موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: صِفةُ العِلمِ


الأشاعِرةُ المُتَقَدِّمونَ يُثبِتونَ للهِ سُبْحانَه صِفةَ العِلمِ، وأَنْكَروا على المُعْتَزِلةِ قَوْلَهم: إنَّ اللهَ عالِمٌ بلا عِلمٍ.
قالَ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ: (البابُ السَّابِعُ: الرَّدُّ على الجَهْميَّةِ في نَفْيِهم عِلمَ اللهِ تَعالى وقُدْرتَه وجَميعَ صِفاتِه؛ قالَ اللهُ تَعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وقالَ تَعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] ،... وزَعَمَتِ الجَهْميَّةُ أنَّ اللهَ تَعالى لا عِلمَ له...، وقالَتِ المُعْتَزِلةُ: إنَّ اللهَ عالِمٌ، قادِرٌ، حَيٌّ، سَميعٌ، بَصيرٌ مِن طَريقِ التَّسْميةِ، مِن غَيْرِ أن يُثبِتوا له حَقيقةَ العِلمِ، والقُدْرةِ، والسَّمْعِ، والبَصَرِ...، وقدْ قالَ رَئيسٌ مِن رُؤَسائِهم -وهو أبو الهُذَيلِ العَلَّافُ- إنَّ عِلمَ اللهِ هو اللهُ، فجَعَلَ اللهَ تَعالى عِلمًا! وأُلْزِمَ، فقيلَ له: إذا قُلْتَ: إنَّ عِلمَ اللهِ هو اللهُ، فقُلْ: يا عِلمَ اللهِ اغْفِرْ لي وارْحَمْني، فأبى ذلك، فلَزِمَه المُناقَضةُ...، مَن قالَ: إنَّ اللهَ تَعالى عالِمٌ ولا عِلمَ له، كانَ ذلك مُناقِضًا خارِجًا عن جُملةِ المُسلِمينَ، وقدْ أَجمَعَ المُسلِمونَ قَبْلَ حُدوثِ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ والحَروريَّةِ على أنَّ للهِ عِلمًا لم يَزَلْ، وقدْ قالوا: عِلمُ اللهِ لم يَزَلْ، وعِلمُ اللهِ سابِقٌ في الأشْياءِ، ولا يَمْتَنِعونَ أن يَقولوا في كلِّ حادِثةٍ تَحدُثُ ونازِلةٍ تَنزِلُ: كلُّ هذا سابِقٌ في عِلمِ اللهِ، فمَن جَحَدَ أنَّ للهِ عِلمًا فقدْ خالَفَ المُسلِمينَ وخَرَجَ عن اتِّفاقِهم) [461] ((الإبانة عن أصول الدِّيانة)) (ص: 141، 143- 145). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ: (عِلمُ اللهِ سُبْحانَه، وهو صِفتُه لذاتِه، وليس بعِلمِ ضَرورةٍ ولا اسْتِدْلالٍ...، فأَثبَتَ العِلمَ لنَفْسِه، ونَصَّ على أنَّه صِفةٌ له في نَصِّ كِتابِه) [462] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 14). .
وقالَ أيضًا: (يَدُلُّ على إثْباتِ عِلمِ اللهِ مِن نَصِّ كِتابِه قَوْلُه: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وقَوْلُه: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] ، فأثبت لنفسه العِلم) [463] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 233) باختِصارٍ يسيرٍ. .
ونَجِدُ بعضَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ يَذكُرونَ في صِفةِ العِلمِ كَلامًا مُتَكَّلَفًا لم يُؤثَرْ عن السَّلَفِ الصَّالِحِ، ومِنه كَلامٌ صَحيحٌ يَليقُ بعَظَمةِ اللهِ سُبْحانَه، وكَلامًا مُجْمَلًا يَحْتاجُ إلى اسْتِفْصالٍ وتَفْصيلٍ، وكَلامًا غَيْرَ مَفْهومٍ نَتَوَقَّفُ في إثْباتِه أو نَفْيِه، ووَصَلَ بِهم الأمْرُ إلى ذِكْرِ مَذاهِبِ الفَلاسِفةِ والمُتَكلِّمينَ في صِفةِ العِلمِ، معَ تَطْويلِهم بذِكْرِ شُبُهاتِهم وإبْطالِها بالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ [464] يُنظر مَثَلًا: ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) للرازي (3/ 101 - 171)، فقد أطال الرَّازيُّ الكَلامَ في ذِكْرِ صِفةِ العِلمِ، والأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ على إثْباتِها، وذِكْرِ مَذاهِبِ المتكَلِّمينَ والفلاسِفةِ فيها، وذِكْرِ شُبُهاتِهم وإبطالِها. .
أقْوالُ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ في صِفةِ العِلمِ:
1- قالَ الغَزاليُّ: (إذا عَلِمْنا أنَّ ذاتًا عالِمةٌ فقدْ عَلِمْنا شَيئًا مُبْهَمًا لا نَدْري حَقيقتَه، لكن نَدْري أنَّ له صِفةَ العِلمِ، فإن كانَتْ صِفةُ العِلمِ مَعْلومةً لنا حَقيقةً كانَ عِلْمُنا بأنَّه عالِمٌ عِلمًا تامًّا بحَقيقةِ هذه الصِّفةِ، وإلَّا فلا، ولا يَعرِفُ أحَدٌ حَقيقةَ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلَّا مَن له مِثلُ عِلمِه، وليس ذلك إلَّا له، فلا يَعرِفُه أحَدٌ سِواه، وإنَّما يَعرِفُه غَيْرُه بالتَّشْبيهِ بعِلمِ نَفْسِه، وعِلمُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لا يُشبِهُ عِلمَ الخَلْقِ البَتَّةَ، فلا يكونُ مَعْرِفةُ الخَلْقِ به مَعْرِفةً تامَّةً حَقيقيَّةً بل إيهامِيَّةً تَشْبيهيَّةً) [465] ((المقصد الأسنى)) (ص: 56) باختِصارٍ يسيرٍ. .
وقالَ الغَزاليُّ أيضًا: (العَليمُ مَعْناه ظاهِرٌ، وكَمالُه أن يُحيطَ بكلِّ شيءٍ عِلمًا؛ ظاهِرِه وباطِنِه، دَقيقِه وجَليلِه، أوَّلِه وآخِرِه، عاقِبتِه وفاتِحتِه، وهذا مِن حيثُ كَثْرةُ المَعْلوماتِ، وهي لا نِهايةَ لها، ثُمَّ يكونُ العِلمُ في ذاتِه مِن حيثُ الوُضوحُ والكَشْفُ على أتَمِّ ما يُمكِنُ فيه، بحيثُ لا يُتَصَوَّرُ مُشاهَدةٌ وكَشْفٌ أَظهَرُ مِنه، ثُمَّ لا يكونُ مُسْتَفادًا مِن المَعْلوماتِ بلْ تكونُ المَعْلوماتُ مُسْتَفادةً مِنه.
تَنْبيهٌ: للعَبْدِ حَظٌّ مِن وَصْفِ العَليمِ لا يَكادُ يَخْفى، ولكن يُفارِقُ عِلمُه عِلمَ اللهِ تَعالى في الخَواصِّ الثَّلاثِ؛ إحْداها: المَعْلوماتُ في كَثْرتِها، فإنَّ مَعْلوماتِ العَبْدِ وإن اتَّسَعَتْ فهي مَحْصورةٌ في قَلْبِه، فأنَّى يُناسِبُ ما لا نِهايةَ له؟! والثَّانيةُ: أنَّ كَشْفَه وإن اتَّضَحَ فلا يَبلُغُ الغايةَ الَّتي لا يُمكِنُ وَراءَها، بلْ تكونُ مَشاهَدتُه للأشْياءِ كأنَّه يَراها مِن وَراءِ سِتْرٍ رَقيقٍ، ولا تُنْكِرَنَّ دَرَجاتِ الكَشْفِ؛ فإنَّ البَصيرةَ الباطِنةَ كالبَصَرِ الظَّاهِرِ، وفَرْقٌ بَيْنَ ما يَتَّضِحُ في وَقْتِ الإسْفارِ، وبَيْنَ ما يَتَّضِحُ ضَحْوةَ النَّهارِ، والثَّالِثةُ: أنَّ عِلمَ اللهِ سُبْحانَه وتَعالى بالأشْياءِ غَيْرُ مُسْتَفادٍ مِن الأشْياءِ، بلِ الأشْياءُ مُسْتَفادةٌ مِنه، وعِلمُ العَبْدِ بالأشْياءِ تابِعٌ للأشْياءِ وحاصِلٌ بها) [466] ((المقصد الأسنى)) (ص: 86). .
2- قالَ الآمِدِيُّ: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ الباريَ تَعالى عالِمٌ بعِلمٍ واحِدٍ قائِمٍ بذاتِه، قَديمٍ أزَلِيٍّ، مُتَعلِّقٍ بجَميعِ المُتَعلِّقاتِ، غَيْرِ مُتَناهٍ بالنَّظَرِ إلى ذاتِه، ولا بالنَّظَرِ إلى مُتَعلِّقاتِه، وأمَّا الفَلاسِفةُ فمُخْتلِفونَ؛ فمِنهم مَن نَفى كَوْنَه عالِمًا مُطلَقًا، لا بذاتِه ولا بغَيْرِه. ومِنهم مَن أَثبَتَ كَوْنَه عالِمًا بذاتِه دونَ غَيْرِه. ومِنهم مَن أَثبَتَ كَوْنَه عالِمًا بذاتِه وبغَيْرِه، إن كانَ مَعنًى كُلِّيًّا، ولم يُجوِّزْ كَوْنَه عالِمًا بالجُزْئِيَّاتِ مِن حيثُ هي جُزْئِيَّاتٌ، بلْ على نَحْوٍ كُلِّيٍّ، وهذا هو الَّذي يَنصُرُه أبو علِيِّ بنُ سينا. وأمَّا المُتَكلِّمونَ فمِنهم مَن قالَ: لا يوصَفُ الباري تَعالى بما يوصَفُ به خَلْقُه؛ فلا يوصَفُ بكَوْنِه عالِمًا، ولا حَيًّا؛ ولكن يوصَفُ بكَوْنِه قادِرًا، خالِقًا؛ لأنَّه لا يوصَفُ شيءٌ مِن مَخْلوقاتِه بذلك على الحَقيقةِ، وأَثبَتَ للهِ عُلومًا حادِثةً لا في مَحَلٍّ، وهذا هو مَذهَبُ جَهْمِ بنِ صَفْوانَ. ومِنهم مَن قالَ: هو عالِمٌ بمَعْنى أنَّه ليس بجاهِلٍ، وهو مَذهَبُ ضِرارِ بنِ عَمْرٍو. وذَهَبَ الجُبَّائيُّ وابنُه أبو هاشِمٍ: إلى أنَّه عالِمٌ لذاتِه؛ لكن اخْتَلَفا، فقالَ الجُبَّائيُّ: هو عالِمٌ لذاتِه، أي لا يَقْتَضي كَوْنُه عالِمًا صِفةً زائِدةً مِن عِلمٍ، أو حالٍ. وقالَ أبو هاشِمٍ: هو عالِمٌ لذاتِه، بمَعْنى أنَّه ذو حالةٍ زائِدةٍ لا توصَفُ بالوُجودِ، ولا بالعَدَمِ، ولا بكَوْنِها مَعْلومةً، ولا مَجْهولةً، وذَهَبَ أبو الهُذَيلِ العَلَّافُ إلى أنَّ البارِيَ تَعالى عالِمٌ بعِلمٍ؛ هو ذاتُه. وذَهَبَ أبو الحُسَيْنِ البَصْريُّ، وهِشامُ بنُ الحَكَمِ إلى أنَّ اتِّصافَه بكَوْنِه عالِمًا بالجُزْئِيَّاتِ مُتَجَدِّدٌ، وبالكُلِّيَّاتِ أزَلِيٌّ. وذَهَبَ آخَرونَ إلى أنَّه لا يَعلَمُ ما لا نِهايةَ له مِن المَعْلوماتِ؛ بلْ إنَّما يَعلَمُ ما كانَ مُتَناهِيًا) [467] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 322 - 324). .
3- قالَ الإيجيُّ: (المُخالِفُ في هذا الأصْلِ فِرَقٌ، الأُولى: مَن قالَ: إنَّه لا يَعلَمُ نَفْسَه؛ لأنَّ العِلمَ نِسْبةٌ، والنِّسْبةُ لا تكونُ إلَّا بَيْنَ شَيئَينِ، ونِسْبةُ الشَّيءِ إلى نَفْسِه مُحالٌ، والجَوابُ مَنْعُ كَوْنِ العِلمِ نِسْبةً، بلْ هو صِفةٌ ذاتُ نِسْبةٍ، ونِسْبةُ الصِّفةِ إلى الذَّاتِ مُمْكِنةٌ، سَلَّمْناه لكن لا نُسَلِّمُ أنَّ الشَّيءَ لا يُنسَبُ إلى ذاتِه نِسْبةً عِلميَّةً، وكيف لا وأحَدُنا يَعلَمُ نَفْسَه؟! لا يُقالُ: ذلك لتَرْكيبٍ في أنْفُسِنا بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ، وكَلامُنا في الواحِدِ الحَقيقيِّ؛ لأنَّا نَقولُ: أحَدُنا لو كانَ له نِسْبةٌ إلى كلِّ جُزْءٍ مِنه فقدْ حَصَلَ المَطْلوبُ، وإلَّا فلا يَعلَمُ إلَّا أحَدَ جُزْأَيه، فيكونُ العالِمُ غَيْرَ المَعلومِ، فلا يَعلَمُ نَفْسَه. الثَّانيةُ: مَن قالَ: إنَّه لا يَعلَمُ شَيئًا أصْلًا، وإلَّا عَلِمَ نَفْسَه؛ إذ يَعلَمُ على تَقْديرِ كَوْنِه عالِمًا بشيءٍ أنَّه يَعلَمُه، وذلك يَتَضَمَّنُ عِلمَه بنَفْسِه، وقدْ بَيَّنَّا امْتِناعَه، لا يُقالُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ مَن عَلِمَ شَيئًا عَلِمَ أنَّه عالِمٌ به، وإلَّا لَزِمَ مِن العِلمِ بشيءٍ واحِدٍ العِلمُ بأمورٍ غَيْرِ مُتَناهِيةٍ؛ لأنَّا نَقولُ: المُدَّعي لُزومَ إمْكانِ عِلمِه به، فإنَّ مَن عَلِمَ شَيئًا أَمكَنَه أن يَعلَمَ أنَّه عالِمٌ به بالضَّرورةِ، وإلَّا جازَ أن يكونَ أحَدُنا عالِمًا بالمَجَسْطِيِّ والمَخْروطاتِ، ولكن لا يُمكِنُه أن يَعلَمَ أنَّه عالِمٌ به، وإن الْتَفَتَ إلى ذلك وبالَغَ في الاجْتِهادِ وذلك سَفْسَطةٌ، والجَوابُ أنَّه إن امْتَنَعَ مِنه تَعالى عِلمُه بنَفْسِه مَنَعْنا المُلازَمةَ، وقُلْنا: الضَّرورةُ فيمَن يُمكِنُه العِلمُ بنَفْسِه، وإن أَمكَنَ له مَنَعْنا بُطْلانَ التَّالي) [468] ((المواقف)) (3/ 96). .
4- قالَ الجُرْجانيُّ: (صِفةُ العِلمِ قَديمةٌ وواحِدةٌ وغَيْرُ مُتَناهيةٍ ذاتًا بمَعْنى سَلْبِ التَّناهي، وغَيْرُ مُتَناهيةٍ تَعلُّقًا بمَعْنى إثْباتِ اللَّاتناهي في تَعلُّقِها بالفِعلِ، والإرادةُ أيضًا كذلك، لكنْ تَعلُّقُها غَيْرُ مُتَناهٍ بالقُوَّةِ كما في القُدْرةِ، وعلى هذا فقِسْ) [469] ((شرح المواقف)) (3/ 87). .
5- قالَ أبو العِزِّ مُظَفَّرُ بنُ عَبْدِ اللهِ المُقْتَرِحُ: (آحادَ المُمْكِناتِ لا تَتَناهى، وآحادُ المَعْلوماتِ لا تَتَناهى، والمَعْلوماتُ أنْواعٌ لا تَعلُّقَ لنَوْعٍ مِنها بالباقي، كلُّ واحِدٍ مِن هذه الأنْواعِ لا تَتَناهى آحادُه، فيُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ حتَّى يُقالَ: زادَتْ، فكما أنَّ المُسْتَحيلَ مَعْلومٌ معَ أنَّه لا يَنْحَصِرُ فإذا أُضيفَ إليه واحِدٌ مِن المُمْكِنِ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَزْدادُ، كذلك لا تَحصُلُ كَثْرةٌ بالضَّمِّ، فتَأمَّلوا ذلك تَرشُدوا. فإن قيلَ: ما لا يَتَناهى تَقْديرٌ خَياليٌّ، والَّذي يَتَقَرَّرُ في العَقْلِ عَدَمُ الوُقوفِ على قَدْرٍ مَخْصوصٍ في التَّجْويزِ، معَ أنَّ ما يَدخُلُ في التَّقْديرِ مُتَناهٍ، ولا يُقدِّرُ العَقْلُ إلَّا ما يَتَناهى، وتَعلُّقُ العِلمِ بما لا يَتَناهى على التَّفْصيلِ مُتَناقِضٌ؛ فوَجَبَ القَوْلُ بالصَّلاحيَّةِ. قيلَ: إذا لم يَقِفِ العَقْلُ في التَّجْويزِ على عَدَدٍ، فيَلزَمُ تَحَقُّقُ عِلمِنا بتَجْويزِ العِلمِ بما لا يَتَناهى، وليس ذلك إشارةً إلى عَدَمِ الوُقوفِ، فإنَّ ما ثَبَتَ صِحَّتُه وامْتَنَعَ علينا فتَجِبُ صِحَتُّه له، والصِّحَّةُ في حَقِّه تَعالى بمَعْنى الوُجوبِ لا بمَعْنى الجَوازِ، وإذا سُلِّمَ عَدَمُ الوُقوفِ، فيَلزَمُ صِحَّةُ العِلمِ بعَدَدٍ لا يَقِفُ، وهو مَعْنى عَدَمِ النِّهايةِ. والقَوْلُ بأنَّ التَّفْصيلَ يُناقِضُ عَدَمَ النِّهايةِ تَحَكُّمٌ لا يُسمَعُ، وقدْ قامَ الدَّليلُ على عَكْسِه بما قَرَّرْناه مِن أنَّ صِحَّةَ الاتِّصافِ بالعِلمِ بما لا يَتَناهى ممَّا يوجِبُ وَصْفَ الباري به تَحَقُّقًا ووُجوبًا) [470] ((الأسرار العَقْلِيَّة في الكلمات النبوية)) (1/ 104). .
وهذه المَسْألةُ ذَكَرَها أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ في كِتابِه البُرْهانِ [471] ونَصُّ كَلامِه: (تردَّدَ المتكَلِّمونَ في انحصارِ الأجناسِ كالألوانِ، فقَطَع قاطِعون بأنَّها غيرُ متناهيةٍ في الإمكانِ كآحادِ كُلِّ جِنسٍ، وزعم آخَرون أنَّها مُنحَصِرةٌ، وقال المقتَصِدون: لا ندري أنهَّا مُنحَصِرةٌ أم لا، ولم يُثْبتوا مَذهَبَهم على بصيرةٍ وتحقيقٍ، والَّذي أراه قَطعًا أنَّها منَحِصرةٌ؛ فإنَّها لو كانت غيرَ مُنحَصِرةٍ لتعلَّقَ العِلمُ منها بأجناسٍ لا تتناهى على التفصيلِ، وذلك مستحيلٌ، فإنِ استنكر الجَهَلةُ ذلك، وشَمَخوا بآنافِهم وقالوا: الباري سُبحانَه عالمٌ بما لا يتناهى على التفصيلِ، سَفَّهْنا عقَوْلهم، وأحَلْنا تقريرَ هذا الفَنِّ على أحكامِ الصِّفاتِ في الكَلامِ، وبالجُمْلةِ عِلْمُ اللهِ تعالى إذا تعَلَّقَ بجواهِرَ لا تتناهى فمعنى تعَلُّقِه بها استرسالُه عليها مِن غَيرِ فَرْضِ تفصيلِ الآحادِ مع نَفْيِ النِّهايةِ، فإنَّ ما يُحيلُ دُخولَ ما لا يتناهى في الوُجودِ يُحيلُ وُقوعَ تقديراتٍ غَيرِ مُتناهيةٍ في العِلمِ، والأجناسُ المُختَلِفةُ الَّتي فيها الكَلامُ يَستحيلُ استِرْسالُ العِلمِ عليها؛ فإنَّها متبايِنةٌ بالخواصِّ، وتعَلُّقُ العِلمِ بها على التَّفْصيلِ مع نَفْيِ النهايةِ مُحالٌ، وإذا لاحت الحقائِقُ فلْيَقُلِ الأخرَقُ بَعْدَها ما شاء) ((البرهان في أصول الفقه)) (1/ 115). وقد أطال السُّبكيُّ في الرَّدِّ على من شَنَّع على الجُوَيْنيِّ في هذه المسألةِ كالمازِريِّ وغيرِه، ووَجَّه كَلامَ الجُوَيْنيِّ بغَيرِ ما فَهِمَه مَن شنَّع عليه، واللهُ أعلَمُ، وقد نقل من كَلامِ الجُوَيْنيِّ ما يدُلُّ على قَوْلِه بعِلْمِ اللهِ بالجُزئيَّاتِ كما هو قَولُ جَميعِ المُسلِمين. يُنظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 193 - 207). ، وفَهِمَ مِنها المازِريُّ أنَّه يَقولُ بأنَّ اللهَ لا يَعلَمُ الجُزْئِيَّاتِ المُتَناهيةَ! وقد تَعجَّبَ المازِريُّ مِنه، ورَدَّ عليه هذا القَوْلَ، وذَكَرَ أنَّه قالَه بسَبَبِ إدْمانِه النَّظَرَ في مَذاهِبِ الفَلاسِفةِ [472] يُنظر: ((إيضاح المحصول من برهان الأصول)) (ص: 124 - 131). وممَّا قاله المازِريُّ: (بوُدِّي لو محَوتُ هذا مِن هذا الكِتابِ بماءِ بَصَري؛ لأنَّ هذا الرَّجُلَ له سابِقةٌ قديمةٌ، وآثارٌ كَريمةٌ في عَقائِدِ الإسلامِ والذَّبِّ عنها، وتشييدِها وحُسْنِ العبارةِ عن حقائِقِها، وإظهارِ ما أخفاه العُلَماءُ مِن أسرارٍ، ولكِنَّه في آخِرِ أمْرِه ذَكَر أنَّه خاض في فُنونٍ مِن عِلمِ الفَلْسَفةِ، وذاكَرَ أحَدَ أئمَّتِها، فإن ثبت هذا القَوْلُ عليه، وقُطِعَ بإضافةِ هذا المَذهَبِ في هذه المسألةِ إليه، فإنَّما سَهَّل عليه رُكوبَ هذه المسالِكِ إدمانُه للنَّظَرِ في مَذاهِبِ أولئك. ومِنَ العظيمةِ في الدِّينِ أن يقولَ مُسلِمٌ: إنَّ اللهَ سُبحانَه يخفى عنه خافيةٌ ولو دَقَّت، حتى لا يحيطَ بها العُقولُ، ولا تتوَهَّمَها الأوهامُ، والمُسلِمون لو سَمِعوا أحَدًا يَبوحُ بخِلافِ هذا لتبَرَّؤوا منه، وأخرجوه عن جُملتِهم) ((إيضاح المحصول من برهان الأصول)) (ص: 125). .
وشَنَّعَ على الجُوَيْنيِّ أيضًا أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ، ونَقَلَ كَلامَه كامِلًا، ورَدَّ عليه وناقَشَه، ثُمَّ قالَ في آخِرِ البَحْثِ كَلامًا نَفيسًا جِدًّا تَضَمَّنَ نَصيحةً عَظيمةً ليت الأشاعِرةَ يَأخُذونَ بها.
قالَ ابنُ العَرَبيِّ: (إنَّما العَجَبُ كلُّ العَجَبِ مِن كَلِماتٍ صَدَرَتْ عن أبي المَعالي فادِحةٍ تَحومُ أو تَشِفُّ على أنَّ عِلمَ الباري لا يَتَعلَّقُ بالمَعْلوماتِ على التَّفْصيلِ...، فننتَخِلُ مِن هذا كلِّه أنَّ هذه الألْفاظَ مِن الجُمْلةِ والتَّفْصيلِ والحَصْرِ ألْفاظٌ مُوَلَّدةٌ، رَكَّبَتْ عليها المُبْتَدِعةُ عُلومَها، وخاضَ فيها عُلَماؤُنا معَهم، ولكلِّ واحِدٍ فيها اصْطِلاحٌ تَرْكيبُ مَعْناه على ما اصْطُلِحَ عليه فيها، ويَخْتلِفُ الاثْنانِ في الوَجْهِ المُصْطَلَحِ عليه، فيَتَبارَيانِ ويَتَعارَضانِ، ونحن إذا تَكَلَّمْنا على ذلك قُلْنا: دَعُونا مِن العِباراتِ المُحدَثةِ الفاسِدةِ، الباري تَعالى عالِمٌ بعِلمٍ، لا يَخْفى عليه شيءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ، يَعلَمُ ما كانَ وما يكونُ، ولا يُقَدَّرُ شيءٌ إلَّا وهو عالِمٌ به، نَعمْ، وقد كَتَبَه، فهذا عَقْدٌ صَحيحٌ مَدْلولٌ عليه. فإن قُلْتُم على التَّفْصيلِ يَعلَمُ أو على الجُمْلةِ؟ قُلْنا: لا نُدرِكُ ما تُريدونَ، فإن أرَدْتُم بقَوْلِكم: على التَّفْصيلِ، أنَّه لا يَخْفى عليه شيءٌ، فذلك صَحيحٌ، وإن أرَدْتُم بالجُمْلةِ أنَّه يَعلَمُ شَيئًا، ويَخْفى عليه آخَرُ، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الدَّليلَ قد قامَ على أنَّه لا يَخْفى عليه شيءٌ، فإنَّما نَتَكلَّمُ معَكم في عُمومِ عِلمِه وخُصوصِه، والجُمْلةُ والتَّفْصيلُ عِباراتٌ بارِدةٌ، لا نَلْتَفِتُ لكم إليها، ولا نَبْني عليها حُكْمًا، ولا نَصِفُ الباريَ بشيءٍ مِنها، لا نَفْيًا ولا إثْباتًا، وإنَّما نَصِفُه بما وَصَفَ به نَفْسَه، ودَلَّ الدَّليلُ عليه مِن سَعةِ عِلمِه، وتَقدُّسِ ذاتِه وصِفاتِه، وأنَّه لا يَخْفى عليه شيءٌ كانَ أو لم يكُنْ، تَقدَّمَ أو تَأخَّرَ، فعلى هذا عَوِّلُوا، ودَعُوا بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ، والألْفاظَ المُحدَثةَ، وخُذوا ذاتَ اليَمينِ، وهو ما كانَ عليه السَّلَفُ المُتَقَدِّمونَ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ) [473] ((العواصم من القواصم)) (ص: 98، 104). وقد ذَكَر ابنُ حَزمٍ في كِتابِه "الفَصْل" كَلامًا طويلًا في صِفةِ العِلمِ، فيه ألفاظٌ مُحْدَثةٌ، وفيه حَقٌّ وباطِلٌ، وفيه كَلامٌ مُتكَلَّفٌ لا يكادُ يُفهَمُ، وكَلامٌ مُجمَلٌ يحتاجُ إلى استِفْصالٍ وتفصيلٍ، وفيه رُدودٌ على الجَهْميَّةِ والأشاعِرةِ والمُعْتَزِلةِ، وخَوضٌ في تفاصيلَ لم يتكَلَّمْ عنها السَّلَفُ الصَّالِحُ. يُنظر: ((الفَصْل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 99 - 109). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 583)، ((الجواب الصَّحيح لمن بدل دين المسيح)) (3/ 297) و (5/ 19)، ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (3/ 24)، ((مجموع الفَتاوى)) (3/ 337)، وكلُّها لابنِ تَيْمِيَّةَ. .
وقدْ قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ مُبَيِّنًا ضَلالَ الفَلاسِفةِ ومَن اتَّبَعَهم في مَسْألةِ عِلمِ اللهِ سُبْحانَه: (قد بَسَطْنا الكَلامَ على فَسادِ قَوْلِهم في العِلمِ وغَيْرِه مِن الصِّفاتِ، وبَيَّنَّا أُصولَهم الَّتي أَوجَبَتْ أن قالوا مِثلَ هذه الأقْوالِ الَّتي هي مِن أَعظَمِ الفِرْيةِ على اللهِ، وبَيَّنَّا فَسادَها، وأَعظَمُ عُمدِهم في نَفْيِه أنَّه يَسْتَلْزِمُ التَّكَثُّرَ والتَّغَيُّرَ، فالتَّكَثُّرُ يُريدونَ به إثْباتَ الصِّفاتِ...، معَ أنَّهم ليس لهم قَطُّ حُجَّةٌ على نَفْيِ الصِّفاتِ إلَّا ما تَخَيَّلوه مِن أنَّ هذا تَرْكيبٌ، وقدْ بَيَّنَّا فَسادَه مِن وُجوهٍ كَثيرةٍ. أمَّا التَّغَيُّرُ فقالوا العِلمُ بالمُتَغَيِّراتِ يَسْتَلْزِمُ أن يكونَ عِلمُه بأنَّ الشَّيءَ سيكونُ غَيْرَ عِلمِه بأن قد كانَ، فيَلزَمُ أن يكونَ مَحَلًّا للحَوادِثِ، وهُمْ ليس عنْدَهم على نَفْيِ هذه اللَّوازِمِ حُجَّةٌ أصْلًا، لا بَيِّنةٌ ولا شُبْهةٌ، وإنَّما نَفَوه لنَفْيِهم الصِّفاتِ لا لأمْرٍ يَخْتَصُّ بذلك، بخِلافِ مَن نَفى ذلك مِن الكُلَّابيَّةِ ونَحْوِهم؛ فإنَّهم لمَّا اعْتَقَدوا أنَّ القَديمَ لا تَقومُ به الحَوادِثُ قالوا: لأنَّها لو قامَتْ به لم يَخْلُ مِنها، وما لم يَخْلُ مِن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، وقدْ بَيَّنَ أتْباعُهم كالرَّازيِّ والآمِدِيِّ وغَيْرِهم فَسادَ المُقَدِّمةِ الأُولى الَّتي يُخالِفُهم فيها جُمْهورُ العُقَلاءِ، ويَقولونَ: بلِ القابِلُ للشَّيءِ قد يَخْلو عنه وعن ضِدِّه، أمَّا المُقَدِّمةُ الثَّانيةُ فهي حُجَّةُ المُتَكلِّمينَ الجَهْميَّةِ والقَدَريَّةِ ومَن وافَقَهم مِن أهْلِ الكَلامِ على إثْباتِ حُدوثِ الأجْسامِ باسْتِلْزامِها للحَوادِثِ، وقالوا: ما لا يَخْلو عن الحَوادِثِ أو ما لا يَسبِقُها فهو حادِثٌ، لبُطْلانِ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها، وهو التَّسَلْسُلُ في الآثارِ. والفَلاسِفةُ لا يَقولونَ بشيءٍ مِن ذلك، بل عنْدَهم القَديمُ تَحُلُّه الحَوادِثُ، ويُجَوِّزونَ الحَوادِثَ لا أوَّلَ لها؛ ولِهذا كانَ كَثيرٌ مِن أساطينِهم ومُتَأخِّريهم كأبي البَرَكاتِ يُخالِفونَهم في إثْباتِ الصِّفاتِ وقِيامِ الحَوادِثِ بالواجِبِ، وقالوا لإخْوانِهم الفَلاسِفةِ: ليس معَكم حُجَّةٌ على نَفْيِ ذلك، بل هذه الحُجَّةُ أَثْبَتُّموها مِن جِهةِ التَّنْزيهِ والتَّعْظيمِ بلا حُجَّةٍ، والرَّبُّ لا يكونُ مُدَبِّرًا للعالَمِ إلَّا بِهذه القَضيَّةِ، فكانَ مِن تَنْزيهِ الرَّبِّ وإجْلالِه تَنْزيهُه عن هذا التَّنْزيهِ، وإجلالُه عن هذا الإجْلالِ. وللنُّظَّارِ في جَوابِهم عن هذا طَريقانِ: مِنهم مَن يَمنَعُ المُقَدِّمةَ الأُولى، ومِنهم مَن يَمنَعُ الثَّانيةَ؛ فالأوَّلُ جَوابُ كَثيرٍ مِن المُعْتَزِلةِ والأشْعَريِّ وأصْحابِه وغَيْرِهم مِمَّن يَنْفي حُلولَ الحَوادِثِ، فادَّعى هؤلاء أنَّ العِلمَ بأنَّ الشَّيءَ سيَكونُ هو عَيْنُ العِلمِ بأنَّه قد كانَ، وأنَّ المُتَجَدِّدَ إنَّما هو نِسْبتُه بَيْنَ المَعْلومِ والعِلمِ، لا أمْرٌ ثُبوتيٌّ، والثَّاني جَوابُ هِشامٍ وابنِ كَرَّامٍ وأبي الحُسَيْنِ البَصْريِّ وأبي عَبْدِ اللهِ بنِ الخَطيبِ، وطُوائِفَ غَيْرِ هؤلاء، قالوا: لا مَحْذورَ في هذا، وإنَّما المَحْذورُ في ألَّا يَعلَمَ الشَّيءَ حتَّى يكونَ، فإنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ أنَّه لم يكُنْ عالِمًا، وأنَّه أَحدَثَ بلا عِلمٍ، وهذا قَوْلٌ باطِلٌ. وعامَّةُ مَن يَسْتَشْكِلُ الآياتِ الوارِدةَ في هذا المَعْنى كقَوْلِه إِلَّا لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] حَتَّى نَعْلَمَ [مُحَمَّد: 31] يَتَوهَّمُ أنَّ هذا يَنْفي عِلمَه السَّابِقَ بأن سيَكونُ، وهذا جَهْلٌ، فإنَّ القُرْآنَ قد أَخبَرَ بأنَّه يَعلَمُ ما سيَكونُ في غَيْرِ مَوضِعٍ، بلْ أَبلَغُ مِن ذلك أنَّه قَدَّرَ مَقاديرَ الخَلائِقِ كلِّها، وكَتَبَ ذلك قَبْلَ أن يَخلُقَها، فقدْ عَلِمَ ما سيَخلُقُه عِلمًا مُفَصَّلًا، وكَتَبَ ذلك، وأَخبَرَ بما أَخبَرَ به مِن ذلك قَبْلَ أن يكونَ، وقدْ أَخبَرَ بعِلمِه المُتَقدِّمِ على وُجودِه، ثُمَّ لمَّا خَلَقَه عَلِمَه كائِنًا معَ عِلمِه الَّذي تَقدَّمَ أنَّه سيَكونُ، فهذا هو الكَمالُ، وبِذلك جاءَ القُرْآنُ في غَيْرِ مَوضِعٍ، بلْ وبإثْباتِ رُؤْيةِ الرَّبِّ له بَعْدَ وُجودِه، كما قالَ تَعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] ، فأَخبَرَ أنَّه سَيَرى أعْمالَهم. وقدْ دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ واتِّفاقُ سَلَفِ الأُمَّةِ ودَلائِلُ العَقْلِ على أنَّه سَميعٌ بَصيرٌ، والسَّمْعُ والبَصَرُ لا يَتَعلَّقُ بالمَعْدومِ، فإذا خَلَقَ الأشْياءَ رآها سُبْحانَه، وإذا دَعاه عِبادُه سَمِعَ دُعاءَهم...، وقدْ ذَكَرَ اللهُ عِلمَه بما سيَكونُ بَعْدَ أن يكونَ في بِضْعةَ عَشَرَ مَوْضِعًا في القُرْآنِ معَ إخْبارِه في مَواضِعَ أَكثَرَ مِن ذلك أنَّه يَعلَمُ ما يكونُ قَبْلَ أن يَكونَ...، بلْ هو سُبْحانَه يَعلَمُ ما كانَ وما يَكونُ، وما لو كانَ كيف كانَ يَكونُ، كقَوْلِه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] ...، قالَ تَعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة: 143] ، رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ في قَوْلِه: إِلَّا لِنَعْلَمَ أي: لنَرى، ورُوِيَ: لنُمَيِّزَ، وهكذا قالَ عامَّةُ المُفَسِّرينَ: إلَّا لنَرى ونُمَيِّزَ، وكذلك قالَ جَماعةٌ مِن أهْلِ العِلمِ: لنَعلَمَه مُوْجودًا واقِعًا بَعْدَ أن كانَ قد عَلِمَ أنَّه سيَكونُ، ولَفْظُ بعضِهم: العِلمُ على مَنزِلتَينِ: عِلمٌ بالشَّيءِ قَبْلَ وُجودِه، وعِلمٌ به بَعْدَ وُجودِه، والحُكْمُ للعِلمِ به بَعْدَ وُجودِه؛ لأنَّه يوجِبُ الثَّوابَ والعِقابَ، فمَعْنى قَوْلِه: لِنَعْلَمَ أي: لنَعلَمَ العِلمَ الَّذي يَسْتحِقُّ به العامِلُ الثَّوابَ والعِقابَ، ولا رَيْبَ أنَّه كانَ عالِمًا سُبْحانَه بأنَّه سيَكونُ، لكن لم يكنِ المَعْلومُ قد وُجِدَ...، والمَقْصودُ أن يَعرِفَ الإنْسانُ أنَّهم يَقولونَ مِن الجَهْلِ والكُفْرِ ما هو في غايةِ الضَّلالِ فِرارًا مِن لازِمٍ ليس لهم قَطُّ دَليلٌ على نَفْيِه، ولو قُدِّرَ شُبْهةٌ تُعارِضُ ثُبوتَ العِلمِ فأين هذا مِن هذا؟! وأين الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على ثُبوتِ عِلمِه والمَحْذورِ في نَفْيِ عِلمِه ممَّا يُظَنُّ أنَّه يَدُلُّ على نَفْيِ الصِّفاتِ أو نَفْيِ بعضِها دَليلًا ومَحْذورًا؟!) [474] ((الرد على المنطقيين)) (ص: 462 - 467) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (النَّاسُ المُنْتَسِبونَ إلى الإسْلامِ في عِلمِ اللهِ باعْتِبارِ تَعَلُّقِه بالمُسْتَقبِلِ على ثَلاثةِ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّه يَعلَمُ المُسْتَقبَلاتِ بعِلمٍ قَديمٍ لازِمٍ لذاتِه، ولا يَتَجَدَّدُ له عنْدَ وُجودِ المَعْلوماتِ نَعْتٌ ولا صِفةٌ، وإنَّما يَتَجَدَّدُ مُجَرَّدُ التَّعَلُّقِ بَيْنَ العِلمِ والمَعْلومِ، وهذا قَوْلُ طائِفةٍ مِن الصِّفاتيَّةِ مِن الكُلَّابيَّةِ والأشْعَريَّةِ ومَن وافَقَهم مِن الفُقَهاءِ والصُّوفيَّةِ وأهْلِ الحَديثِ مِن أصْحابِ أَحْمَدَ ومالِكٍ والشَّافِعيِّ وأبي حَنيفةَ، وهو قَوْلُ طَوائِفَ مِن المُعْتَزِلة وغَيْرِهم مِن نُفاةِ الصِّفاتِ، لكنَّ هؤلاء يَقولونَ: يَعلَمُ المُسْتَقبَلاتِ، ويَتَجَدَّدُ التَّعَلُّقُ بَيْنَ العالمِ والمَعْلومِ، لا بَيْنَ العِلمِ والمَعْلومِ. وقدْ تَنازَعَ الأَوَّلونَ؛ هلْ له عِلمٌ واحِدٌ أو عُلومٌ مُتَعَدِّدةٌ؟ على قَوْلَينِ، والأوَّلُ: قَوْلُ الأشْعَريِّ وأَكثَرِ أصْحابِه، والقاضي أبي يَعْلى وأتْباعِه، ونَحْوِ هؤلاء، والثَّاني: قَوْلُ أبي سَهْلٍ الصُّعْلوكيِّ. والقَوْلُ الثَّاني: أنَّه لا يَعلَمُ المُحدَثاتِ إلَّا بَعْدَ حُدوثِها، وهذا أصْلُ قَوْلِ القَدَريَّةِ الَّذين يَقولونَ: لم يَعلَمْ أفْعالَ العِبادِ إلَّا بَعْدَ وُجودِها، وأنَّ الأمْرَ أُنُفٌ، لم يَسبِقِ القَدَرُ بشَقاوةٍ ولا سَعادةٍ، وهُمْ غُلاةُ القَدَريَّةِ الَّذين حَدَثوا في زَمانِ ابنِ عُمَرَ، وتَبَرَّأَ مِنهم، وقدْ نَصَّ الأئِمَّةُ كمالِكٍ والشَّافِعيِّ وأَحْمَدَ على تَكْفيرِ قائِلِ هذه المَقالةِ) [475] ((جامع الرسائل لابن تَيْمِيَّةَ)) (1/ 177 - 183) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .

انظر أيضا: