوصٍ لا بُدَّ أن يَحدُثَ فيها في وَقْتِ إيجادِ المُرادِ عَزْمٌ على الإيجادِ لم يكنْ قَبْلَ ذلك الوَقْتِ؛ لأنَّه إن لم يكنْ في المُريدِ في وَقْتِ الفِعلِ حالةٌ زائِدةٌ على ما كانَتْ عليه في الوَقْتِ الَّذي اقْتَضَتِ الإرادةُ عَدَمَ الفِعلِ لم يكنْ وُجودُ ذلك الفِعلِ في ذلك الوَقْتِ أَوْلى مِن عَدَمِه فيما تَقدَّمَ، فيُقالُ لهم حينَئذٍ: يَجِبُ أن يَتَجدَّدَ له عَزْمٌ في وَقْتِ حُدوثِ هذه الحَوادِثِ وحُكْمِها، وحينَئذٍ فالقَوْلُ في حُدوثِ ذلك العَزْمِ كالقَوْلِ فيما طَلَبْتُموه مِن السَّبَبِ الحادِثِ للعالَمِ، وأيضًا فقدْ قُلْتُم: إذا كانَتِ الإرادةُ قَديمةً لَزِمَ قِدَمُ المُرادِ، فلو كانَتْ له إرادةٌ قَديمةٌ لَزِمَ قِدَمُ الحَوادِثِ، وفي الجُمْلةِ فأنتم بَيْنَ أمْرَينِ؛ إمَّا أن تُنْكِروا القَصْدَ والإرادةَ، وقدْ تَبَيَّنَ أنَّ ذلك كإنْكارِ المَوْجودِ الواجِبِ نَقْلًا عنكم، وإلْزامًا لكم، وإمَّا أن تُقِرُّوا بالقَصْدِ والإرادةِ فيَبطُلَ جَميعُ ما بَنَيْتُموه على إنْكارِ ذلك، وجَميعُ ما يُخالِفونَ به أهْلَ المِلَلِ إنَّما هو مَبْنِيٌّ على إنْكارِ ذلك، وإلَّا فمتى وَقَعَ الاعْتِرافُ بأنَّ الصَّانِعَ العالِمَ فاعِلٌ مُخْتارٌ انْهارَتْ هذه الفَلْسَفةُ كما يَنْهارُ ما أُسِّسَ على شَفا جُرُفٍ هارٍ، فلا رَيْبَ أنَّ هذه الآيةَ إشارةٌ واعْتِبارٌ لمِثلِ حالِهم، فإنَّهم بَنَوا مَذاهِبَ تَتَّخِذُها القُلوبُ عَقائِدَ ومَقاصِدَ مُقابِلةً لِما جاءَ به المُرْسَلونَ...، وممَّا يُوَضِّحُ ذلك أنَّ القاضيَ أبا الوَليدِ الفَيْلَسوفَ ابنَ رُشْدٍ قالَ في كِتابِ مَناهِجِ الأدِلَّةِ في الرَّدِّ على الأُصوليَّةِ: وأمَّا صِفةُ الإرادةِ فظاهِرٌ اتِّصافُه بِها؛ إذْ كانَ مِن شُروطِ صُدورِ الشَّيءِ عن الفاعِلِ العالِمِ أن يكونَ مُريدًا له، وكذلك مِن شَرْطِه أن يكونَ قادِرًا، فأمَّا أن يُقالَ: إنَّه مُريدٌ للأُمورِ المُحدَثةِ بإرادةٍ قَديمةٍ فبِدْعةٌ، وشيءٌ لا يَعلَمُه العُلَماءُ، ولا يُقنِعُ الجُمْهورَ، أعْني الَّذين بَلَغوا رُتْبةَ الجَدَلِ، بلْ يَنْبَغي أن يُقالَ: إنَّه مُريدٌ لكَوْنِ الشَّيءِ في وَقْتِ كَوْنِه، وغَيْرُ مُريدٍ لكَوْنِه في غَيْرِ وَقْتِ كَوْنِه، كما قالَ تَعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ، فإنَّه ليس عنْدَ الجُمْهورِ كما قُلْنا شيءٌ يَضْطَرُّهم إلى أن يَقولوا: هو مُريدٌ للمُحدَثاتِ بإرادةٍ قَديمةٍ، إلَّا ما تَوَهَّمَه المُتَكلِّمونَ مِن أنَّ الَّذي تَقومُ به الحَوادِثُ حادِثٌ. قُلْتُ: وهذا الكَلامُ كالصَّريحِ في تَجْويزِ قِيامِ الحَوادِثِ بالرَّبِّ، وبالجُمْلةِ فهو لازِمٌ لهم) [565] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (2/ 25 - 28). .
وقالَ ابنُ القَيِّمِ: (قالَ كَثيرٌ مِن الأشْعَريَّةِ، بلْ جُمْهورُهم ومَن اتَّبَعَهم: إنَّ الرِّضا والمَحَبَّةَ والإرادةَ في حَقِّ الرَّبِّ تَعالى بمَعنًى واحِدٍ، وإنَّ كلَّ ما شاءَه وأرادَه فقدْ أَحَبَّه ورَضِيَه، ثُمَّ أَوْرَدوا على أنْفُسِهم هذا السُّؤالَ، وأجابوا بأنَّه لا يَمْتنِعُ أن يُقالَ: إنَّه يَرْضى بِها أي: المَعاصي، ولكن لا على وَجْهِ التَّخْصيصِ، بلْ يُقالُ: يَرْضى بكلِّ ما خَلَقَه وقَضاه وقَدَّرَه، ولا نُفرِدُ مِن ذلك الأُمورَ المَذْمومةَ، كما يُقالُ: هو رَبُّ كلِّ شيءٍ، ولا يُقالُ: رَبُّ كَذا وكَذا لِلأشْياءِ الحَقيرةِ الخَسيسةِ، وهذا تَصْريحٌ مِنهم بأنَّه راضٍ بها في نَفْسِ الأمْرِ، وإنَّما امْتَنَعَ الإطْلاقُ أدَبًا واحْتِرامًا فقط، فلمَّا أُورِدَ عليهم قَوْلُه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] أجابوا عنه بجَوابَينِ؛ أحَدُهما: مِمَّن لم يَقَعْ مِنه، وأمَّا مَن وَقَعَ مِنه فهو يَرْضاه؛ إذ هو بمَشيئتِه وإرادتِه، والثَّاني: لا يَرْضاه لهم دينًا، أي: لا يَشْرَعُه لهم، ولا يَأمُرُهم به، ويَرْضاه مِنهم كَوْنًا، وعلى قَوْلِهم فيَكونُ مَعْنى الآيةِ: ولا يَرْضى لعِبادِه الكُفْرَ حيثُ لم يوجَدْ مِنهم، فلو وُجِدَ مِنهم أَحَبَّه ورَضِيَه! وهذا في البُطْلانِ والفَسادِ كما تَراه، وقدْ أَخبَرَ سُبْحانَه أنَّه لا يَرْضى ما وُجِدَ مِن ذلك، وإن وَقَعَ بمَشيئتِه كما قالَ تَعالى: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108] ، فهذا قَوْلٌ واقِعٌ بمَشيئتِه وتَقْديرِه، وقدْ أَخبَرَ سُبْحانَه أنَّه لا يَرْضاه، وكذلك قَوْلُه سُبْحانَه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205] ، فهو سُبْحانَه لا يُحِبُّه كَوْنًا ولا دينًا، وإن وَقَعَ بتَقْديرِه، كما لا يُحِبُّ إبْليسَ وجُنودَه وفِرْعونَ وحِزْبَه، وهو رَبُّهم وخالِقُهم، فمَن جَعَلَ المَحَبَّةَ والرِّضا بمَعْنى الإرادةِ والمَشيئةِ لَزِمَه أن يكونَ اللهُ سُبْحانَه مُحِبًّا لإبْليسَ وجُنودِه، وفِرْعونَ وهامانَ وقارونَ، وجَميعِ الكُفَّارِ وكُفْرِهم، والظَّلَمةِ وفِعْلِهم! وهذا كما أنَّه خِلافُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ المَعْلومِ بالضَّرورةِ فهو خِلافُ ما عليه فِطَرُ العالَمينَ الَّتي لم تُغَيَّرْ بالتَّواطُؤِ والتَّواصي بالأقْوالِ الباطِلةِ) [566] ((شفاء العليل في مَسائِل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 279). .

انظر أيضا: