موسوعة التفسير

سُورةُ الدُّخَانِ
الآيات (1-8)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مُبَارَكَةٍ: أي: كَثيرةِ الخيْراتِ والبرَكاتِ، والبرَكةُ: كثْرةُ الخيرِ ودَوامُه، ومَن ألْقَى اللهَ عليه برَكتَه فهو المبارَكُ، فالبرَكةُ: ثُبوتُ الخيرِ الإلهيِّ في الشَّيءِ، وأصلُ (برك): اللُّزومُ والثُّبوتُ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 151)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/227)، ((المفردات)) للراغب (ص: 119)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 117، 349)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/186)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/174)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 376)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/172). .
يُفْرَقُ: أي: يُفصَلُ ويُقضَى، وأصلُ (فصل): يدُلُّ على تَمييزٍ بيْنَ شيئَينِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 402)، ((تفسير ابن جرير)) (24/545)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 633)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 349). .
مُوقِنِينَ: جمْع مُوقِنٍ، واليقينُ من صِفاتِ العِلمِ، يُقال: عِلم يَقِينٍ، وهو سُكونُ الفَهمِ، وثبوتُ الحُكمِ، واليَقينُ: زَوالُ الشَّكِّ، أو الاعتقادُ الجازمُ الثَّابِتُ المطابِق للواقِع [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 892)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 979). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تباركَ وتعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان: 3 - 6] .
- في نَصبِ أَمْرًا عِدَّةُ أوجُهٍ تَرجِعُ إلى أربعةِ أشياءَ: الحاليَّةِ، والمفعولِ له، والمصْدريَّةِ، والمفعولِ به، وبَيانُها على النَّحوِ التَّالي: أحَدُها: أنَّه حالٌ مِن فاعلِ أَنْزَلْنَاهُ أو مِن مَفعولِه، أي: آمِرينَ به، أو مَأمورًا به. الثَّاني: أنَّه حالٌ مِن كُلُّ، أو مِن أَمْرٍ؛ لأنَّه وُصِفَ. الثَّالثُ: أنَّه مَفعولٌ لأجْلِه مَنصوبٌ، وناصِبُه إمَّا أَنْزَلْنَاهُ، وإمَّا مُنْذِرِينَ، وإمَّا يُفْرَقُ. الرَّابعُ: أنَّه مَصدرٌ مَنصوبٌ مِن مَعنى يُفْرَقُ، أي: يُفرَقُ فَرْقًا؛ لأنَّ أَمْرًا بمعْنى (فَرْقًا)، فوُضِع أَمْرًا مَوضِعَ (فرْقًا). الخامسُ: أنَّه مَصدَرٌ لـفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: أمَرْنا أمرًا. السَّادِسُ: أنَّه مَنصوبٌ على إضمارِ فِعلٍ، أي: أعني أمرًا مِن عندِنا. وقيل غيرُ ذلك.
- وفي نَصبِ رَحْمَةً أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّها مَفعولٌ لأجلِه مَنصوبٌ، والعامِلُ فيه أَنْزَلْنَاهُ، أو أَمْرًا، أو يُفْرَقُ، أو مُنْذِرِينَ. الثَّاني: أنَّها مَصدرٌ مَنصوبٌ بفِعلٍ مُقدَّرٍ مِن لَفظِه، أي: رَحِمْنا رَحْمةً. الثَّالِثُ: أنَّها مَفعولٌ به لاسمِ الفاعِلِ مُرْسِلِينَ. الرَّابِعُ: أنَّها حالٌ مِن الضَّميرِ في مُرْسِلِينَ، أي: راحِمينَ أو ذَوِي رَحمةٍ [9] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/423)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/83)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/654)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/616- 617)، ((تفسير الألوسي)) (13/113). .

المعنى الإجماليُّ:

ابتَدأَ اللهُ تعالَى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: حم، وهما مِن الحروفِ المقطَّعةِ التي تَأتي لبَيانِ إعجازِ هذا القرآنِ، ثمَّ أقسَمَ اللهُ تعالَى بالكِتابِ الواضِحِ المُبِينِ لكُلِّ شَيءٍ يُحتاجُ إليه -على أنَّه أنْزَلَ القُرآنَ الكريمَ في ليْلةٍ مُبارَكةٍ هي ليْلةُ القَدْرِ مِن شَهرِ رَمَضانَ، مُخَوِّفًا ومُحَذِّرًا النَّاسَ بهذا القُرآنِ مِن وُقوعِ العَذابِ بهم إنْ لم يُقلِعوا عن الشِّركِ والعِصيانِ.
ثمَّ أخبَرَ سُبحانَه عن هذه اللَّيلةِ المبارَكةِ -ليْلةِ القَدْرِ- بأنَّه يُفرَقُ فيها كُلُّ أمرٍ مُحكَمٍ مُشتَمِلٍ على الحِكمةِ، حالَ كَونِ ذلك الأمرِ أمرًا مِن عندِه تعالَى، إنَّه كان مُرسِلًا رَسولًا يَتْلو آياتِه؛ رَحمةً منه تعالَى بعِبادِه، إنَّه هو السَّميعُ العَليمُ.
ثمَّ وصَف اللهُ تعالَى نفْسَه بما يدُلُّ على عظَمتِه وكَمالِ قُدرتِه، فقال: خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنهما، إنْ كُنتُم موقِنينَ. لا مَعبودَ حَقٌّ إلَّا هو سُبحانَه، يُحيي ويُميتُ، هو خالِقُكم وخالِقُ آبائِكم الأوَّلينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

حم (1).
افتُتِحَت هذه السُّورةُ بهَذينِ الحرْفينِ مِن الحُروفِ المقطَّعةِ التي تُستفتَحُ بها كَثيرٌ مِن سُوَرِ القرآنِ؛ لبَيانِ إعجازِه، حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يَتحدَّثونَ بها [10] يُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ أوَّل سورةِ الزُّخرفِ. .
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2).
أي: أُقسمُ بالقُرآنِ الواضِحِ الموضِّحِ لكُلِّ ما يُحتاجُ إلى بَيانِه [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/545)، ((تفسير السمعاني)) (5/121)، ((تفسير الخازن)) (4/116)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/2)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). قال ابنُ عطية: (الْمُبِينِ يحتَمِلُ أن يكونَ مِن الفِعلِ المتعَدِّي، أي: يُبِينُ الهُدى والشَّرعَ ونَحوَه، ويحتَمِلُ أن يكونَ مِن غيرِ المتعَدِّي، أي: هو مُبِينٌ في نَفسِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/68). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/ 355) و(3/ 453). وقال أبو السعود: (أي: البيِّنِ لِمن أُنزِلَ عليهم؛ لِكَونِه بلُغَتِهم وعَلى أساليبِهم، أو الْمُبِينِ لطريقِ الهُدى مِن طَريقِ الضَّلالةِ، المُوَضِّحِ لكُلِّ ما يُحتاجُ إليهِ في أبوابِ الدِّيانةِ). ((تفسير أبي السعود)) (8/39). ممَّن اختار أنَّه بمعنى البَيِّنِ: مقاتلُ بن سليمان، ومكي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/817)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6718)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/ 355). قال الشنقيطي: (ومن إتيانِ «أبان» لازمةً: يَكْثُرُ في القرآنِ اسمُ فاعلِها كِتَابٍ مُبِينٍ ووَالْكِتَابِ الْمُبِينِ هو مِنْ «أَبانَ» اللازمةِ). ((العذب النمير)) (1/ 355). وممَّن اختار أنَّه بمعنى المُبِينِ لِغَيرِه: الخازن، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/116)، ((تفسير العليمي)) (6/204) و(6/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). وممَّن اختار الجمْعَ بين المعنيَينِ: البقاعي، وذهَب إليه ابنُ عُثيمين في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الزُّخرفِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/2)، ((تفسير العثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 30). قال ابنُ عثيمين: (فقَولُنا: الْمُبِينِ مِن أبان الشَّيءَ: إذا أظهَرَه، يعني: أنَّ القُرآنَ أظهَرَ كُلَّ شَيءٍ يَحتاجُ النَّاسُ إليه في دينِهم ودُنياهم. وقيل: المرادُ بـ الْمُبِينِ البَيِّنُ. والأعَمُّ أنَّه مُظهِرٌ للحَقِّ؛ لأنَّه لا يُظهِرُ الحَقَّ إلَّا إذا كان هو ظاهِرًا، وعلى هذا ففَسِّرِ الْمُبِينِ بأنَّه الْمُظهِرُ، وإنْ فَسَّرْتَه بهما فلا بأسَ، فقُلتَ: إنَّه بَيِّنٌ مُبِينٌ؛ لأنَّ الكَلِمةَ إذا احتَمَلت مَعنَيينِ -وهذه قاعدة- لا يُنافي أحدُهما الآخَرَ، وليس أرجَحَ منه؛ فإنَّها تُحمَلُ عليهما). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 30). .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3).
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ.
أي: إنَّا أنزَلْنا القُرآنَ في ليْلةٍ كَثيرةِ البرَكاتِ والخيْراتِ، وهي ليْلةُ القَدْرِ مِن شَهرِ رَمَضانَ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/5، 6)، ((تفسير ابن كثير)) (7/245)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/172). قال الرَّسْعني: (اللَّيلةُ المُبارَكةُ: ليلةُ القَدْرِ، في قَولِ ابنِ عبَّاسٍ، وعامَّةِ المُفَسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (7/159). ونَسَبَه ابنُ الجوزي للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/87). وقال ابنُ القيِّم: (قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، وهذه هي ليْلةُ القدْرِ قطعًا؛ لقولِه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. ومَن زعَم أنَّها ليْلةُ النِّصفِ مِن شَعبانَ فقدْ غَلِط). ((شفاء العليل)) (ص: 22). ويُنظر: ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (6/ 447، 448). قال السَّمعاني: (وفي معنى هذا الإنزالِ قَولانِ: أحَدُهما: أنَّه أُنزِلَ جَميعُ القُرآنِ في ليْلةِ القَدْرِ إلى السَّماءِ الدُّنيا... والقَولُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالإنزالِ هاهنا ابتداءُ الإنزالِ). ((تفسير السمعاني)) (5/121). ممَّن اختار القَولَ الأوَّلَ، وأنَّ المرادَ نُزولُ القُرآنِ إلى السَّماءِ الدُّنيا ليْلةَ القَدْرِ جُملةً واحِدةً، ثمَّ نُزولُه بعْدَ ذلك مُفَرَّقًا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جُزي، والزَّركشي ونسَبَه إلى الأكثرينَ، وابنُ حجر. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/266)، ((البرهان)) للزركشي (1/228)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/4). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ، وأنَّ ابتداءَ نُزولِ القُرآنِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في ليلةِ القَدرِ: الزمخشريُّ، وابنُ عطية -ونَسَبَه إلى الجُمهورِ-، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/227)، ((تفسير ابن عطية)) (5/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/277). قال الشنقيطي: (لا شَكَّ أنَّ ليلةً هي خيرٌ مِن ألفِ شَهرٍ، إلى آخِرِ الصِّفاتِ التي وُصِفَت بها في سُورةِ «القَدْرِ»: كثيرةُ البَرَكاتِ والخَيراتِ جِدًّا). ((أضواء البيان)) (7/172). .
كما قال تعالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ [البقرة: 185] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] .
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.
أي: إنَّا كُنَّا مُخَوِّفينَ ومُحَذِّرينَ النَّاسَ بالقُرآنِ مِن أنْ تحُلَّ بهم عُقوبتُنا إنْ لم يَتوبوا مِن شِرْكِهم وكُفرِهم وعِصيانِهم [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/6)، ((تفسير السمعاني)) (5/121)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/87). وقَولُه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جملةٌ استِئنافيَّةٌ فُسِّرَ بها جَوابُ القَسَمِ -الَّذي هو قَولُه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ- كأنَّه قيل: أنزَلْناه؛ لأنَّ مِن شَأنِنا الإنذارَ والتَّحذيرَ مِن العِقابِ. ذكَره الزمخشريُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/270). .
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4).
أي: يُقضَى ويُبيَّنُ ويُكتَبُ في ليْلةِ القَدرِ المباركةِ كُلُّ أمْرٍ مُحكَمٍ مُشتَمِلٍ على الحِكمةِ البالِغةِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/10)، ((الوسيط)) للواحدي (4/85)، ((تفسير ابن كثير)) (7/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/5)، ((تفسير الشوكاني)) (4/653)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/279-280)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/172-173). قال الماوردي: (في يُفْرَقُ أربعةُ أوجهٍ: أحدُها: يُقضى. قاله الضَّحَّاك. الثاني: يُكتَبُ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثالث: يُنزَلُ. قاله ابنُ زيْدٍ. الرابع: يُخرَجُ. قاله ابنُ سنانٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/245). وقال البقاعي: (يُفْرَقُ أي: يُنشَرُ ويُبَيَّنُ ويُفَصَّلُ ويُوضَّحُ مرَّةً بعْدَ مرَّةٍ). ((نظم الدرر)) (18/5). وقال ابنُ كثيرٍ: (وقولُه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي: في ليْلةِ القدْرِ يُفصَلُ مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى الكَتَبةِ أمرُ السَّنةِ، وما يكونُ فيها مِن الآجالِ والأرزاقِ، وما يكونُ فيها إلى آخِرِها. وهكذا رُوِي عن ابنِ عُمرَ، وأبي مالكٍ، ومُجاهدٍ، والضَّحَّاكِ، وغيرِ واحدٍ مِن السَّلفِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/246) وقال الشنقيطي: (معْنى الآيةِ: أنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى في كلِّ ليْلةِ قدْرٍ مِن السَّنةِ يُبيِّنُ للملائكةِ ويَكتُبُ لهم بالتَّفصيلِ والإيضاحِ جميعَ ما يقَعُ في تِلك السَّنةِ إلى ليْلةِ القدْرِ مِن السَّنةِ الجديدةِ، فتُبيَّنُ في ذلك الآجالُ والأرزاقُ، والفقرُ والغِنى، والخِصبُ والجدْبُ، والصِّحَّةُ والمرضُ، والحروبُ والزَّلازلُ، وجميعُ ما يقَعُ في تلك السَّنةِ كائنًا ما كان). ((أضواء البيان)) (7/172-173). وقال الواحدي: (والأمرُ الحَكيمُ: المُحكَمُ، يعني: أمرَ السَّنةِ إلى مِثلِها مِن العامِ المُقبِلِ، يَقضي اللهُ في تلك اللَّيلةِ ما هو كائِنٌ في السَّنةِ مِن الخَيرِ، والشِّدَّةِ والرَّخاءِ، والأرزاقِ والآجالِ، ومَحوٍ وتَثبيتٍ ما يَشاءُ. وهذا قَولُ عامَّةِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (20/95). وقال الشنقيطي: (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أي: ذي حِكمةٍ بالِغةٍ؛ لأنَّ كُلَّ ما يَفعَلُه اللهُ مُشتَمِلٌ على أنواعِ الحِكَمِ الباهِرةِ. وقال بَعضُهم: حَكيمٌ، أي: مُحكَمٌ، لا تَغييرَ فيه ولا تَبْديلَ. وكِلا الأمرَينِ حَقٌّ؛ لأنَّ ما سَبَق في عِلمِ اللهِ لا يَتغَيَّرُ ولا يَتبَدَّلُ، ولأنَّ جميعَ أفعالِه في غايةِ الحِكمةِ). ((أضواء البيان)) (7/172). .
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5).
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا.
أي: حالَ كَونِ ذلك الأمْرِ أمْرًا مِن عِندِنا [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/11)، ((تفسير الزمخشري)) (4/271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/174). .
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ.
أي: إنَّا كنَّا مُرسِلينَ رَسولًا يَتْلو آياتِ اللهِ، ويُبَلِّغُ رِسالتَه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772). مِن المفَسِّرين مَن عمَّم بحيثُ يَشمَلُ ذلك جميعَ المُرسَلينَ. ومنهم: السَّمرقنديُّ، وابن أبي زَمنين، والبَغَوي، وابن الجوْزي، والرازي، وأبو حيان، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/268)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/199)، ((تفسير البغوي)) (4/174)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/88)، ((تفسير الرازي)) (27/655)، ((تفسير أبي حيان)) (9/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). ومنهم مَن خَصَّص ذلك بالنبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، منهم: ابنُ جريرٍ، والثعلبي، والعُلَيمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/11)، ((تفسير الثعلبي)) (8/350)، ((تفسير العليمي)) (6/244)، ((تفسير القاسمي)) (8/408). قال الماوَرديُّ: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فيه ثَلاثةُ أوجُهٍ: أحَدُها: مُرسِلينَ الرُّسُلَ للإنذارِ. الثَّاني: مُنزِلينَ ما قَضَيناه على العِبادِ. الثَّالِثُ: مُرسِلينَ رَحمةً مِن رَبِّك). ((تفسير الماوردي)) (5/246). .
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6).
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
أي: رَحمةً مِن رَبِّك -يا محمَّدُ- بعِبادِه [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/11)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 982)، ((تفسير الشوكاني)) (4/653)، ((تفسير القاسمي)) (8/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). .
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: إنَّ اللهَ هو السَّميعُ لأقوالِ عِبادِه، العَليمُ بأعمالِهم وأحوالِهم [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/282). .
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7).
أي: خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما مِن المخلوقاتِ، والمالِكِ والمُدبِّرِ لجميعِ ذلك، إنْ كُنتُم مُتحَقِّقينَ بذلك [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/283). قيل: معنى إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إنْ كُنتُم تَطلُبونَ اليَقينَ وتُريدونَه، فاعرِفوا أنَّ الأمْرَ كما قُلْنا، كقَولِهم: (فلانٌ مُنْجِدٌ مُتْهِمٌ) أي: يُريدُ نَجًدا وتِهامةَ. وقيل: معنى الشَّرطِ: أنَّ إرسالَ الرُّسُلِ وإنزالَ الكُتُبِ: رَحمةٌ مِن الرَّبِّ. ثمَّ قيلَ لهم: إنَّ هذا الرَّبَّ هو السَّميعُ العَليمُ الذي أنتم مُقِرُّونَ بأنَّه رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، أي: إنْ كان إقرارُكم عن إيقانٍ باللهِ تعالَى وإتقانٍ لِمَعرفتِه. وقيل: هو تقريرٌ وتَثبيتٌ، أي: إنْ كُنتَ مُوقِنًا بهذا يكونُ يَقينُك، كما تقولُ لإنسانٍ تُريدُ إقامةَ نفْسِه -أي: إثارتَها-: العِلمُ غَرَضُك إنْ كُنتَ رَجُلًا. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/69)، ((تفسير الرسعني)) (7/162)، ((تفسير القاسمي)) (8/408). وقال القرطبي: (يحتَمِلُ أن يكونَ هذا الخِطابُ مع المُعتَرِفِ بأنَّ اللهَ خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، أي: إنْ كُنتُم مُوقِنينَ به، فاعلَموا أنَّ له أن يُرسِلَ الرُّسُلَ، ويُنَزِّلَ الكُتُبَ. ويجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ مع مَن لا يَعتَرِفُ بأنَّه الخالِقُ، أي: يَنْبغي أنْ يَعرِفوا أنَّه الخالِقُ، وأنَّه الذي يُحيي ويُميتُ). ((تفسير القرطبي)) (16/129). .
كما حَكى تعالَى قَولَ مُوسى لفِرعَونَ ومَلَئِه: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 24] .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8).
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ حَقٌّ إلَّا اللهُ المُستَحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه دُونَ ما سِواه [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/12)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/279)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772). .
يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: هو المتصَرِّفُ وَحْدَه بالإحياءِ والإماتةِ؛ فيُحيي ما يَشاءُ، ويُميتُ ما يَشاءُ مِن الأحياءِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/12)، ((تفسير القرطبي)) (16/129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772). .
كما قال تعالَى: هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يونس: 56] .
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.
أي: هو خالِقُكم ومالِكُكم ورازِقُكم أنتُم وآبائِكم الذين مِن قَبْلِكم [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/13)، ((تفسير السمرقندي)) (3/268)، ((تفسير القرطبي)) (16/129). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ خَصَّ اللهُ تعالَى بعضَ الأوقاتِ بمَزيدِ تَشريفٍ؛ حتى يَصيرَ ذلك داعيًا للمُكَلَّفِ إلى الإقدامِ على الطَّاعاتِ في ذلك الوَقتِ [23] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/653). .
2- قال تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وَصْفُها بـ مُبَارَكَةٍ تَنْويهٌ بها وتَشويقٌ لمَعرِفَتِها؛ فهذه اللَّيلةُ هي اللَّيلةُ الَّتي ابتُدِئَ فيها نُزولُ القُرآنِ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في الغارِ مِن جَبَلِ حِراءٍ في رَمَضانَ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فبَرَكةُ اللَّيلةِ الَّتي أُنزِلَ فيها القُرآنُ بَرَكةٌ قدَّرَها اللهُ لها قَبْلَ نُزولِ القُرآنِ؛ ليَكونَ القُرآنُ بابتِداءِ نُزولِه فيها مُلابِسًا لوَقتٍ مُبارَكٍ، فيَزدادَ بذلك فَضلًا وشَرَفًا [24] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/277، 278). .
وقيل: إنَّ وَصْفَها بـ مُبَارَكَةٍ؛ لِمَا أنَّ نُزولَ القُرآنِ مُستَتبِعٌ للمَنافعِ الدِّينِيَّةِ والدُّنيَويَّةِ بأَجمَعِها، أو لِمَا فيها مِن تَنَزُّلِ المَلائِكةِ والرَّحمةِ، وإجابةِ الدَّعوةِ، وقَسْمِ النِّعمَةِ، وفَصْلِ الأقضِيَةِ، وفَضيلةِ العِبادَةِ، وإعطاءِ تَمامِ الشَّفاعةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ [25] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/99)، ((تفسير أبي السعود)) (8/58). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فيه دَليلٌ على التَّقديرِ السَّنويِّ (الحوْليِّ) في ليْلةِ القدْرِ؛ فالتَّقديراتُ أنواعٌ؛ منها: التَّقديرُ الشَّاملُ لجَميعِ المخلوقاتِ وكِتابةُ ذلك قبْلَ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ بخمْسينَ ألْفَ سَنةٍ. ومنها: التَّقديرُ العُمريُّ عندَ تَخليقِ النُّطْفةِ في الرَّحمِ، ومنها: التَّقديرُ اليَوميُّ، وهو تَنفيذُ كلِّ ذلك إلى مَواضعِه [26] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) لحافظ الحَكمي (ص: 81، 84)، ((مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية)) للسلمان (ص: 122). ويُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 6- 24). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ المقصودُ منه تَعظيمُ القُرآنِ بثَلاثةِ أنواعٍ مِن التَّعظيمِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: تَعظيمُه بحَسَبِ ذاتِه: فأقسَمَ تعالَى به، وذلك يدُلُّ على شَرَفِه، ثمَّ إنَّه تعالَى أقسَمَ به على كَونِه نازِلًا في ليْلةٍ مُبارَكةٍ، والقَسَمُ بالشَّيءِ على حالةٍ مِن أحوالِ نَفسِه يدُلُّ على كَونِه في غايةِ الشَّرَفِ، ثمَّ إنَّه تعالَى وصَفَه بكَونِه مُبِينًا، وذلك يدُلُّ أيضًا على شَرَفِه في ذاتِه.
أمَّا النَّوعُ الثَّاني: فهو بَيانُ شَرَفِه لأجْلِ شَرَفِ الوَقتِ الذي أُنزِلَ فيه، وهو قَولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، وهذا تَنبيهٌ على أنَّ نُزولَه في ليْلةٍ مُبارَكةٍ يَقتَضي شَرَفَه وجَلالتَه.
وأمَّا النَّوعُ الثَّالِثُ: فهو بَيانُ شَرَفِ القُرآنِ لشَرَفِ مُنَزِّلِه، وذلك هو قَولُه تعالَى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ؛ فبَيَّنَ أنَّ ذلك الإنذارَ والإرسالَ إنَّما حَصَل مِنَ اللهِ تعالَى، ثمَّ بيَّنَ أنَّ ذلك الإرسالَ إنَّما كان لأجْلِ تَكميلِ الرَّحمةِ، وهو قَولُه تعالَى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [27] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/654). .
5- قال تعالى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وَصَفَهم بالأوَّلِين؛ لأنَّهم جَعَلوا أقدَمَ الآباءِ حُجَّةً أعظَمَ مِن الآباءِ الأقرَبينَ، كما قال تعالَى حِكايَةً عنهم: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/284). [المؤمنون: 24] .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ
- في جَعْلِ المُقسَمِ به القُرآنَ بوَصْفِ كَونِه كِتابًا مُبينًا، وجَعْلِ جَوابِ القَسَمِ أنَّ اللهَ جَعَله مُبِينًا: تَنويهٌ خاصٌّ بالقُرآنِ؛ إذ جَعَل المُقسَمَ به هو المُقسَمَ عليه، وهذا ضَربٌ عَزيزٌ بَديعٌ؛ لأنَّه يُومِئُ إلى أنَّ المُقسَمَ على شَأنِه بَلَغ غايَةَ الشَّرَفَ، فإذا أَرادَ المُقسِمُ أنْ يُقسِمَ على ثُبوتِ شَرَفٍ له، لم يَجِدْ ما هو أوْلَى بالقَسَمِ به؛ للتَّناسُبِ بيْن القَسَمِ والمُقسَمِ عليه [29] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/397)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/159)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/61، 62). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ تَنويهٌ بشَأنِ القُرآنِ بطريقَةِ الكِنايَةِ عنه بذِكرِ فَضلِ الوقتِ الَّذي ابتُدِئَ إنزالُه فيه [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/277). .
- وتَنكيرُ لَيْلَةٍ للتَّعظيمِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/277). .
- وجُملةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُعتَرِضةٌ، وحَرفُ (إنَّ) يَجوزُ أنْ يَكُونَ للتَّأكيدِ؛ ردًّا لإنكَارِهِم أنْ يَكونَ اللهُ أرسَلَ رُسُلًا للنَّاسِ؛ لأنَّ المُشرِكين أنْكَروا رِسالَةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بزَعمِهم أنَّ اللهَ لا يُرسِلُ رَسولًا مِن البَشَرِ؛ فكان ردُّ إنكارِهم ذلك رَدًّا لإنكارِهم رِسالةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ فتَكونُ جُملَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مُستَأنَفةً. ويَجوزُ أنْ تَكونَ (إنَّ) لِمُجَرَّدِ الاهتِمامِ بالخَبَرِ؛ فتَكونُ مُغنِيَةً غَناءَ فاءِ التَّسَبُّبِ، فتُفيدُ تَعليلًا؛ فتَكونُ جُملَةُ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ تَعليلًا لجُملَةِ أَنْزَلْنَاهُ؛ كأنَّه قِيلَ: إنَّا أنزَلْناهُ لأنَّ مِن شَأنِنا الإنذارَ والتَّحذيرَ مِن العِقابِ؛ فمَضمونُ الجُملَةِ عِلَّةُ العِلَّةِ، وهو إِيجازٌ [32] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/270)، ((تفسير البيضاوي)) (5/99)، ((تفسير أبي السعود)) (8/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/279). .
- وإنَّما اقتَصَر على وَصْفِ مُنْذِرِينَ -مع أنَّ القُرآنَ مُنذِرٌ ومُبَشِّرٌ- اهتِمامًا بالإنذارِ؛ لأنَّه مُقتَضَى حالِ جُمهورِ النَّاسِ يَومَئِذٍ، والإنذارُ يَقتَضِي التَّبشيرَ لِمَن انتَذَرَ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/279). .
- وحُذِفَ مَفعولُ مُنْذِرِينَ؛ لدَلالَةِ قَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ عليه، أي: مُنذرِينَ المُخاطَبينَ بالقُرآنِ [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/279). .
3- قولُه تعالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مُستَأنَفٌ استِئنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عن تَنكيرِ لَيْلَةٍ، ووَصْفِها بأنَّها مُبارَكَةٌ آنِفًا، فدَلَّ على عِظَمِ شَأنِ هاتِهِ اللَّيلَةِ عِندَ اللهِ تعالَى؛ فإنَّها ظَهَر فيها إنزالُ القُرآنِ، وفيها يُفرَقُ عِندَ اللهِ كلُّ أمرٍ حَكيمٍ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/279). .
- قولُه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ الظَّاهِرُ أنَّ هذا مُستَمِرٌّ في كلِّ لَيلَةٍ تُوافِقُ عدَّ تِلكَ اللَّيلَةِ مِن كلِّ عامٍ؛ كما يُؤذِنُ به المُضارِعُ في قَولِه: يُفْرَقُ، ويَحتَمِلُ أنْ يَكونَ استِعمالُ المُضارِعِ في يُفْرَقُ؛ لاستِحضَارِ تِلكَ الحالَةِ العَظيمَةِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/280). .
- قولُه: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ في هذه الجُمَلِ الأربعِ مُحَسِّنُ اللَّفِّ والنَّشرِ [37] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شيئينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا، بأن يُؤتَى بلفظٍ يشتملُ على متعدِّدٍ، ثم يذكرُ أشياءَ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يدخلَ الجنةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنةَ إلَّا النَّصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهين؛ الوجه الأوَّل: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِ، ويُسَمَّى (اللَّفَّ والنَّشرَ المرتَّبَ). الوجه الثاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى (اللَّفَّ والنشرَ غيرَ المُرتَّبِ)، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ (اللَّف والنَّشر المُشَوَّش)، أو (المعكوس). يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((التبيان في البيان)) للطيبي (ص: 231، 232)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/ 320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ؛ ففي قَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ لَفٌّ بيْن مَعنَيَينِ؛ أَوَّلُهما: تَعْيينُ إنزالِ القُرآنِ، وثانِيهُما: اختِصاصُ تَنزيلِه في لَيلَةٍ مُبارَكَةٍ، ثمَّ علَّل المَعنَى الأَوَّلَ بجُملةِ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، وعلَّل المَعنَى الثَّانيَ بجُملَةِ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/270)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/192، 193)، ((تفسير أبي حيان)) (9/397)، ((تفسير أبي السعود)) (8/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/279)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/118). .
4- قولُه تعالَى: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- إعادةُ كَلمةِ أَمْرًا لِتَفْخيمِ شأْنِه؛ وإلَّا فإنَّ المقصودَ الأصليَّ هو قولُه: مِنْ عِنْدِنَا؛ فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يقَعَ مِنْ عِنْدِنَا صِفةً لـ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فخُولِفَ ذلك لهذه النُّكتةِ، أي: أمْرًا عظيمًا فَخْمًا؛ إذ وُصِفَ بـ (حكيم)، ثمَّ بكَونِه مِن عندِ اللهِ؛ تَشْريفًا له بهذه العِنْديَّةِ، ويَنصَرِفُ هذا التَّشريفُ والتَّعظيمُ والتَّفخيمُ ابتِداءً وبالتَّعيِينِ إلى القُرآنِ؛ إذ كان بنُزولِه في تلك اللَّيلَةِ تَشريفُها وجَعْلُها وَقتًا لقَضاءِ الأُمورِ الشَّريفَةِ الحَكيمَةِ [39] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/271)، ((تفسير البيضاوي)) (5/99)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/194)، ((تفسير أبي حيان)) (9/398)، ((تفسير أبي السعود)) (8/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/280). .
- وقولُه: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يَجوزُ أن يَكونَ بَدَلًا مِن قَولِه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، ورَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَفعولًا له، على مَعنَى: إنَّا أَنزَلْنا القُرآنَ؛ لأنَّ مِن شَأنِنا إِرسالَ الرُّسلِ بالكُتُبِ إلى عِبادِنا لأَجلِ الرَّحمَةِ عليهم، وأنْ يَكُونَ تَعليلًا لـ يُفْرَقُ، أو لقَولِه: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا، وتَكونَ رَحْمَةً مَفعولًا به؛ لأنَّ الجُمَلَ كُلَّها حِينَئِذٍ وارِدَةٌ على التَّعليلِ المُتداخِلِ؛ فكَأَنَّه لَمَّا قِيلَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، فقِيلَ: لِمَ؟ فأُجيبَ: لأنَّه مِن شَأنِنا التَّحذيرُ والعِقابُ، فقِيلَ: لِمَ خَصَّص الإنزالَ في هذه اللَّيلَةِ؟ فقيل: لأنَّهُ مِن الأُمورِ المُحكَمَةِ، ومِن شَأنِ هذه اللَّيلَةِ أنْ يُفرَقَ فيها كلُّ أمرٍ حَكيمٍ، فقِيلَ: لِمَ كان مِن الأُمورِ المُحكَمةِ؟ فأُجيبَ: لأنَّ ذا الجَلالِ والإكرامِ أرادَ إِرسالَ رَحمةٍ للعالَمين، ومِن حقِّ المُنزَلِ عليه أنْ يَكونَ حَكيمًا؛ لكَونِه للعالَمِين نَذيرًا، وداعِيًا إلى اللهِ بإذنِه وسِراجًا مُنِيرًا؛ فقِيلَ: لِمَاذا رَحِمَهم الرَّبُّ عزَّ وجَلَّ بذلك؟ فأُجيبَ: لأنَّه سُبحانَه وتعالَى هو وَحْدَه سَميعٌ عَليمٌ؛ يَعلَمُ جُزئِيَّاتِ أَحوالِ عِبادِه وكُلِّيَّاتِها، ويَعلَمُ ما يَحتاجُون إليه دُنيا وآخِرةً، وهو وَحْدَه ربُّ السَّمواتِ والأَرضِ، يُرَبِّيهِم ويَرزُقُهم ويَمنَحُهُم مَرافِقَهم، وهو وَحْدَه يُحْيِيهم ويُميتُهم، ويُثيبُهم ويُعاقِبُهم، وإليه الإشارَةُ بقَولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وما بَعْدَه، تَحقيقٌ لرُبوبِيَّتِه، وأنَّها لا تَحِقُّ إلَّا لِمَن هذه أَوصافُه [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/271)، ((تفسير البيضاوي)) (5/99)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/197)، ((تفسير أبي السعود)) (8/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). .
- ومَفعولُ مُرْسِلِينَ مَحذوفٌ دلَّ عليه مادَّةُ اسمِ الفاعِلِ، أي: مُرْسِلينَ الرُّسُلَ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). .
- قولُه: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أصلُ الكلامِ: (إنَّا كُنَّا مُرسِلِين رَحمَةً مِنَّا)، ولكنْ قال: مِنْ رَبِّكَ؛ فوُضِعَ الرَّبُّ مَوْضِعَ الضَّميرِ؛ إيذانًا بأنَّ الرُّبوبِيَّةَ تَقتَضِي الرَّحمَةَ على المَربوبينَ؛ فإنَّه أعظَمُ أنواعِ التَّربِيَةِ، ولِيَكونَ تَمهِيدًا يَنْبَني عليه التَّعليلُ المُتَضَمِّنُ للتَّعريضِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [42] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/271)، ((تفسير البيضاوي)) (5/99)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/199)، ((تفسير أبي حيان)) (9/398)، ((تفسير أبي السعود)) (8/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). .
- وإضافَةُ (رَب) إلى ضَميرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ صَرفٌ للكَلامِ عن مُواجَهَةِ المُشرِكين إلى مُواجَهَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بالخِطابِ؛ لأنَّه الَّذي جَرَى خِطابُهم هذا بواسِطَتِه؛ فهُوَ كحاضِرٍ مَعَهم عِندَ تَوجيهِ الخِطابِ إليهم؛ وهذا لِقَصدِ التَّنويهِ بشَأنِه بعْدَ التَّنويهِ بشَأنِ الكِتابِ الَّذي جاءَ به. وأيضًا إضافَةُ الرَّبِّ إلى ضَميرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلى حظٍّ له في خِلالِ هذه التَّشريعاتِ بأنَّ ذلك كُلَّه مِن رَبِّه، أي: بواسِطَتِه؛ فإنَّه إذا كان الإرسالُ رَحمَةً كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ رَحمَةً، ويُعلَمُ مِن كَونِه ربَّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ أنَّه ربُّ النَّاسِ كُلِّهِم؛ إذ لا يَكونُ الرَّبُّ رَبَّ بَعضِ النَّاسِ دُونَ بَعضٍ؛ فأَغنَى عن أنْ يَقولَ: رَحمَةً مِن ربِّك ورَبِّهم؛ لأنَّ غَرَضَ إضافَةِ (رَب) إلى ضَميرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ يَأبَى ذلك، ثمَّ سيُصَرِّحُ بأنَّهُ رَبُّهم في قَولِه: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [43] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/281، 282). [الدخان: 8] .
- وجُملَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَعليلٌ لجُملَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، أي: كُنَّا مُرسِلينَ رَحمَةً بالنَّاسِ؛ لأنَّه عَلِمَ عِبادَةَ المُشرِكين للأَصنامِ، وعَلِم إغواءَ أئمَّةِ الكُفرِ للأُمَمِ، وعَلِم ما سِوى ذلك مِن أَقوالِهم؛ فأرسَل الرُّسُلَ لتَقويمِهم وإصلاحِهم، وعَلِم أيضًا نَوايا النَّاسِ وأفعالَهم وإفسادَهم في الأَرضِ؛ فأَرسَل الرُّسُلَ بالشَّرائِعِ لِكَفِّ النَّاسِ عن الفَسادِ وإصلاحِ عَقائِدِهم وأعمالِهم، فأُشيرَ إلى عِلمِ النَّوعِ الأوَّل بوَصْفِ السَّمِيعُ؛ لأنَّ السَّميعَ هو الَّذي يَسمَعُ الأَقوالَ ويَعلَمُها، فلا يَخفَى عليه منها شَيءٌ، وأُشيرَ إلى عِلمِ النَّوعِ الثَّانِي بوَصفِ الْعَلِيم الشَّامِلِ لجَميعِ المَعلُوماتِ. وقدَّمَ السَّميعَ؛ للاهتِمامِ بالمسْمَوعاتِ؛ لأنَّ أصْلَ الكُفرِ هو دُعاءُ المشركينَ أصْنامَهم. و(السَّميعُ والعَليمُ) تَعليلانِ لجُملَةِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بطَريقِ الكِنايَةِ الرَّمزِيَّةِ؛ لأنَّ عِلَّةَ الإرسالِ في الحَقيقَةِ هي إرادَةُ الصَّلاحِ ورَحمَةِ الخَلْقِ، وأمَّا العِلمُ فهو الصِّفَةُ الَّتي تَجرِي الإرادَةُ على وَفْقِه؛ فالتَّعليلُ بصِفَةِ العِلمِ بِناءً على مُقَدِّمَةٍ أُخرَى؛ وهي: أنَّ اللهَ تعالَى حَكيمٌ لا يُحِبُّ الفَسادَ، فإذا كان لا يُحِبُّ ذلك، وكان عَليمًا بتَصَرُّفاتِ الخَلقِ؛ كان عِلمُه وحِكمَتُه مُقتَضِيَيْنِ أنْ يُرسِلَ للنَّاسِ رُسُلًا رَحمَةً بِهِم [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/282). .
- وأفاد ضَميرُ الفَصلِ هُوَ الحَصْرَ، أي: هو السَّميعُ العَليمُ لا أصنامُكُم الَّتي تَدْعونَها، وفي هذا إيماءٌ إلى الحاجَةِ إلى إرسالِ الرَّسولِ إليهم بإبطالِ عِبادَةِ الأصنامِ [45] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/282). .
- وفي تَخصيصِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إدماجٌ [46] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غَرَضًا في غرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرَّحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). لِمَعنَى التَّهديدِ والوَعيدِ للكُفَّارِ، والوَعدِ للمُؤمِنين الَّذِين تَلَقَّوْا هذه النِّعمَةَ بأَنواعِ الشُّكرِ [47] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/282). .
- ومُفتَتَحُ هذه السُّورةِ يَجوزُ أنْ يَكونَ كَلامًا مُوَجَّهًا إلى المُشرِكين ابتِداءً لِفَتحِ بَصائِرِهم إلى شَرَفِ القُرآنِ وما فيه مِن النَّفْعِ للنَّاسِ؛ لِيَكُفُّوا عن الصَّدِّ عنه؛ ولهذا وَرَدَت الحُروفُ المُقَطَّعَةُ في أوَّلِها المَقصودُ منها التَّحَدِّي بالإعجازِ، واشتَمَلَت الجُمَلُ الثَّلاثُ في أوَّلِها على حَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)، ويَكونُ إعلامُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بهذه المَزايَا حاصِلًا تَبَعًا؛ إنْ كان لم يَسبِقْ إعلامُه بذلك بما سَبَق مِن آيِ القُرآنِ أو بوَحْيٍ غيرِ القُرآنِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ مُوَجَّهًا إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ أصالَةً، ويَكونَ عِلمُ المُشرِكين بما يَحتَوي عليه حاصِلًا تَبَعًا بطَريقِ التَّعريضِ، ويَكونَ التَّوكيدُ مَنظورًا فيه إلى الغرَضِ التَّعريضيِّ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/281). .
5- قولُه تعالَى: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ هذا عَودٌ إلى مُواجَهةِ المشركينَ بالتَّذكيرِ على نحْوِ ما ابتدَأَتْ به السُّورةُ. وهو تَخلُّصٌ للاستِدلالِ على تَفرُّدِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ؛ إلْزامًا لهم بما يُقِرُّون به مِن أنَّه ربُّ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنهما، ويُقِرُّون بأنَّ الأصنامَ لا تَخلُقُ شيئًا، غيْرَ أنَّهم مُعرِضونَ عن نَتيجةِ الدَّليلِ ببُطلانِ إلهيَّةِ الأصنامِ؛ فقدْ كرَّرَ القُرآنَ تَذكيرَهم بأمثالِ هذا، كما في قولِه تعالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وقولِه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 20، 21]، ولأجْلِ ذلك ذَكَر الرُّبوبيَّةَ إجمالًا في قولِه: رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الدخان: 6]، ثمَّ تَفصيلًا بذِكرِ صِفةِ عُمومِ العِلمِ التي هي صِفةُ المعبودِ بحقٍّ بصِيغةِ قصْرِ القلْبِ [49] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19-22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525).. المشيرِ إلى أنَّ الأصنامَ لا تَسمَعُ ولا تَعلَمُ، وبذِكْرِ صِفةِ التَّكوينِ المختصَّةِ به تعالَى بإقرارِهم؛ ارتقاءً في الاستِدلالِ. فلمَّا لم يكُنْ مَجالٌ للرَّيبِ في أنَّه تعالَى هو الإلهُ الحقُّ، أُعقِبَ هذا الاستدلالُ بجُملةِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بطَريقةِ إثارةِ التَّيقُّظِ لِعُقولِهم؛ إذ نزَّلَهم مَنزلةَ المشكوكِ إيقانُهم؛ لِعَدَمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ الإيقانِ للهِ بالخالقيَّةِ حِين عَبَدوا غيْرَه؛ بأنْ أُتِيَ في جانبِ فرْضِ إيقانِهم بطَريقةِ الشَّرطِ، وأُتِيَ بحرْفِ الشَّرطِ (إنْ) الذي أصْلُه عَدَمُ الجزْمِ بوقُوعِ الشَّرطِ على نحوِ قولِه تعالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/271، 272)، ((تفسير البيضاوي)) (5/100)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/198، 199)، ((تفسير أبي حيان)) (9/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/283). [الزخرف: 5] .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ مُوقِنِينَ للعِلمِ به مِن قولِه: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحذوفٌ دلَّ عليه المقامُ. والتَّقديرُ: إنْ كُنتُم مُوقنينَ فلا تَعْبُدوا غيْرَه؛ ولذلك أعقَبَه بجُملةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/283). [الدخان: 8] .
6- قولُه تعالَى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ جُملةٌ مُستَأنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَها [52] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/59). .
- وجُملَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ نَتيجَةٌ للدَّليلِ المُتَقَدِّمِ؛ لأنَّ انفِرادَه برُبوبِيَّةِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنهما دَليلٌ على انفِرادِه بالإلَهِيَّةِ، أي: على بُطلانِ إلَهِيَّةِ أصنامِهم؛ فكانَتْ هذه الجُملَةُ نَتيجَةً لذلك؛ فلذلك فُصِلَتْ -أي: لم تُعطَفْ على التي قبْلَها- لِشِدَّةِ اقتِضاءِ الجُملَةِ الَّتي قَبْلَها إيَّاها [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/284). .
- قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ إلْزامٌ مِن اللهِ للمُشرِكينَ بكَلِمَةِ التَّقوَى، ثمَّ خَصَّ التَّربِيَةَ بهم وبأسلافِهم جارِيًا على سَنَنِ الخِطابِ، فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، ومُقَرِّرًا لِمَزيدِ تَوخِّي شُكرِ تلك الرَّحمَةِ السَّنِيَّةِ، وهذه النِّعمَةِ الجَليلَةِ [54] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/200). .
- وجُملَةُ يُحْيِي وَيُمِيتُ مُستَأنَفَةٌ للاستِدلالِ على أنَّه لا إلهَ إلَّا هو بتَفَرُّدِه بالإحياءِ والإماتَةِ، والمُشرِكون لا يُنازِعون في أنَّ اللهَ هو المُحْيِي والمُميتُ؛ فكما استَدَلَّ عليهم بتَفَرُّدِه بإيجادِ العَوالِمِ وما فيها، استَدَلَّ عليهم بخَلْقِ أعظَمِ أحوالِ المَوجوداتِ، وهي حالَةُ الحَياةِ الَّتي شَرَّفَ بها الإنسانَ عن مَوجوداتِ العالَمِ الأرضِيِّ، وكَرَّم أيضًا بإعطائِها للحَيوانِ لتَسخيرِه لانتِفاعِ الإنسانِ به بسَبَبِها، وبتَفَرُّدِه بالإماتةِ، وهي سَلبُ الحَياةِ عن الحيِّ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ الحَياةَ لَيسَتْ ذاتِيَّةً للحَيِّ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/284). .
- ولَمَّا كان تَفَرُّدُه بالإحياءِ والإماتَةِ دَليلًا واضِحًا في أحوالِ المُخاطَبينَ وفِيمَا حَولَهُم، مِن ظُهورِ الأَحياءِ بالوِلادَةِ والأمواتِ بالوَفاةِ يَومًا فيَومًا؛ مِن شَأنِه ألَّا يَجهَلُوا دَلالَتَه فَضلًا عن جُحودِهِم إيَّاهَا؛ ومع ذلك قدْ عَبَدوا الأصنامَ الَّتي لا تُحيِي ولا تُمِيتُ -أعقَبَ بإثباتِ رُبوبِيَّتِه للمُخاطَبين تَسجيلًا عليهم بِجَحْدِ الأدِلَّةِ وبكُفرانِ النِّعمَةِ، وعَطَفَ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ؛ ليُسَجِّلَ عليهم الإلْزامَ بقَولِهم: وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/284). [الزخرف: 22] .