موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: صِفاتُ اللهِ تعالى


في كُتُبِ عُلَماءِ المقالاتِ والفِرَقِ نَزْرٌ قليلٌ فيما يتعلَّقُ ببيانِ رأيِ الخَوارِجِ في الصِّفاتِ الإلهيَّةِ بصفةٍ عامَّةٍ، والصِّفاتِ الخَبَريَّةِ بصِفةٍ خاصَّةٍ، وقد ذَكَر الشَّهْرَسْتانيُّ رأيَ فِرقةِ الشَّيبانيَّةِ في صفةِ العِلمِ بقَولِه عنهم: (إنَّ اللهَ تعالى لم يعلَمْ حتَّى خَلَق لنَفسِه عِلمًا، وإنَّ الأشياءَ إنَّما تصيرُ معلومةً له عِندَ حُدوثِها) [283] ((الملل والنحل)) (1/133). .
وبطلانُ هذا القَولِ ظاهِرٌ؛ فصِفاتُ اللهِ قديمةٌ بقِدَمِه غيرُ مخلوقةٍ، وما يخلُقُ اللهُ من الموجوداتِ إنَّما يخلُقُه عن عِلمٍ وإرادةٍ، فيستحيلُ التَّوجيهُ إلى الإيجادِ مع الجهلِ، ثُمَّ كيف عَلِم اللهُ أنَّه بغيرِ عِلمٍ حتَّى يخلُقَ لنَفسِه عِلمًا؟! هذا تناقُضٌ ظاهِرٌ.
وأمَّا الإباضيَّةُ فبالرُّجوعِ لكُتُبِهم لمعرفةِ رأيِهم في الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، يتبيَّنُ أنَّهم يَقِفون منها مَوقِفَ النَّفيِ أو التَّأويلِ بحُجَّةِ الابتعادِ عن اعتقادِ المُشَبِّهةِ فيها، ويَرَون أنَّ إثباتَها يؤدِّي إلى التَّشبيهِ المذمومِ بزعمِهم.
وخُلاصةُ رأيِهم أنَّهم يُرجِعون صفاتِ العِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ وغَيرِها من الصِّفاتِ -التي أثبَتها اللهُ تعالى لنَفسِه، والتي هي صفاتُ كَمالٍ- إلى الذَّاتِ، فقالوا: إنَّه عالمٌ بذاتِه وقادِرٌ بذاتِه، وهكذا، كما قال صاحِبُ كتابِ (الأديان) الإباضيُّ: (قال أهلُ الاستقامةِ: إنَّ اللهَ سُبحانَه عالمٌ بذاتِه، وقادِرٌ بذاتِه لا بقُدرةِ سِواه، وحيٌّ بذاتِه، ومريدٌ بذاتِه، ومُتكَلِّمٌ بذاتِه، وسميعٌ وبصيرٌ بذاتِه، ليس كمِثلِه شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ) [284] ((الأديان)) (ص: 57). .
وقال أحمَدُ بنُ النَّضرِ الإباضيُّ:
وهو السَّميعُ بلا أداةٍ تَسمَـــعُ
إلَّا بقدرةِ قادِرٍ وَحْدانـــي
وهو البصيرُ بغيرِ عَينٍ رُكِّبَــت
في الرَّأسِ بالأجفانِ واللَّحظانِ
جَلَّ المُهَيمِنُ عن مقالِ مُكَيِّـفٍ
أو أن يُنالَ دِراكُه بمكـــانِ
أو أن تُحيطَ به صفاتُ مُعَبِّــرٍ
أو تَعتريه هماهِمُ الوَسْنانِ [285] يُنظر: ((الدعائم)) (ص: 34).
وقال السَّالِميُّ في نَظْمِه (غايةُ المراد في نَظْمِ الاعتِقاد):
أسماؤه وصِفاتُ الذَّاتِ ليس بغَيـــرِ
الذَّاتِ بل عينُها فافهَمْ ولا تُحِــلَا
ولا يحيــطُ بـه سُبحانَه بَصَــــرٌ
دُنيا وأُخرى فدَعْ أقوالَ مَن نَصَـلا
وهو على العَرشِ والأشياءِ استوى وإذا
عدَلْتَ فهو استواءٌ غيرُ ما عُقِـلا
وإنَّما استـوى مُلكٌ ومَقــــدِرةٌ
له على كُلِّها استيلاءٌ وقد عَـدَلَا
كمـا يقـالُ استـوى سُلطانُهم فَعَـلَا
على البلادِ فحاز السَّهْلَ والجَبَلَا [286] ((غايَة المراد)) (ص: 7).
وقال أحمدُ الخليليُّ في شرحِه لهذه الأبياتِ: (يعني أنَّ أسماءَه تعالى هي عينُ ذاتِه لا غيرُها، ومرادُه بذلك مدلولُ الأسماءِ لا ألفاظُها، كما بَيَّنَه المصَنِّفُ -رحمه اللهُ- في مشارِقِ الأنوارِ، وحَرَّره قُطبُ الأئمَّةِ -رحمه اللهُ- في "هِمْيانِ الزَّادِ"؛ فإنَّ الألفاظَ يَستحيلُ أن تكونَ هي الذَّاتَ العَلِيَّةَ؛ فإنَّها حروفٌ مُرَكَّبةٌ) [287] ((شرح غايَة المراد)) (ص: 59). .
وقال أيضًا: (كونُ صِفاتِ الذَّاتِ هي عينَ الذاتِ هو ما عليه أصحابُنا والمُعتَزِلةُ ومن نحا نحوَهم، وذلك إمعانٌ في توحيدِه -تبارك وتعالى- وتنزيهِه عن مشابهةِ غَيرِه والافتقارِ إلى ما سِواه... فهو حيٌّ حياةً حقيقيَّةً، ولكِنْ بذاتِه من غيرِ أن يحتاجَ إلى صفةٍ زائدةٍ على ذاتِه قائمةٍ بها تُسَمَّى حياةً) [288] ((شرح غايَة المراد)) (ص: 63). .
والإباضيَّةُ يُشارِكون في تأويلِ الصِّفاتِ الخَبريَّةِ غيرَهم من الفِرَقِ المُؤَوِّلةِ، كالمُعتَزِلةِ والأشاعِرةِ.
وقد شَنَّع الوَرْجَلانيُّ على الذين يُثبِتونها للهِ مُدَّعيًا أنَّهم رجَعوا بذلك إلى التَّشبيهِ الذي وقع فيه عبَّادُ الأوثانِ، ومن هذه الصِّفاتِ التي أوردها صِفاتُ: اليَدِ، والوَجهِ، والجَنْبِ، والسَّاقِ، والعَينِ، واليَمينِ، والاستِواءِ، وهو يرى أنَّ مُخالِفي الإباضيَّة المُثبِتين لتلك الصِّفاتِ يمتَنِعون من مَذهَبِ المُسلِمين الذين صَرَفوا هذه المعانيَ إلى ما يليقُ بالباري سُبحانَه وتعالى، وهو موجودٌ في لغةِ العَرَبِ، على اعتبارِ أنَّ اليدَ هي النِّعمةُ والقُدرةُ، والوَجهَ هو ذاتُه، واليمينَ هي القُدرةُ والقُوَّةُ... ثُمَّ قال عن الإباضيَّةِ: (لم يُصَرِّحوا بالمعنى المكروهِ، والأوَّلون أي: المُثبِتون لتلك الصِّفاتِ بدونِ تأويلٍ قد ردُّوا على اللهِ عزَّ وجَلَّ قَولَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تجاهَلوا، فَهُم جاهِلون) [289] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 32). !
وقد استدَلَّ العيزابيُّ [290] هو: الحاجُّ محمَّدُ بنُ الحاجِّ يوسُفَ بنِ عيسى، الإباضيُّ، ومن مؤلَّفاته: ((الحجة في بيان المحجة في التوحيد بلا تقليد)). يُنظر: ((الشرك في القديم والحديث)) لزكريا (2/ 1643). عقليًّا على ضرورةِ تأويلِ تلك الصِّفاتِ بقَولِه في الاستواءِ: (الحمدُ للهِ الذي استوى على العَرشِ، أي: مَلَك الخَلقَ واستولى عليه، وإلَّا لَزِم التَّحيُّزُ وصِفاتُ الخَلقِ) [291] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 6). .
وقال في الحِجابِ: (الحمدُ للهِ الذي احتَجَب عن خَلقِه لا بحِجابٍ؛ إذ الحِجابُ من صفاتِ خَلقِه، بل بمَنعِه إيَّاهم عن مُشاهدتِه) [292] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 18). . وهكذا قال في النُّزولِ والمجيءِ وغَيرِها من صفاتٍ أخرى ذكَرَها، ثُمَّ أوَّلها تأويلًا باطلًا لا معنى له غيرُ التَّعطيلِ.
وقد عَقَد الرَّبيعُ بنُ حبيبٍ فَصلًا في مُسنَدِه (الجامِعُ الصَّحيحُ) أورد فيه عِدَّةَ أحاديثَ عن الصَّحابةِ، كُلُّها تشيرُ إلى التَّأويلِ المحْضِ للصِّفاتِ التي تقَدَّم ذِكرُها، وغيرَها عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهما من الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم.
فقد فَسَّر فيما يرويه عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه قَولَه تعالى: وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، أي: في مُلكِه، وفسَّر اليدَ (بالمُلكِ والقُدرةِ)، ومِثلُها اليمينُ، وأنَّ قولَه تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي: رِزقُه مبسوطٌ على جميعِ خَلقِه. وفسَّر مجيءَ اللهِ بمجيءِ أمرِه لفصلِ القضاءِ.
وأوَّلَ قَولَه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طـه: 5] إلى معنى: ارتفاعِ ذِكْرِه، وثنائِه على خَلقِه.
وفسَّر الوَجهَ بالذَّاتِ، والعَينَ بالحِفظِ، والنَّفسَ بالعِلمِ، والسَّاقَ بالشِّدَّةِ، وهكذا أورد الرَّبيعُ بنُ حبيبٍ آثارًا كثيرةً في تأويلِ الصِّفاتِ وإنكارِ الرُّؤيةِ، وسيأتي ذِكرُ أمثلةٍ منها [293] يُنظر: ((الجامع الصحيح)) (ص: 35 - 60). .
إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قد أثبت لنفسِه تلك الصِّفاتِ، فقال تعالى في إثباتِ صِفةِ العِلمِ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وقال سُبحانَه: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] .
وقد سمَّى اللهُ تعالى نَفسَه بالأسماءِ الحُسنى؛ كالحَيِّ القيُّومِ، والقَويِّ المتينِ، والسَّميعِ البصيرِ، إلى غيرِ ذلك من الأسماءِ المُشتَقَّةِ التي يستحيلُ تسميةُ اللهِ تعالى بها بدونِ أن تقومَ بها مصادِرُها الاشتقاقيَّةُ، وهي الصِّفاتُ القائمةُ بذاتِه تعالى من العِلمِ والحياةِ والسَّمعِ والبَصَرِ، وغيرِها، ولو لم يكُنْ إلَّا الذَّاتُ لكان العِلمُ قُدرةً، والقُدرةُ إرادةً، ثُمَّ كيف تكونُ الذَّاتُ الإلهيَّةُ مجرَّدةً عن كمالاتِها ثُمَّ يكونُ لها عِلمٌ بالأشياءِ أو قوَّةٌ عليها أو إرادةٌ لها؟!
إنَّ من المستحيلِ وُجودُ الذَّاتِ بدونِ صِفاتٍ، وهكذا يستحيلُ خُلُوُّ الذَّاتِ الإلهيَّةِ من صفاتِها القائِمةِ بها. ولم يُؤثَرْ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا عن أحَدٍ من الصَّحابةِ أو السَّلَفِ الصَّالحِ مِثلُ هذا النَّفيِ لصفاتِ اللهِ تعالى عن ذاتِه، بل نَعَتوه سُبحانَه وتعالى بكُلِّ نُعوتِ الكمالِ والعَظَمةِ والجلالِ، دونَ أن يَجِدوا فيما أثبَتوه له تمثيلًا له سُبحانَه وتعالى بخَلقِه.
وفيما يتعَلَّقُ بالصِّفاتِ الخَبَريَّةِ التي أوَّلَها الإباضيَّةُ -سواءٌ منها صِفاتُ الذَّاتِ أو صِفاتُ الفِعلِ- فإنَّهم لم يَفعَلوا أكثَرَ من ترديدِهم لِما قاله غيرُهم من المُؤَوِّلةِ.
ومذهَبُ السَّلَفِ في أمثالِ هذه الصِّفاتِ هو ما حكاه عنهم ابنُ تيميَّةَ من (أنَّهم يَصِفون اللهَ بما وَصَف به نَفسَه، وبما وصَفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ) [294] ((الفتوى الحموية)) (ص: 101)، ((الرسالة التدمرية)) (ص: 6). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (من تمامِ التَّوحيدِ أن يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَف به نفسَه وبما وصَفه به رسولُه، ويُصانَ ذلك عن التَّحريفِ والتَّعطيلِ والتَّكييفِ والتَّمثيلِ) [295] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/284). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا ريبَ أنَّ اللهَ وصَف نفسَه بصِفاتٍ وسمَّى نفسَه بأسماءٍ، وأخبر عن نفسِه بأفعالٍ، وأخبر أنَّه يحِبُّ ويكرَهُ، ويمقُتُ ويغضَبُ ويسخَطُ، ويجيءُ ويأتي، ويَنزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وأنَّه استوى على عرشِه، وأنَّ له عِلمًا وحياةً، وقدرةً وإرادةً، وسمعًا وبصرًا ووجهًا، وأنَّ له يدينِ، وأنَّه فوق عبادِه، وأنَّ الملائكةَ تَعرُجُ إليه وتَنزِلُ مِن عِندِه، وأنَّه قريبٌ، وأنَّه مع المحسِنين ومع الصَّابِرين ومع المتَّقين، وأنَّ السَّمَواتِ مَطويَّاتٌ بيمينِه، ووصَفَه رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه يَفرَحُ ويَضحَكُ، وأنَّ قلوبَ العِبادِ بَينَ أصابِعِه، وغيرِ ذلك) [296] يُنظر: ((مختصر الصواعق)) (ص: 16- 29). . ثُمَّ استمَرَّ ابنُ القَيِّمِ بَعدَ هذا الكلامِ في مناقَشةِ المُؤَوِّلةِ لتلك الصِّفاتِ، مُثبِتًا في مواضِعَ كثيرةٍ عقيدةَ السَّلَفِ وطريقَتَهم في إثباتِ تلك الصِّفاتِ للهِ تعالى، على ما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه دونَ تعطيلٍ أو تمثيلٍ أو تأويلٍ.

انظر أيضا: