موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: القولُ بخَلقِ القُرآنِ


تُعتَبَرُ مسألةُ القولِ بخَلقِ القرآنِ من المسائِلِ التي أخذَت من الوقتِ والجُهدِ وشِدَّةِ الجِدالِ بَينَ أربابِ المذاهِبِ الكلاميَّةِ كثيرًا، وقد سُفِكت بسَبَبِها دماءٌ كثيرةٌ، وجرت من أجلِها محَنٌ عظيمةٌ وبلايا مُتتاليةٌ على العُلَماءِ في زَمَنِ المأمونِ والمعتَصِمِ، واشتدَّ الأمرُ وغَصَّت السُّجونُ بالمُخالِفين فيها القائلين بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعودُ.
لقد ذَكَر عُلَماءُ الفِرَقِ أنَّ الخَوارِجَ قد قالوا بخَلقِ القرآنِ واعتَقَدوه حقًّا لا يُمارى فيه بزَعمِهم، ولهم شُبَهٌ واهيةٌ وتأويلاتٌ بعيدةٌ، فذكر الأشعَريُّ أنَّ الخَوارِجَ كُلَّهم يقولون بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ بإجماعٍ منهم على هذا الحُكمِ، فقال: (الخَوارِجُ جميعًا يقولون بخَلقِ القرآنِ) [328] ((مقالات الإسلاميين)) (1/203). .
وقال ابنُ جُمَيعٍ الإباضيُّ في مُقَدِّمةِ التَّوحيدِ: (ليس مِنَّا من قال: إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ) [329] ((مقدمة التوحيد)) (ص: 19). .
وقد بَيَّنَ الوَرْجَلانيُّ الإباضيُّ أدِلَّتَهم على خَلقِ القرآنِ، وناقش فيه المُخالِفين لهم بقولِه: (لأهلِ الحَقِّ عليهم أدِلَّةٌ كثيرةٌ، وأعظَمُها استِدلالُهم على خَلقِه بالأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على خَلقِهم هم، فإن أبَوا مِن خَلقِ القرآنِ أبَينا لهم مِن خَلقِهم، وقد وصفه اللهُ عزَّ وجَلَّ في كتابِه وجعَلَه قُرآنًا عَربيًّا مجعولًا) [330] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 50). ثم يُنظر: (ص: 68 – 72). . ثُمَّ جاء بالأدِلَّةِ، وهي الآياتُ التي ذكر فيها نزولَ القرآنِ، وهي كثيرةٌ، مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ، وقَولِه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] ، وقَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] ، وغيرِها من الآياتِ.
وقال الحارِثيُّ الإباضيُّ في إثباتِ رأيِ الخَوارِجِ في القَولِ بخلقِ القرآنِ: (عِندَ المحَقِّقين من الإباضيَّةِ أنَّه مخلوقٌ؛ إذ لا تخلو الأشياءُ إمَّا أن تكونَ خالِقًا أو مخلوقًا، وهذا القرآنُ الذي بأيدينا نَقرَؤُه مخلوقٌ لا خالِقٌ؛ لأنَّه مُنَزَّلٌ ومَتلُوٌّ، وهو قولُ المُعتَزِلةِ) [331] ((العقود الفضية)) (ص: 287). .
وفيما يتعَلَّقُ بموقِفِ السَّلَفِ في هذه المسألةِ قال ابنُ تيميَّةَ مُبَيِّنًا رأيَهم: (كما لم يقُلْ أحَدٌ من السَّلَفِ: إنَّه مخلوقٌ، فلم يقُلْ أحَدٌ منهم: إنَّه قديمٌ، لم يقُلْ واحِدًا من القولينِ أحدٌ من الصَّحابةِ ولا التَّابِعين لهم بإحسانٍ ولا مَن بَعدَهم من الأئمَّةِ ولا غيرِهم، بل الآثارُ مُتواتِرةٌ عنهم بأنَّهم كانوا يقولون: القرآنُ كلامُ اللهِ) [332] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/20). .
وقال ابنُ قُدامةَ: (من كلامِ اللهِ تعالى القرآنُ العظيمُ، وهو كتابُ اللهِ المُبِينُ، وحَبلُه المَتينُ، وتنزيلُ ربِّ العالَمينَ، نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ على قَلبِ سَيِّدِ المُرسَلينَ، بلِسانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ، مُنزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعودُ) [333] ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 17). .
وقد كفَّر كثيرٌ من عُلَماءِ السَّلَفِ من قال بخَلقِ القرآنِ: أورد منهم الأشعَريُّ عَدَدًا كبيرًا، ثُمَّ قال: (ومَن قال: "إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، وإنَّ من قال بخَلقِه كافِرٌ"، من العُلَماءِ وحَمَلةِ الآثارِ ونَقَلةِ الأخبارِ لا يُحصَون كَثرةً) [334] ((الإبانة)) (ص: 372). .
وقال أيضًا: (قد احتجَجْنا لصِحَّةِ قَولِنا: إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، من كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وما تضمَّنه من البُرهانِ وأوضَحه من البيانِ، ولم نجِدْ أحدًا ممَّن يحمِلُ الآثارَ وينقُلُ عنه الأخبارَ ويأتَمُّ به المُؤتَمُّون من أهلِ العِلمِ يقولُ بخَلقِ القرآنِ، وإنَّما قال ذلك رَعاعُ النَّاسِ وجُهَّالٌ من جُهَّالِهم لا مَوقِعَ لهم) [335] ((الإبانة)) (ص: 372- 388). ويُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 106). .
ومِثلُه ما أورَده الدَّارِميُّ وأحمَدُ بنُ حَنبَلٍ من أقوالٍ لعُلَماءِ السَّلَفِ، وهي أقوالٌ كثيرةٌ مَضمونُها واحدٌ، وهو إثباتُ القولِ بعدَمِ خَلقِ القرآنِ، وتكفيرُ من قال بخَلقِه [336] يُنظر: كتاب ((السنة)) (ص: 15- 29)، ((الرد على الجهمية)) (ص: 85- 89). .
وأمَّا احتِجاجُ القائِلين بخَلقِ القرآنِ بقَولِ اللهِ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] ، أي: خَلَقْناه قُرآنًا عربيًّا- فهذا احتِجاجٌ باطِلٌ؛ إذ إنَّ (جَعَل) التي بمعنى خَلَق تتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ، وهنا تعدَّت إلى مفعولينِ، فهي ليست بمعنى خَلَق [337] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 112-113). ويُنظر أيضًا: ((إرشاد السالك)) لبرهان الدين ابن القيم (1/ 272). .
وينقُضُ أيضًا احتِجاجَهم هذا قولُ اللهِ تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] ، وكذا قَولُه تعالى: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل: 91] . فهل يَصِحُّ جَعلُ "جَعَل" في هاتين الآيتينِ وأمثالِهما بمعنى خَلَق؟!
وأمَّا الاحتِجاجُ على خَلقِه بإنزالِه فلا دَلالةَ لهم فيه، وذلك أنَّ الإنزالَ أو النُّزولَ لا يُعرَفُ من إطلاقِه على الحقيقةِ إلَّا أنَّه هبوطٌ من مكانٍ عالٍ إلى مكانٍ أسفَلَ منه، هذا المفهومُ منه لغةً وشرعًا [338] يُنظر: ((مختصر الصواعق)) لابن الموصلي (ص: 278). ، ولا يلزَمُ منه خَلقُ المُنزَّلِ؛ فقد أُسنِد النُّزولُ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وهو قديمٌ، كما وصَفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يَنزِلُ إلى سماءِ الدُّنيا [339] لفظُه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ينزِلُ رَبُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا حين يبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألُني فأعطِيَه، من يَستغفِرُني فأغفِرَ له؟)) أخرجه البخاري (1145) واللَّفظُ له، ومُسلِم (758). .
وقد أثبَت اللهُ تعالى أنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ منه تعالى، بمعنى أنَّه تكَلَّم به نبيُّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بواسِطةِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، الذي نزَل به على قَلبِ سَيِّدِ المُرسَلين، وهذا هو الواضِحُ والمعروفُ فيه، والذي فَهِمه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم، ولكِنَّ القائِلين بخَلقِه تجاوَزوا هذا الأمرَ الواضِحَ، وتعَسَّفوا النُّصوصَ على ما يوافِقُ آراءَهم المُنحَرِفةَ.
وقد حاول علي يحيى مَعمَر الإباضيُّ أن يجعَلَ الخِلافَ بَينَ القائِلين بخَلقِ القرآنِ وبَينَ النَّافين به خِلافًا لفظيًّا، إذا أُهمِلَ جانِبَا التَّطرُّفِ -كما يقولُ- ويعني به أنَّه لَمَّا اشتدَّ الجَدَلُ بَينَ الطَّرفَينِ في مسألةِ خَلقِ القرآنِ، انقسَموا إلى فريقَينِ (فتطَرَّف جانبٌ حتَّى زعَم أنَّ المصاحِفَ والحُروفَ قديمةٌ، وتطرَّف جانِبٌ آخَرُ حتَّى نفى صفةَ الكلامِ عن اللهِ تبارك وتعالى) [340] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 244- 245). .
ويرى أنَّه (يكفي أن يلتقيَ المُسلِمون على حقيقتَينِ في هذا الموضوعِ، وهي أنَّ اللهَ تبارك وتعالى سميعٌ بصيرٌ مُتكَلِّمٌ، وأنَّ القرآنَ الكريمَ كَلامُ اللهِ عزَّ وجَلَّ أنزَله على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [341] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 244- 245). .
ولا شيءَ فيما يريدُ علي مَعمَر أن يجمَعَ عليه النَّاسَ في هذه المسألةِ، لولا أنَّه لم يوضِّحْ رأيَه في خَلقِ القرآنِ، بل اكتفى بالقولِ بأنَّه كلامُ اللهِ أنزله على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو كذلك لولا أنَّ الإباضيَّةَ يَستَدِلُّون على خَلقِ القُرآنِ بإنزالِه، فلا يكفي إذًا ما رآه كافيًا للتَّوفيقِ بَينَ القائِلينَ بخَلقِ القرآنِ أو إنزالِه، وبَينَ القائِلينَ بعَدَمِ خَلقِه.
ولا بُدَّ من الإشارةِ إلى أنَّ بعضَ عُلَماءِ الإباضيَّةِ خَرَج عن القولِ بخَلقِ القرآنِ؛ فصاحِبُ (كتابِ الأديانِ) وهو إباضيٌّ، يَرُدُّ على المُعتَزِلةِ ويُبطِلُ قَولَهم بخَلقِه، فيقولُ: (فإن عارَضَ معارِضٌ واحتَجَّ بقولِ اللهِ سُبحانَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا [السجدة: 4] ، فكُلُّ شيءٍ بَينَ السَّماءِ والأرضِ فهو مخلوقٌ، قُلْنا لهم: وقد قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 85] ، فالحَقُّ الذي خَلَق به السَّمواتِ والأرضَ وما بَينَهما هو كلامُه، وهو خارِجٌ عن الأشياءِ) [342] نقلًا عن ((آراء الخوارج)) للطالبي (ص: 154- 155). .
ومن أئمَّةِ الإباضيَّةِ القائِلين بأنَّ القُرآنَ غيرُ مخلوقٍ أيضًا: أبو النَّضرِ العُمانيُّ؛ فإنَّه كان يُنكِرُ ذلك القَولَ إنكارًا شديدًا، وله قصيدةٌ طويلةٌ يَرُدُّ بها على القائِلينَ بخَلقِ القرآنِ بلغت خمسةً وسبعينَ بَيتًا [343] يُنظر: ((الدعائم)) (ص: 31 – 35). ورَدَّ بالتَّفصيلِ على القولِ بخَلقِ القرآنِ مُبَيِّنًا أنَّ الجَعلَ في قولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ليس نصًّا صريحًا في الخَلقِ، ثُمَّ استدَلَّ بدعاءِ إبراهيمَ الوارِدِ في قولِه تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَـَذا بَلَدًا آمِنًا [إبراهيم: 35] ، وقَولهِ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ [إبراهيم: 40] ... إلخ.
وعلى كُلٍّ فإنَّ بَعضَ الخَوارِجِ لم يقتَصِروا على القَولِ بخَلقِ القرآنِ؛ فكانت منهم طائِفتانِ هما العَجارِدةُ والميمونيَّةُ؛ أنكَرَتا سورةَ يوسُفَ، وادَّعَتا أنَّها ليست من القرآنِ، وحُجَّتُهم في هذا أنَّ القرآنَ جاء بالجِدِّ، وسورةُ يوسُفَ اشتَمَلت على قَصَصِ الحُبِّ والعِشقِ!
وقد جزم كثيرٌ من العُلَماءِ بصِحَّةِ ما نُسِب إلى الميمونيَّةِ والعَجارِدةِ في هذا الاعتقادِ، وإن كان الأشعَريُّ قد حكى عنهم هذا القولَ، وهو غيرُ جازمٍ بصِحَّتِه؛ حيثُ قال: (وحُكِيَ لنا عنهم ما لم نتحَقَّقْه أنَّهم يَزعُمون -يعني العَجارِدةَ- أنَّ سورةَ يوسُفَ ليست من القرآنِ) [344] ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 178). .
وتَبِعَه الشَّهْرَسْتانيُّ، فذكَرَ هذا القولَ على أنَّه قد حُكِي عنهم [345] يُنظر: (الملل والنحل)) (1/128). .
ولكِنَّ صاحِبَ كتابِ (الأديان) قال عنهم: (يُنكِرون سورةَ يوسُفَ أنَّها ليست من القرآنِ، ويقولون: هي قِصَّةٌ من القِصَصِ خِلافًا لأهلِ الاستِقامةِ -يعني بهم الإباضيَّةَ- يقولون: القرآنُ كلُّه كلامُ اللهِ) [346] ((الأديان)) (ص: 104). .
وما قاله الأشعَريُّ في العَجارِدةِ قاله في الميمونيَّةِ، فحكى عنهم هذا القولَ وهو غيرُ مُتثَبِّتٍ من صحَّتِه، ولكِنَّ البَغداديَّ قد بَيَّنَ سنَدَ هذا القولِ إليهم بأنَّه من حكايةِ الكَرابيسيِّ، وذلك في قولِه: (حكى الكَرابيسيُّ عن الميمونيَّةِ من الخَوارِجِ أنَّهم أنكَروا أن تكونَ سورةُ يُوسُفَ من القرآنِ، ومُنكِرُ بعضِ القرآنِ كمُنكِرِ كُلِّه) [347] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 281). .
ويزيدُ الشَّهْرَسْتانيُّ في السَّنَدِ الكَعبيَّ والأشعَريَّ، فقال: (حكى الكَعبيُّ والأشعَريُّ عن الميمونيَّةِ إنكارَ كونِ سورةِ يوسُفَ من القرآنِ) [348] ((الملل والنحل)) (1/129). .
وجزم صاحِبُ كِتابِ (الأديان) بأنَّ ميمونًا أنكر سورةَ يوسُفَ أنَّها من القُرآنِ، وذلك في قولِه عنه: (أنكَر سورةَ يوسُفَ أنَّها ليست من القرآنِ على قولِ عبدِ الكريمِ بنِ عَجْرَدٍ) [349] ((الأديان)) (1/177). .

انظر أيضا: