موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مَوقِفُ الخَوارِجِ من تأويلِ النُّصوصِ


خاض الخَوارِجُ غِمارَ التَّأويلاتِ التي أنتجَت من المآسي والحروبِ ما جعلهم محلَّ بُغضٍ لدى جميعِ مُخالِفيهم، وقد أرجع ابنُ القَيِّمِ افتراقَ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ إلى ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً إلى بليَّةِ التَّأويلِ، ويرى أنَّه كان السَّبَبَ في نشأةِ الخَوارِجِ وفي مَقتَلِ الخليفَتَينِ الرَّاشِدَينِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ وعَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، ثُمَّ أدَّى بالخَوارِجِ إلى تلك المعتَقَداتِ الباطلةِ التي اشتَهَرت عنهم، مِثلُ القَولِ بتخليدِ أهلِ الكبائِرِ في النَّارِ، ونُكرانِهم شفاعةَ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وغيرِهما من الأقوالِ الخاطئةِ؛ قال ابنُ القَيِّمِ مُقَرِّرًا الأحداثَ التي وقعت بسَبَبِ التَّأويلِ، ودَورَ الخَوارِجِ فيه:
هذا وأصلُ بليَّةِ الإســلامِ مِـْن
تأويلِ ذي التَّحريفِ والبُطْلانِ
وهو الذي فَرَّق السَّبعيــنَ بـل
زادت ثلاثًا قولَ ذي البُرهـانِ
وهو الذي قَتَل الخليفةَ جامِعَ القُر
آنِ ذا النُّورَينِ والإحســانِ
وهو الذي قَتَل الخليفـةَ بَعــدَه
أعنـي عليًّا قاتِلَ الأقــرانِ
وقال أيضًا:
وهو الذي أنشَا الخَوارِجَ مِثــلَ
إنشـاءِ الرَّوافِضِ أخبَـثِ الحيــوانِ
ولأجْلِـه شَتَمـوا خيارَ الخَلـقِ بَعْـ
دَ الرُّسْلِ بالعُدوانِ والبُهتانِ
ولأجْلِـه قد خَلَّدوا أهلَ الكَبــا
ئرِ في الجحيمِ كعابِدِي الأوثـانِ
ولأجْلِـه قد أنكَروا لشفاعةِ المُختا
رِ فيهـم غايةَ النُّكْــرانِ [272] ((نونية ابن القيم)) (ص: 85).
وذكَر ابنُ تيميَّةَ أنَّ أهلَ البِدَعِ -كالخَوارِجِ وغيرِهم- هم أهلُ أهواءٍ وشُبُهاتٍ، يَتَّبعون فيما يحبُّون ويُبغِضون ما تحبُّه أنفُسُهم ويوافِقُ أهواءَهم من تأويلاتٍ فاسدةٍ؛ (فكُلُّ فريقٍ منهم قد أصَّل لنفسِه دينًا وضعه إمَّا برأيِه وقياسِه الذي يُسَمِّيه عقليَّاتٍ، وإمَّا بذوقِه وهواه الذي يُسَمِّيه ذوقيَّاتٍ، وإمَّا بتأويلِه القرآنَ ويُحَرِّفُ فيه الكَلِمَ عن مواضعِه ويقولُ: إنَّه إنَّما يتَّبِعُ القرآنَ، كالخَوارِجِ... قَصَد أهلُها متابعةَ النَّصِّ والرَّسولِ، لكِنْ غَلِطوا في فَهمِ النُّصوصِ، وكَذَّبوا بما يخالِفُ ظَنَّهم من الحديثِ ومعاني الآياتِ) [273] ((النبوات)) (ص: 89). .
وقال ابنُ حَجَرٍ عن انحرافِ الخَوارِجِ في التَّأويلِ مع كثرةِ العِبادةِ والزُّهدِ: (كان يقالُ لهم القُرَّاءُ لشِدَّةِ اجتِهادِهم في التِّلاوةِ والعِبادةِ، إلَّا أنَّهم كانوا يتأوَّلون القرآنَ على غيرِ المرادِ منه، ويستَبِدُّون برأيِهم ويتنَطَّعون في الزُّهدِ والخُشوعِ وغَيرِ ذلك) [274] ((فتح الباري)) (12/283). .
وقد وَصَف ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه الخَوارِجَ الذين اشتَهَروا بقراءتِهم للقرآنِ وعبادتِهم التي يبالِغون في أدائِها بأنَّهم (يُؤمِنون بمُحكَمِه، ويَضِلُّون عِندَ مُتشابِهِه) [275] ((الاعتصام)) للشاطبي (1/55). ؛ وذلك بسَبَبِ ما أخطَؤوا فيه من تأويلاتٍ باطلةٍ معتَقِدين صِحَّتَها، ومن ثَمَّ طبَّقوها في أقوالِهم وأفعالِهم التي تميَّزت بالانحرافِ البَيِّنِ في كثيرٍ من الآراءِ.
وقد أرسَل عَليُّ بنُ أبي طالبٍ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهم إليهم ليراجِعَهم ويَطلُبَ منهم العودةَ، فلمَّا رجع قال له عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه: (ما رأيتَ؟) فقال عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: (واللهِ ما سِيماهم بسِيما المُنافِقين؛ إنَّ بَينَ أعيُنِهم لأثَرَ السُّجودِ، وهم يتأوَّلون القُرآنَ) [276] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (3/310). .
وكان من نتيجةِ تأويلِهم القرآنَ وتتَبُّعِهم لمتشابِهِه أن كفَّروا النَّاسَ وأئمَّةَ مُخالِفيهم؛ لأنَّهم -بزَعمِهم- قد حَكَموا بغيرِ ما أنزل اللهُ تعالى، فاستحقُّوا الكُفرَ، وهذا هو الباعِثُ لهم على تكفيرِ غَيرِهم فيما يراه سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، فقال: (المتشابِهاتُ آياتٌ في القرآنِ يتشابَهْنَ على النَّاسِ إذا قرؤوهنَّ، ومن أجْلِ ذلك يَضِلُّ من ضَلَّ، فكُلُّ فِرقةٍ يَقرؤون آيةً من القرآنِ يَزعُمون أنَّها لهم؛ فممَّا يَتبَعُ الحَروريَّةُ من المتشابِهِ قَولُ اللهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] ، ثُمَّ يقرؤون معها ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] ، فإذا رأوا الإمامَ يَحكُمُ بغَيرِ الحقِّ قالوا: قد كَفَر! فمن كَفَر عَدَل برَبِّه، ومن عَدَل برَبِّه فقد أشرك به؛ فهذه الأئمَّةُ مُشرِكون!) [277] ((الدر المنثور)) للسيوطي (2/ 4). .
وقد أخبَرَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ عن بعضِ جرائِمِ الخَوارِجِ المتأوِّلين القرآنَ على غيرِ وَجهِه؛ وذلك في قولِه لوَفدِ الخَوارِجِ الذين أرسَلوهم لمناظرتِه في المسائِلِ التي نَقَموها على بني أُمَيَّةَ، فكان من كلامِ عُمَرَ أنْ قال لهم: (فأخبِروني عن عبدِ اللهِ بنِ وَهبٍ الرَّاسبيِّ حين خرج من البَصرةِ هو وأصحابُه يريدون أصحابَكم بالكوفةِ، فمَرُّوا بعبدِ اللهِ بنِ خَبَّابٍ فقَتَلوه وبَقَروا بَطنَ جاريتِه، ثُمَّ عَدَوا على قومٍ من بني قُطَيْعةَ، فقتلوا الرِّجالَ وأخَذوا الأموالَ، وغَلَوا الأطفالَ في المراجِلِ، وتأوَّلوا قَولَ اللهِ: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] ، فلم يَسَعْهم إلَّا الاعترافُ بذلك) [278] ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص: 129). .
ومن أقبَحِ تأويلاتِ الخَوارِجِ وأحقِّها بالمَقتِ ما ذكره عُلَماءُ الفِرَقِ كالأشعَريِّ والبَغداديِّ والشَّهْرَسْتانيِّ وغيرِهم عن فِرقةِ الأزارِقةِ والحَفصيَّةِ من الإباضيَّةِ من تأويلِهم لبعضِ الآياتِ كَذِبًا وافتراءً، كما وقع لهم في حَقِّ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه [279] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 183)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 104)، ((الملل والنحل)) (1/ 120). ، ممَّا يأتي ذِكرُه بإذنِ اللهِ تعالى عِندَ عرضِ مَوقِفِهم من الخُلفاءِ الرَّاشِدين رَضيَ اللهُ عنهم.
وممَّا تقدَّم يتبيَّنُ مدى تعلُّقِ الخَوارِجِ بالتَّأويلِ، وأنَّه كان السَّبَبَ في كثيرٍ من أخطائِهم الجَسيمةِ التي ارتكَبوها بحُجَّةِ أنَّ القرآنَ يَطلُبُ منهم ذلك، حين فتحوا لأنفُسِهم بابَ التَّأويلِ الذي لم يسبِقْهم إليه أحدٌ فيما يرى الطَّالبيُّ، ويقَرِّرُ ذلك بقولِه: (نحن نزعُمُ أنَّ الخَوارِجَ هم أوَّلُ من فتح بابَ التَّأويلِ في تاريخِ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ وفي تاريخِ هذه المِلَّةِ، وكان لتأويلاتِهم نتائِجُ عمليَّةٌ خطيرةٌ أعقبَتْها بدَورِها آراءٌ نظريَّةٌ). ويرى أيضًا أنَّ تطَوُّرَ آراءِ الخَوارِجِ منذُ نشأتِهم كان أساسُه التَّأويلَ والجَدَلَ ومجاوزةَ ظاهِرِ النُّصوصِ إلى ما يوافِقُ ما يرونَه من آراءٍ وما يعتَقِدونه من اعتقاداتٍ [280] يُنظر: ((آراء الخوارج)) (ص: 107، و 117). .
والتَّأويلُ مَظهَرٌ من مظاهِرِ التَّفكيرِ الحُرِّ الذي اتَّصف به الخَوارِجُ ولجَؤوا إليه في معارضةِ المذاهِبِ الأخرى، وهذا هو ما يراه جُولْد تسِيهَرْ؛ حيثُ قال: (وفي العهدِ الذي كان المذهَبُ الخارِجيُّ فيه لا يزالُ مُضطَرِبًا مُهَوشًا لم يبلُغْ درجةَ التَّماسُكِ والاستقرارِ، ولم يُصبِحْ نظامًا وضعيًّا محكَمًا، كانت قد ظهرت عِندَ فقهاءِ الخَوارِجِ نَزَعاتٌ عقليَّةٌ دفعت بهم إلى التَّفكيرِ في المسائِلِ الدِّينيَّةِ تفكيرًا حُرًّا، وذلك عِندَما غلبت على مذهَبِهم المظاهِرُ السَّلبيَّةُ التي عارضوا بها مذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ) [281] ((العقيدة والشريعة)) (ص: 193). .
وهكذا نجِدُ مَوقِفَ الخَوارِجِ من النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ بَينَ الوقوفِ عِندَ ظاهِرِها وإعمالِ العقلِ فيها بالاجتهادِ والتَّأويلِ بَينَ الاتجاهَينِ السَّابقَينِ، ولكِنْ في الوقتِ ذاتِه نرى الأشعَريَّ لا يُطلِقُ أيًّا من هذينِ الحُكمَينِ على الخَوارِجِ جميعًا، بل يُمايِزُ بَينَ أصحابِ الظَّاهِرِ منهم والاجتهاديِّينَ، فيقولُ: (هم صِنفانِ؛ فمنهم من يجيزُ الاجتهادَ في الأحكامِ كنَحوِ النَّجَداتِ وغيرِهم، ومنهم من يُنكِرُ ذلك ولا يقولُ إلَّا بظاهِرِ القرآنِ، وهم الأزارِقةُ) [282] ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 206). .
والواقِعُ أنَّ الأشعَريَّ على حقٍّ عِندَما أدرك أنَّه لا يمكِنُ وَصفُ جميعِ الخَوارِجِ بأنَّهم جامِدون على الظَّاهِرِ، أو بأنَّهم مُؤَوِّلون، ولا يقتَصِرُ الأمرُ على ما ذكره من اعتبارِ بَعضِ الفِرَقِ على إعمالِ الظَّاهِرِ، وبعضِ الفِرَقِ الأخرى مُؤَوِّلين مجتَهِدين، وإنَّما يتردَّدُ أمرُ الخَوارِجِ بَينَ هذينِ الموقِفَينِ داخِلَ الفِرقةِ الواحِدةِ نَفسِها، وعلى حَسَبِ اختلافِ مواقِفِهم من مسائِلِ العقيدةِ.
ويبدو أنَّ الذين حَكَموا على جملةِ الخَوارِجِ بأنَّهم جامِدون على ظاهِرِ النُّصوصِ كان لهم ما يبَرِّرُ حُكمَهم ممَّا وجدوه في موقِفِ الخَوارِجِ من بعضِ مسائِلِ الخلافِ، وأنَّ الذين حَكَموا عليهم بأنَّهم في الجُملةِ مُتأوِّلون للنُّصوصِ على غيرِ تأويلِها الصَّحيحِ، وحاملون لها على غيرِ محامِلِها، وجدوا في مواقِفِ الخَوارِجِ من بعضِ مسائِلِ العقيدةِ ما يُبَرِّرُ حُكمَهم هذا، وكُلٌّ نظَر إلى ناحيةٍ مُعَيَّنةٍ.
ولو نظَرْنا في آرائِهم واستِدلالاتِهم لوجَدْنا هاتينِ الظَّاهرتينِ موجودتينِ عِندَ الخَوارِجِ؛ فمرَّةً يَقِفون هذا الموقِفَ، ومَرَّةً يَقِفون ذاك، بل ربَّما أدَّى بهم التَّمسُّكُ بظاهِرِ النَّصِّ دونَ تأويلٍ صحيحٍ له ودونَ جمعٍ بَينَه وبَينَ غيرِه من النُّصوصِ، إلى حملِه على غيرِ مَحمَلِه الصَّحيحِ، وسوف يتبيَّنُ ذلك بوضوحٍ -إن شاء اللهُ تعالى- بَعدَ عرضِ مختَلِفِ آراءِ الخَوارِجِ ومواقِفِهم، وأنَّهم يَقِفون من النُّصوصِ أحَدِ هذينِ الموقِفَينِ تبَعًا لِما يسايِرُ آراءَهم.

انظر أيضا: