موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: رُؤيةُ اللهِ تعالى


كَثُر الجَدَلُ بَينَ عُلَماءِ الفِرَقِ حَولَ مسألةِ رُؤيةِ اللهِ تعالى في الآخِرةِ، وأخَذ كُلُّ فريقٍ يؤيِّدُ مذهَبَه بأدِلَّةٍ يَزعُمُ أنَّها تَدعَمُ ما يذهَبُ إليه من إثباتِ الرُّؤيةِ أو نفيِها، والمقصودُ هنا هو بيانُ موقِفِ الخَوارِجِ بصِفةٍ عامَّةِ، والإباضيَّةِ منهم بصِفةِ خاصَّةٍ، من هذه المسألةِ؛ فذَهَب الخَوارِجُ إلى استحالةِ رُؤيةِ اللهِ تعالى؛ تنزيهًا للهِ بزَعمِهم.
قال النَّوويُّ: (زعَمَت طائفةٌ من أهلِ البِدَعِ -المُعتَزِلةِ والخَوارِجِ وبعضِ المُرجِئةِ- أنَّ الله تعالى لا يراه أحدٌ من خَلقِه، وأنَّ رُؤيتَه مُستحيلةٌ عَقلًا) [297] ((شرح مُسلِم)) (3/15). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (المُخالِفُ في الرُّؤيةِ: الجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ، ومن تَبِعَهم من الخَوارِجِ والإماميَّةِ) [298] ((شرح الطحاوية)) (ص: 129). .
وقد استدَلَّ الإباضيَّةُ على نَفيِها من القرآنِ الكريمِ بقَولِ اللهِ تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 13] .
ووصَف صاحِبُ كتابِ (الأديان) تلك الآيةَ بأنَّها تُقِرُّ أنَّ (اللهَ سُبحانَه نفى عن نفسِه الرُّؤيةَ، وهي مُحكَمةٌ غيرُ مُتشابِهةٍ ولا مُتصَرِّفةٍ في المعاني) [299] ((الأديان)) (ص: 51). .
واستدلُّوا بقولِ اللهِ تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143] .
وردَّ صاحِبُ كتابِ (الأديان) على من احتَجَّ بقولِ اللهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] على إثباتِ الرُّؤيةِ، بتأويلٍ بعيدٍ فيه تكلُّفٌ وتعَسُّفٌ؛ فقد فَسَّر نَاضِرَةٌ بأنَّها حَسَنةٌ مُشرِقةٌ مُستَبشِرةٌ بثوابِ رَبِّها، وفَسَّر إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أي: مُنتَظِرةٌ لِما يأتيها من خَيرِه وإحسانِه.
واستشهَدَ بعِدَّةِ أبياتٍ شِعريَّةٍ على أنَّ نَاظِرَةٌ تأتي بمعنى: مُنتَظِرةٍ، ومنها قولُ الشَّاعِرِ:
فإنْ يَكُ صَدْرُ هذا اليومِ وَلَّى
فإنَّ غَدًا لناظِرِه قَريبُ
وبعدَ أن أورد تلك الشَّواهِدَ قال: (قد دَلَّ الكتابُ واللُّغةُ على صِحَّةِ ما ذهَبْنا إليه، وبُطلانِ ما ذهَب إليه مُخالِفونا) [300] ((الأديان)) (ص: 52). ويعني بهم المُثبِتين للرُّؤيةِ.
وقد استدلُّوا بعِدَّةِ آثارٍ؛ منها قولُ مَسروقٍ لعائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: ((يا أُمَّتاهْ، هل رأى محمَّدٌ ربَّه ليلةَ الإسراءِ؟ فقالت: لقد قَفَّ شَعري -أي: قام فَزَعًا- ممَّا قُلتَ، أين أنتَ من ثلاثٍ مَن حَدَّثَكَهنَّ فقد كَذَب؟! من حَدَّثك أنَّ محمَّدًا رأى ربَّه فقد كَذَب، ثُمَّ قرأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى: 51] ...)) [301] أخرجه البخاري (4855)، ومُسلِم (177) باختلافٍ يسيرٍ. . وقد رواه صاحِبُ (وفاء الضَّمانة) الإباضيُّ، ثُمَّ قال مُعَقِّبًا عليه: (الحديثُ دليلٌ لأصحابِنا كالمُعتَزِلةِ على نفيِ الرُّؤيةِ دُنيا وأُخرى؛ لأنَّ ما كان نفيُه تنزيهًا يكونُ عامًّا في الدُّنيا والآخِرةِ) [302] ((وفاء الضمانة)) (ص: 376 - 377). .
وقد أورد الرَّبيعُ بنُ حبيبٍ الإباضيُّ في صحيحِه عِدَّةَ أحاديثَ في نفيِ الرُّؤيةِ؛ منها قولُه: (بلَغَني عن جُوَيبِرٍ عن الضَّحَّاكِ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه خرج ذاتَ يومٍ، فإذا هو برجُلٍ يدعو ربَّه شاخِصًا بَصَرَه إلى السَّماءِ رافِعًا يَدَه فوقَ رأسِه، فقال له ابنُ عبَّاسٍ: ادْعُ رَبَّك بأصبُعِك اليُمنى واسأَلْ بكَفِّك اليُسرى واغضُضْ بَصَرَك، وكُفَّ يَدَك؛ فإنَّك لن تراه ولن تنالَه! فقال الرَّجُلُ: ولا في الآخِرةِ؟ قال: ولا في الآخِرةِ، فقال الرَّجلُ: فما وَجهُ قَولِ اللهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ؟ قال ابنُ عبَّاسٍ: ألستَ تقرأُ قولَه تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] ؟ ثُمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ أولياءَ اللهِ تَتنضَّرُ وجوهُهم يومَ القيامةِ، وهو الإشراقُ، ثُمَّ يَنظُرون إلى رَبِّهم متى يأذَنُ لهم في دُخولِ الجنَّةِ بَعدَ الفراغِ من الحِسابِ). ثُمَّ أورد رواياتٍ كثيرةً عن ابن عبَّاسٍ في نفيِ الرُّؤيةِ للهِ تعالى [303] ((مسند الربيع)) (3 / 35). .
ومن الأمثلةِ أيضًا قولُه: (قال: حَدَّثَنا أفلَحُ بنُ محمَّدٍ عن أبي عُمَرَ السَّعديِّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ في قَولِه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ، قال: تَتنضَّرُ وجوهُهم وهو الإشراقُ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قال: تَنظُرُ متى يَأذَنُ لهم في دخولِ الجنَّةِ).
ثمَّ قال الرَّبيعُ: (قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، وعائشةُ أمُّ المُؤمِنينَ، ومجاهِدٌ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، ومكحولٌ الدِّمَشقيُّ، وعطاءُ بنُ يَسارٍ، وسَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والضَّحَّاكُ بنُ مُزاحِمٍ، وأبو صالحٍ صاحِبُ التَّفسيرِ، وعِكْرِمةُ، ومحمَّدُ بنُ كَعبٍ، وابنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ: إنَّ اللهَ لا يراه أحَدٌ مِن خَلقِه) [304] ((مسند الربيع)) (ص: 37). .
وممَّا يجدُرُ ذِكرُه هنا تعليقًا على ما أسندوه إلى هؤلاء الصَّحابةِ والتَّابعين من نفيِ الرُّؤيةِ أنَّ ابنَ تيميَّةَ نفى أن يكونَ قد ورد عن أحَدٍ من السَّلَفِ نفيُ الرُّؤيةِ في الآخِرةِ، فقال: (لم يَثبُتْ عن أحَدٍ منهم يعني: ابنَ عبَّاسٍ، وعائشةَ، وأبا ذرٍّ رَضيَ اللهُ عنهم إثباتُ الرُّؤيةِ بالعينِ في الدُّنيا، كما لم يَثبُتْ عن أحدٍ منهم إنكارُ الرُّؤيةِ في الآخِرةِ) [305] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (ص: 65). .
وما كان للصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم أن ينفوا الرُّؤيةَ بعدما أثبتَها اللهُ لنَفسِه وأثبتها رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد ناقش الوَرْجَلانيُّ أيضًا بحثَ الرُّؤيةِ بفَصلٍ طويلٍ في كتابه (الدَّليلُ لأهلِ العُقولِ)، وردَّ على الأشعَريِّ إثباتَه لرُؤيةِ اللهِ في الدَّارِ الآخرةِ، وخَطَّأه فيما لم يخطِئْ فيه [306] يُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 63 – 68). .
وقال الحارثيُّ الإباضيُّ نافيًا إمكانيَّةَ رُؤيةِ الله تعالى: (الإباضيَّةُ يمنعون ذلك، والمنعُ قولُ عائشةَ من الصَّحابةِ، وقتادةَ، والزَّمخشَريِّ، وغيرِهم من المُعتَزِلةِ والشِّيعةِ، والحُجَّةُ قَولُه تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] ، والإدراكُ يكونُ بالقليلِ كما يكونُ بالكثيرِ، فنفى ذلك عن نفسِه، وبقولِه تعالى لموسى عليه السَّلامُ: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف: 143] ، وهو يقتضي التَّأبيدَ، والأحاديثُ الواردةُ أُحاديَّةٌ، وتَقبَلُ التَّأويلَ لتنطَبِقَ مع الآياتِ، ولأنَّه يلزمَ من يقولُ بالرُّؤيةِ إثباتُ الجهةِ واللَّونِ للهِ تعالى، وهو باطِلٌ) [307] ((العقود الفضية)) (ص: 387). .
وكُلُّ هذه الحُجَجِ التي أوردَها الحارثيُّ هي حُجَجٌ باطلةٌ مردودةٌ على من قال بها؛ لأنَّ استِدلالَه بالآياتِ غيرُ صحيحٍ، وليست قاطعةً في نفيِ الرُّؤيةِ في الدَّارِ الآخِرةِ.
وأمَّا الزَّمخشَريُّ والمُعتَزِلةُ والشِّيعةُ فليسوا بحُجَّةٍ في مثلِ هذه المسائِلِ التي لا تَثبُتُ إلَّا بالنَّقلِ الصَّحيحِ، وهو موجودٌ في جانبِ أهلِ الحَقِّ القائِلين بإثباتِ رُؤيةِ رَبِّهم يومَ القيامةِ.
نعَمْ، إنَّ الأبصارَ لا تُدرِكُه تعالى ولا تحيطُ به، ولكِنَّها تراه كما يليقُ بجلالِه، وهذا ما لم تَنْفِه الآيةُ، بل هي تفيدُ إثباتَ الرُّؤيةِ مِن وَجهٍ؛ إذ إنَّ نَفيَ الإدراكِ يقتضي إثباتَ الرُّؤيةِ من غيرِ إدراكٍ ولا إحاطةٍ، وهذا الجوابُ في نهايةِ الحُسنِ مع اختِصارِه، كما قاله النَّوويُّ [308] ((شرح مُسلِم)) (3/6). .
وهذا ما عليه أكثَرُ العُلَماءِ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّما نفى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ، كما قاله أكثَرُ العُلَماءِ) [309] ((الرسالة التدمرية)) (ص: 35). .
وقد جزم إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ بأنَّ المرادَ بقَولِه تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] أي: في الدُّنيا [310] يُنظر: كتاب ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 58). .
وأمَّا استِدلالُه بقولِ اللهِ لموسى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف: 143] على نفيِ الرُّؤيةِ مُطلَقًا، فهو غيرُ صحيحٍ، وقد علَّق اللهُ رؤيتَه على ممكِنٍ وهو استقرارُ الجَبَلِ، والمُعَلَّقُ على المُمكِنِ مُمكِنٌ.
وأمَّا تفسيرُ صاحِبِ كِتابِ (الأديان) لـ نَاظِرَةٌ بمعنى (مُنتَظِرةٍ)؛ فإنَّه غيرُ صحيحٍ في هذا المقامِ؛ وذلك لأنَّ النَّظَرَ (إذا وُصِل بإلى تعيَّن للرُّؤيةِ، ولا يجوزُ حملُه على الثَّوابِ؛ فإنَّ نفيَ رُؤيةِ الثَّوابِ لا يكونُ إنعامًا، وقد أُورِدَ النَّظَرُ في مَعرِضِ الإنعامِ، واللَّفظُ نَصٌّ في رُؤيةِ البصَرِ بَعدَما نُفِيت عنه التَّأويلاتُ الفاسِدةُ) [311] ((نهاية الأقدام)) للشهرستاني (ص: 369). .
وقال العيزابيُّ مُستَدِلًّا على نفيِ الرُّؤيةِ: (الحمدُ للهِ الذي لا يُرى في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ توجِبُ الحُلولَ واللَّونَ، والتَّحَيُّزَ والطُّولَ والعَرضَ والجِهاتِ، والتَّركيبَ والعَجزَ والحُدوثَ، وغيرَ ذلك من صفاتِ الخَلقِ) [312] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 5). .
وقال السَّالِميُّ:
(ولا يحيطُ به سُبحانَه بَصَرٌ
دُنيا وأُخرى فدَعْ أقوالَ مَن نَصَلَا [313] نَصَلَا: أي: خَرَج عن الحَقِّ، يقال: نَصَل الشَّيءُ مَوضِعَه، أي: خَرَج منه. يُنظر: ((شرح غايَة المراد)) للخليلي (ص: 72). [314] ((غايَة المراد)) للسالمي (ص: 7). .
قال الشَّارحُ: (مرادُه أنَّ اللهَ سُبحانَه مُنَزَّهٌ عن رؤيةِ الأبصارِ له؛ لأنَّه سُبحانَه لا يُشبِهُ شيئًا ولا يُشبِهُه شيءٌ، فوُجودُه ليس كوجودِ مَن سِواه، فهو مُنزَّهٌ عن التحيُّزِ في مكانٍ، وعن وَصفِه بالألوانِ) [315] ((شرح غايَة المراد)) للخليلي (ص: 72- 80). .
وقال علي يحيى مَعمَر: إنَّ المُتطَرِّفين من الإباضيَّةِ (يَفِرُّون من كُلِّ ما يُوهِمُ التَّشبيهَ ولو بتأويلٍ بعيدٍ فِرارًا شديدًا) [316] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 227). ، ويَذكُرُ عن جابِرِ بنِ زَيدٍ أنَّه اقتدى بالصَّحابةِ في نفيِ الرُّؤيةِ مِثلَ حديثِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها: (من زَعَم أنَّ محمَّدًا رأى ربَّه فقد أعظَمَ على اللهِ الفِرْيةَ) [317] ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص: 60). .
والواقِعُ أنَّ هذا النَّفيَ هنا إنَّما هو في الدُّنيا؛ فأمُّ المُؤمِنين لم تَنْفِ وقوعَ الرُّؤيةِ في الآخِرةِ، وإنَّما نفَت وقوعَها قَبلَ يومِ القيامةِ.
ولكِنَّ الإباضيَّةَ وهم ينفون الرُّؤيةَ عَمَّموا دلالةَ الحديثِ؛ لِيستقيمَ لهم الاستدلالُ به على نفيِ الرُّؤيةِ مُطلَقًا.
وقد حاول علي يحيى مَعمَر أن يُوَفِّقَ بَينَ المُثبِتين للرُّؤيةِ من السَّلَفِ والنَّافين لها من الخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ وغيرِهم، فذهب إلى القولِ بأنَّ بعضَ عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ يقولون بأنَّ الرُّؤيةَ معناها حُصولُ كمالِ العِلمِ باللهِ تبارك وتعالى، ثُمَّ قال: (اختلفَت تعابيرُ الكثيرِ منهم، ولكِنَّها تتلاقى في النِّهايةِ على نفيِ كامِلِ الصُّورةِ التي يتخيَّلُها الإنسانُ لصورةِ راءٍ ومَرئيٍّ، وما تستلزِمُه من حدودٍ وتشبيهٍ، وتتَّفِقُ في النِّهايةِ على الابتعادِ عمَّا يُشعِرُ بأيِّ تشبيهٍ في أيِّ مراتِبِه بالمحدوديَّةِ في كُلِّ أشكالِها) [318] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 245). .
وقال: (المُعتَدِلون من الإباضيَّةِ لا يمنَعون أن يكونَ معنى الرُّؤيةِ هو كمالَ العِلمِ به تعالى، ويمنَعون الرُّؤيةَ بالصُّورةِ المُتخَيَّلةِ عِندَ النَّاسِ) [319] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 246). .
والواقِعُ أنَّ كمالَ العِلمِ شَيءٌ، والرُّؤيةَ شَيءٌ آخَرُ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ انكِشافٌ تامٌّ لا يكونُ إلَّا عن طريقِ الأبصارِ، أمَّا كمالُ العِلمِ فهو بالعَقلِ، وتفسيرُ الرُّؤيةِ بالكمالِ في العِلمِ تأويلٌ للَفْظِها بغيرِ ما يُستعمَلُ به في العربيَّةِ.
ثمَّ إنَّ الرُّؤيةَ لا تستلزِمُ التَّمثيلَ في جانبِ اللهِ تعالى والاتِّصافَ بأوصافِ الحوادِثِ التي ذكَروها.
وقد ثبَت بإجماعِ السَّلَفِ والأئمَّةِ أنَّ اللهَ تعالى يُرى في الآخرةِ، يراه أهلُ محبَّتِه ورِضوانِه، وهو خيرُ ما وَعَد اللهُ به عبادَه المُؤمِنين، بل هو كمالُ النَّعيمِ في الدَّارِ الآخرةِ [320] ((طريق الهجرتين)) (ص: 59). ، لا يشُكُّ في صحَّةِ وقوعِه إلَّا أهلُ البِدَعِ والضَّلالاتِ.
ومن تلك الأدِلَّةِ قَولُ اللهِ تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ، وقولُ اللهِ تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ، فقد فُسِّرت الزِّيادةُ بأنَّها النَّظَرُ إلى اللهِ تعالى كما ذهب إليه عُلَماءُ السَّلَفِ [321] يُنظر: ((الرد على الجهمية)) (ص: 46، 52). ويُنظر: كتاب ((السنة)) لابن حنبل (ص: 45). .
وقَولُه تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 15 - 17] ، يقولُ الدَّراميُّ: (في هذا دليلٌ أنَّ الكُفَّارَ كُلَّهم محجوبون عن النَّظَرِ إلى الرَّحمنِ عَزَّ وعلا، وأنَّ أهلَ الجنَّةِ غيرُ محجوبينَ عنه) [322] ((الرد على الجهمية)) (ص: 45). .
وعن جريرٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((كُنَّا جلوسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ نظَر إلى القَمَرِ ليلةَ البَدرِ، قال: إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَون هذا القَمَرَ لا تُضامُّون [323] قال الخطَّابيُّ: (قَولُه ((تُضامُّون)) هو من الانضمامِ، يريدُ أنَّكم لا تجتَمِعونَ للنَّظَرِ وينضَمُّ بعضُكم إلى بعضٍ؛ فيقولُ واحِدٌ: هو ذاك، ويقولُ الآخَرُ: ليس بذاك، على ما جرت به عادةُ النَّاسِ عِندَ النَّظَرِ إلى الهلالِ أوَّلَ ليلةٍ من الشَّهرِ، ووَزْنُه تُفاعِلون، وأصلُه تَتَضامُّون، حُذِفَت منه إحدى التَّاءَينِ. وقد رواه بعضُهم ((تُضامُون)) بضَمِّ التَّاءِ وتخفيفِ الميمِ، فيكونُ معناه على هذه الرِّوايةِ: أنَّه لا يَلحَقُكم ضَيمٌ ولا مَشَقَّةٌ في رؤيتِه. وقد تخيَّلَ إلى بعضِ السَّامِعين أنَّ الكافَ في قَولِه: كما تَرَونَ، كافُ التَّشبيهِ للمَرئيِّ، وإنَّما هو كافُ التَّشبيهِ للرُّؤيةِ، وهو فِعلُ الرَّائي، ومعناه: تَرَونَ رَبَّكم رؤيةً ينزاحُ معها وتنتفي معها المِرْيةُ كرُؤيتِكم القَمَرَ ليلةَ البَدرِ، لا تَرْتابون به، ولا تَمْتَرون فيه) ((معالم السنن)) (4/ 329). في رؤيتِه، فإن استطعْتُم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وصلاةٍ قَبلَ غُروبِ الشَّمسِ فافعَلوا )) [324] أخرجه البخاري (7434) واللَّفظُ له، ومُسلِم (633). .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّكم لن تَرَوا رَبَّكم حتَّى تموتوا)) [325] أخرجه أحمد (22764)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7764)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (3389). صَحَّحه ابنُ تيمية في ((بيان تلبيس الجهمية)) (7/126)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2459)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (5/186). .
فلا اعتبارَ بَعدَ ذلك لأيِّ كلامٍ في نفيِ الرُّؤيةِ مع قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وقولِ رَسولِه الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال الطَّحاويُّ: (الرُّؤيةُ حَقٌّ لأهلِ الجنَّةِ بغيرِ إحاطةٍ ولا كيفيَّةٍ، كما نطق به كتابُ رَبِّنا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ). وقال ابنُ أبي العِزِّ مُعَلِّقًا على هذا الكلامِ: (المُخالِفُ في الرُّؤيةِ: الجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ ومن تَبِعَهم من الخَوارِجِ والإماميَّةِ، وقولُهم باطِلٌ مردودٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وقد قال بثُبوتِ الرُّؤيةِ الصَّحابةُ والتَّابعون وأئمَّةُ الإسلامِ المعروفونَ بالإمامةِ في الدِّينِ، وأهلُ الحديثِ وسائِرُ طوائفِ أهلِ الكلامِ المنسوبون إلى السُّنَّةِ والجماعةِ) [326] ((شرح الطحاوية)) (ص: 129). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ كونَ اللهِ يُرى بجِهةٍ من الرَّائي ثبَت بإجماعِ السَّلَفِ والأئمَّةِ، ... عن أشهَبَ قال: وسُئِل مالِكٌ عن قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] : أينظُرُ اللهُ عزَّ وجَلَّ؟ قال: نعَمْ، فقُلتُ: إنَّ أقوامًا يقولون: ينظُرُ ما عِندَه. قال: بل يَنظُرُ إليه نَظَرًا.
وعن الأوزاعيِّ أنَّه قال: إنِّي لأرجو أن يحجُبَ اللهُ جَهمًا وأصحابَه أفضَلَ ثوابِه الذي وعَدَه أولياءَه؛ حيثُ يقولُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ، فجَحَد جَهمٌ وأصحابُه أفضَلَ ثوابِه الذي وَعَد أولياءَه.
وعن عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ قال: ما حَجَب اللهُ عنه أحدًا إلَّا عذَّبه، ثُمَّ قرأ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 15 - 17] ، قال: بالرُّؤيةِ) [327] ((بيان تلبيس الجهمية)) (ص: 415- 418). .

انظر أيضا: