موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: الإباضيَّةُ


نُسِبت الإباضيَّةُ إلى عبدِ اللهِ بنِ إباضٍ؛ لشُهرةِ مواقِفِه مع الحُكَّامِ المُخالِفين لهم، وإلَّا فإنَّ زعيمَ الإباضيَّةِ الأوَّلَ جابِرُ بنُ زَيدٍ الأزْديُّ، كما سيأتي بالتَّفصيلِ في البابِ التَّاسِعِ.
وقد اشتَهَرت فِرقةُ الإباضيَّةِ باللِّينِ والمُسامحةِ تِجاهَ مُخالِفيهم، وهذا ما يذكُرُه أكثَرُ عُلَماءِ التَّاريخِ والفِرَقِ، ومنهم من يذكُرُ خِلافَ هذا، كالمَلَطيِّ؛ فإنَّه يقولُ عنهم: (الإباضيَّةُ أصحابُ إباضِ بنِ عَمرٍو، خرجوا من سَوادِ الكوفةِ، فقتَلوا النَّاسَ، وسَبَوا الذُّرِّيَّةَ، وقتلوا الأطفالَ، وكفَّروا الأُمَّةَ وأفسَدوا في العبادِ والبلادِ) [112] ((التنبيه والرد)) (ص: 168). .
أمَّا الدِّبسيُّ فهو لا يَقِلُّ عنه عُنفًا، فقد قال: (الفِرقةُ السَّادسةُ من فِرَقِ الخَوارِجِ: الإباضيَّةُ، يجبُ تكفيرُهم؛ لأنَّهم كفَّروا عليًّا رَضيَ اللهُ عنه وأكثَرَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم) [113] ((رسالة الدبسي)) (ص: 27). .
بينما هم عِندَ بعضِ العُلَماءِ أهلُ تواضُعٍ؛ فهم (لا يُسَمُّون إمامَهم أميرَ المُؤمِنين، ولا أنفُسَهم مُهاجِرين) [114] ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/134). .
ومنهم من يَذكُرُ أنَّ قولَ عبدِ اللهِ بنِ إباضٍ هو أقرَبُ الأقاويلِ إلى السُّنَّةِ [115] ((الكامل)) للمبرد (2/180). ، كما يستفيضُ النَّقلُ عنهم بأنَّ معامَلتَهم لمُخالِفيهم تتَّسِمُ بكثيرٍ من التَّسامُحِ واللِّينِ.
قال أبو زهرة: (الإباضيَّةُ هم أتباعُ عبدِ اللهِ بنِ إباضٍ، وهم أكثَرُ الخَوارِجِ اعتدالًا، وأقربُهم إلى الجماعةِ الإسلاميَّةِ تفكيرًا، فهم أبعَدُهم عن الشَّطَطِ والغُلُوِّ؛ ولذلك بَقُوا، ولهم فِقهٌ جَيِّدٌ، وفيهم عُلَماءُ ممتازون) [116] ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/85). .
والواقِعُ أنَّ الإباضيَّةَ شديدو التَّمسُّكِ بمذهبِهم، ويُبغِضون غيرَه من المذاهِبِ، ويَرَون أنَّها كُلَّها باطِلةٌ ما عدا مذهَبَهم.
قال العيزابيُّ: (الحَمدُ للهِ الذي جعل الحقَّ مع واحدٍ في الدِّياناتِ، فنقولُ مَعشَرَ الإباضيَّةِ الوَهبيَّةِ: الحَقُّ ما نحن عليه، والباطِلُ ما عليه خُصومُنا؛ لأنَّ الحَقَّ عِندَ اللهِ واحِدٌ، ومَذهَبُنا في الفُروعِ صوابٌ يحتَمِلُ الخَطَأَ، ومَذهَبُ مُخالِفينا خطَأٌ يحتَمِلُ الصِّدقَ) [117] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 37). .
وهذا نموذَجٌ، ومن أراد الزِّيادةَ في هذا فلْيُراجِعْ كُتُبَ الإباضيَّةِ، مِثلُ: (اللُّمعة المَرضيَّة من أشعَّة الإباضيَّة) للسَّالميِّ، وكتاب (الدَّليلُ لأهلِ العُقولِ) للوَرْجَلانيِّ، وغيرِهما.
انقَسَمت الإباضيَّةُ إلى فِرَقٍ؛ منها ما يعترفون به، ومنها ما يُنكِرونه. منها:
الأولى: الحَفصيَّةُ
وزعيمُهم يُسَمَّى حفصَ بنَ أبي المِقدامِ، وله أقوالٌ كُفريَّةٌ: كإنكارِه النُّبوَّةَ، وإنكارِه الجنَّةَ والنَّارَ، واستحلالِ كثيرٍ من المحرَّماتِ.
وقد أثبت عُلَماءُ الفِرَقِ بأنَّها أُولى فِرَقِ الإباضيَّةِ [118] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/183)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 104)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/135)، ((الفصل)) لابن حزم (4/191). ، ولكِنَّ عَلِي يحيى مَعْمَر ينفي أن تكونَ هذه الفِرقةُ من الإباضيَّةِ أشَدَّ النَّفيِ، بل ويشُكُّ فيها وفي وجودِها، ويُنكِرُ أن يكونَ لهذه الفِرقةِ أو زعيمِها ذِكرٌ في كتُبِ الإباضيَّةِ [119] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 21). .
الثَّانيةُ: اليَزيديَّةُ
وذلك نِسبةً إلى إمامِهم يزيدَ بنِ أنيسةَ، أو ابنِ أبي أنيسةَ، كما يُسَمِّيه بعضُهم. وليزيدَ هذا أقوالٌ كُفريَّةٌ، كاعتقادِه مجيءَ رَسولٍ غيرِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [120] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/184)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 279)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/136). !
وكقَولِه: (إنَّ في هذه الأمَّةِ شاهِدَينِ عليها: هو أحَدُهما، والآخَرُ لا يدري من هو ولا متى هو، ولا يدري لعَلَّه قد كان قَبْلَه) [121] ((الفصل)) لابن حزم (4/188). إلى غيرِ هذا من الخَلطِ.
ورَغْمَ أنَّ عُلَماءَ الفِرَقِ قد قالوا بأنَّ هذه الفِرقةَ من الإباضيَّةِ إلَّا أنَّ عَلِي يحيى مَعْمَر ينفيها كما نفى الفِرقةَ السَّابقةَ، وهي الحَفْصيَّةُ، ويَستغرِبُ من أبي الحَسَنِ الأشعَريِّ نِسبتَها إلى الإباضيَّةِ، مع أنَّه حكَم عليها بالكُفرِ في قولِه عن يزيدَ بنِ أنيسةَ: (فتَرَك شريعةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودان بشريعةٍ غَيرِها) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 22). .
الثَّالِثةُ: الحارثيَّةُ
نِسبةً إلى حارِثِ بنِ يزيدَ الإباضيِّ، وهذه الفِرقةُ تَزعُمُ أنَّه لم يكُنْ لهم إمامٌ بَعدَ المُحَكِّمةِ الأولى إلَّا عَبدُ اللهِ بنُ إباضٍ، وبَعدَه حارِثُ بنُ يزيدَ الإباضيُّ يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 105). ، ورَغْمَ هذا فإنَّ علي يحيى مَعمَر قال عنه: (وهذا الحارِثُ أيضًا لم يحرُثْ عن الإباضيَّةِ ولم يزرَعْ لا آراءً ولا حبوبًا، ولم يحصُدِ الإباضيَّةُ عنه أو عن فِرقتِه شيئًا) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 22). .
الرَّابِعةُ: أصحابُ "طاعةٌ لا يُرادُ بها اللهُ"
وذلك لاعتقادِهم بأنَّ الشَّخصَ قد يفعَلُ شيئًا من أوامِرِ اللهِ دونَ قَصدِ اللهِ بذلك العَمَلِ، ولا إرادةَ له في تنفيذِ أمرِ اللهِ، ولكِنَّه مع هذا يكونُ مطيعًا للهِ. وهذه الفِرقةُ من الفِرَقِ التي تُنسَبُ إلى الإباضيَّةِ حَسَبَ ما ذكَره الأشعَريُّ والبغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ والدِّبسيُّ يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/185)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 105)، ((الملل والنحل)) (1/135)، ((رسالة الدبسي)) (ص: 28). .
غيرَ أنَّ علي يحيى مَعْمَر الذي نفى تلك الفِرَقَ السَّابقةَ نفى هذه أيضًا وردَّ على من قال بإدخالِها في الإباضيَّةِ، كما في قولِه وهو يردُّ على الأشعَريِّ: (ويبدو أنَّ أبا الحسَنِ لم يجِدْ لهذه الفِرقةِ إمامًا، فلم يَذكُرْ لها إمامًا، وإنَّما جاء يسوقُ أتباعَها لها كما يساقُ القطيعُ حتَّى أدخلَهم في حظيرةِ الإباضيَّةِ، وترَكَهم... وعلى كُلِّ حالٍ فهذه فِرقةٌ ليس لها إمامٌ وليس لها اسمٌ، وكُلُّ ما في الأمرِ أنَّه نُسِب إليها قولٌ يناقِضُ مُناقَضةً كاملةً ما عِندَ الإباضيَّةِ في هذا الموضوعِ) ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 23). .
وفيما يتعلَّقُ بنفيِ علي يحيى مَعمَر لصِحَّةِ انتِسابِ الفِرَقِ السَّابقةِ إلى الإباضيَّةِ، فإنَّ انحرافَ زُعماءِ هذه الفِرَقِ في آرائِهم لا يقومُ دليلًا قاطعًا على عدَمِ انتسابِهم إلى الإباضيَّةِ؛ إذ يجوزُ أن يكونَ هؤلاء الزُّعَماءُ كانوا في صُفوفِ الإباضيَّةِ، ثُمَّ انفصلوا عنها بآرائِهم الشَّاذَّةِ وبمن شايعَهم على تلك الآراءِ، وتظَلُّ نِسبتُهم إلى الإباضيَّةِ بَعدَ ذلك ثابتةً نظَرًا لكونِهم في صفوفِ الإباضيِّينَ في الأصلِ.
وهناك سِتُّ فِرَقٍ أُخرى للإباضيَّةِ في المغرِبِ، هي:
الأولى: النُّكَّارُ
وتُسَمَّى أيضًا النُّكَّاثَ والنَّجويَّةَ والشَّغبيَّةَ، ظهرت سنةَ 171هـ بزعامةِ أبي قُدامةَ يزيدَ بنِ فُنْدِينَ الذي انشَقَّ عن الإباضيَّةِ لسَبَبٍ سياسيٍّ، وذلك أنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ رُستُمٍ [127] هو عبدُ الرَّحمنِ بنُ رُستُم بنِ بَهْرامَ بنِ كِسرى المَلِكِ الفارِسيِّ، مُؤَسِّسُ مدينةِ تاهَرْتَ (بالجزائر)، وأوَّلُ من ملك من (الرُّستُميِّين)، كان جَدُّه بَهرامُ من موالي عُثمانَ بنِ عَفَّانَ. وكان من فُقَهاءِ الإباضيَّةِ بإفريقيَّةِ. تُوفِّي سنةَ 171هـ. يُنظر: ((معجم أعلام الجزائر)) لنويهض (ص: 148)، ((التفسير والمفسرون في غرب أفريقيا)) لطرهوني (1/ 226). حينما أحسَّ بدُنُوِّ أجَلِه عَيَّن لمن يلي الخلافةَ بَعدَه سبعةَ أفرادٍ يختارُ النَّاسُ من بَينِهم من ارتَضوه، وكان من بَينِ هؤلاء السَّبعةِ ولَدُه عبدُ الوَهَّابِ وأبو قُدامةَ، وبعد الخوضِ في الموضوعِ انتَخَبوا عبدَ الوَهَّابِ، وحينَ أُريدَ أبو قُدامةَ للمُبايعةِ بايع، ولكِنَّه شرَطَ في بيعتِه قَولَه: (نبايِعُ على ألَّا يقضيَ في شيءٍ دونَ مشورةِ جماعةٍ مخصوصةٍ من النَّاسِ)، ولكِنْ رَدَّ عليه أحدُ الحاضِرين بقولِه: (لا نَعرِفُ شرطًا للبيعةِ إلَّا العَمَلَ بكتابِ اللهِ وسِيرةِ السَّلَفِ الصَّالحين).
ثمَّ أُغفِل هذا الموضوعُ وتمَّت البيعةُ لعبدِ الوهَّابِ، إلَّا أنَّ يزيدَ بنَ فُنْدِينَ أعلن أنَّ بيعةَ عبدِ الوهَّابِ باطلةٌ؛ لأنَّه لم يُنَفِّذِ الشَّرطَ الذي اشترطه يزيدُ، وهو استشارةُ تلك الجماعةِ، ثُمَّ قام بمحاولةِ انقلابٍ كان هو نَفسُه ضَحِيَّتَها [128] يُنظر: لمزيد من الإيضاحِ لتلك الوقائعِ بينِ ابنِ فُنْدينَ وعبدِ الوهَّابِ ((الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية)) للباروني، فقد توسَّع كثيرًا في هذا الموضوعِ، وذكر الحيلةَ التي دبَّرها ابنُ فُنْدينَ وأتباعُه لاغتيالِ عبدِ الوهَّابِ، وكيف نجا منها. .
ثمَّ تزعَّم النُّكَّارَ بَعدَه رجلٌ يُسَمَّى أبا معروفٍ شُعَيبَ بنَ معروفٍ، ومن هنا أخذت حركةُ النُّكَّارِ في التَّوسُّعِ إلى أن قضى عليها العُبَيديُّون في حروبٍ طاحنةٍ، ومن أهمِّ مبادئِها أنَّه لا تَصِحُّ إمامةُ المفضولِ مع وجودِ الأفضَلِ منه، وأنَّه يصِحُّ الاشتراطُ عِندَ مبايعةِ الحاكِمِ، وإذا خالَف تلك الشُّروطَ بَطَلت بيعتُه؛ ولهذا فهم يُبَرِّرون خروجَهم على عبدِ الوهَّابِ بأنَّه لم يَفِ بتلك الشُّروطِ التي اشترطوها حينَ البيعةِ.
وقد كَفَّرهم المارغينيُّ وذكَر عددًا من رجالاتِهم بقولِه: (قالت المشائِخُ بتكفيرِ النُّكَّارِ؛ الفِرقةِ المُلحِدةِ في الأسماءِ، وأوَّلُهم عبدُ اللهِ بنُ يزَيدَ الفَزاريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ عبدِ العزيزِ، وأبو المُؤَرِّخِ عمرُو بنُ محمَّدٍ السَّدوميُّ، وشُعَيبُ بنُ معروفٍ، وحاتمُ بنُ منصورٍ، ويزيدُ بنُ فُنْدِينَ، وأبو المتوَكِّلِ). ثُمَّ استرسل في ذِكرِ كثيرٍ من آرائِهم التي نقَمَها عليهم وإن لم يَذكُرْ منها شيئًا صالحًا لتبريرِ ما ذهب إليه في تكفيرِهم.
وقال أبو إسحاقَ أَطَّفَيِّشُ: (إنَّهم سُمُّوا نُكَّاثًا لنَكْثِهم بيعةَ الإمامِ عبدِ الوهَّابِ، وسُمُّوا نَجويَّةً لكثرةِ تناجيهم ليلةَ تآمُرِهم على قَتلِ الإمامِ) [129] يُنظر: ((الخوارج من النهراون إلى خراسان)) للشواف (ص: 150). .
الثَّانيةُ: النَّفَّاثيَّةُ
هذه الفِرقةُ تُنسَبُ إلى رجُلٍ يُسَمَّى فرجان نَصْر النَّفوسيَّ، ويُعرَفُ بنَفَّاثٍ، وسَمَّاه المارغينيُّ نفَّاثَ بنَ نَصرٍ النَّفوسيَّ، ويوصَفُ بأنَّه كان على جانبٍ كبيرٍ من الذَّكاءِ والفَهمِ العجيبِ، وكانت نفسُه ميَّالةً إلى أن يتولَّى مَنصِبًا كبيرًا في دولةِ إمامِ الإباضيَّةِ أفلَحَ بنِ عبدِ الوهَّابِ، وبالذَّاتِ ولايةُ قِنْطِرارَ؛ المِنطَقةِ التي يعيشُ فيها فَرجانُ، وحين خاب أملُه أخذ في انتقادِ الإمامِ أفلَحَ علَنًا، فكتب الإمامُ إلى أهلِ مملَكتِه بمقاطَعتِه وهَجرِه، وحينَ ضاقت على فرجانَ السُّبُلُ ذهب إلى بغدادَ وأقام مدَّةً، ولكِنَّه لم يَطِبْ له المُقامُ فرجع إلى بلَدِه، وهنا تختَلِفُ الرِّوايةُ عنه؛ فبعضُهم يرى أنَّه تاب، وبعضُهم يرى أنَّه كان يعمَلُ في السِّرِّ ضِدَّ أفلَحَ.
ومن أهَمِّ ما أثاره من آراءٍ:
1- أنَّه أنكر الخُطبةَ في الجُمُعةِ، وقال: إنَّها بِدعةٌ.
2- أنكر إرسالَ الإمامِ الجُباةَ لأخذِ الزَّكاةِ.
3- يرى أنَّ ابنَ الأخِ الشَّقيقِ أحقُّ بالميراثِ من الأخِ لأبٍ.
وهناك انتقاداتٌ على أفلَحَ بخصوصِه، وهي انتقاداتٌ شخصيَّةٌ، وقد كفَّرهم المارغينيُّ بَعدَ أن ذكَر غيرَ هذه الأقوالِ.
الثَّالِثةُ: الخَلَفيَّةُ
هذه الفِرقةُ تُنسَبُ إلى خَلَفِ بنِ السَّمحِ بنِ أبي الخطَّابِ عبدِ الأعلى المعافِريِّ، وكان جَدُّه إمامًا للإباضيَّةِ في المغرِبِ، ثُمَّ عُيِّن السَّمحُ واليًا من قِبَلِ إمامِ الإباضيَّةِ حينذاك عبدِ الوهَّابِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ رُستُمٍ، ثُمَّ توفِّيَ السَّمحُ، فبادر النَّاسُ بتوليةِ خَلَفٍ دونَ استشارةِ الإمامِ، وبدأ يتصَرَّفُ تصَرُّفَ الولاةِ.
ولكِنْ حينَ بلغَت هذه الأحداثُ الإمامَ عبدَ الوهَّابِ رأى أنَّ هذا التَّصرُّفَ غيرُ صحيحٍ، ولا يمكِنُ التَّغاضي عنه، فكتب إلى خَلَفٍ يلومُه على تصَرُّفِه بتلك العَجَلةِ وأمَره باعتزالِ أمرِ النَّاسِ، ولكِنَّ خَلَفًا لم يمتَثِلْ لأمرِه، وهنا بدأت الفتنةُ في الظُّهورِ، وصار كُلُّ واحدٍ يُعِدُّ العُدَّةَ للآخَرِ، ووقعت الحروبُ الطَّويلةُ بَينَهما التي انتهت بانتصارِ الإمامِ وهزيمةِ خَلَفٍ ونهايتِه. هذا ما قاله علي يحيى مَعْمَر.
وقال المارغينيُّ عنهم: (ليس بَينَنا وبَينَهم مسائِلُ إلَّا واحدةٌ، وهي قولُهم: لكُلِّ حَوزةٍ إمامٌ لا يعدوها إلى غيرِها، وضَلُّوا ضلالًا بعيدًا لخلافِهم الإجماعَ ونَقْضِهم ما سارت به الأمَّةُ أجمعين).
الرَّابِعةُ: الحُسَينيَّةُ
وتُنسَبُ إلى رجُلٍ يُسَمَّى أحمَدَ بنَ الحُسَينِ الأطرابُلُسيَّ، ويُلَقَّبُ أبا زيادٍ، ظهر في القرنِ الثَّالثِ الهِجريِّ، ويَذكُرُ أنَّ له مؤلَّفاتٍ، ولكِنْ لم تُعرَفْ، وقد امتزجت فرقتُه بفِرقةٍ أخرى تُسَمَّى العَمديَّةَ تنتَسِبُ إلى عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، وهي فِرقةٌ غامضةٌ فيما يظهرُ، ولهم بعضُ الآراءِ كقولِهم بأنَّه يسَعُ الشَّخصَ جَهلُ معرفةِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأباحوا الزِّنا وأخذَ الأموالِ لِمن أُكرِهَ على ذلك يتَّقي بها ويَغرَمُ بَعدَ ذلك، وأنَّ حُجَّةَ اللهِ تُنالُ بالتَّفكُّرِ في دينِ اللهِ اضطِرارًا! وقالوا بأنَّ اللهَ لم يَنْهَ المُشرِكين والبالِغين عن غيرِ الشِّرْكِ، ولم يأمُرْهم بغيرِ التَّوحيدِ، فإذا وُجدوا لزمَتْهم جميعُ الفرائِضِ، ونُهوا عن جميعِ المعاصي، إلى غيرِ ذلك من آرائِهم.
ولهم عِندَ المارغينيِّ أقوالٌ أخرى غيرُ هذه، وقد كفَّرهم أيضًا.
الخامِسةُ: السَّكَّاكيَّةُ
تُنسَبُ هذه الفِرقةُ إلى عبدِ اللهِ السَّكَّاكِ اللَّوَّاتي، وهو من سكَّانِ بلدةِ قِنْطِرارَ، كان صائغًا له إلمامٌ واسعٌ بالكُتُبِ، فخالف الإباضيَّةَ في مسائِلَ كثيرةٍ، وأوجد له أتباعًا كثيرين. وكانت الإباضيَّةُ تعامِلُ أتباعَه بأقسى المعامَلةِ، بحيث إنَّهم كانوا إذا مات فيهم سكَّاكيٌّ ربطوا في رِجْلَيه حبلًا ثُمَّ جرُّوه إلى حُفرةٍ، فيُلْقى فيها دونَ صلاةٍ ولا كَفَنٍ، وقد حكَموا على أتباعِه بأنَّهم مُشرِكون، وبعضُهم يقولُ بأنَّهم مُنافِقون، وكانت لهم آراءٌ في غايةِ البُعدِ والسُّقوطِ، ومنها:
1- أنَّهم أنكروا السُّنَّةَ والإجماعَ والرَّأيَ، وزعموا أنَّ الدِّينَ يُفهَمُ من القرآنِ فحَسْبُ.
2- أنَّ صلاةَ الجماعةِ بِدعةٌ.
3- أنَّ الآذانَ بِدعةٌ، فإذا سَمِعوه قالوا: نَهَق الحِمارُ!
4- أنَّه لا تجوزُ الصَّلاةُ إلَّا بمعرفةِ تفسيرِه من القُرآنِ.
السَّادِسةُ: الفَرثيَّةُ
وتُنسَبُ إلى عالمٍ من عُلَماءِ الإباضيَّةِ، وهو أبو سُلَيمانَ بنُ يَعقوبَ بنِ أفلَحَ، كان بيتُه بيتَ عِلمٍ وفتوى، وقد انفرد أو خرج عن جمهورِ الإباضيَّةِ ببعضِ الآراءِ التي جرَّت عليه نِقمتَهم، ومن هذه الآراءِ:
1- أنَّ الزَّكاةَ لا ينبغي إخراجُها عن قَرابةِ المُزَكِّي.
2- أنَّ أكلَ الجنينِ لا يجوزُ.
3- حُرمةُ العُروقِ ولو بَعدَ غَسلِ مكانِ الذَّبحِ.
4- أنَّ عَرَق الجُنُبِ والحائِضِ نجِسانِ.
ومع أنَّ مُؤَرِّخي الفِرَقِ يَعُدُّون هذه الفِرَقَ السِّتَّ من الإباضيَّةِ، فإنَّ علي يحيى مَعْمَر قد نفى كونَها من الإباضيَّةِ، ونفى أن تكونَ بعضُها مجرَّدَ فِرقةٍ، بل هم عِندَه أناسٌ غَضِبوا على الحُكمِ فخرَجوا عنه كما يخرُجُ غيرُهم عن حُكَّامِهم، بينما المارغينيُّ منهم يقولُ بَعدَ نهايتِه لبحثِهم: (وهذه فِرَقٌ سِتٌّ من الإباضيَّةِ قد بَيَّنَّا ما ألحَدوا فيه ولم يَقصِدوا) [130] يُنظر: ((مخطوطة المارغيني)) في افتراق فرق الإباضية الست بالمغرب (ص: 1-7). ويُنظر أيضًا: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 258 – 278)، ويُنظر: تعليق أبي إسحاق أطفيش على كتاب ((الوضع للجناوني))، ((الأزهار الرياضية)) للباروني (2/148 – 152، 167، 174، 102 – 112، 206). .

انظر أيضا: