موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: صِفةُ كَلامِ اللهِ


تَفَرَّدَ الأشاعِرةُ بإثْباتِ الكَلامِ النَّفْسيِّ للهِ سُبْحانَه، ويَقولونَ: إنَّ كَلامَ اللهِ أَزَلِيٌّ، وكلُّه واحِدٌ، فالأمْرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ كلُّه كَلامٌ واحِدٌ، ولا يُثبِتونَ كأهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بحَرْفٍ وصَوْتٍ، بلْ كَلامُه سُبْحانَه عنْدَهم صِفةٌ قَديمةٌ لا تَجَدُّدَ لها، في حينِ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَقولونَ: كَلامُ اللهِ قَديمُ النَّوْعِ، حادِثُ الآحادِ، وأَثبَتَ الأشاعِرةُ أنَّ كَلامَ اللهِ صِفةٌ للهِ سُبْحانَه، وأنَّه غَيْرُ مَخْلوقٍ، ورَدُّوا على المُعْتَزِلةِ في قَوْلِهم بخَلْقِ القُرْآنِ، وإن كانَ بعضُ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ جَعَلَ خِلافَهم معَ المُعْتَزِلةِ في هذه المَسْألةِ خِلافًا لَفْظيًّا، وسيَأتي نَقْلُ كلِّ ذلك مِن كُتُبِهم.
قال أبو نَصرٍ السِّجزيُّ: (اعلَموا -أرشَدَنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّه لم يكُنْ خِلافٌ بَينَ الخَلقِ على اختِلافِ نِحَلِهم من أوَّلِ الزَّمانِ إلى الوَقتِ الذي ظهَر فيه ابنُ كُلَّابٍ والقلانِسيُّ والأشعَريُّ وأقرانُهم في أنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَّا حرفًا وصوتًا ذا تأليفٍ واتِّساقٍ، وإن اختلفَت به اللُّغاتُ... فالإجماعُ مُنعَقِدٌ بَينَ العُقلاءِ على كونِ الكلامِ حرفًا وصوتًا، فلمَّا نبغ ابنُ كُلَّابٍ وأضرابُه وحاولوا الرَّدَّ على المُعتَزِلةِ من طريقِ مجَرَّدِ العقلِ، وهم لا يَخبُرونَ أُصولَ السُّنَّةِ، ولا ما كان السَّلَفُ عليه، ولا يحتجُّونَ بالأخبارِ الواردةِ في ذلك زعمًا منهم أنَّها أخبارُ آحادٍ، وهي لا توجِبُ عِلمًا، وألزمَتْهم المُعتَزِلةُ أنَّ الاتِّفاقَ حاصِلٌ على أنَّ الكلامَ حرفٌ وصوتٌ، ويدخُلُه التعاقبُ والتأليفُ، وذلك لا يوجَدُ في الشَّاهِدِ إلَّا بحركةٍ وسكونٍ، ولا بُدَّ له من أن يكونَ ذا أجزاءٍ وأبعاضٍ، وما كان بهذه المثابةِ لا يجوزُ أن يكونَ من صفاتِ ذاتِ اللهِ؛ لأنَّ ذاتَ اللهِ سُبحانَه لا تُوصَفُ بالاجتماعِ والافتراقِ، والكُلِّ والبعضِ، والحَركةِ والسُّكونِ، وحُكمُ الصِّفةِ الذاتيَّةِ حُكمُ الذَّاتِ، قالوا: فعُلِم بهذه الجملةِ أنَّ الكلامَ المضافَ إلى اللهِ سُبحانَه خلْقٌ له، أحدَثَه وأضافَه إلى نفسِه!كما تقولُ: عبدُ اللهِ، وخَلقُ اللهِ، وفِعلُ اللهِ؛ فضاق بابنِ كُلَّابٍ وأضرابِه النَّفَسُ عند هذا الإلزامِ؛ لقِلَّةِ معرفتِهم بالسُّنَنِ، وتركِهم قَبولَها، وتسليمِهم العِنانَ إلى مجرَّدِ العقلِ، فالتَزموا ما قالته المُعتَزِلةُ، وركِبوا مُكابَرة العِيان، وخرَقوا الإجماعَ المنعَقِدَ بَينَ الكافَّةِ المُسلِمِ والكافرِ، وقالوا للمُعتَزِلة: الذي ذكرْتُموه ليس بحقيقةِ الكلامِ، وإنمَّا يُسمَّى ذلك كلامًا على المجازِ؛ لكونِه حكايةً أو عبارةً عنه، وحقيقةُ الكلامِ: معنًى قائِمٌ بذاتِ المُتكَلِّمِ... ثمَّ خرجوا من هذا إلى أنَّ إثباتَ الحَرفِ والصَّوتِ في كلامِ اللهِ سُبحانَه تجسيمٌ، وإثباتَ اللُّغةِ فيه تشبيهٌ!) [476] ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 115 - 119) باختصار وتصرف. .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (اعلَمْ أنَّ أصلَ القَولِ بالعبارةِ أنَّ أبا محمَّدٍ عبدَ اللهِ بنَ سعيدِ بنِ كُلَّابٍ هو أوَّلُ من قال في الإسلامِ: إنَّ معنى القرآنِ كلامُ اللهِ، وحروفُه ليست كلامَ اللهِ، فأخذ بنِصفِ قَولِ المُعتَزِلةِ ونِصفِ قَولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وكان قد ذهب إلى إثباتِ الصِّفاتِ للهِ تعالى، وخالف المُعتَزِلةَ في ذلك، وأثبتَ العُلُوَّ للهِ على العَرشِ ومباينَتَه المخلوقاتِ، وقرَّر ذلك تقريرًا هو أكمَلُ من تقريرِ أتباعِه بَعدَه. وكان النَّاسُ قد تكلَّموا فيمن بلَّغ كلامَ غيرِه هل يقالُ له: حكايةٌ عنه أم لا؟ وأكثَرُ المُعتَزِلةِ قالوا: هو حكايةٌ عنه، فقال ابنُ كُلَّابٍ: القُرآنُ العربيُّ حكايةٌ عن كلامِ اللهِ؛ ليس بكلامِ اللهِ! فجاء بعده أبو الحسَنِ الأشعَريُّ فسلَك مَسلَكَه في إثباتِ أكثَرِ الصِّفاتِ وفي مسألةِ القرآنِ أيضًا، واستدرك عليه قولَه: إنَّ هذا حكايةٌ، وقال: الحكايةُ إنَّما تكونُ مِثلَ المحكيِّ، فهذا يناسِبُ قولَ المُعتَزِلةِ، وإنَّما يناسِبُ قولَنا أن نقولَ: هو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ؛ لأنَّ الكلامَ ليس من جنسِ العبارةِ) [477] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 272). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (سائِرُ المَسائِلِ ليس لابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ بها اخْتِصاصٌ، بلْ ما قالاه قالَه غَيْرُهما، إمَّا مِن أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ، وإمَّا مِن غَيْرِهم، بخِلافِ ما قالَه ابنُ كُلَّابٍ في مَسْألةِ الكَلامِ، واتَّبَعَه عليه الأشْعَريُّ؛ فإنَّه لم يَسبِقِ ابنَ كُلَّابٍ إلى ذلك أحَدٌ، ولا وافَقَه عليه مِن رُؤوسِ الطَّوائِفِ، وأصْلُه في ذلك مَسْألةُ الصِّفاتِ الاخْتِياريَّةِ، ونَحْوِها مِن الأمورِ المُتَعلِّقةِ بمَشيئتِه وقُدْرتِه تَعالى: هلْ تَقومُ بذاتِه أم لا؟ فكانَ السَّلَفَ والأئِمَّةُ يُثبِتونَ ما يَقومُ بذاتِه مِن الصِّفاتِ والأفْعالِ مُطلَقًا، والجَهْميَّةُ مِن المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم يُنكِرونَ ذلك مُطلَقًا، فوافَقَ ابنُ كُلَّابٍ السَّلَفَ والأئِمَّةَ في إثْباتِ الصِّفاتِ، ووافَقَ الجَهْميَّةَ في نَفْيِ قِيامِ الأفْعالِ به تَعالى وما يَتَعلَّقُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه؛ ولِهذا وغَيْرِه تَكلَّمَ النَّاسُ فيمَن اتَّبَعَه كـالقَلانِسيِّ والأشْعَريِّ ونَحْوِهما بأنَّ في أقْوالِهم بَقايا مِن الاعْتِزالِ، وهذه البَقايا أصْلُها هو الاسْتِدْلالُ على حُدوثِ العالَمِ بطَريقةِ الحَرَكاتِ، فإنَّ هذا الأصْلَ هو الَّذي أَوقَعَ المُعْتَزِلةَ في نَفْيِ الصِّفاتِ والأفْعالِ) [478] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (2/98) بتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
أقْوالُ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ المُتَقَدِّمينَ وأتْباعِهم مِن المُتَأخِّرينَ في صِفةِ الكَلامِ:
وهي منقُولةٌ مِن كُتُبِهم، معَ تَضَمُّنِ بعضِ النُّقولاتِ حَقًّا وباطِلًا، وسيَأتي في آخِرِ المَبحَثِ بَيانُ الصَّوابِ الَّذي عليه أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ المُتَّبِعونَ لكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه وما كانَ عليه سَلَفُ الأُمَّةِ.
1- قالَ الأشْعَريُّ: (نَقولُ: إنَّ كَلامَ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، وأنَّه سُبْحانَه لم يَخلُقْ شَيئًا إلَّا وقدْ قالَ له: كُنْ... وإنَّ مَن قالَ بخَلْقِ القُرْآنِ فهو كافِرٌ) [479] ((الإبانة عن أصول الدِّيانة)) (ص: 23 - 27). .
2- قالَ الباقِلَّانيُّ: (أن يَعلَمَ أنَّ كَلامَ اللهِ تَعالى صِفةٌ لذاتِه لم يَزَلْ ولا يَزالُ مَوْصوفًا به، وأنَّه قائِمٌ به ومُخْتَصٌّ بذاتِه، ولا يَصِحُّ وُجودُه بغَيْرِه، وإن كانَ مَحْفوظًا بالقُلوبِ، ومَتْلُوًّا بالألْسُنِ، ومَكْتوبًا في المَصاحِفِ، ومَقْروءًا في المَحاريبِ، على الحَقيقةِ لا على المَجازِ، وغَيْرَ حالٍّ في شيءٍ مِن ذلك، وأنَّه لو حَلَّ في غَيْرِه لكانَ ذلك الغَيْرُ مُتَكلِّمًا به، وآمِرًا وناهِيًا ومُخبِرًا وقائِلًا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] ، وذلك خِلافُ دينِ المُسلِمينَ، وأنَّ كَلامَه سُبْحانَه لا يَجوزُ أن يكونَ جِسْمًا مِن الأجْسامِ، ولا جَوْهَرًا، ولا عَرَضًا، وأنَّه لو كانَ كذلك لكانَ مِن جِنْسِ كَلامِ البَشَرِ، ومُحدَثًا كهُوَ، يَتَعالى اللهُ سُبْحانَه أن يَتَكلَّمَ بكَلامِ المَخْلوقينَ، وأن يعلَمَ: أنَّ كَلامَه مَسْموعٌ بالآذانِ، وإن كانَ مُخالِفًا لسائِرِ اللُّغاتِ وجَميعِ الأصْواتِ، وأنَّه ليس مِن جِنْسِ المَسْموعاتِ، كما أنَّه مَرْئِيٌّ بالأبْصارِ، وإن كانَ مُخالِفًا لأجْناسِ المَرْئِيَّاتِ، وكما أنَّه مَوْجودٌ مُخالِفٌ لسائِرِ الحَوادِثِ المَوْجوداتِ، وأنَّ سامِعَ كَلامِه مِنه تَعالى بغَيْرِ واسِطةٍ ولا تُرْجمانٍ كجِبْريلَ، وموسى ومُحَمَّدٍ -عليهم السَّلامُ- حَقٌّ، سَمِعَه مِن ذاتِه غَيْرَ متْلُوٍّ ولا مَقْروءٍ، ومَن عَداهم ممَّن يَتَولَّى اللهُ خِطابَه بنَفْسِه إنَّما يَسمَعُ كَلامَه مَتْلُوًّا ومَقْروءًا، وكذلك قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ، وقالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة: 253] ، وأنَّ قِراءتَنا القُرْآنَ كَسْبٌ لنا نُثابُ عليها، ونُلامُ على تَرْكِها؛ إذ وَجَبَتْ علينا في الصَّلَواتِ، وأنَّه لا يَجوزُ أن يَحْكيَ كَلامَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ولا أن يَلفِظَ به؛ لأنَّ حِكايةَ الشَّيءِ مِثلُه وما يُقارِبُه، وكَلامُ اللهِ تَعالى لا مِثلَ له مِن كَلامِ البَشَرِ، ولا يَجوزُ أن يَلفِظَ به بتَكلُّمِ الخَلْقِ؛ لأنَّ ذلك يوجِبُ كَوْنَ كَلامِ اللهِ تَعالى قائِمًا بذاتَينِ قَديمٍ ومُحدَثٍ، وذلك خِلافُ الإجْماعِ والمَعْقولِ، وأنَّ كَلامَ اللهِ تَعالى غَيْرُ مُتَبَعِّضٍ ولا مُتَغايِرٍ، وأنَّ الصِّفةَ هي ما قامَتْ بالشَّيءِ، وأنَّ الوَصْفَ قَوْلُ الواصِفِ الدَّالُّ على الصِّفةِ، خِلافَ ما يَذهَبُ إليه القَدَريَّةُ) [480] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 25). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ كَلامَ اللهِ تَعالى مَسْموعٌ لنا على الحَقيقةِ لكن بواسِطةٍ وهو القارِئُ، دَليلُ ذلك قَوْلُه تَعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، واعْلَمْ أنَّ المَسْموعَ فهو كَلامُ اللهِ القَديمُ، صِفةٌ للهِ تَعالى قَديمةٌ مَوْجودةٌ بوُجودٍ قَبْلَ سَماعِ السَّامِعِ لها، وإنَّما المَوْجودُ بَعْدَ أن لم يكُنْ هو سَمْعُ السَّامِعِ، وفَهْمُ الفاهِمِ لكَلامِ اللهِ تَعالى، يُحدِثُ اللهُ تَعالى له سَمْعًا إذا أرادَ أن يُسمِعَه كَلامَه، وفَهْمًا إذا أرادَ أن يُفهِمَه كَلامَه؛ لأنَّ المَسْموعَ لم يكُنْ ثُمَّ كانَ عنْدَ السَّمْعِ والفَهْمِ) [481] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 91). .
وقالَ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَتَّصِفُ كَلامُه القَديمُ بالحُروفِ والأصْواتِ) [482] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 94). .
وقالَ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ الكَلامَ الحَقيقيَّ هو المَعْنى المَوْجودُ في النَّفْسِ، لكن جُعِلَ عليه أماراتٌ تَدُلُّ عليه؛ فتارةً تَكونُ قَوْلًا بلِسانٍ على حُكْمِ أهْلِ ذلك اللِّسانِ، وما اصْطَلَحوا عليه، وجَرى عُرْفُهم به، وجُعِلَ لُغةً لهم، وقدْ بَيَّنَ تَعالى ذلك بقَوْله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، فأَخبَرَ تَعالى أنَّه أَرسَلَ موسى عليه السَّلامُ إلى بَني إسْرائيلَ بلِسانٍ عِبْرانيٍّ، فأَفهَمَ كَلامَ اللهِ القَديمَ القائِمَ بالنَّفْسِ بالعِبْرانيَّةِ، وبَعَثَ عيسى عليه السَّلامُ بلِسانٍ سُرْيانيٍّ، فأَفهَمَ قَوْمَه كَلامَ اللهِ القَديمَ بلِسانِهم، وبَعَثَ نَبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلِسانِ العَربِ، فأَفهَمَ قَوْمَه كَلامَ اللهِ القَديمَ القائِمَ بالنَّفْسِ بكَلامِهم؛ فلُغةُ العَربِ غَيْرُ لُغةِ العِبْرانيَّةِ، ولُغةُ السُّرْيانيَّةِ غَيْرُهما، لكنَّ الكَلامَ القَديمَ القائِمَ بالنَّفْسِ شيءٌ واحِدٌ لا يَخْتلِفُ ولا يَتَغَيَّرُ، وقدْ يَدُلُّ على الكَلامِ القائِمِ بالنَّفْسِ الخُطوطُ المُصْطَلَحُ عليها بَيْنَ كلِّ أهْلِ خَطٍّ، فيَقومُ الخَطُّ في الدَّلالةِ مَقامَ النُّطْقِ باللِّسانِ...، وكذلك قد يَدُلُّ على الكَلامِ الحَقيقيِّ القائِمِ بالنَّفْسِ الرُّموزُ والإشاراتُ) [483] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 101، 102). .
3- قالَ ابنُ فورَكٍ: (مَعْنى تَكْليمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ خَلْقَه إفْهامُه إيَّاهم كَلامَه على ما يُريدُ؛ إمَّا بإسْماعِ عِبارةٍ تَدُلُّ على مُرادِه، أو بإبْتِداءِ فَهْمٍ يَخلُقُه في قَلْبِه يَفهَمُ به ما يُريدُ أن يُفهِمَه به، وكلُّ ذلك سائِغٌ جائِزٌ، وهو مَعْنى ما يُكلِّمُ اللهُ تَعالى به العَبْدَ عنْدَ المُحاسَبةِ) [484] ((مشكل الحَديث وبيانه)) (ص: 226). .
وقالَ أيضًا: (كما يُنكَرُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ اللهَ لم يَتَكلَّمْ إلَّا مَرَّةً واحِدةً، كذلك يُنكَرُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ اللهَ تَكلَّمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخرى؛ لأنَّ كلَّ ذلك يوجِبُ حَدَثَ الكَلامِ) [485] ((مشكل الحَديث وبيانه)) (ص: 446). .
وقالَ ابنُ فورَكٍ أيضًا: (الصَّحيحُ أن يُقالَ: إنَّ كَلامَ اللهِ لم يَزَلْ ولا يَزالُ، وأنَّه مُسمِعٌ مَن يَشاءُ مِن خَلْقِه، ومِنهم مَن أرادَ مِنهم إفْهامَه في الوَقْتِ الَّذي يُريدُ أن يُسمِعَه ويُفهِمَه ما يُريدُ مِن ذلك مِن غَيْرِ تَجْديدِ قَوْلٍ ولا كَلامٍ) [486] ((مشكل الحَديث وبيانه)) (ص: 449). .
4- قالَ عَبْدُ القاهِرِ البَغْداديُّ مُبَيِّنًا إجْماعَ أهْلِ السُّنَّةِ، ويُقصَدُ بهم الأشاعِرةُ ومَن قالَ بقَوْلِهم: (أَجْمَعوا على أنَّ كَلامِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ صِفةٌ له أزَليَّةٌ، وأنَّه غَيْرُ مَخْلوقٍ ولا مُحدَثٍ ولا حادِثٍ) [487] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 325). .
5- قالَ طاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الأسْفَرايِينيُّ: (كَلامُ اللهِ تَعالى ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ؛ لأنَّ الحَرْفَ والصَّوْتَ يَتَضَمَّنانِ جَوازَ التَّقدُّمِ والتَّأخُّرِ، وذلك مُسْتَحيلٌ على القَديمِ سُبْحانَه، وما دَلَّ مِن كِتابِ اللهِ تَعالى على أنَّ مُتَعلِّقاتِ الكَلامِ لا نِهايةَ لها دَليلٌ على أنَّه ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ؛ لوُجوبِ التَّناهي فيما صَحَّ وَصْفُه به...، كَلامُ اللهِ قَديمٌ وكَلامٌ واحِدٌ، أمْرٌ، ونَهْيٌ، وخَبَرٌ واسْتِخْبارٌ على مَعْنى التَّقْديرِ، وكلُّ ما وَرَدَ في الكُتُبِ مِن اللهِ تَعالى باللُّغاتِ المُخْتلِفةِ؛ العِبْريَّةِ، والعَربيَّةِ، والسُّرْيانيَّةِ، كلُّها عِباراتٌ تَدُلُّ على مَعْنى كِتابِ اللهِ تَعالى) [488] ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) (ص: 167). .
6- قالَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ: (مِن مُعْتَقَدِ أهْلِ الحَقِّ أنَّ كَلامَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى ليس بحُروفٍ مُنْتَظَمةٍ، ولا أصْواتٍ مُقَطَّعةٍ، وإنَّما هو صِفةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى، يَدُلُّ عليها قِراءةُ القُرْآنِ، كما يَدُلُّ قَوْلُ القائِلِ: اللهُ، على الوُجودِ الأزَلِيِّ، ويُعتَبَرُ المُسمَّى أصْواتًا، والمَفْهومُ مِنها الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى...، يَجِبُ إطْلاقُ القَوْلِ بأنَّ كَلامَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى مَسْموعٌ، وليس المُرادُ بِذلك تَعَلُّقَ الإدْراكِ بالكَلامِ الأزَلِيِّ القائِمِ بالباري تَعالى، ولكنَّ المُدرَكَ صَوْتُ القارِئِ، والمَفْهومَ عنْدَ قِراءتِه كَلامُ اللهِ سُبْحانَه) [489] ((العَقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 155، 157). .
وقالَ الجُوَيْنيُّ أيضًا مُبَيِّنًا الخِلافَ بَيْنَ ابنِ كُلَّابٍ وأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ: (قد ذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ رَحِمَه اللهُ مِن أصْحابِنا إلى أنَّ الكَلامَ الأزَلِيَّ لا يَتَّصِفُ بكَوْنِه أمْرًا، نَهْيًا، خَبَرًا، إلَّا عنْدَ وُجودِ المُخاطَبينَ، واسْتِجماعِهم شَرائِطَ المَأمورينَ المَنْهيِّينَ، فإذا أَبدَعَ اللهُ العِبادَ، وأَفهَمَهم كَلامَه على قَضيَّةِ أمْرٍ، أو موجِبِ زَجْرٍ، أو مُقْتَضى خَبَرٍ، اتَّصَفَ عنْدَ ذلك الكَلامُ بهذه الأحْكامِ، وهي مِن صِفاتِ الأفْعالِ عنْدَه، بمَثابةِ اتَّصافِ الباري تَعالى فيما لا يَزالُ بكَوْنِه خالِقًا رازِقًا مُحسِنًا مُتَفَضِّلًا. وهذه الطَّريقةُ وإن دَرَأَتْ تَشْغيبًا فهي غَيْرُ مَرْضيَّةٍ، والصَّحيحُ ما ارْتَضاه شَيْخُنا رَضِيَ اللهُ عنه مِن أنَّ الكَلامَ الأزَلِيَّ لم يَزَلْ مُتَّصِفًا بكَوْنِه أمْرًا نَهْيًا خَبَرًا، والمَعْدومُ على أصْلِه مَأمورٌ بالأمْرِ الأزَلِيِّ على تَقْديرِ الوُجودِ، والأمْرِ القَديمِ في نَفْسِه على صِفةِ الاقْتِضاءِ ممَّن سيَكونُ إذا كانوا، والَّذي اسْتَنْكَروه مِن اسْتِحالةِ كَوْنِ المَعْدومِ مَأمورًا لا تَحْصيلَ له) [490] ((الإرشاد إلى قواطع الإدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 139). .
وقالَ أيضًا: (التَّحْقيقُ في ذلك أنَّ المُخالِفينَ قَدَّروا الكَلامَ حُروفًا وأصْواتًا، وبَنَوا على ما اعْتَقَدوه اسْتِحالةَ مُخاطَبةِ المَعْدومِ بحُروفٍ تَتَوالى، وليس الأمْرُ على ما قَدَّروه؛ فإنَّ الكَلامَ عنْدَ أهْلِ الحَقِّ مَعنًى قائْمٌ بالنَّفْسِ ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، والكَلامُ الأزَلِيُّ يَتَعلَّقُ بجَميعِ مُتَعلِّقاتِ الكَلامِ على اتِّحادِه، وهو أمْرٌ بالمَأموراتِ، نَهْيٌ عن المَنْهِيَّاتِ، خَبَرٌ عن المُخْبَراتِ، ثُمَّ يَتَعلَّقُ بالمُتَعلِّقاتِ المُتَجَدِّداتِ، ولا يَتَجَدَّدُ في نَفْسِه. وسَبيلُه فيما قَرَّرْناه سَبيلُ العِلمِ الأزَلِيِّ، فإنَّه كانَ في الأزَلِ مُتَعلِّقًا بالقَديمِ وصِفاتِه وعَدَمِ العالَمِ، وأنَّه سيَكونُ فيما لا يَزالُ، ولمَّا حَدَثَ العالَمُ تَعلَّقَ العِلمُ الأزَلِيُّ بوُقوعِ حُدوثِه، ولم يَتَجَدَّدْ في نَفْسِه، وكذلك الكَلامُ الأزَلِيُّ كانَ على تَقْديرِ خِطابِ موسى إذا وُجِدَ، فلمَّا وُجِدَ كانَ خِطابًا له تَحْقيقًا، والمُتَجَدِّدُ موسى دونَ الكَلامِ) [491] ((الإرشاد إلى قواطع الإدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 147). .
وقالَ الجُوَيْنيُّ أيضًا: (المَعْنيُّ بالإنْزالِ أنَّ جِبْريلَ صَلَواتُ اللهِ عليه أَدرَكَ كَلامَ اللهِ تَعالى وهو في مَقامِه فَوْقَ سَبْعِ سَمَواتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلى الأرْضِ، فأَفهَمَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فَهِمَه عنْدَ سِدْرةِ المُنْتَهى مِن غَيْرِ نَقْلٍ لذاتِ الكَلامِ) [492] ((الإرشاد إلى قواطع الإدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 155). .
وقالَ الجُوَيْنيُّ مُصَرِّحًا بأنَّ خِلافَ الأشاعِرةِ معَ المُعْتَزِلةِ في صِفةِ الكَلامِ خِلافٌ لَفْظيٌّ: (اعْلَموا أنَّ الكَلامَ معَ المُعْتَزِلةِ وسائِرِ المُخالِفينَ في هذه المَسْألةِ يَتَعلَّقُ بالنَّفْيِ والإثْباتِ، فإنَّ ما أَثبَتوه وقَدَّروه كَلامًا فهو في نَفْسِه ثابِتٌ، وقَوْلُهم: إنَّه كَلامُ اللهِ تَعالى، إذ رُدَّ إلى التَّحْصيلِ آلَ الكَلامُ إلى اللُّغاتِ والتَّسْمياتِ؛ فإنَّ مَعْنى قَوْلِهم: "هذه العِباراتُ كَلامُ اللهِ" أنَّهم خَلْقُه، ونحن لا نُنكِرُ أنَّها خَلْقُ اللهِ، ولكن نَمْتَنِعُ مِن تَسْميةِ خالِقِ الكَلامِ مُتَكلِّمًا به؛ فقدْ أَطبَقْنا على المَعْنى، وتَنازَعْنا بَعْدَ الاتِّفاقِ في تَسْميتِه) [493] ((الإرشاد إلى قواطع الإدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 136). .
وقدْ صَرَّحَ بما قالَه الجُوَيْنيُّ الجُرْجانيُّ، فقالَ: (اعْلَمْ أنَّ ما تَقولُه المُعْتَزِلةُ في كَلامِ اللهِ تَعالى وهو خَلْقُ الأصْواتِ والحُروفِ الدَّالَّةِ على المَعاني المَقْصودةِ، وكَوْنُها حادِثةً قائِمةً بغَيْرِ ذاتِه تَعالى، فنحن نَقولُ به، ولا نِزاعَ بَيْنَنا وبَيْنَهم في ذلك، وما نَقولُه نحن ونُثبِتُه مِن كَلامِ النَّفْسِ المُغايِرِ لسائِرِ الصِّفاتِ فهُمْ يُنكِرونَ ثُبوتَه، ولو سَلَّموه لم يَنْفوا قِدَمَه الَّذي نَدَّعيه في كَلامِه تَعالى، فصارَ مَحَلُّ النِّزاعِ بَيْنَنا وبَيْنَهم نَفْيَ المَعْنى النَّفْسيَّ وإثْباتَه) [494] ((شرح المواقف)) (3/ 135). .
7- قالَ الجُرْجانيُّ: (لا نُنكِرُ أنَّ الكَلامَ صِفةٌ للهِ، نحن، بلْ نَقولُ به ونُسَمِّيه كَلامًا لَفْظيًّا، ونَعْتَرِفُ بحُدوثِه، وعَدَمِ قِيامِه بذاتِه تَعالى، لكنَّا نُثبِتُ أمْرًا وَراءَ ذلك، وهو المَعْنى القائِمُ بالنَّفْسِ الَّذي يُعَبَّرُ عنه بالألْفاظِ) [495] ((شرح المواقف)) (3/ 203) بتَصَرُّفٍ. .
8- بَيَّنَ الباجوريُّ حَقيقةَ مَذهَبِ الأشاعِرةِ في كَلامِ اللهِ، وأنَّهم يَقولونَ بخَلْقِ القُرْآنِ الَّذي نَقْرَؤُه كما هو مَذهَبُ المُعْتَزِلةِ، فقالَ عن مَذهَبِ الأشاعِرةِ الَّذين يَنسُبُهم إلى أهْلِ السُّنَّةِ: (مَذهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ القُرْآنَ بمَعْنى الكَلامِ النَّفْسيِّ ليس بمَخْلوقٍ، وأمَّا القُرْآنُ بمَعْنى اللَّفْظِ الَّذي نَقْرَؤُه فهو مَخْلوقٌ، لكنْ يَمْتَنِعُ أن يُقالَ: القُرْآنُ مَخْلوقٌ، ويُرادُ به اللَّفْظُ الَّذي نَقْرَؤُه إلَّا في مَقامِ التَّعْليمِ؛ لأنَّه رُبَّما أَوهَمَ أنَّ القُرْآنَ بمَعْنى كَلامِه تَعالى مَخْلوقٌ؛ ولِذلك امْتَنَعَتِ الأئِمَّةُ مِن القَوْلِ بخَلْقِ القُرْآنِ) [496] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 160). .
9- قالَ أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (الإنْسانُ يُسمَّى مُتَكلِّمًا باعْتِبارَينِ؛ أحَدُهما: بالصَّوْتِ والحَرْفِ، والآخَرُ: بكَلامِ النَّفْسِ الَّذي ليس بصَوْتٍ وحَرْفٍ، وذلك كَمالٌ، وهو في حَقِّ اللهِ تَعالى غَيْرُ مُحالٍ، ولا هو دالٌّ على الحُدوثِ، ونحن لا نُثبِتُ في حَقِّ اللهِ تَعالى إلَّا كَلامَ النَّفْسِ) [497] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 68). .
وقالَ الغَزاليُّ أيضًا: (موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِعَ كَلامَ اللهِ بغَيْرِ صَوْتٍ ولا حَرْفٍ كما يَرى الأبْرارُ ذاتَ اللهِ تَعالى في الآخِرةِ مِن غَيْرِ جَوْهَرٍ ولا عَرَضٍ) [498] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 59). .
10- قالَ الفَخْرُ الرَّازيُّ: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ كَلامَ اللهِ تَعالى لا أوَّلَ لوُجودِه، وهو ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، بل هي دَلالاتٌ عليه، واخْتَلَفوا في أنَّه هل يُوصَفُ في الأزَلِ بكَوْنِه آمِرًا ناهِيًا؟ فمَنَعَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدٍ مِن ذلك، وقالَ: إنَّما يَتَّصِفُ بهذه الصِّفاتِ إذا خَلَقَ المُكَلَّفينَ وأَفهَمَهم ما أرادَ أن يُفهِمَهم مِن كَلامِه، حتَّى إنَّه إذا أَفهَمَ المُخاطَبينَ إيجابًا أو نَدْبًا اتَّصَفَ كَلامُه حينَئذٍ بكَوْنِه أمْرًا، وإن أَفهَمَهم تَحْريمًا أو تَنْزيهًا اتَّصَفَ بكَوْنِه نَهْيًا، ولهم تَرَدُّدٌ في أنَّه: هل يَتَّصِفُ في الأزَلِ بكَوْنِه خَبَرًا أم لا؟ وذَهَبَ شَيْخُنا رَضِيَ اللهُ تَعالى عنه إلى أنَّ الكَلامَ القَديمَ لم يَزَلْ أمْرًا نَهْيًا خَبَرًا خِطابًا) [499] ((الإشارة في علم الكَلام)) (ص: 205). .
11- قالَ الآمِدِيُّ: (مَعْنى كَوْنِه مُتَكلِّمًا عنْدَ أصْحابِنا: أنَّه قامَ بذاتِه كَلامٌ، قَديمٌ، أزَلِيٌّ نَفْسانيٌّ، أَحَديٌّ الذَّاتِ، ليس بحُروفٍ، ولا أصْواتٍ، وهو معَ ذلك مُتَعلِّقٌ بجَميعِ مُتَعلِّقاتِ الكَلامِ. لكنِ اخْتَلَفوا في وَصْفِ كَلامِ اللهِ تَعالى في الأزَلِ بكَوْنِه أمْرًا ونَهْيًا، مُخاطَبةً تَكلُّمًا، فأَثبَتَ ذلك الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ الأَشْعَريُّ، ونَفاه عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدٍ وطائِفةٌ كَثيرةٌ مِن المُتَقدِّمينَ، معَ اتِّفاقِهم على وَصْفِه تَعالى بذلك فيما لا يَزالُ) [500] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 353). .
وقالَ الآمِدِيُّ أيضًا: (أمَّا كَوْنُ القُرْآنِ مَسْموعًا بحاسَّةِ الأُذُنِ فقدِ اخْتَلَفَ أصْحابُنا فيه؛ فأصَّلَ شَيْخُنا رَحِمَه اللهُ أنَّه يَجوزُ تَعلُّقُ كلِّ إدْراكٍ بكلِّ مَوْجودٍ، وعلى هذا فلا يَمْتَنِعُ سَماعُ كَلامِ اللهِ القَديمِ بحاسَّةِ الأُذُنِ، وذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدٍ إلى أنَّ إدْراكَ السَّمْعِ لا يَتَعلَّقُ بغَيْرِ الأصْواتِ، وعلى هذا فالمُجمَعُ على كَوْنِه مَسْموعًا إنَّما هو القُرْآنُ بمَعْنى القِراءةِ على ما تَقَدَّمَ، وهو المُرادُ مِن سَماعِ موسى لكَلامِ اللهِ تَعالى. ومِن أصْحابِنا مَن زَعَمَ أنَّ المَسْموعَ هو المُتَكلمُ دونَ الكَلامِ، وهو مَرْدودٌ بما تُدرِكُه ضَرورةً مِن صَوْتِ المُتَكلِّمِ عنْدَ كَلامِه. وأمَّا المَلْموسُ المَنْظورُ إليه بالأعْيُنِ فليس هو المَقْروءَ، والأصْواتَ والحُروفَ المُنْتَظِمةَ مِنها بالإجْماعِ، وإنَّما هو الكِتابةُ الدَّالَّةُ على القُرْآنِ القَديمِ، ولا يَلزَمُ مِن حُدوثِها حُدوثُ مَدْلولِها، وما أُجمِعَ عليه أنَّه مُرَكَّبٌ مِن الحُروفِ والأصْواتِ فإنَّما هو القُرْآنُ بمَعْنى القِراءةِ، لا نَفْسُ المَقْروءِ على ما تَقدَّمَ) [501] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 367). .
وقالَ الآمِدِيُّ مُبَيِّنًا مَعْنى سَماعِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لكَلامِ اللهِ سُبْحانَه: (السَّماعُ قد يُطلَقُ ويُرادُ به الإدْراكُ كما في الإدْراكِ بحاسَّةِ الأُذُنِ، وقدْ يُطلَقُ ويُرادُ به الانْقِيادُ والطَّاعةُ، وقدْ يُطلَقُ بمَعْنى الفَهْمِ والإحاطةِ، ومِنه يُقالُ: سَمِعْتُ فُلانًا، وإن كانَ ذلك مُبَلَّغًا على لِسانِ غَيْرِه، ولا يَكونُ المُرادُ به غَيْرَ الفَهْمِ لِما هو قائِمٌ بنَفْسِه، والَّذي هو مَدْلولُ عِبارةِ ذلك المُبلِّغِ، وإذا عُرِفَ ذلك فمِن الجائِزِ أن يكونَ قد سَمِعَ موسى كَلامَ اللهِ تَعالى القَديمَ، بمَعْنى أنَّه خَلَقَ له فَهْمَه والإحاطةَ به إمَّا بواسِطةٍ أو بغَيْرِ واسِطةٍ، والسَّماعُ بِهذا الاعْتِبارُ لا يَسْتَدْعي صَوْتًا ولا حَرْفًا، وما يُطلَقُ عليه مِن الحُروفِ والأصْواتِ أنَّه كَلامُ اللهِ تَعالى فليس مَعْناه إلَّا أنَّه دالٌّ على ما في نَفْسِه، وذلك كما يُقالُ: نادى الأَميرُ في البَلَدِ، وإن كانَ المُنادي غَيْرَه، ويُقالُ لمَن أَنشَدَ شِعْرَ الحُطَيْئةِ: إنَّه مُتَكلِّمٌ بكَلامِ الحُطَيْئةِ وشِعْرِه، ومِن ذلك سَمَّى الوَحْيَ كَلامًا للهِ تَعالى حتَّى يُقالَ: تَكلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ، والوَحْيُ كَلامُه، ولا نُنكِرُ أنَّ القُرْآنَ القَديمَ مَكْتوبٌ ومَحْفوظٌ ومَسْموعٌ ومَتْلُوٌّ، لكن ليس مَعْنى كَوْنِه مَكْتوبًا أو مَحْفوظًا أنَّه حالٌّ في المَصاحِفِ أو الصُّدورِ، بلْ مَعْناه أنَّه قد حَصَلَ فيها ما هو دالٌّ عليه، وهو مَفْهومٌ مِنه ومَعْلومٌ، وليس مَعْنى كَوْنِه مُنزَلًا أنَّه مُنْتَقِلٌ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، فإنَّ ذلك غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ على كِلا المَذهَبَينِ، بلْ مَعْناه أنَّ ما فَهِمَه جِبْريلُ مِن كَلامِ اللهِ تَعالى فَوْقَ سَبْعِ سَمَواتٍ عنْدَ سِدْرةِ المُنْتَهى يَنزِلُ بتَفْهيمِه للأنْبِياءِ إلى بَسيطِ الغَبْراءِ، وكذلك ليس مَعْنى كَوْنِه مَسْموعًا إلَّا ما ذَكَرْناه فيما مَضى، ومَن حَقَّقَ ما مَهَّدْناه وأَحاطَ بما قَرَّرْناه هانَ عليه التفَصِّي عن كلِّ ما أَوْرَدوه مِن الظَّواهِرِ الظَّنِّيَّةِ واعْتَمَدوه مِن الآثارِ النَّبَوِيَّةِ...، نَعمْ، لو قيلَ: إنَّ كَلامَه بحُروفٍ وأصْواتٍ لا كحُروفِنا وأصْواتِنا، كما أنَّ ذاتَه وصِفاتِه ليسَتْ كذاتِنا وصِفاتِنا كما قالَ بعضُ السَّلَفِ، فالحَقُّ أنَّ ذلك غَيْرُ مُسْتَبعَدٍ عَقْلًا، لكنَّه ممَّا لم يَدُلَّ الدَّليلُ القاطِعُ على إثْباتِه مِن جِهةِ المَعْقولِ أو مِن جِهةِ المَنْقولِ، فالقَوْلُ به تَحَكُّمٌ غَيْرُ مَقْبولٍ) [502] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 110 - 112). .
12- قال التَّفتازانيُّ: (التحقيقُ: أنَّ كلامَ اللهِ تعالى اسمٌ مُشتَرَكٌ بين الكلامِ النَّفسيِّ القديمِ، ومعنى الإضافةِ: كونُه صِفةَ اللهِ تعالى، وبَينَ اللَّفظيِّ الحادِثِ المؤلَّفِ من السُّوَرِ والآياتِ، ومعنى الإضافةِ: أنَّه مخلوقٌ لله تعالى، ليس من تأليفاتِ المخلوقينَ) [503] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 46). .
13- جاء في شَرحِ الجُرْجانيِّ على المواقِفِ للإيجي ما نصُّه: (لفظُ المعنى يُطلَقُ تارةً على مدلولِ اللَّفظِ، وأُخرى على الأمرِ القائِمِ بالغيرِ، فالشَّيخُ الأشعريُّ لَمَّا قال: الكلامُ هو المعنى النَّفسيُّ، فَهِم الأصحابُ منه أنَّ مرادَه مدلولُ اللَّفظِ وَحْدَه، وهو القديمُ عنده، وأمَّا العباراتُ فإنَّما تُسمَّى كلامًا مجازًا؛ لدَلالتِها على ما هو كلامٌ حقيقيٌّ، حتى صرَّحوا بأنَّ الألفاظَ حادِثةٌ على مذهَبِه أيضًا، لكِنَّها ليست كلامَه حقيقةً، وهذا الذي فَهِموه من كلامِ الشَّيخِ له لوازمُ كثيرةٌ فاسدةٌ، كعدَمِ إكفارِ من أنكَر كلاميَّةَ ما بين دفَّتَيِ المُصحَفِ، مع أنَّه عُلِم من الدِّينِ ضَرورةً كَونُه كلامَ اللهِ تعالى حقيقةً، وكعَدَمِ المُعارضةِ والتحَدِّي بكلامِ اللهِ تعالى الحقيقيِّ، وكعَدَمِ كَونِ المقروءِ والمحفوظِ كلامَه حقيقةً، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يخفى على المتفَطِّنِ في الأحكامِ الدِّينيَّةِ؛ فوجب حَملُ كلامِ الشَّيخِ على أنَّه أراد به المعنى الثَّانيَ، فيكونُ الكلامُ النَّفسيُّ عِندَه أمرًا شامِلًا للَّفظِ والمعنى جميعًا، قائمًا بذاتِ اللهِ تعالى، وهو مكتوبٌ في المصاحِفِ، مقروءٌ بالألسُنِ، محفوظٌ في الصُّدورِ، وهو غيرُ الكتابةِ والقراءةِ والحِفظِ الحادِثةِ، وما يقالُ من أنَّ الحُروفَ والألفاظَ مُترتِّبةٌ متعاقِبةٌ، فجوابُه: أنَّ ذلك الترتُّبَ إنَّما هو في التلَفُّظِ بسبَبِ عَدَمِ مُساعدةِ الآلةِ، فالتلفُّظُ حادِثٌ، والأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على الحُدوثِ يجبُ حَملُها على حُدوثِه دونَ حُدوثِ الملفوظِ جمعًا بَينَ الأدلَّةِ، وهذا الذي ذكَرْناه وإن كان مخالِفًا لِما عليه متأخِّرو أصحابِنا إلَّا أنَّه بعد التأمُّلِ تُعرَفُ حقيقتُه... وهذا المحمَلُ لكلامِ الشَّيخِ ممَّا اختاره الشَّيخُ محمَّدٌ الشَّهرَستانيُّ في كتابِه المُسمَّى بـ "نهاية الإقدام"، ولا شُبهةَ في أنَّه أقرَبُ إلى الأحكامِ الظَّاهِريَّةِ المنسوبةِ إلى قواعِدِ المِلَّةِ) [504] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (3/ 141). .
14- قالَ السُّكونيُّ المالِكيُّ: (كَلامُ اللهِ تَعالى قَديمٌ، والمُصْحَفُ حادِثٌ، وبعضُ النَّاسِ يَقولُ: إنَّ المُصْحَفَ هو نَفْسُ كَلامِ اللهِ، والصَّحيحُ أنَّ القُرْآنَ حَقيقةٌ ومَجازٌ؛ فالحَقيقةُ مِنه الكَلامُ القَديمُ القائِمُ بذاتِ الرَّبِّ تَعالى صِفةً مِن صِفاتِه، ليس بصَوْتٍ ولا حَرْفٍ، ولا يَحُلُّ في وَرَقةٍ ولا في قَلْبٍ ولا لِسانٍ، فإذا سَمَّينا المَحْفوظَ في قُلوبِنا، المَتْلُوَّ بألْسِنتِنا، المَكْتوبَ في مَصاحِفِنا: قُرْآنًا؛ فإنَّما مَعْناه الكَلامُ القَديمُ، وإذا سَمَّينا العِبارةَ، والفَهْمَ، والحُروفَ المُتَرْجَمةَ عن كَلامِ اللهِ: قُرْآنًا لدَلالتِه على الكَلامِ القَديمِ، وقَوْلِه تَعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] أي: حتَّى يَسمَعَ كَلامَ اللهِ مَتْلُوًّا ومَقْروءًا، وكذلك المُصْحَفُ كَلامُ اللهِ؛ بمَعْنى أنَّه المُتَرجَمُ والمَرْقومُ أَحْرُفًا تَدُلُّ على كَلامِ اللهِ تَعالى) [505] ((أربعون مسألة في أصول الدين)) (ص: 7). .
15- قالَ الدُّسوقيُّ: (ليس مَعْنى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] أنَّه ابْتَدَأَ الكَلامَ بَعْدَ أن كانَ ساكِتًا، ولا أنَّه بَعْدَما كَلَّمَه سَكَتَ، وإنَّما المَعْنى أنَّه أزالَ الحِجابَ عن موسى، وخَلَقَ له سَمْعًا، وقَوَّاه حتَّى أَدرَكَ كَلامَه القَديمَ، ثُمَّ مَنَعَه بَعْدَ ذلك ورَدَّه لِما كانَ عليه قَبْلَ سَماعِ كَلامِه) [506] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 113). .
وقالَ الدُّسوقيُّ: (المُعْتَزِلةُ يَقولونَ: إنَّ الكَلامَ لا يكونُ إلَّا حُروفًا وأصْواتًا، وحينَئذٍ فلا يَتَّصِفُ به المَوْلى بحيثُ يَكونُ قائِمًا به؛ لِئَلَّا يَلزَمَ قِيامُ الحَوادِثِ به، ومَعْنى كَوْنِه مُتَكلِّمًا أنَّه خالِقٌ للكَلامِ في غَيْرِه، ورَدَّ عليهم أهْلُ السُّنَّةِ بأنَّ كَلامَنا النَّفْسيَّ ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وهو كَلامٌ حَقيقةً، فلْيَكنْ كَلامُ اللهِ كذلك، أي ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وهو كَلامٌ حَقيقةً، فليس مُرادُ أهْلِ السُّنَّةِ بقَوْلِهم: فلْيَكنْ كَلامُ اللهِ كذلك أنَّهما مُتَماثِلانِ في الحَقيقةِ، بلْ هُما مُتَبايِنانِ؛ لأنَّ كَلامَه تَعالى قَديمٌ، وكَلامُنا النَّفْسيُّ حادِثٌ مُشْتَمِلٌ على التَّقْديمِ والتَّأخيرِ، بلْ مُرادُهم التَّشْبيهُ في أنَّ كُلًّا مِنهما ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وإن تَبايَنا في الحَقيقةِ) [507] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 114). .
16- قالَ الصَّاويُّ: (تَكْليمُ اللهِ لموسى على الجَبَلِ كانَ بالكَلامِ النَّفْسيِّ على التَّحْقيقِ عنْدَ الأشاعِرةِ) [508] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 183). .
وقالَ الباجوريُّ مُبَيِّنًا مَذهَبَ الأشاعِرةِ الَّذين وَصَفَهم بأنَّهم أهْلُ السُّنَّةِ: (اخْتَلَفَ أهْلُ المِلَلِ والمَذاهِبِ في مَعْنى كَلامِه تَعالى؛ فقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: صِفةٌ أزَليَّةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى ليست بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، مُنَزَّهةٌ عن التَّقدُّمِ والتَّأخُّرِ والإعْرابِ والبِناءِ، ومُنَزَّهةٌ عن السُّكوتِ النَّفْسيِّ بأن لا يُدَبِّرَ في نَفْسِه الكَلامَ معَ القُدْرةِ عليه، ومُنَزَّهةٌ عن الآفةِ الباطِنيَّةِ بأن لا يَقدِرَ على ذلك كما في حالِ الخَرَسِ والطُّفوليَّةِ، وقالَتِ الحَشَويَّةُ وطائِفةٌ سَمَّوا أنْفُسَهم بالحَنابِلةِ: كَلامُه تَعالى هو الحُروفُ والأصْواتُ المُتَوالِيةُ المُتَرَتِّبةُ، ويَزعُمونَ أنَّها قَديمةٌ، وتَعالى بعضُهم حتَّى زَعَمَ قِدَمَ هذه الحُروفِ الَّتي نَقْرَؤُها والرُّسومِ، بلْ تَجاوَزَ جَهْلُ بعضِهم لغِلافِ المُصْحَفِ، وقالَتِ المُعْتَزِلةُ: كَلامُه هو الحُروفُ والأصْواتُ الحادِثةُ، وهي غَيْرُ قائِمةٍ بذاتِه، فمَعْنى كَوْنِه مُتَكلِّمًا عنْدَهم أنَّه خالِقٌ للكَلامِ في بعضِ الأجْسامِ؛ لزَعْمِهم أنَّ الكَلامَ لا يكونُ إلَّا بحُروفٍ وأصْواتٍ، وهو مَرْدودٌ بأنَّ الكَلامَ النَّفْسيَّ ثابِتٌ لُغةً، كما في قَوْلِ الأخْطَلِ:
إنَّ الكَلامَ لَفي الفُؤادِ وإنَّما
جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دَليلا
وكَلامُه تَعالى صِفةٌ واحِدةٌ لا تَعَدُّدَ فيها، لكنْ لها أقْسامٌ اعْتِباريَّةٌ، فمِن حيثُ تَعَلُّقُه بطَلَبِ فِعلِ الصَّلاةِ مَثَلًا: أمْرٌ، ومِن حيثُ تَعَلُّقُه بطَلَبِ تَرْكِ الزِّنا مَثَلًا: نَهْيٌ، ومِن حيثُ تَعَلُّقُه بأنَّ فِرْعونَ فَعَلَ كَذا مَثَلًا: خَبَرٌ، ومِن حيثُ تَعَلُّقُه بأنَّ الطائِعَ له الجَنَّةُ: وَعْدٌ، ومِن حيثُ تَعَلُّقُه بأنَّ العاصِيَ يَدخُلُ النَّارَ: وَعيدٌ، إلى غَيْرِ ذلك بالنِّسْبةِ لغَيْرِ الأمْرِ والنَّهْيِ، تَعَلُّقٌ تَنْجيزيٌّ قَديمٌ، وأمَّا بالنِّسْبةِ للأمْرِ والنَّهْيِ: فإن لم يُشتَرَطْ فيهما وُجودُ المَأمورِ والمَنْهِيِّ فكذلك، وإن اشْتُرِطَ فيهما ذلك كانَ التَّعَلُّقُ فيهما صلوحِيًّا قَبْلَ وُجودِ المَأمورِ والمَنْهِيِّ، وتَنْجيزيًّا حادِثًا بَعْدَ وُجودِهما. واعْلَمْ أنَّ كَلامَ اللهِ يُطلَقُ على الكَلامِ النَّفْسيِّ القَديمِ بمَعْنى أنَّه صِفةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى، وعلى الكَلامِ اللَّفْظيِّ بمَعْنى أنَّه خَلَقَه، وليس لأحَدٍ في أصْلِ تَرْكيبِه كَسْبٌ، وعلى هذا المَعْنى يُحمَلُ قَوْلُ السَّيِّدةِ عائِشةَ: (ما بَيْنَ دَفَّتَيِ المُصْحَفِ كَلامُ اللهِ تَعالى)، وإطْلاقُه عليهما: قيلَ بالاشْتِراكِ، وقيلَ: حَقيقيٌّ في النَّفْسيِّ، مَجازٌ في اللَّفْظيِّ، وعلى كُلٍّ مَن أَنكَرَ أنَّ ما بَيْنَ دَفَّتَيِ المُصْحَفِ كَلامُ اللهِ، فقدْ كَفَرَ، إلَّا أن يُريدَ أنَّه ليس هو الصِّفةَ القائِمةَ بذاتِه تَعالى، ومعَ كَوْنِ اللَّفْظِ الَّذي نَقْرَؤُه حادِثًا لا يَجوزُ أن يُقالَ: القُرْآنُ حادِثٌ إلَّا في مَقامِ التَّعْليمِ؛ لأنَّه يُطلَقُ على الصِّفةِ القائِمةِ بذاتِه أيضًا، لكنْ مَجازًا على الأَرجَحِ، فرُبَّما يُتَوَهَّمُ مِن إطْلاقِ أنَّ القُرْآنَ حادِثٌ أنَّ الصِّفةَ القائِمةَ بذاتِه تَعالى حادِثةٌ، ولِذلك ضُرِبَ الإمامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وحُبِسَ على أن يَقولَ بخَلْقِ القُرْآنِ فلم يَرْضَ، وقالَ السَّنوسيُّ وغَيْرُه مِن المُتَقدِّمينَ: إنَّ الألْفاظَ الَّتي نَقْرَؤُها تَدُلُّ على الكَلامِ القَديمِ، وهذا خِلافُ التَّحْقيقِ؛ لأنَّ بعضَ مَدْلولِه قَديمٌ، كما في قَوْلِه تَعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، وبعضُ مَدْلولِه حادِثٌ كما في قَوْلِه تَعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص: 76] ، والتَّحْقيقُ أنَّ هذه الألْفاظَ تَدُلُّ على بعضِ مَدْلولِ الكَلامِ القَديمِ؛ لأنَّه يَدُلُّ على جَميعِ الواجِباتِ والجائِزاتِ والمُسْتَحيلاتِ، فالألْفاظُ الَّتي نَقْرَؤُها تَدُلُّ على بعضِ هذا المَدْلولِ، فلو كُشِفَ عنَّا الحِجابُ وفَهِمْنا مِن الكَلامِ القَديمِ طَلَبَ إقامةٍ للصَّلاةِ مَثَلًا نَفهَمُ ذلك مِن قَوْلِه تَعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] ، ويَصِحُّ أن يَكونَ المُرادُ أنَّ الكَلامَ اللَّفْظيَّ يَدُلُّ على الكَلامِ النَّفْسيِّ دَلالةً عَقْليَّةً الْتِزاميَّةً بحَسَبِ العُرْفِ، فإنَّ مَن أُضيفَ له كَلامٌ لَفْظيٌّ دَلَّ عُرْفًا أنَّ له كَلامًا نَفْسيًّا، وقد أُضيفَ له تَعالى كَلامٌ لَفْظيٌّ كالقُرْآنِ، فإنَّه كَلامُ اللهِ قَطْعًا، بمَعْنى أنَّه خَلَقَه في اللَّوْحِ المَحْفوظِ، فدَلَّ الْتِزامًا على أنَّ له تَعالى كَلامًا نَفْسيًّا، وهذا هو المُرادُ بقَوْلِهم: القُرْآنُ حادِثٌ، ومَدْلولُه قَديمٌ، فأرادوا بمَدْلولِه الكَلامَ النَّفْسيَّ، وتَكْفي الإضافةُ الإجْماليَّةُ وإن لم يكنِ اللَّفْظيُّ قائِمًا بالذَّاتِ) [509] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 129 - 131). .
وفيما يَلي مَجْموعةُ نُقولاتٍ مِن كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ وغَيرِه، فيها تَحْقيقُ الخِلافِ في مَسْألةِ الكَلامِ، وبَيانُ مَذهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بالأدِلَّةِ النَّقْليَّةِ والعَقْلِيَّةِ، وبَيانُ أسْبابِ مَنشَأِ أقْوالِ المُخالِفينَ لمَذهَبِ السَّلَفِ، وكَشْفُ شُبُهاتِهم:
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (النَّاسُ لهم في الكَلامِ ثَلاثةُ أقْوالٍ: هلْ هو اسْمُ اللَّفْظِ والمَعْنى جَميعًا؟ كما هو قَوْلُ الأَكثَرينَ، أم لِلَّفْظِ فقط بشَرْطِ دَلالتِه على المَعْنى؟ كقَوْلِ المُعْتَزِلةِ وكَثيرٍ مِن غَيْرِهم، أو لِلمَعْنى المَدْلولِ عليه باللَّفْظِ، كقَوْلِ الكُلَّابيَّةِ؟ ومِن مُتَأخِّريهم مَن جَعَلَه مُشْترَكًا بَيْنَهما اشْتِراكًا لَفْظيًّا. وأمَّا المُتَكلِّمُ ففيه أيضًا ثَلاثةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّه مَن فَعَلَ الكَلامَ ولو في غَيْرِه، كما يَقولُه المُعْتَزِلةُ. والثَّاني: مَن قامَ به الكَلامُ وإن لم يَفعَلْه، ولم يكُنْ مَقْدورًا مُرادًا له، كما يَقولُه الكُلَّابيَّةُ. والثَّالِثُ: مَن جَمَعَ الوَصْفَينِ، فقامَ به الكَلامُ وكانَ قادِرًا عليه، ولا رَيْبَ أنَّ جُمْهورَ الأُمَمِ يَقولونَ: لا يكونُ مُتَكلِّمًا إلَّا مَن قامَ به الكَلامُ، كما لا يكونُ مُتَحرِّكًا إلَّا مَن قامَتْ به الحَرَكةُ، ولا عالِمًا إلَّا مَن قامَ به العِلمُ، ونَحْوُ ذلك، لكنَّ الكُلَّابيَّةَ اعْتَقَدوا أنَّه لا تَقومُ به الحَوادِثُ، فامْتَنَعَ لِهذا عنْدَهم أن يكونَ الكَلامُ مَقْدورًا له مُرادًا، قالوا: لأنَّ المَقْدورَ المُرادَ حادِثٌ لا يكونُ صِفةً لازِمةً له) [510] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (10/ 222). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (مَذهَبُ السَّلَفِ والفُقَهاءِ والجُمْهورِ أنَّ الكَلامَ اسْمٌ للَّفْظِ والمَعْنى بطَريقِ العُمومِ، فإذا قيلَ: تَكلَّمَ فُلانٌ، كانَ المَفْهومُ مِنه عنْدَ الإطْلاقِ اللَّفْظَ والمَعْنى جَميعًا، كما قالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تَجاوَزَ لأُمَّتي عمَّا حَدَّثَتْ بِه أنْفُسَها ما لم تَتَكلَّمْ أو تَعمَلْ به )) [511] أخرجه البخاري (5269)، ومُسلِم (127) باخْتِلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ...، فالكَلامُ إذا أُطلِقَ يَتَناوَلُ اللَّفْظَ والمَعْنى جَميعًا، وإذا سُمِّيَ المَعْنى وَحْدَه كَلامًا أو اللَّفْظُ وَحْدَه كَلامًا فإنَّما ذاك معَ قَيْدٍ يَدُلُّ على ذلك) [512] ((مجموع الفَتاوى)) (6/ 533) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (مَسْألةُ كَلامِ اللهِ تَعالى: النَّاسُ فيها مُضْطَرِبونَ، وقدْ بَلَغوا فيها إلى تِسْعةِ أقْوالٍ؛ أحَدُها: أنَّ كَلامَ اللهِ ما يَفيضُ على النُّفوسِ مِن المَعاني الَّتي تَفيضُ؛ إمَّا مِن العَقْلِ الفَعَّالِ عنْدَ بعضِهم، وإمَّا مِن غَيْرِه، وهذا قَوْلُ الصَّابِئةِ والمُتَفَلْسِفةِ المُوافِقينَ لهم كابنِ سينا.
وثانيها: أنَّه مَخْلوقٌ خَلَقَه اللهُ مُنْفصِلًا عنه، وهذا قَوْلُ الرَّافِضةِ المُتَأخِّرينَ، والزَّيْديَّةِ، والمُعْتَزِلةِ، والجَهْميَّةِ.
وثالِثُها: أنَّه مَعْنًى واحِدٌ قَديمٌ قائِمٌ بذاتِ اللهِ، هو الأمْرُ والنَّهْيُ، والخَبَرُ والاسْتِخْبارُ، إن عُبِّرَ عنه بالعَربيَّةِ كانَ قُرْآنًا، وإن عُبِّرَ عنه بالعِبْريَّةِ كانَ تَوْراةً، وهذا قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ ومَن وافَقَه، كالأشْعَريِّ وغَيْرِه.
ورابِعُها: أنَّه حُروفٌ وأصْواتٌ أزَليَّةٌ مُجْتمِعةٌ في الأزَلِ، وهذا قَوْلُ السَّالِميَّةِ ونَحْوِهم.
وخامِسُها: أنَّه حُروفٌ وأصْواتٌ لكن تَكلَّمَ به بَعْدَ أن لم يكُنْ مُتَكلِّمًا، وكَلامُه حادِثٌ في ذاتِه كما أنَّ فِعْلَه حادِثٌ في ذاتِه بَعْدَ أنْ لم يكُنْ مُتَكلِّمًا ولا فاعِلًا، وهذا قَوْلُ الكَرَّاميَّةِ وغَيْرِهم.
وسادِسُها: أنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، ومتى شاءَ، وكيف شاءَ، بكَلامٍ يَقومُ به، وهو يَتَكلَّمُ به بصَوْتٍ يُسمَعُ، وأنَّ نَوْعَ الكَلامِ أزَلِيٌّ قَديمٌ، وإن لم يَجعَلْ نَفْسَ الصَّوْتِ المُعيَّنِ قَديمًا، وهذا هو المَأثورُ عن أئِمَّةِ الحَديثِ والسُّنَّةِ.
وسابِعُها: كَلامُه يَرجِعُ إلى ما يَحدُثُ مِن عِلمِه وإرادتِه القائِمِ بذاتِه، وأبو عَبْدِ اللهِ الرَّازِيُّ يَقولُ بِهذا القَوْلِ في كِتابِه "المَطالِب العالِية".
وثامِنُها: كَلامُه يَتَضَمَّنُ مَعنًى قائِمًا بذاتِه وهو ما خَلَقَه في غَيْرِه، ثُمَّ مِن هؤلاء مَن يَقولُ في ذلك المَعْنى بقَوْلِ ابنِ كُلَّابٍ، وهذا قَوْلُ أبي مَنْصورٍ الماتُريديِّ، ومِنهم مَن يَقولُ بقَوْلِ المُتَفَلْسِفةِ، وهذا قَوْلُ طائِفةٍ مِن المَلاحِدةِ الباطِنيَّةِ مُتَشَيِّعهم ومُتَصَوِّفيهم.
وتاسِعُها: كَلامُ اللهِ مُشْترَكٌ بَيْنَ المَعْنى القَديمِ القائِمِ بالذَّاتِ، وبَيْنَ ما يَخلُقُه في غَيْرِه مِن الأصْواتِ، وهذا قَوْلُ أبي المَعالي ومَن اتَّبَعَه مِن مُتَأخِّري الأشْعَريَّةِ) [513] ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 358 - 363) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (السَّلَفُ وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والحَديثِ يَقولونَ: إنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وكَلامُه ليس بمَخْلوقٍ، بلْ كَلامُه صِفةٌ له قائِمةٌ بذاتِه...، مُتَّفِقونَ على أنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، وكيف شاءَ...، يَقولونَ: إنَّه صِفةُ ذاتٍ وفِعْلٍ، هو يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه كَلامًا قائِمًا بذاتِه، وهذا هو المَعْقولُ مِن صِفةِ الكَلامِ لكلِّ مُتَكلِّمٍ، فكلُّ حَيٍّ وُصِفَ بالكَلامِ؛ كالمَلائِكةِ، والبَشَرِ، والجِنِّ، وغَيْرِهم، فكَلامُهم لا بُدَّ أن يَقومَ بأنْفُسِهم، وهُمْ يَتَكلَّمونَ بمَشيئتِهم وقُدْرتِهم. والكَلامُ صِفةُ كَمالٍ لا صِفةُ نَقْصٍ، ومَن تَكلَّمَ بمَشيئتِه أَكمَلُ ممَّن لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه، فكيف يَتَّصِفُ المَخْلوقُ بصِفاتِ الكَمالِ دونَ الخالِقِ؟! ولكنَّ الجَهْميَّةَ والمُعْتَزِلةَ بَنَوا على أصْلِهم أنَّ الرَّبَّ لا يَقومُ به صِفةٌ؛ لأنَّ ذلك بزَعْمِهم يَسْتَلْزِمُ التَّجْسيمَ والتَّشْبيهَ المُمْتَنِعَ؛ إذِ الصِّفةُ عَرَضٌ، والعَرَضُ لا يَقومُ إلَّا بجِسْمٍ. والكُلَّابيَّةُ يَقولونَ: هو مُتَّصِفٌ بالصِّفاتِ الَّتي ليس له عليها قُدْرةٌ، ولا تكونُ بمَشيئتِه، فأمَّا ما يكونُ بمَشيئتِه فإنَّه حادِثٌ، والرَّبُّ تَعالى لا تَقومُ به الحَوادِثُ، ويُتَرْجِمونَ الصِّفاتِ الاخْتِياريَّةَ بمَسْألةِ حُلولِ الحَوادِثِ؛ فإنَّه إذا كَلَّمَ موسى بنَ عِمْرانَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وناداه حينَ أتاه بقُدْرتِه ومَشيئتِه كانَ ذلك النِّداءُ والكَلامُ حادِثًا. قالوا: فلو اتَّصَفَ الرَّبُّ به لَقامَتْ به الحَوادِثُ، قالوا: ولو قامَتْ به الحَوادِثُ لم يَخْلُ مِنها، وما لم يَخْلُ مِن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، قالوا: ولأنَّ كَوْنَه قابِلًا لتلك الصِّفةِ إن كانَ مِن لَوازِمِ ذاتِه كانَ قابِلًا لها في الأزَلِ، فيَلزَمُ جَوازُ وُجودِها في الأزَلِ، والحَوادِثُ لا تكونُ في الأزَلِ؛ فإنَّ ذلك يَقْتَضي وُجودَ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها) [514] ((جامع الرسائل لابن تَيْمِيَّةَ)) (2/ 4، 6) بتَصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كَلامُ اللهِ: هل هو حَرْفٌ وصَوْتٌ أم لا؟ إطْلاقُ الجَوابِ في هذه المَسْألةِ نَفْيًا وإثْباتًا خَطَأٌ، وهي مِن البِدَعِ المُوَلَّدةِ الحادِثةِ بَعْدَ المِئةِ الثَّالِثةِ، لمَّا قالَ قَوْمٌ مِن مُتَكلِّمةِ الصِّفاتيَّةِ: إنَّ كَلامَ اللهِ الَّذي أُنزِلَ على أنْبِيائِه؛ كالتَّوْراةِ والإنْجيلِ والقُرْآنِ، والَّذي لم يُنزِلْه، والكَلِماتِ الَّتي كَوَّنَ بها الكَائِناتِ، والكَلِماتِ المُشْتَمِلةَ على أمْرِه ونَهْيِه وخَبَرِه- ليست إلَّا مُجَرَّدَ مَعنًى واحِدٍ، هو صِفةٌ واحِدةٌ قامَتْ باللهِ، إن عُبِّرَ عنها بالعِبْرانيَّةِ كانَتِ التَّوْراةَ، وإن عُبِّرَ عنها بالعَربيَّةِ كانَتِ القُرْآنَ، وإنَّ الأمْرَ والنَّهْيَ والخَبَرَ صِفاتٌ لها لا أقْسامٌ لها، وإنَّ حُروفَ القُرْآنِ مَخْلوقةٌ خَلَقَها اللهُ، ولم يَتَكلَّم بها، وليسَتْ مِن كَلامِه؛ إذ كَلامُه لا يكونُ بحَرْفٍ وصَوْتٍ، عارَضَهم آخَرونَ مِن المُثبِتةِ فقالوا: بلِ القُرْآنُ هو الحُروفُ والأصْواتُ، وتَوَهَّمَ قَوْمٌ أنَّهم يَعْنونَ بالحُروفِ المِدادَ، وبالأصْواتِ أصْواتَ العِبادِ، وهذا لم يَقُلْه عالِمٌ، والصَّوابُ الَّذي عليه سَلَفُ الأُمَّةِ؛ كالإمامِ أَحْمَدَ، والبُخارِيِّ صاحِبِ الصَّحيحِ في كِتابِ خَلْقِ أفْعالِ العِبادِ، وغَيْرِه، وسائِرِ الأئِمَّةِ قَبْلَهم وبَعْدَهم: اتِّباعُ النُّصوصِ الثابِتةِ وإجْماعِ سَلَفِ الأُمَّةِ، وهو أنَّ القُرْآنَ جَميعَه كَلامُ اللهِ، حُروفَه ومَعانيَه، ليس شيءٌ مِن ذلك كَلامًا لغَيْرِه، ولكنْ أَنزَلَه على رَسولِه، وليس القُرْآنُ اسْمًا لمُجَرَّدِ المَعْنى، ولا لمُجَرَّدِ الحَرْفِ، بلْ لِمَجْموعِهما، وكذلك سائِرُ الكَلامِ ليس هو الحُروفَ فقط، ولا المَعانيَ فقط، كما أنَّ الإنْسانَ المُتَكلِّمَ النَّاطِقَ ليس هو مُجَرَّدَ الرُّوحِ، ولا مُجَرَّدَ الجَسَدِ، بلْ مَجْموعُهما، وأنَّ اللهَ تَعالى يَتَكلَّمُ بصَوْتٍ كما جاءَتْ به الأحاديثُ الصِّحاحُ، وليس ذلك كأصْواتِ العِبادِ، لا صَوْتِ القارِئِ ولا غَيْرِه، وأنَّ اللهَ ليس كمِثلِه شيءٌ، لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفْعالِه، فكما لا يُشبِهُ عِلمُه وقُدْرتُه وحَياتُه عِلمَ المَخْلوقِ وقُدْرتَه وحَياتَه، فكذلك لا يُشبِهُ كَلامُه كَلامَ المَخْلوقِ، ولا مَعانيه تُشبِهُ مَعانيَه، ولا حُروفُه تُشبِهُ حُروفَه، ولا صَوْتُ الرَّبِّ يُشبِهُ صَوْتَ العَبْدِ، فمَن شَبَّهَ اللهَ بخَلْقِه فقدْ أَلحَدَ في أسْمائِه وآياتِه، ومَن جَحَدَ ما وَصَفَ به نَفْسَه فقدْ أَلحَدَ في أسْمائِه وآياتِه) [515] ((مجموع الفَتاوى)) (12/ 243). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (قَوْلُ السَّلَفِ: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، قَصَدوا به إبْطالَ قَوْلِ مَن يَقولُ: إنَّ اللهَ لم يَقُمْ بذاتِه كَلامٌ؛ ولِهذا قالَ الأئِمَّةُ: كَلامُ اللهِ مِن اللهِ ليس ببائِنٍ مِنه...، وقَوْلُ السَّلَفِ: مِنه بَدَأَ، لم يُريدوا أنَّه فارَقَ ذاتَه وحَلَّ في غَيْرِه، فكيف يَجوزُ أن يُفارِقَ ذاتَ اللهِ كَلامُه أو غَيْرُه مِن صِفاتِه؟! بلْ قالوا: مِنه بَدَأَ أي: هو المُتَكلِّمُ به، رَدًّا على المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ وغَيْرِهم الَّذين قالوا: بَدَأَ مِن المَخْلوقِ الَّذي خُلِقَ فيه. وقَوْلُهم: إليه يَعودُ، أي: عِلمُه، فلا يَبْقى في المَصاحِفِ مِنه حَرْفٌ، ولا في الصُّدورِ مِنه آيةٌ) [516] ((الفَتاوى الكبرى)) (5/ 16) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (قالَ وَكيعُ بنُ الجَرَّاحِ: مَن زَعَمَ أنَّ القُرْآنَ مَخْلوقٌ فقدْ زَعَمَ أنَّ شَيئًا مِن اللهِ مَخْلوقٌ. فقيلَ له: مِن أين قُلْتَ هذا؟ قالَ: لأنَّ اللهَ يَقولُ: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] ، ولا يكونُ مِن اللهِ شيءٌ مَخْلوقٌ. وهذا القَوْلُ قالَه غَيْرُ واحِدٍ مِن السَّلَفِ.
وقالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: كَلامُ اللهِ مِن اللهِ، ليس ببائِنٍ مِنه. وهذا مَعْنى قَوْلِ السَّلَفِ: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ مِنه بَدَأَ ومِنه خَرَجَ وإليه يَعودُ...، وليس مَعْنى قَوْلِ السَّلَفِ والأئِمَّةِ: إنَّه مِنه خَرَجَ ومِنه بَدَأَ، أنَّه فارَقَ ذاتَه وحَلَّ بغَيْرِه؛ فإنَّ كَلامَ المَخْلوقِ إذا تَكلَّمَ به لا يُفارِقُ ذاتَه ويَحُلُّ بغَيْرِه، فكيف يكونُ كَلامُ اللهِ؟! قالَ تَعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5] ، فقدْ أَخبَرَ أنَّ الكَلمةَ تَخرُجُ مِن أفْواهِهم، ومعَ هذا فلم تُفارِقْ ذاتَهم. وأيضًا فالصِّفةُ لا تُفارِقُ المَوْصوفَ وتَحُلُّ بغَيْرِه، لا صِفةُ الخالِقِ ولا صِفةُ المَخْلوقِ، والنَّاسُ إذا سَمِعوا كَلامَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ بَلَّغوه عنه كانَ الكَلامُ الَّذي بَلَّغوه كَلامَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد بَلَّغوه بحَرَكاتِهم وأصْواتِهم، فالقُرْآنُ أَولى بِذلك، فالكَلامُ كَلامُ الباري، والصَّوْتُ صَوْتُ القارِئِ؛ قالَ تَعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] . وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((زَيِّنوا القُرْآنَ بأصْواتِكم )) [517] أخرجه البُخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ (7544)، وأخرجه موصولًا: أبو داود (1468)، والنَّسائيُّ (1015) من حديثِ البراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصَّحيح)) (1/75)، والعقيليُّ في ((الضعفاء الكبير)) (4/86)، وابنُ حِبَّان في ((صَحيحه)) (749). . ولكنَّ مَقْصودَ السَّلَفِ الرَّدُّ على هؤلاء الجَهْميَّةِ، فإنَّهم زَعَموا أنَّ القُرْآنَ خَلَقَه اللهُ في غَيْرِه، فيكونُ قد ابْتَدَأَ وخَرَجَ مِن ذلك المَحَلِّ الَّذي خُلِقَ فيه، لا مِن اللهِ، كما يَقولونَ: كَلامُه لموسى خَرَجَ مِن الشَّجَرةِ، فبَيَّنَ السَّلَفُ والأئِمَّةُ أنَّ القُرْآنَ مِن اللهِ بَدَأَ وخَرَجَ، وذَكَروا قَوْلَه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] ، فأَخبَرَ أنَّ القَوْلَ مِنه لا مِن غَيْرِه مِن المَخْلوقاتِ، ومِن: هي لابْتِداءِ الغايةِ، فإن كانَ المَجْرورُ بها عَيْنًا يَقومُ بنَفْسِه لم يكنْ صِفةً للهِ، كقَوْلِه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13] ، وقَوْلِه في المَسيحِ: رُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] ، وكذلك ما يَقومُ بالأعْيانِ كقَوْلِه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] ، وأمَّا إذا كانَ المَجْرورُ بها صِفةً، ولم يُذكَرْ لها مَحَلٌّ، كانَ صِفةً للهِ، كقَوْلِه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] ، ولِذلك قد أَخبَرَ في غَيْرِ مَوضِعٍ مِن القُرْآنِ أنَّه نَزَلَ مِنه، وأنَّه نَزَلَ به جِبْريلُ مِنه، رَدًّا على هذا المُبْتَدِعِ المُفْتَري وأمْثالِه ممَّن يَقولُ إنَّه لم يَنزِلْ مِنه، قالَ تَعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] ، وقالَ تَعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] ، وروحُ القُدُسِ هو جِبْريلُ، فبَيَّنَ أنَّ جِبْريلَ نَزَّلَه مِن اللهِ، لا مِن هواه، ولا مِن لَوْحٍ، ولا مِن غَيْرِ ذلك، وكذلك سائِرُ آياتِ القُرْآنِ كقَوْلِه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] ...، فقدْ بَيَّنَ في غَيْرِ مَوضِعٍ أنَّه مُنزَّلٌ مِن اللهِ، فمَن قالَ: إنَّه مُنزَّلٌ مِن بعضِ المَخْلوقاتِ كاللَّوْحِ أو الهَواءِ فهو مُفْتَرٍ على اللهِ، مُكَذِّبٌ لكِتابِ اللهِ، مُتَّبِعٌ لغَيْرِ سَبيلِ المُؤْمِنينَ. أَلَا تَرى أنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنَ ما نَزَّلَه مِنه، وما نَزَّلَه مِن بعضِ المَخْلوقاتِ كالمَطَرِ بأنَّه قالَ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الرعد: 17] ؟ فذَكَرَ المَطَرَ في غَيْرِ مَوضِعٍ، وأَخبَرَ أنَّه نَزَّلَه مِن السَّماءِ، والقُرْآنُ أَخبَرَ أنَّه مُنزَّلٌ مِنه...، ولو كانَ جِبْريلُ أخَذَ القُرْآنَ مِن اللَّوْحِ المَحْفوظِ لكانَ اليَهودُ أَكرَمَ على اللهِ مِن أمَّةِ مُحَمَّدٍ؛ لأنَّه قد ثَبَتَ بالنَّقْلِ الصَّحيحِ أنَّ اللهَ كَتَبَ لِموسى التَّوْراةَ، وأَنزَلَها مَكْتوبةً، فيكونُ بَنو إسْرائيلَ قد قَرَؤوا الألْواحَ الَّتي كَتَبَها اللهُ، وأمَّا المُسلِمونَ فأخَذوه عن مُحَمَّدٍ، ومُحَمَّدٌ أخَذَه عن جِبْريلَ عن اللَّوْحِ، فيكونُ بَنو إسْرائيلَ بمَنزِلةِ جِبْريلَ، وتكونُ مَنزِلةُ بَني إسْرائيلَ أَرفَعَ مِن مَنزِلةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قَوْلِ هؤلاء الجَهْميَّةِ! واللهُ سُبْحانَه جَعَلَ مِن فَضائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أَنزَلَ عليهم كِتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، وأنَّه أَنزَلَه عليه تِلاوةً لا كِتابةً، وفَرَّقَه عليهم لأجْلِ ذلك، فقالَ: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ، وقالَ تَعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . ثُمَّ إن كانَ جِبْريلُ لم يَسمَعْه مِن اللهِ، وإنَّما وَجَدَه مَكْتوبًا، كانَتِ العِبارةُ عِبارةَ جِبْريلَ، وكانَ القُرْآنُ كَلامَ جِبْريلَ، تَرْجَمَ به عن اللهِ، كما يُتَرْجَمُ عن الأَخْرَسِ الَّذي كَتَبَ كَلامًا ولم يَقدِرْ أن يَتَكلَّمَ به! وهذا خِلافُ دينِ المُسلِمينَ. وإن احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بقَوْلِه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 19-20] قيلَ له: فقدْ قالَ في الآيةِ الأُخرى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 40 - 42] ، فالرَّسولُ في هذه الآيةِ جِبْريلُ، والرَّسولُ في الآيةِ الأخرى مُحَمَّدٌ، فلو أُريدُ به أنَّ الرَّسولَ أَحدَثَ عِبارتَه لتَناقَضَ الخَبَرانِ! فعُلِمَ أنَّه أضافَه إليه إضافةَ تَبْليغٍ لا إضافةَ إحْداثٍ؛ ولِهذا قالَ: لَقَوْلُ رَسُولٍ، ولم يَقُلْ: مَلَكٍ ولا نَبيٍّ...، وإنِ احْتَجَّ بقَوْلِه: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] ، قيلَ له: هذه الآيةُ حُجَّةٌ عليك، فإنَّه لمَّا قالَ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء: 2] عُلِمَ أنَّ الذِّكْرَ مِنه مُحدَثٌ، ومِنه ما ليس بمُحدَثٍ؛ لأنَّ النَّكِرةَ إذا وُصِفَتْ مَيَّزتها بَيْنَ المَوْصوفِ وغَيْرِه، كما لو قالَ: ما يَأتيني مِن رَجُلٍ مُسلِمٍ إلَّا أَكرَمْتُه، وما آكُلُ إلَّا طَعامًا حَلالًا، ونَحْوَ ذلك، ويُعلَمُ أنَّ المُحدَثَ في الآيةِ ليس هو المَخْلوقَ الَّذي يَقولُه الجَهْميُّ، ولكنَّه الَّذي أُنزِلَ جَديدًا، فإنَّ اللهَ كانَ يُنزِلُ القُرْآنَ شَيئًا بَعْدَ شيءٍ، فالمُنزَلُ أوَّلًا هو قَديمٌ بالنِّسْبةِ إلى المُنزَلِ آخِرًا، وكلُّ ما تَقَدَّمَ على غَيْرِه فهو قَديمٌ في لُغةِ العَربِ، كما قالَ: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] ...، وكذلك قَوْلُه: جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] لم يَقُلْ: (جَعَلْناه) فقط حتَّى يُظَنَّ أنَّه بمَعْنى خَلَقْناه، ولكنْ قالَ: جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي: صَيَّرْناه عَربيًّا؛ لأنَّه قد كانَ قادِرًا على أن يُنزِلَه عَجَميًّا ويُنزِلَه عَربيًّا، فلمَّا أَنزَلَه عَربيًّا كانَ قد جَعَلَه عَربيًّا دونَ عَجَميٍّ، وهذه المَسْألةُ مِن أُصولِ أهْلِ الإيمانِ والسُّنَّةِ الَّتي فارَقوا بِها الجَهْميَّةَ مِن المُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ ونَحْوِهم) [518] ((الفَتاوى الكبرى)) (5/ 38 - 43) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (مَذهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ وسائِرِ أئِمَّةِ المُسلِمينَ، كالأئِمَّةِ الأرْبَعةِ وغَيْرِهم ما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وهو الَّذي يُوافِقُ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ الصَّريحةَ: أنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيْرُ مَخْلوقٍ، مِنه بَدَأَ وإليه يَعودُ، فهو المُتَكلِّمُ بالقُرْآنِ والتَّوْراةِ والإنْجيلِ، وغَيْرِ ذلك مِن كَلامِه، ليس ذلك مَخْلوقًا مُنْفَصِلًا عنه، وهو سُبْحانَه يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، فكَلامُه قائِمٌ بذاتِه، ليس مَخْلوقًا بائِنًا عنه، وهو يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، لم يَقُلْ أحَدٌ مِن سَلَفِ الأُمَّةِ: إنَّ كَلامَ اللهِ مَخْلوقٌ بائِنٌ عنه، ولا قالَ أحَدٌ مِنهم: إنَّ القُرْآنَ أو التَّوْراةَ أو الإنْجيلَ لازِمةٌ لذاتِه أزَلًا وأبَدًا، وهو لا يَقدِرُ أن يَتَكلَّمَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، ولا قالوا: إنَّ نَفْسَ نَدائِه لِموسى أو نَفْسَ الكَلِمةِ المُعيَّنةِ قَديمةٌ أزَلِيَّةٌ، بلْ قالوا: لم يَزَلِ اللهُ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، فكَلامُه قَديمٌ بمَعْنى أنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، وكَلِماتُ اللهِ لا نِهايةَ لها، كما قالَ تَعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] ، واللهُ سُبْحانَه تَكلَّمَ بالقُرْآنِ العَرَبيِّ، وبالتَّوْراةِ العِبْريَّةِ، فالقُرْآنُ العَرَبيُّ كَلامُ اللهِ...، وقدْ فَرَّقَ سُبْحانَه بَيْنَ إيحائِه إلى غَيْرِ موسى وبَيْنَ تَكْليمِه لِموسى في قَوْلِه تَعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 163 - 165] فَرَّقَ سُبْحانَه بَيْنَ تَكْليمِه لِموسى وبَيْنَ إيحائِه لغَيْرِه، ووَكَّدَ تَكْليمَه لِموسى بالمَصدَرِ، وقالَ تَعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] ، فقدْ بَيَّنَ سُبْحانَه أنَّه لم يكنْ لبَشَرٍ أن يُكلِّمَه اللهُ إلَّا على أحَدِ الأَوْجُهِ الثَّلاثةِ: إمَّا وَحْيًا، وإمَّا مِن وَراءِ حِجابٍ، وإمَّا أن يُرسِلَ رَسولًا فيُوحيَ بإذْنِه ما يَشاءُ؛ فجَعَلَ الوَحْيَ غَيْرَ التَّكْليمِ. والتَّكْليمُ مِن وَراءِ حِجابٍ كانَ لِموسى، وقدْ أَخبَرَ في غَيْرِ مَوضِعٍ أنَّه ناداه كما قالَ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، والنِّداءُ باتِّفاقِ أهْلِ اللُّغةِ لا يكونُ إلَّا صَوْتًا مَسْموعًا، فهذا ممَّا اتَّفَقَ عليه سَلَفُ المُسلِمينَ وجُمْهورُهم. وأهْلُ الكِتابِ يَقولونَ: إنَّ موسى ناداه رَبُّه نِداءً سَمِعَه بأُذُنِه، وناداه بصَوْتٍ سَمِعَه موسى، والصَّوْتُ لا يكونُ إلَّا كَلامًا، والكَلامُ لا يكونُ إلَّا حُروفًا مَنْظومةً، وقدْ قالَ تَعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] ) [519] ((مجموع الفَتاوى)) (12/ 37) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (في السُّنَنِ عن جابِرٍ قالَ: كانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعرِضُ نَفْسَه على النَّاسِ بالمَوسِمِ فيَقولُ: ((أَلَا رَجُلٌ يَحمِلُني إلى قَوْمِه لأُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي؟ فإنَّ قُرَيشًا مَنْعوني أن أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي! )) [520] أخرجه أبو داود (4734)، والترمذيُّ (2925)، وابنُ ماجه (201) باخْتِلافٍ يَسيرٍ. صحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (4220) وقال: على شَرْطِ الشَّيْخينِ، والألبانيُّ في ((صَحيح سنن أبي داود)) (4734)، والوادعيُّ على شَرْطِ البُخاريِّ في ((الصَّحيح المسنَد ممَّا ليس في الصَّحيحين)) (224)، وقال الترمذيُّ: غريبٌ صَحيحٌ. ، وكما لم يَقُلْ أحَدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّه مَخْلوقٌ، فلم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّه قَديمٌ، لم يَقُلْ واحِدًا مِن القَوْلَينِ أحَدٌ مِن الصَّحابةِ ولا التَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ، ولا مَن بَعْدَهم مِن الأئِمَّةِ الأرْبَعةِ ولا غَيْرِهم؛ بل الآثارُ مُتَواتِرةٌ عنهم بأنَّهم كانوا يَقولونَ: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قالَ: إنَّه مَخْلوقٌ، قالوا رَدًّا لكَلامِه: إنَّه غَيْرُ مَخْلوقٍ...، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قالَ: مَخْلوقٌ، الجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ وصاحِبُه الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قالَ: هو قَديمٌ، عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ، ثُمَّ افْتَرَقَ الَّذين شارَكوه في هذا القَوْلِ؛ فمِنهم مَن قالَ: الكَلامُ مَعنًى واحِدٌ قائِمٌ بذاتِ الرَّبِّ، ومَعْنى القُرْآنِ كلِّه والتَّوْراةِ والإنْجيلِ وسائِرِ كُتُبِ اللهِ وكَلامِه هو ذلك المَعْنى الواحِدُ الَّذي لا يَتَعدَّدُ ولا يَتَبعَّضُ، والقُرْآنُ العَرَبيُّ لم يَتَكلَّمِ اللهُ به، بلْ هو مَخْلوقٌ خَلَقَه في غَيْرِه، وقالَ جُمْهورُ العُقَلاءِ: هذا القَوْلُ مَعْلومُ الفَسادِ بالاضْطِرارِ؛ فإنَّه مِن المَعْلومِ بصَريحِ العَقْلِ أنَّ مَعْنى آيةِ الكُرْسيِّ ليس مَعْنى آيةِ الدَّيْنِ، ولا مَعْنى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] مَعْنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ، فكيف بمَعاني كَلامِ اللهِ كلِّه في الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وخِطابِه لمَلائِكتِه، وحِسابِه لعِبادِه يَوْمَ القِيامةِ، وغَيْرِ ذلك مِن كَلامِه؟! ومِنهم مَن قالَ: هو حُروفٌ أو حُروفٌ وأصْواتٌ قَديمةٌ أزَلِيَّةٌ لازِمةٌ لِذاتِه، لم يَزَلْ ولا يَزالُ مَوْصوفًا بِها، وكِلا الحِزْبَينِ يَقولُ: إنَّ اللهَ تَعالى لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وإنَّه لم يَزَلْ ولا يَزالُ يَقولُ: يا نوحُ، يا إبْراهيمُ، يا أيُّها المُزَّمِّلُ، يا أيُّها المُدَّثِّرُ! ولم يَقُلْ أحَدٌ مِن السَّلَفِ بواحِدٍ مِن القَوْلَينِ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ هذا القُرْآنَ عِبارةٌ عن كَلامِ اللهِ، ولا حِكايةٌ له، ولا قالَ أحَدٌ مِنهم: إنَّ لَفْظي بالقُرْآنِ قَديمٌ أو غَيْرُ مَخْلوقٍ، فَضْلًا عن أن يَقولَ: إنَّ صَوْتي به قَديمٌ أو غَيْرُ مَخْلوقٍ، بلْ كانوا يَقولونَ بما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ هذا القُرْآنَ كَلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرَؤونَه بأصْواتِهم، ويَكتُبونَه بمِدادِهم، وما بَيْنَ اللَّوْحَينِ كَلامُ اللهِ، وكَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ...، وقالَ تَعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] ، والمِدادُ الَّذي يُكتَبُ به القُرْآنُ مَخْلوقٌ، والصَّوْتُ الَّذي يُقرَأُ به هو صَوْتُ العَبْدِ، والعَبْدُ وصَوْتُه وحَرَكاتُه وسائِرُ صِفاتِه مَخْلوقةٌ، فالقُرْآنُ الَّذي يَقْرَؤُه المُسلِمونَ كَلامُ الباري، والصَّوْتُ الَّذي يَقرَأُ به العَبْدُ صَوْتُ القارِئِ...، وقالَ تَعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] ، ففَرَّقَ سُبْحانَه بَيْنَ المِدادِ الَّذي يُكتَبُ به كَلِماتُه وبَيْنَ كَلِماتِه، فالبَحْرُ وغَيْرُه مِن المِدادِ الَّذي يُكتَبُ به الكَلِماتُ مَخْلوقٌ، وكَلِماتُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقةٍ...، ولم يُنقَلْ عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ أنَّه قالَ: إنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بلا صَوْتٍ أو بلا حَرْفٍ، ولا أنَّه أَنكَرَ أن يَتَكلَّمَ اللهُ بصَوْتٍ أو بحَرْفٍ، كما لم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ الصَّوْتَ الَّذي سَمِعَه موسى قَديمٌ، ولا إنَّ ذلك النِّداءَ قُديمٌ، ولا قالَ أحَدٌ مِنهم: إنَّ هذه الأصْواتَ المَسْموعةَ مِن القُرَّاءِ هي الصَّوْتُ الَّذي تَكلَّمَ اللهُ به، بلِ الآثارُ مُسْتَفيضةٌ عنهم بالفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذي يَتَكلَّمُ اللهُ به، وبَيْنَ أصْواتِ العِبادِ، وكانَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ يَعُدُّونَ مَن أَنكَرَ تَكَلُّمَه بصَوْتٍ: مِن الجَهْميَّةِ، كما قالَ الإمامُ أَحْمَدُ لمَّا سُئِلَ عمَّن قالَ: إنَّ اللهَ لا يَتَكلَّمُ بصَوْتٍ، فقالَ: هؤلاء جَهْميَّةٌ، إنَّما يَدورونَ على التَّعْطيلِ) [521] ((مجموع الفَتاوى)) (12/ 301 - 305) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (لم يكنْ في مُسمَّى الكَلامِ نِزاعٌ بَيْنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ وتابِعيهم، لا مِن أهْلِ السُّنَّةِ ولا مِن أهْلِ البِدْعةِ، بلْ أوَّلُ مَن عُرِفَ في الإسْلامِ أنَّه جَعَلَ مُسمَّى الكَلامِ المَعْنى فقط هو عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ، وهو مُتَأخِّرٌ في زَمَنِ مِحْنةِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وقدْ أَنكَرَ ذلك عليه عُلَماءُ السُّنَّةِ وعُلَماءُ البِدْعةِ، فيَمْتنِعُ أن يَكونَ الكَلامُ الَّذي هو أَظهَرُ صِفاتِ بَني آدَمَ لم يَعرِفْه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم حتَّى جاءَ مَن قالَ فيه قَوْلًا لم يَسبِقْه إليه أحَدٌ مِن المُسلِمينَ ولا غَيْرِهم! فإن قالوا: فقدْ قالَ اللهُ تَعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: 8] ، وقالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] ونَحْوَ ذلك. قيلَ: إن كانَ المُرادُ أنَّهم قالوه بألْسِنتِهم سِرًّا فلا حُجَّةَ فيه، وهذا هو الَّذي ذَكَرَه المُفَسِّرونَ، قالوا: كانوا يَقولونَ: سامٌ عليك، فإذا خَرَجوا يَقولونَ في أنْفُسِهم، أي: يَقولُ بعضُهم لبعضٍ: لو كانَ نَبيًّا عُذِّبْنا بقَوْلِنا له ما نَقولُ، وإن قُدِّرَ أنَّه أُريدُ بِذلك أنَّهم قالوه في قُلوبِهم، فهذا قَوْلٌ مُقَيَّدٌ بالنَّفْسِ، مِثلُ قَوْلِه: ((عمَّا حَدَّثَتْ به أنْفُسَها)) [522] أخرجه مطولًا البخاريُّ (5269) باخْتِلافٍ يسيرٍ، ومُسلِم (127) واللَّفظُ له مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ ولهذا قالوا: لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] ، فأَطلَقوا لَفْظَ القَوْلِ هنا، والمُرادُ به ما قالوه بألْسِنتِهم؛ لأنَّه النَّجْوى والتَّحيَّةُ الَّتي نُهوا عنها كما قالَ تَعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] معَ أنَّ الأوَّلَ هو الَّذي عليه أَكثَرُ المُفَسِّرينَ، وعليه تَدُلُّ نَظائِرُه؛ فإنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: ((يَقولُ اللهُ: مَن ذَكَرَني في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسي، ومَن ذَكَرَني في مَلَأٍ ذَكَرْتُه في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنه )) [523] أخرجه أَحْمَد (8650)، وابنُ أبي شيبة (30093) باخْتِلافٍ يَسيرٍ، وابنُ حِبَّانَ (328) مطولًا باخْتِلافٍ يَسيرٍ. صحَّحه ابنُ حِبَّان، وابنُ تَيْمِيَّةَ في ((مجموع الفَتاوى)) (4/390)، وابنُ كَثير في ((تفسير القُرْآن)) (1/283). ، ليس المُرادُ أنَّه لا يَتَكلَّمُ به بلِسانِه، بلِ المُرادُ أنَّه ذَكَرَ اللهَ بلِسانِه، وكذلك قَوْلُه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205] هو الذِّكْرُ باللِّسانِ، والَّذي يُقَيِّدُ بالنَّفْسِ لَفْظَ الحَديثِ، يُقالُ: حَديثُ النَّفْسِ، ولم يوجَدْ عنهم أنَّهم قالوا: كَلامُ النَّفْسِ، وقَوْلُ النَّفْسِ، كما قالوا: حَديثُ النَّفْسِ...، وأمَّا قَوْلُه تَعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13] فالمُرادُ به القَوْلُ الَّذي تارةً يُسِرُّ به فلا يَسمَعُه الإنْسانُ، وتارةً يَجهَرُ به فيَسْمَعونَه، كما يُقالُ: أَسَرَّ القِراءةَ، وجَهَرَ بِها، وصَلاةُ السِّرِّ، وصَلاةُ الجَهْرِ؛ ولِهذا لم يَقُلْ: قُولوه بألْسِنتِكم أو بقُلوبِكم، وما في النَّفْسِ لا يُتَصَوَّرُ الجَهْرُ به، وإنَّما يُجهَرُ بما في اللِّسانِ، وقَوْلُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ مِن بابِ التَّنْبيهِ، يَقولُ: إنَّه يَعلَمُ ما في الصُّدورِ فكيف لا يَعلَمُ القَوْلَ؟! كما قالَ في الآيةِ الأخرى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] ، فنَبَّهَ بِذلك على أنَّه يَعلَمُ الجَهْرَ...، وقَوْلُه تَعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران: 41] قد ذَكَرَ هذا في قَوْلِه: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] ، وهناك لم يَسْتَثْنِ شَيئًا، والقِصَّةُ واحِدةٌ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الاسْتِثْناءَ مُنْقطِعٌ، والمَعْنى: آيَتُك ألَّا تُكلِّمَ النَّاسَ، لكن تَرمُزُ لهم رَمْزًا كنَظائِرِه في القُرْآنِ، وقَوْلُه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ [مريم: 11] هو الرَّمْزُ...، وقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه: زَوَّرْتُ في نَفْسي مَقالةً أرَدْتُ أن أَقولَها [524] أخرجه ابنُ حِبَّان في ((السيرة النبوية)) (2/421)، واللالَكائيُّ في ((شرح أصول الاعتقاد)) (2436)، وابنُ عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/285) مطولًا باخْتِلافٍ يسيرٍ. ، حُجَّةٌ عليهم، قالَ أبو عُبَيْدٍ: التَّزْويرُ: إصْلاحُ الكَلامِ وتَهْيئتُه، قالَ: وقالَ أبو زَيدٍ: المُزَوَّرُ مِن الكَلامِ والمُزَوَّقُ واحِدٌ، وهو المُصلَحُ الحَسَنُ، وقالَ غَيْرُه: زَوَّرْتُ في نَفْسي مَقالةً، أي: هَيَّأتُها لأَقولَها، فلَفْظُها يَدُلُّ على أنَّه قَدَّرَ في نَفْسِه ما يُريدُ أن يَقولَه، ولم يَقُلْه، فعُلِمَ أنَّه لا يكونُ قَوْلًا إلَّا إذا قيلَ باللِّسانِ، وقَبْلَ ذلك لم يكنْ قَوْلًا، لكنْ كانَ مُقَدَّرًا في النَّفْسِ يُراد أن يُقالَ، كما يُقدِّرُ الإنْسانُ في نَفْسِه أنَّه يَحُجُّ وأنَّه يُصَلِّي وأنَّه يُسافِرُ، إلى غَيْرِ ذلك، فيَكونُ لِما يُريدُه مِن القَوْلِ والعَمَلِ صورةٌ ذِهْنيَّةٌ مُقَدَّرةٌ في النَّفسِ، ولكنْ لا يُسمَّى قَوْلًا وعَمَلًا إلَّا إذا وُجِدَ في الخارِجِ، كما أنَّه لا يكونُ حاجًّا ومُصَلِّيًا إلَّا إذا وُجِدَتْ هذه الأفْعالُ في الخارِجِ...، وأمَّا البَيْتُ الَّذي يُحْكى عن الأخْطَلِ أنَّه قالَ:
إنَّ الكَلامَ لَفي الفُؤادِ وإنَّما
جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دَليلا
فمِن النَّاسِ مَن أَنكَرَ أن يكونَ هذا مِن شِعْرِه، وقالوا: إنَّهم فَتَّشوا دَواوينَه فلم يَجِدوه، وهذا يُرْوى عن مُحَمَّدِ بنِ الخَشَّابِ، وقالَ بعضُهم: لَفْظُه: إنَّ البَيانَ لَفي الفُؤادِ، ولو احْتَجَّ مُحتَجٌّ في مَسْألةٍ بحديثُ أخْرَجاه في الصَّحيحَينِ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَقالوا: هذا خَبَرٌ واحِدٌ، ويكونُ ممَّا اتَّفَقَ العُلَماءُ على تَصْديقِه وتَلَقِّيه بالقَبولِ، وهذا البَيْتُ لم يَثبُتْ نَقْلُه عن قائِلِه بإسْنادٍ صَحيحٍ، لا واحِدٍ ولا أَكثَرَ مِن واحِدٍ، ولا تَلَقَّاه أهْلُ العَربيَّةِ بالقَبولِ، فكيف يَثبُتُ به أَدْنى شيءٍ مِن اللُّغةِ فَضْلًا عن مُسمَّى الكَلامِ؟! ثُمَّ يُقالُ: مُسمَّى الكَلامِ والقَوْلِ ونَحْوِهما ليس هو ممَّا يُحْتاجُ فيه إلى قَوْلِ شاعِرٍ، فإنَّ هذا ممَّا تَكلَّمَ به الأَوَّلونَ والآخِرونَ مِن أهْلِ اللُّغةِ، وعَرَفوا مَعْناه في لُغتِهم، كما عَرَفوا مُسمَّى الرَّأسِ واليَدِ والرَّجْلِ، وأيضًا فالنَّاطِقونَ باللُّغةِ يُحتَجُّ باسْتِعمالِهم للألْفاظِ في مَعانيها لا بما يَذكُرونَه مِن الحُدودِ؛ فإنَّ أهْلَ اللُّغةِ النَّاطِقينَ لا يَقولُ أحَدٌ مِنهم: إنَّ الرَّأسَ كَذا، واليَدَ كَذا، والكَلامَ كَذا، واللَّوْنَ كَذا، بلْ يَنطِقونَ بِهذه الألْفاظِ دالَّةً على مَعانيها، فتُعرَفُ لُغتُهم مِن اسْتِعْمالِهم؛ فعُلِمَ أنَّ الأَخْطَلَ لم يُرِدْ بِهذا أن يَذكُرَ مُسمَّى الكَلامِ، ولا أحَدَ مِن الشُّعَراءِ يَقصِدُ ذلك البَتَّةَ، وإنَّما أرادَ -إن كانَ قالَ ذلك- ما فَسَّرَه به المُفَسِّرونَ للشِّعْرِ أي: أصْلُ الكَلامِ مِن الفُؤادِ، وهو المَعْنى، فإذا قالَ الإنْسانُ بلِسانِه ما ليس في قَلْبِه فلا تَثِقُ به، وهذا كالأقْوالِ الَّتي ذَكَرَها اللهُ عن المُنافِقينَ، ذَكَرَ أنَّهم يَقولونَ بألْسِنتِهم ما ليس في قُلوبِهم...، وبالجُمْلةِ، فمَن احْتاجَ إلى أن يَعرِفَ مُسمَّى الكَلامِ في لُغةِ العَربِ والفُرْسِ والرُّومِ والتُّرْكِ وسائِرِ أجْناسِ بَني آدَمَ بقَوْلِ شاعِرٍ فإنَّه مِن أَبعَدِ النَّاسِ عن مَعْرِفةِ طُرُقِ العِلمِ، ثُمَّ هو مِن المُوَلَّدينَ، وليس مِن الشُّعَراءِ القُدَماءِ، وهو نَصْرانيٌّ كافِرٌ مُثَلِّثٌ، والنَّصارى قد أَخْطَؤوا في مُسمَّى الكَلامِ، فجَعَلوا المَسيحَ القائِمَ بنَفْسِه هو نَفْسَ كَلِمةِ اللهِ!) [525] ((مجموع الفَتاوى)) (7/ 134 - 140) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كانَ مِن قَوْلِهم الَّذي أَنكَرَه النَّاسُ: إخْراجُ الحُروفِ عن مُسمَّى الكَلامِ، وجَعْلُ دَلالةِ لَفْظِ الكَلامِ عليها مَجازًا، فأَحَبَّ أبو المَعالي ومَن اتَّبَعَه كالرَّازيِّ أن يَخلُصوا مِن هذه الشَّناعةِ فقالوا: اسْمُ الكَلامِ يُقالُ بالاشْتِراكِ على المَعْنى القائِمِ بالنَّفْسِ، وعلى الحُروفِ الدَّالَّةِ عليه، وهذا الَّذي قالوه أَفْسَدوا به أصْلَ دَليلِهم على المُعْتَزِلةِ، فإنَّه إذا صَحَّ أنَّ ما قامَ بغَيْرِ اللهِ يكونُ كَلامًا له حَقيقةً بَطَلَتْ حُجَّتُهم على المُعْتَزِلةِ في قَوْلِهم: إنَّ الكَلامَ إذا قامَ بمَحَلٍّ عادَ حُكْمُه عليه، وجازَ حينَئذٍ أن يُقالَ: إنَّ الكَلامَ مَخْلوقٌ، خَلَقَه في غَيْرِه، وهو كَلامُه حَقيقةً، ولَزِمَهم مِن الشَّناعةِ ما لَزِمَ المُعْتَزِلةَ، حيثُ أَلزَمَهم السَّلَفُ والأئِمَّةُ أن تكونَ الشَّجَرةُ هي القائِلةَ لِموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] ...، وقدْ بَيَّنَّا تَناقُضَهم في هذه المَسْألةِ بقَريبٍ مِن مِئةِ وَجْهٍ عَقْليٍّ، وكانَ بعضُ الفُقَهاءِ قد قالَ للفَقيهِ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ السَّلامِ في مَسْألةِ القُرْآنِ: كيف يُعقَلُ شيءٌ واحِدٌ هو أمْرٌ ونَهْيٌ وخَبَرٌ واسْتِخْبارٌ؟! فقالَ له أبو مُحَمَّدٍ: ما هذا بأوَّلِ إشْكالٍ وَرَدَ على مَذهَبِ الأشْعَريِّ) [526] ((الفَتاوى الكبرى)) (6/ 627) باختصارٍ. وقد قال الآمِدِيُّ معتَرِفًا بضَعْفِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ في كونِ كَلامِ اللهِ سُبحانَه معنًى واحِدًا: (والحَقُّ أنَّ ما أوردوه من الإشكالِ على القَوْلِ باتِّحادِ الكَلامِ، وعَوْدِ الاخْتِلافِ إلى التعَلُّقاتِ والمتعَلِّقاتِ؛ فمُشكِلٌ، وعسى أن يكونَ عِندَ غَيْري حَلُّه) ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 400). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (قَوْلُهم في الكَلامِ: إنَّه واحِدٌ لا يُشبِهُ كَلامَ المَخْلوقاتِ، ولا هو بلُغةٍ مِن اللُّغاتِ، ولا يوصَفُ بأنَّه عَربيٌّ أو فارِسيٌّ أو عِبْرانيٌّ، لكنَّ العِباراتِ عنه تَكثُرُ وتَخْتلِفُ، فإذا قُرِئَ كَلامُ اللهِ بلُغةِ العَربِ سُمِّيَ قُرْآنًا، وإذا قُرِئَ بلُغةِ العِبْرانيَّةِ أو السُّرْيانيَّةِ سُمِّيَ تَوْراةً وإنْجيلًا! فإنَّ هذا الكَلامَ مِن أَفسَدِ ما يُعلَمُ ببَديهةِ العَقْلِ فَسادُه، وهو كُفْرٌ، إذا فَهِمَه الإنْسانُ وأَصَرَّ عليه فقدْ أَصَرَّ على الكُفْرِ، وذلك أنَّ القُرْآنَ يُقرَأُ بالعَربيَّةِ، وقدْ يُتَرْجَمُ بحَسَبِ الإمْكانِ بالعِبْرانيَّةِ أو الفارِسيَّةِ أو غَيْرِهما مِن الألْسُنِ، ومعَ هذا إذا تُرجِمَ بالعِبْريَّةِ لم يكنْ هو التَّوْراةَ، ولا مِثلَ التَّوْراةِ، ولا مَعانيه مِثلَ مَعاني التَّوْراةِ، وكذلك التَّوْراةُ تُقرَأُ بالعِبْريَّةِ وتُتَرْجَمُ بالعَربيَّةِ والسُّرْيانيَّةِ، ومعَ هذا فليسَتْ مِثلَ القُرْآنِ، ولا مَعانيها مِثلَ مَعاني القُرْآنِ، وكذلك الإنْجيلُ مِن المَعْلومِ أنَّه يُقرَأُ بعِدَّةِ أَلْسُنٍ، وهو في ذلك مَعانيه ليست مَعانيَ التَّوْراةِ والقُرْآنِ، فهلْ يَقولُ مَن له عَقْلٌ أو دينٌ: إنَّ كَلامَ اللهِ مُطلَقًا إذا قُرِئَ بالعَربيَّةِ كانَ هو القُرْآنَ...؟! فكيف يُقالُ في التَّوْراةِ والإنْجيلِ إذا قُرِئا بالعَربيَّةِ كانَ قُرْآنًا؟! وكذلك القُرْآنُ إذا تُرْجِمَ بالعِبْريَّةِ أو السُّرْيانيَّةِ هل يَقولُ مَن له عَقْلٌ أو له دينٌ: إنَّ ذلك هو التَّوْراةُ والإنْجيلُ المُنزَّلُ على موسى وعيسى عليهما السَّلامُ؟ وهل يَقولُ عاقِلٌ: إنَّ كَلامَ اللهِ المُنزَّلَ بالألْسِنةِ المُخْتلِفةِ مَعْناه شيءٌ واحِدٌ كالكَلامِ الَّذي يُتَرْجَمُ بألْسِنةٍ مُتَعدِّدةٍ؟! العِلمُ بفَسادِ هذا مِن أَوضَحِ العُلومِ البَدْيهيَّةِ العَقْلِيَّةِ، وقائِلُ هذا لو تَدَبَّرَ ما قالَ لعَلِمَ أنَّ المَجانينَ لا يَقولونَ هذا!) [527] ((التسعينية)) (3/ 814، 816) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (أئِمَّةُ أهْلِ السُّنَّةِ وأهْلِ الحَديثِ مِن أصْحابِ الإمامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وغَيْرِهم يُنكِرونَ على مَن يَجعَلُ لَفْظَ العَبْدِ بالقُرْآنِ أو صَوْتَه به أو غَيْرَ ذلك مِن صِفاتِ العِبادِ المُتَعلِّقةِ بالقُرْآنِ- غَيْرَ مَخْلوقةٍ، ويَأمرونَ بعُقوبتِه بالهَجْرِ وغَيْرِه، وقدْ جَمَعَ بعضَ كَلامِهم في ذلك أبو بَكْرٍ الخَلَّالُ في (كِتاب السُّنَّةِ)، ومِن المَشْهورِ في (كِتاب صَريحِ السُّنَّةِ) لمُحَمَّدِ بنِ جَريرٍ الطَّبَرِيِّ وهو مُتَواتِرٌ عنه، لمَّا ذَكَرَ الكَلامَ في أبْوابِ السُّنَّةِ قالَ: وأمَّا القَوْلُ في ألْفاظِ العِبادِ بالقُرْآنِ، فلا أثَرَ فيه نَعلَمُه عن صَحابيٍّ مَضى، ولا عن تابِعيٍّ قَفا إلَّا عمَّن في قَوْلِه الشِّفاءُ والغَناءُ، وفي اتِّباعِه الرُّشْدُ والهُدى، ومَن يَقومُ لَدَينا مَقامَ الأئِمَّةِ الأُولى: أبي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، فإنَّ أبا إسْماعيلَ التِّرْمِذيَّ حَدَّثَني قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ يَقولُ: اللَّفْظيَّةُ جَهْميَّةٌ، يَقولُ اللهُ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، ممَّن يَسمَعُ؟! قالَ ابنُ جَريرٍ: وسَمِعْتُ جَماعةً مِن أصْحابِنا -لا أَحفَظُ أسْماءَهم- يَحْكونَ عنه أنَّه كانَ يَقولُ: مَن قالَ: لَفْظي بالقُرْآنِ مَخْلوقٌ، فهو جَهْميٌّ، ومَن قالَ: غَيْرُ مَخْلوقٍ، فهو مُبْتَدِعٌ. قالَ ابنُ جَريرٍ: ولا قَوْلَ في ذلك عنْدَنا يَجوزُ أن نَقولَه غَيْرُ قَوْلِه؛ إذ لم يكنْ لنا إمامٌ نَأتَمُّ به سِواه، وفيه الكِفايةُ والمَقنَعُ، وهو الإمامُ المُتَّبَعُ) [528] ((مجموع الفَتاوى)) (12/ 422). ويُنظر: ((صريح السنة)) لابن جرير (ص: 25). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (هذه المَسْألةُ لها أصْلانِ:
أحَدُهما: أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلوقةٌ، وقدْ نَصَّ عليها الأئِمَّةُ أَحْمَدُ وغَيْرُه، وسائِرُ أئِمَّةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ المُخالِفينَ للقَدَريَّةِ، واتَّفَقَتِ الأمَّةُ على أنَّ أفْعالَ العِبادِ مُحدَثةٌ.
والأصْلُ الثَّاني: مَسْألةُ تِلاوةِ القُرْآنِ وقِراءتِه، واللَّفْظِ به، هلْ يُقالُ: إنَّه مَخْلوقٌ أو غَيْرُ مَخْلوقٍ؟ والإمامُ أَحْمَدُ قد نَصَّ على رَدِّ المَقالتَينِ هو وسائِرُ أئِمَّةِ السُّنَّةِ مِن المُسْتَقْدِمينَ والمُسْتَأخِرينَ، لكن كانَ رَدُّه على اللَّفْظيَّةِ النَّافيةِ أَكثَرَ وأَشهَرَ وأَغلَظَ لوَجْهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ قَوْلَهم يُفْضي إلى زِيادةِ التَّعْطيلِ والنَّفْيِ، وجانِبُ النَّفْيِ أبَدًا شَرٌّ مِن جانِبِ الإثْباتِ؛ فإنَّ الرُّسُلَ جاؤوا بالإثْباتِ المُفَصَّلِ في صِفاتِ اللهِ، وبالنَّفْيِ المُجمَلِ، فوَصَفوه بالعِلمِ والرَّحْمةِ والقُدْرةِ والحِكْمةِ والكَلامِ والعُلُوِّ وغَيْرِ ذلك مِن الصِّفاتِ، وفي النَّفْيِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، وأمَّا الخارِجونَ عن حَقيقةِ الرِّسالةِ مِن الصَّابِئةِ والفَلاسِفةِ والمُشرِكينَ وغَيْرِهم، ومَن تَجَهَّمَ مِن أتْباعِ الأنْبِياءِ فطَريقتُهم النَّفْيُ المُفَصَّلُ: ليس كَذا، ليس كَذا، وفي الإثْباتِ أمْرٌ مُجمَلٌ؛ ولِهذا يُقالُ: المُعَطِّلُ أَعْمى، والمُشَبِّهُ أَعْشى، فأهْلُ التَّشْبيهِ معَ ضَلالِهم خَيْرٌ مِن أهْلِ التَّعْطيلِ. الوَجْهُ الثَّاني: أنَّ أَحْمَدَ إنَّما ابْتُلِيَ بالجَهْميَّةِ المُعَطِّلةِ فهُمْ خُصومُه، فكانَ هَمُّه مُنْصَرِفًا إلى رَدِّ مَقالاتِهم دونَ أهْلِ الإثْباتِ؛ فإنَّه لم يكنْ في ذلك الوَقْتِ والمَكانِ مَن هو داعٍ إلى زِيادةٍ في الإثْباتِ، كما ظَهَرَ مَن كانَ يَدْعو إلى زِيادةٍ في النَّفْيِ، والإنْكارُ يَقَعُ بحَسَبِ الحاجةِ، والبُخارِيُّ لمَّا ابْتُلِيَ باللَّفْظيَّةِ المُثْبِتةِ ظَهَرَ إنْكارُه عليهم كما في تَراجِمِ آخَرِ كِتابِ الصَّحيحِ، وكما في كِتابِ خَلْقِ الأفْعالِ) [529] ((مجموع الفَتاوى)) (12/ 431 - 433). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (القُرْآن الَّذي أَنزَلَه على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو كَلامُ اللهِ حَقيقةً، لا كَلامُ غَيْرِه، ولا يَجوزُ إطْلاقُ القَوْلِ بأنَّه حِكايةٌ عن كَلامِ اللهِ أو عِبارةٌ، بلْ إذا قَرَأَه النَّاسُ أو كَتَبوه في المَصاحِفِ لم يَخرُجْ بِذلك عن أن يكونَ كَلامَ اللهِ تَعالى حَقيقةً؛ فإنَّ الكَلامَ إنَّما يُضافُ حَقيقةً إلى مَن قالَه مُبْتَدِئًا، لا إلى مَن قالَه مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، وهو كَلامُ اللهِ حُروفُه ومَعانيه، ليس كَلامُ اللهِ الحُروفَ دونَ المَعاني، ولا المَعانيَ دونَ الحُروفِ) [530] ((العَقيدة الواسطية)) (ص: 16). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (السَّلَفُ قالوا: كَلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيْرُ مَخْلوقٍ، وقالوا: لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، فبَيَّنوا أنَّ كَلامَ اللهِ قَديمٌ، أي: جِنْسُه قَديمٌ لم يَزَلْ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ نَفْسَ الكَلامِ المُعيَّنِ قَديمٌ، ولا قالَ أحَدٌ مِنهم: القُرْآنُ قَديمٌ، بلْ قالوا: إنَّه كَلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيْرُ مَخْلوقٍ، وإذا كانَ اللهُ قد تَكلَّمَ بالقُرْآنِ بمَشيئتِه كانَ القُرْآنُ كَلامَه، وكانَ مُنزَّلًا مِنه غَيْرَ مَخْلوقٍ، ولم يكنْ معَ ذلك أزَلِيًّا قَديمًا بقِدَمِ اللهِ، وإن كانَ اللهُ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، فجِنْسُ كَلامِه قَديمٌ، فمَن فَهِمَ قَوْلَ السَّلَفِ وفَرَّقَ بَيْنَ هذه الأقْوالِ زالَتْ عنه الشُّبُهاتُ في هذه المَسائِلِ المُعضِلةِ الَّتي اضْطَرَبَ فيها أهْلُ الأرْضِ) [531] ((مجموعة الرسائل والمَسائِل)) (3/ 46). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كَوْنُ الرَّبِّ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ كما هو قَوْلُ أهْلِ الحَديثِ مَبْنيٌّ على مُقَدِّمتَينِ: على أنَّه تَقومُ به الأمورُ الاخْتِياريَّةُ، وأنَّ كَلامَه لا نِهايةَ له. قالَ اللهُ تَعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] ، وقالَ: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] ، وقدْ قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن العُلَماءِ: إنَّ مِثلَ هذا الكَلامِ يُرادُ به الدَّلالةُ على أنَّ كَلامَ اللهِ لا يَنْقَضي ولا يَنفَدُ، بلْ لا نِهايةَ له، ومَن قالَ: إنَّه يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه بكَلامٍ يَقومُ بذاتِه، يَقولونَ: إنَّه لا نِهايةَ له في المُسْتقبَلِ. وأمَّا في الماضي فلهم قَوْلانِ؛ مِنهم مَن يَقولُ: له بِدايةٌ في الماضي، وأئِمَّتُهم يَقولونَ: لا بِدايةَ له في الماضي كما لا نِهايةَ له في المُسْتقبَلِ، وهذا يَسْتَلْزِمُ وُجودَ ما لا نِهايةَ له أزَلًا وأبَدًا مِن الكَلِماتِ، والكَلامُ صِفةُ كَمالٍ، والمُتَكلِّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه أَكمَلُ ممَّن لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، بلْ لا يُعقَلُ مُتَكلِّمٌ إلَّا كذلك، ولا يكونُ الكَلامُ صِفةَ كَمالٍ إلَّا إذا قامَ بالمُتَكلِّمِ، وأمَّا الأمورُ المُنْفَصِلةُ عن الذَّاتِ فلا يَتَّصِفُ بِها البَتَّةَ، فَضْلًا عن أن تكونَ صِفةَ كَمالٍ أو نَقْصٍ، قالوا: ولم نَعرِفْ عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ لا مِن الصَّحابةِ ولا مِن التَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ ولا غَيْرِهم مِن أئِمَّةِ المُسلِمينَ مَن أَنكَرَ هذا الأصْلَ، ولا قالَ: إنَّه يَمْتنِعُ وُجودُ كَلِماتٍ لا نِهايةَ لها لا في الماضي ولا في المُسْتَقبَلِ، ولا قالوا: ما يَسْتَلْزِمُ امْتِناعَ هذا، وإنَّما قالَ ذلك أهْلُ الكَلامِ المُحدَثِ المُبْتَدَعِ المَذْمومِ عنْدَ السَّلَفِ، الَّذين أحْدَثوا في الإسْلامِ نَفْيَ صِفاتِ اللهِ وعُلُوِّه على خَلْقِه، ورُؤْيتِه في الآخِرةِ، وقالوا: إنَّه لا يَتَكلَّمُ، ثُمَّ قالوا: إنَّه يَتَكلَّمُ بكَلامٍ مَخْلوقٍ مُنْفصِلٍ عن اللهِ! قالوا: وإنَّما قُلْنا ذلك؛ لأنَّا اسْتَدْلَلْنا على حُدوثِ العالَمِ بحُدوثِ الأجْسامِ، وإنَّما اسْتَدْلَلْنا على حُدوثِها بقِيامِ الحَوادِثِ بِها، وأنَّ ما لا يَنفَكُّ عن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، لامْتِناعِ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها، فلو قُلْنا: إنَّه تَقومُ به الصِّفاتُ والكَلامُ لَزِمَ قِيامُ الحَوادِثِ به؛ لأنَّ هذه أعْراضٌ حادِثةٌ، فقالَ لهم أهْلُ السُّنَّةِ: أحْدَثْتُم بِدَعًا تَزْعُمونَ أنَّكم تَنْصُرونَ بها الإسْلامَ، فلا للإسْلامِ نَصَرْتُم، ولا لعَدُوِّه كَسَرْتُم، بلْ سَلَّطْتُم عليكم أهْلَ الشَّرْعِ والعَقْلِ، فالعالِمونَ بنُصوصِ المُرْسَلينَ يَعلَمونَ أنَّكم خالَفْتُموها، وأنَّكم أهْلُ بِدْعةٍ وضَلالةٍ، والعالِمونُ بالمَعاني المَعْقولةِ يَعلَمونَ أنَّكم قُلْتُم ما يُخالِفُ المَعْقولَ، وأنَّكم أهْلُ خَطَأٍ وجَهالةٍ، والفَلاسِفةُ الَّذين زَعَمْتُم أنَّكم تَحْتَجُّونَ عليهم بِهذه الطَّريقِ تَسَلَّطوا عليكم بها، ورَأَوا أنَّكم خالَفْتُم صَريحَ العَقْلِ، والفَلاسِفةُ أَجهَلُ مِنكم بالشَّرْعِ والعَقْلِ في الإلَهيَّاتِ، لكنْ لمَّا ظَنُّوا أنَّ ما جِئْتُم به هو الشَّرْعُ، وقدْ رَأَوه يُخالِفُ العَقْلَ صاروا أَبعَدَ عن الشَّرْعِ والعَقْلِ مِنكم، لكن عارَضوكم بأدِلَّةٍ عَقْليَّةٍ، بلْ وشَرْعيَّةٍ ظَهَرَ بِها عَجْزُكم في هذا البابِ عن بَيانِ حَقيقةِ الصَّوابِ، وكانَ ذلك ممَّا زادَهم ضَلالًا في أنْفُسِهم، وتَسَلُّطًا عليكم، ولو سَلَكْتُم معَهم طَريقَ العارِفينَ بحَقيقةِ المَعْقولِ والمَنْقولِ، لكانَ ذلك أَنصَرَ لكم، وأَتبَعَ لِما جاءَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكنَّكم كُنْتُم بمَنزِلةِ مَن جاهَدَ الكُفَّارَ بنَوْعٍ مِن الكَذِبِ والعُدْوانِ، وأَوهَمَهم أنَّ هذا يَدخُلُ في حَقيقةِ الإيمانِ، فصارَ ما عَرَفَه أولئك مِن كَذِبِ هؤلاء وعُدوانِهم ممَّا يوجِبُ القَدْحَ فيما ادَّعَوه مِن إيمانِهم، ولمَّا رأى أولئك في المُلْكِ والرِّياسةِ والمالِ مِن جِنْسِ هذه المُخادَعةِ والمُحالِ سَلَكوا طَريقًا أَبلَغَ في المُخادَعةِ والمُحالِ مِن طُرُقِ أولئك المُبْتَدِعينَ الضَّالِّينَ، فسُلِّطوا عليهم عُقوبةً لهم على خُروجِهم عن الدِّينِ...، فما جاءَ به الرَّسولُ حَقٌّ مَحْضٌ يَتَصادَقُ عليه صَريحُ المَعْقولِ وصَحيحُ المَنْقولِ، والأقْوالُ المُخالِفةُ لِذلك، وإن كانَ كَثيرٌ مِن أصْحابِها مُجْتَهِدينَ، مَغْفورٌ لهم خَطَؤُهم، فلا يَملِكونَ نَصْرَها بالأدِلَّةِ العِلميَّةِ، ولا الجَوابَ عمَّا يَقدَحُ فيها بالأجْوِبةِ العِلميَّةِ؛ فإنَّ الأدِلَّةَ العَقْلِيَّةَ الصَّحيحةَ لا تَدُلُّ إلَّا على القَوْلِ الحَقِّ، والأجْوِبةُ الصَّحيحةُ المُفْسِدةُ لحُجَّةِ الخَصْمِ لا تَفسِدُها إلَّا إذا كانَتْ باطِلةً، فإنَّ ما هو باطِلٌ لا يَقومُ عليه دَليلٌ صَحيحٌ، وما هو حَقٌّ لا يُمكِنُ دَفْعُه بحُجَّةٍ صَحيحةٍ) [532] ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 359 - 363) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
وما أحسَنَ ما ذكَرَه ابنُ تيميَّةَ في الرَّدِّ على الأشاعِرةِ في مسألةِ الكلامِ: (قيل لهم: عِندَكم هو معنًى واحِدٌ، لا يتبعَّضُ ولا يتعدَّدُ؛ فموسى فَهِم المعنى كُلَّه أو بعضَه؟ إن قُلتُم: كُلَّه، فقد عَلِم عِلْمَ اللهِ كُلَّه، وإن قُلْتُم: بعضَه، فقد تبعَّض، وعندكم لا يتبعَّضُ) [533] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 223). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (هَبْ أنَّ ذلك يمكِنُ في موضِعٍ واثنينِ وثلاثةٍ وعَشَرةٍ، أفيسوغُ حملُ أكثَرَ من ثلاثةِ آلافٍ وأربعةِ آلافِ موضِعٍ كُلِّها على المجازِ، وتأويلُ الجميعِ بما يخالِفُ الظَّاهِرَ؟ ولا تستبعِدْ قَولَنا: أكثَرُ من ثلاثةِ آلافٍ؛ فكُلُّ آيةٍ وكُلُّ حديثٍ إلهيِّ وكُلُّ حديثٍ فيه الإخبارُ عمَّا قال اللهُ تعالى أو يقولُ، وكُلُّ أثرٍ فيه ذلك، إذا استُقرِئَت زادت على هذا العدَدِ، ويكفي أحاديثُ الشَّفاعةِ وأحاديثُ الرُّؤيةِ وأحاديثُ الحسابِ، وأحاديثُ تكليمِ اللهِ لملائكتِه وأنبيائِه ورسُلِه وأهلِ الجنَّةِ، وأحاديثُ تكليمِ اللهِ لموسى، وأحاديثُ تكَلُّمِه عندَ النُّزولِ الإلهيِّ، وأحاديثُ تكَلُّمِه بالوَحيِ، وأحاديثُ تكليمِه للشُّهداءِ، وأحاديثُ تكليمِ كافَّةِ عبادِه يومَ القيامةِ بلا تَرجُمانٍ ولا واسِطةٍ، وأحاديثُ تكليمِه للشُّفعاءِ يومَ القيامةِ حينَ يأذَنُ لهم في الشَّفاعةِ، إلى غيرِ ذلك؛ إذ كُلُّ هذا وأمثالُه وأضعافُه مجازٌ لا حقيقةَ له! سُبحانَك هذا بهتانٌ عظيمٌ! بل نُشهِدُك ونُشهِدُ ملائكَتَك وحَمَلةَ عَرشِك وجميعَ خَلقِك أنَّك أحقُّ بهذه الصِّفةِ وأَولى من كُلِّ أحَدٍ، وأنَّ البَحرَ لو أمدَّه من بَعدِه سَبعةُ أبحُرٍ، وكانت أشجارُ الأرضِ أقلامًا يُكتَبُ بها ما تتكَلَّمُ به، لنَفِدَت البِحارُ والأقلامُ، ولم تنفَدْ كَلِماتُك) [534] ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن الموصلي (ص: 503). .
أقْوالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ في صِفةِ الكَلامِ:
1- عن عَبْدِ اللهِ بنِ صالِحٍ قالَ: حَدَّثَنا مُعاوِيةُ بنُ صالِحٍ عن علِيِّ بنِ أبي طَلْحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ في قَوْلِه تَعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِيِ عِوَجٍ [الزمر: 28] ، قالَ: (غَيْرَ مَخْلوقٍ) [535] رواه الآجُريُّ في ((الشريعة)) (160) والبيهقيُّ في ((الأسماء والصِّفات)) (518). .
2- عن مُعاوِيةَ بنِ عَمَّارٍ الدهْنيِّ قالَ: قُلْتُ لجَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ: إنَّهم يَسْألونَ عن القُرْآنِ مَخْلوقٌ هو؟ قالَ: (ليس بخالِقٍ ولا مَخْلوقٍ، ولكنَّه كَلامُ اللهِ) [536] رواه عَبْدُ اللهِ بن أَحْمَد في ((كِتاب السنة)) (132- 135) وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (52- 55)، والبيهقيُّ في ((الأسماء والصِّفات)) (536-539) بعِدَّةِ أسانيدَ. .
3- قالَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنةَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ دينارٍ يَقولُ: (أَدْرَكْتُ مَشايِخَنا مُنْذُ سَبْعينَ سَنَةً يَقولونَ: (القُرْآنُ كَلامُ اللهِ، مِنه بَدَأَ وإليه يَعودُ) [537] رواه ابنُ جرير في ((صريح السنة)) (16). .
4- عن أبي النَّضْرِ هاشمِ بنِ القاسِمِ قالَ: دَعانا إبْراهيمُ بنُ شكلةَ، وأَحضَرَ بِشْرًا المَرِّيسيَّ؛ أرادَ ضَرْبَ عُنُقِه، فقالَ لنا: ما تَقولونَ في القُرْآنِ؟ قالَ: فقُلْتُ: (القُرْآنُ كَلامُ اللهِ، غَيْرُ مَخْلوقٍ)، فقالَ: لِمَ لمْ نَقُلْ: كَلامُ اللهِ ونَسكُتْ؟ قالَ: (قُلْتُ: لأنَّ هذا العَدُوَّ للهِ قالَ: مَخْلوقٌ، فلم نَجِدْ بُدًّا مِن أن نَقولَ: غَيْرُ مَخْلوقٍ) [538] رواه الخلَّال في ((كِتاب السنة)) (1798). .
5- قالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: (قُلْنا للجَهْميَّةِ: مَن القائِلُ يَوْمَ القِيامةِ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ؟ أليس اللهُ هو القائِلَ؟ قالوا: فيُكوِّنُ اللهُ شَيئًا فيُعبِّرُ عن اللهِ، كما كَوَّنَ شَيئًا فعَبَّرَ لموسى! قُلْنا: فمَنِ القائِلُ: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الأعراف: 6-7] ؟ أليس اللهُ هو الَّذي يَسْألُ؟ قالوا: هذا كلُّه إنَّما يُكوِّنُ شَيئًا، فيُعبِّرُ عن اللهِ. قُلْنا: قد أَعظَمْتُم على اللهِ الفِرْيةَ حينَ زَعَمْتُم أنَّه لا يَتَكلَّمُ! فشَبَّهْتُموه بالأصْنامِ الَّتي تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ؛ لأنَّ الأصْنامَ لا تَتَكلَّمُ، ولا تَتَحرَّكُ ولا تَزولُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ. فلمَّا ظَهَرَتْ عليه الحُجَّةُ قالَ: إنَّ اللهَ قد يَتَكلَّمُ، ولكنَّ كَلامَه مَخْلوقٌ. قُلْنا: وكذلك بَنو آدَمَ كَلامُهم مَخْلوقٌ، فقدْ شَبَّهْتُم اللهَ بخَلْقِه حينَ زَعَمْتُم أنَّ كَلامَه مَخْلوقٌ، ففي مَذهَبِكم قد كانَ في وَقْتٍ مِن الأوْقاتِ لا يَتَكلَّمُ حتَّى خَلَقَ الكَلامَ، وكذلك بَنو آدَمَ كانوا لا يَتَكلَّمونَ حتَّى خَلَقَ اللهُ لهم كَلامًا، وقدْ جَمَعْتُم بَيْنَ كُفْرٍ وتَشْبيهٍ! وتَعالى اللهُ عن هذه الصِّفةِ، بلْ نَقولُ: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، ولا نَقولُ: إنَّه كانَ ولا يَتَكلَّمُ حتَّى خَلَقَ الكَلامَ، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ لا يَعلَمُ حتَّى خَلَقَ عِلمًا فعَلِمَ، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ ولا قُدْرةَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه القُدْرةَ، ولا نَقولُ: إنَّه كانَ قد كانَ ولا نورَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه نورًا، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ ولا عَظَمةَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه عَظَمةً!) [539] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 138). .
وعن أبي بَكْرٍ الأَثْرَمِ قالَ: قالَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العَظيمِ العَنْبَريُّ لأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: يا أبا عَبْدِ اللهِ، قَوْمٌ هاهنا حَدَّثوا، يَقولونَ: لا نَقولُ: مَخْلوقٌ ولا غَيْرُ مَخْلوقٍ! قالَ: (هؤلاء أَضَرُّ مِن الجَهْميَّةِ على النَّاسِ، وَيْلَكم! فإن لم تَقولوا: ليس بمَخْلوقٍ، فقَوْلوا: مَخْلوقٌ!)، فقالَ العَبَّاسُ: ما تَقولُ يا أبا عَبْدِ اللهِ؟ فقال: (الَّذي أَعْتَقِدُه وأَذهَبُ إليه، ولا أَشُكُّ فيه، أنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلوقٍ. سُبْحانَ اللهِ! ومَن يَشُكُّ في هذا؟! سُبْحانَ اللهِ! في هذا شَكٌّ؟! قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، ففَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ والأمْرِ. القُرْآنُ مِن عِلمِ اللهِ، أَلَا تَراه يَقولُ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2]، والقُرْآنُ فيه أسْماءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أيَّ شيءٍ تَقولونَ؟! أَلَا تَقولونَ: إنَّ أسْماءَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ غَيْرُ مَخْلوقةٍ؟ مَن زَعَمَ أنَّ أسْماءَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مَخْلوقةٌ فقدْ كَفَرَ، لم يَزَلِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ قَديرًا، عَليمًا، عَزيزًا، حَكيمًا، سَميعًا، بَصيرًا، لسْنا نَشُكُّ أنَّ أسْماءَ اللهِ ليست بمَخْلوقةٍ، ولسْنا نَشُكُّ أنَّ عِلمَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى ليس بمَخْلوقٍ، وهو كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يَزَلِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَكيمًا. وأيُّ كُفْرٍ أَبيَنُ مِن هذا؟! وأيُّ كُفْرٍ أَكفَرُ مِن هذا؟! إذا زَعَموا أنَّ القُرْآنَ مَخْلوقٌ فقدْ زَعَموا أنَّ أسْماءَ اللهِ مَخْلوقةٌ، وأنَّ عِلمَ اللهِ مَخْلوقٌ! ولكنَّ النَّاسَ يَتَهاوَنونَ بِهذا، ويَقولونَ: إنَّما يَقولونَ: القُرْآنُ مَخْلوقٌ، فيَتَهاوَنونَ، ويَظُنُّونَ أنَّه هَيِّنٌ، ولا يَدْرونَ ما فيه مِن الكُفْرِ) [540] رواه الخلال في ((كِتاب السنة)) (1804) باختصارٍ. .
6- قالَ أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إسْماعيلَ البُخاريُّ: (سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بنَ سَعيدٍ يَقولُ: سَمِعْتُ يَحْيى بنَ سَعيدٍ يَقولُ: ما زِلْتُ أَسمَعُ أصْحابَنا يَقولونَ: إنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلوقةٌ. قالَ أبو عَبْدِ اللهِ: حَرَكاتُهم وأصْواتُهم واكْتِسابُهم وكِتابتُهم مَخْلوقةٌ، فأمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبينُ المُثبَتُ في المُصْحَفِ المَسْطورُ المَكْتوبُ الموعَى في القُلوبِ؛ فهو كَلامُ اللهِ ليس بخَلْقٍ، قالَ اللهُ تَعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] ، وقالَ إسْحاقُ بنُ إبْراهيمَ: فأمَّا الأوْعيةُ فمَن يَشُكُّ في خَلْقِها؟!) [541] ((خلق أفعال العباد)) (2/ 70). .
7- قالَ ابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ: (القُرْآنُ كَلامُ اللهِ وتَنْزيلُه؛ إذ كانَ مِن مَعاني تَوْحيدِه، فالصَّوابُ مِن القَوْلِ في ذلك عنْدَنا أنَّه كَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ كيف كُتِبَ وحيثُ تُلِيَ وفي أيِّ مَوضِعٍ قُرِئ؛ في السَّماءِ وُجِدَ، وفي الأرْضِ حيثُ حُفِظَ، في اللَّوْحِ المَحْفوظِ كانَ مَكْتوبًا، وفي ألْواحِ صِبْيانِ الكَتاتيبِ مَرْسومًا، في حَجَرٍ نُقِشَ، أو في وَرَقٍ خُطَّ، أو في القَلْبِ حُفِظَ، وبلِسانٍ لُفِظَ، فمَن قالَ غَيْرَ ذلك أو ادَّعى أنَّ قُرْآنًا في الأرْضِ أو في السَّماءِ سِوى القُرْآنِ الَّذي نَتْلوه بألْسِنتِنا ونَكتُبُه في مَصاحِفِنا، أو اعْتَقَدَ غَيْرَ ذلك بقَلْبِه، أو أَضمَرَه في نَفْسِه، أو قالَه بلِسانِه دائِنًا به؛ فهو باللهِ كافِرٌ، حَلالُ الدَّمِ، بَريءٌ مِن اللهِ، واللهُ مِنه بَريءٌ، بقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] ، وقالَ -وقَوْلُه الحَقُّ- عَزَّ وجَلَّ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فأَخبَرَ جَلَّ ثَناؤُه أنَّه في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَكْتوبٌ، وأنَّه مِن لِسانِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَسْموعٌ، وهو قُرْآنٌ واحِدٌ مِن مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَسْموعٌ، في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَكْتوبٌ، وكذلك هو في الصُّدورِ مَحْفوظٌ، وبألْسُنِ الشُّيوخِ والشَّبابِ مَتْلُوٌّ) [542] ((صريح السنة)) (ص: 18). .  
8- عَدَّد اللَّالكائيُّ أسْماءَ أَكثَرَ مِن خَمْسِمِئةِ عالِمٍ مِن عُلَماءِ المُسلِمينَ في مُخْتلِفِ الأعْصارِ ومِن عِدَّةِ أمْصارٍ ممَّن يَقولُ: إنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، وقالَ في آخِرِ كَلامِه: (فهؤلاء خَمْسُمِئةٍ وخَمْسونَ نَفْسًا أو أَكثَرُ مِن التَّابِعينَ وأتْباعِ التَّابِعينَ، والأئِمَّةِ المَرْضيِّينَ، سِوى الصَّحابةِ الخَيِّرينَ، على اخْتِلافِ الأعْصارِ، ومُضِيِّ السِّنينَ والأعْوامِ، وفيهم نَحْوٌ مِن مِئةِ إمامٍ ممَّن أخَذَ النَّاسُ بقَوْلِهم، وتَدَيَّنوا بمَذاهِبِهم، ولو اشْتَغَلْتُ بنَقْلِ قَوْلِ المُحدَثينَ لَبَلَغَتْ أسْماؤُهم أُلوفًا كَثيرةً، لكنِّي اخْتَصَرْتُ وحَذَفْتُ الأسانيدَ للاخْتِصارِ، ونَقَلْتُ عن هؤلاء عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، لا يُنكِرُ عليهم مُنكِرٌ، ومَن أَنكَرَ قَوْلَهم اسْتَتابوه أو أمَروا بقَتْلِه أو نَفْيِه أو صَلْبِه، ولا خِلافَ بَيْنَ الأمَّةِ أنَّ أوَّلَ مَن قالَ: القُرْآنُ مَخْلوقٌ، جَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ في سِنِي نَيِّفٍ وعِشْرينَ ومِئةٍ، ثُمَّ جَهْمُ بنُ صَفْوانَ) [543] ((شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنَّة والجَماعة)) (2/ 253 - 344). .
وبِهذا يَتَبيَّنُ بوُضوحٍ أنَّ اللهَ سُبْحانَه مُتَّصِفٌ بصِفةِ الكَلامِ أزَلًا وأبَدًا، لا بِدايةَ لكَلامِه ولا نِهايةَ له، وصِفةُ الكَلامِ صِفةٌ للهِ سُبْحانَه ذاتِيَّةٌ فِعْليَّةٌ، فهي ذاتِيَّةٌ باعْتِبارِ أنَّه لا بِدايةَ للاتِّصافِ بِها، وفِعْليَّةٌ بكَوْنِها تَتَعلَّقُ بالمَشيئةِ والإرادةِ، فكَلامُ اللهِ مُتَعلِّقٌ بمَشيئتِه، يَتَكلَّمُ متى شاءَ، كيف شاءَ، وكَلامُ اللهِ قَديمُ النَّوْعِ، حادِثُ الآحادِ، فقدْ كَلَّمَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في زَمانِه، وكَلَّمَ نَبيَّنا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيْلةَ المِعْراجِ، ويُكلِّمُ النَّاسَ يَوْمَ القِيامةِ، ويُكلِّمُ أهْلَ الجَنَّةِ إذا دَخَلوا الجَنَّةَ، وكَلامُ اللهِ سُبْحانَه ليس ككَلامِ المَخْلوقينَ، ولا نَعلَمُ كَيْفيَّتَه، ويَجِبُ الإيمانُ بأنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بما شاءَ، وقدْ تَكلَّمَ اللهُ سُبْحانَه بالقُرْآنِ بحُروفِه ومَعانيه، وسَمِعَه مِنه جِبْريلُ عليه السَّلامُ، وأَسمَعَه جِبْريلُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَسمَعَه مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه، وليس لِجِبْريلَ ولا لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا التَّبْليغُ، فهو كَلامُ اللهِ على الحَقيقةِ لا كَلامُ غَيْرِه، وهو مُنزَّلٌ غَيْرُ مَخْلوقٍ، ومَذهَبُ الأشاعِرةِ في كَلامِ اللهِ أَقرَبُ إلى مَذهَبِ المُعْتَزِلةِ، وقدْ تَأثَّروا في مَذهَبِهم بالجَهْميَّةِ والفَلاسِفةِ، فوَصَفوا اللهَ بالكَلامِ النَّفْسيِّ الَّذي ابْتَدَعوا القَوْلَ به، وأَنكَروا أن يَكونَ اللهُ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بما شاءَ، وقالوا: ليس في المُصْحَفِ كَلامُ اللهِ، بلْ فيه الدَّلالةُ على كَلامِ اللهِ، وليس هو كَلامَ اللهِ، فخالَفوا أدِلَّةَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، وما كانَ عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، الَّذين كانوا يَقولونَ: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ، ولا يُطلِقونَ القَوْلَ بأنَّ كَلامَ اللهِ قَديمٌ، ولا أنَّ القُرْآنَ قَديمٌ، بلْ يَقولونَ: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بما شاءَ، وأنَّ المَكْتوبَ في المَصاحِفِ والمَحْفوظَ في الصُّدورِ هو كَلامُ اللهِ رَبِّ العالَمينَ.
كما قالَ اللهُ تَعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .
وقالَ اللهُ سُبْحانَه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] .
وقالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] .
وقالَ اللهُ تَعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] .
وعن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: صلَّى بنا النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ قالَ: ((أَتَدْرونَ ماذا قالَ رَبُّكم اللَّيْلةَ؟))، قالوا: اللهُ ورَسولُه أَعلَمُ، قالَ: ((أَصبَحَ مِن عِبادي مُؤمِنٌ بي، وكافِرٌ؛ فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحْمتِه، فذلك مُؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكَوْكَبِ، وأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بنَوْءِ كَذا وكَذا، فذلك كافِرٌ بي، مُؤمِنٌ بالكَوْكَبِ )) [544] رواه البخاري (1038) واللَّفظُ له، ومُسلِم (71). .
وعن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا قَضى اللهُ الأمْرَ في السَّماءِ، ضَرَبَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحتِها خُضْعانًا لقَوْلِه، كأنَّه سِلْسِلةٌ على صَفْوانٍ، فإذا فُزِّعَ عن قُلوبِهم قالوا: ماذا قالَ رَبُّكم؟ قالوا للَّذي قالَ: الحَقَّ، وهو العلِيُّ الكَبيرُ )) [545] رواه البخاري (4800) مطوَّلًا. .
وعن عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا تَكلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ أهْلُ السَّماءِ للسَّماءِ صَلْصَلةً كجَرِّ السِّلْسِلةِ على الصَّفا، فيُصعَقونَ، فلا يَزالونَ كذلك حتَّى يَأتيَهم جِبْريلُ، حتَّى إذا جاءَهم جِبْريلُ فُزِّعَ عن قُلوبِهم، فيَقولونَ: يا جِبْريلُ ماذا قالَ رَبُّك؟ فيَقولُ: الحَقَّ، فيَقولونَ: الحَقَّ، الحَقَّ )) [546] رواه أبو داود (4738) واللَّفظُ له، وابنُ خزيمة في ((التوحيد)) (1/350)، وابنُ حِبَّان (37). صحَّحه ابنُ حِبَّان، وابنُ تَيْمِيَّةَ في ((العَقيدة الأصفهانية)) (68)، والبيهقيُّ في ((الأسماء والصِّفات)) (1/413). .

انظر أيضا: