موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّالثُ: أشهَرُ رِجالاتِ الجَهْميَّةِ


أولًا: الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ
أصلُه من خُراسانَ، ويقالُ: إنَّه من موالي بني مَرْوانَ، سكَن دِمَشقَ [10] يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (72/ 99)، ((الأعلام)) للزركلي (2/ 120). . وقد وقع الخلافُ في تحديدِ سنةِ قَتلِه، ورجَّح بعضُ الباحثينَ أنَّ حادثةَ قَتلِه وقعَت بين سنة (106هـ) و(110هـ) [11] يُنظر: ((مقالة التعطيل والجعد بن درهم)) لمحمد التميمي (ص: 157). .
وهو مُؤسِّسُ مَذهَبِ الجَهْميَّةِ، وأوَّلُ من أظهَر مقالةَ التَّعطيلِ للصِّفاتِ، وأخذَها عنه الجَهْمُ بنُ صَفوانَ وأظهَرها؛ فنُسِبَت مقالةُ الجَهْميَّةِ إليه.
وقد قيل: إنَّ الجَعدَ أخذ مقالتَه عن أبانَ بنِ سَمعانَ، وأخذها أبانُ عن طالوتَ ابنِ أُختِ لَبيدِ بنِ الأعصَمِ، وأخذها طالوتُ من لَبيدِ بنِ الأعصَمِ اليهوديِّ السَّاحِرِ الذي سحَر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [12] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/20) و (8/142). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أوَّلُ من أنكَر حقيقةَ محبَّةِ اللهِ لعَبدِه والعبدِ لرَبِّه في الإسلامِ هو الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ) [13] ((الصفدية)) (2/ 263). .
وقال أيضًا: (كان الجَعدُ هذا أوَّلَ من ظهَر عنه التَّعطيلُ بإنكارِ صفاتِ اللهِ تعالى، وبإنكارِ محبَّتِه وتكليمِه) [14] ((الصفدية)) (2/ 263). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ شَيخَ الجَهْمِ بنِ صَفوانَ) [15] ((مجموع الفتاوى)) (8/142). .
وقال الذَّهبيُّ: (عِدادُه في التَّابعينَ، مُبتدِعٌ ضالٌّ، زعم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يُكلِّمْ موسى، فقُتِلَ على ذلك بالعِراقِ يومَ النَّحرِ) [16] ((ميزان الاعتدال)) (1/ 399). ويُنظر أيضًا: ((لسان الميزان)) لابن حجر (2/ 437). .
وقد انتَشَرت بعضُ أقوالِ الجَعْدِ في النَّاسِ؛ لأنَّ الجَعْدَ كان مُعَلِّمَ مَرْوانَ بنِ محمَّدٍ وشيخَه؛ ولهذا كان يُسمَّى مَرْوانَ الجَعْديَّ، وعلى رأسِ مَرْوانَ هذا سَلَب اللهُ بني أميَّةَ المُلْكَ والخِلافةَ، وشتَّتهم في البلادِ ببركةِ شَيخِ المُعطِّلةِ النُّفاةِ، فلمَّا اشتَهَر أمرُه في المُسلِمينَ طلَبه خالِدُ بنُ عَبدِ اللهِ القَسريُّ فذبحَه في أصلِ المنبَرِ، فكان ضَحِيَّةً [17] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/ 1070)، ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 399). .
وممَّا قال خالِدٌ يومَ قَتلِ الجَعدِ: (أيُّها النَّاسُ ارجِعوا فضَحُّوا، تقَبَّل اللهُ منَّا ومنكم؛ فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعدِ بنِ دِرهَمٍ، إنَّه زعم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يُكلِّمْ موسى تكليمًا، وتعالى اللهُ عمَّا يقولُ ‌الجَعدُ ‌بنُ ‌ِدِرهَمٍ عُلُوًّا كبيرًا. ثمَّ نزل فذبحَه) [18] ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 21). .
أقوالُ العُلَماءِ في ذَمِّ الجَعْدِ ومَذهَبِه:
1- قال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: (أوَّلُ من أتى بخَلقِ القُرآنِ جَعْدُ بنُ دِرهَمٍ) [19] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 425). ويُنظر أيضًا: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 147). .
2- قال الزُّهريُّ: (ليس الجَعْديُّ من أمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [20] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 227)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 302) كلاهما لابن تيمية. .
3- قال المدائنيُّ: (كان زِنديقًا) [21] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 433). .
4- قال اللَّالَكائيُّ -مترجِمًا لأخبارٍ ساقها عن الجَعْدِ: (‌‌أخبارُ الجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ لعنه اللهُ) [22] ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 425). .
5- روى عبدُ الصَّمَدِ بنُ مَعقِلٍ أنَّ الجَعْدَ بنَ دِرهَمٍ قَدِم على وَهبِ بنِ مُنبِّهٍ يسألُه عن صفاتِ اللهِ تعالى، فقال: (وَيلَكَ يا جَعْدُ! بَعْضَ المسألةِ! إنِّي لأظنُّك من الهالِكينَ، يا جَعْدُ، لو لم يخبِرِ اللهُ تعالى في كِتابِه أنَّ له عينًا ويدًا ووجهًا لَما قُلْنا ذلك، فاتَّقِ اللهَ). ثمَّ لم يلبَثْ جَعْدٌ أن قُتِلَ وصُلِب [23] يُنظر: ((الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد)) لابن العطار (ص: 194). ويُنظر أيضًا: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 433). .
6- قال عُثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ: (أمَّا الجَعْدُ ‌فأخذه ‌خالِدُ ‌بنُ ‌َعبدِ ‌اللهِ ‌القَسريُّ، فذبحه ذبحًا بواسِطَ، في يومِ الأضحى على رُؤوسِ من شَهِد العيدَ معه من المُسلِمينَ، لا يَعيبُه به عائبٌ، ولا يطعَنُ عليه طاعِنٌ، بل استحسنوا ذلك مِن فِعلِه، وصوَّبوه من رأيِه) [24] ((الرد على الجهمية)) (ص:21). .
7- قال ابنُ تيميَّةَ: (كان أوَّلَ من أظهر إنكارَ التَّكليمِ والمخالَّةِ الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ في أوائلِ المائةِ الثَّانيةِ، وأمر عُلَماءُ الإسلامِ كالحسَنِ البَصريِّ وغَيرِه بقَتلِه) [25] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 26). .
وقال أيضًا: (كان ‌الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ من أهلِ حرَّانَ، وكان فيهم بقايا من الصَّابئينَ والفلاسفةِ خُصومِ إبراهيمَ الخليلِ عليه السَّلامُ؛ فلهذا أنكر تكليمَ موسى وخُلَّةَ إبراهيمَ، مُوافقةً لفِرعَونِ والنُّمرودِ، بناءً على أصلِ هؤلاء النُّفاةِ، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى لا يقومُ به كلامٌ، ولا يقومُ به محبَّةٌ لغيره، فقتله المُسلِمون، ثُمَّ انتشرت مقالتُه فيمن ضلَّ من هذا الوَجهِ) [26] ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 175). .
8- قال ابنُ حَجَرٍ: (‌للجَعْدِ ‌أخبارٌ ‌كثيرةٌ في الزَّندَقةِ. منها: أنَّه جَعَل في قارورةٍ ترابًا وماءً فاستحال دُودًا وهوامَّ فقال: أنا خلَقتُ هذا؛ لأنِّي كنتُ سَبَبَ كونِه! فبلغ ذلك جَعفَرَ بنَ مُحمَّدٍ، فقال: ليقُلْ كم هو؟ وكم الذُّكرانُ منه والإناثُ إن كان خلَقَه؟ وليأمُرِ الذي يسعى إلى هذا الوَجهِ أن يرجِعَ إلى غيرِه، فبلغه ذلك فرَجَع) [27] ((لسان الميزان)) (2/ 437). ويُنظر أيضًا: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 399). .
ثانيًا: الجَهْمُ بنُ صَفوانَ:
هو أبو مُحرِزٍ الجَهْمُ بنُ صَفوانَ التِّرمِذيُّ، من أهلِ بَلخٍ، مولًى لبني راسِبٍ، ظهر في المائةِ الثَّانيةِ من الهِجرةِ، وهو حامِلُ لواءِ الجَهْميَّةِ ورأسُها، وإليه تنتَسِبُ، وقد ظهَرت بِدعتُه بتِرمِذَ [28] يُنظر: ((الأنساب)) للسمعاني (3/ 437)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 66). .
وكان قد خرج مع الحارِثِ بنِ سُرَيجٍ الذي تمرَّد على الدَّولةِ الأُمويَّة، وقتَله سَلْمُ بنُ الأحوَزِ المازنيُّ بمَرْوٍ نحوَ سنةِ 128 هـ [29] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 86)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (4/57). .
وقد كان أوَّلَ من أشهَر بدعةَ القَولِ بخَلقِ القرآنِ وتعطيلِ اللهِ عن صفاتِه. وكان يُنكِرُ الصِّفاتِ، ويُنزِّهُ الباريَ عنها بزَعمِه، ويقولُ: الإيمانُ عَقدٌ بالقلبِ، وإن تلفَّظ بالكُفرِ، ويزعم أنَّ اللهَ ليس على العَرشِ بل في كُلِّ مكانٍ، وقد قيل: إنَّه كان يُبطِنُ الزَّندقةَ، واللهُ أعلَمُ بذلك [30] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 27)، ((تاريخ الإسلام)) (8/ 66) كلاهما للذهبي. .
وأخَذ مقالاتِ شيخِه الجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ فأظهَرها، واحتجَّ لها بالشُّبُهاتِ العقليَّةِ [31] يُنظر: ((العرش)) للذهبي (2/ 220). ، فقد كان كثيرَ الِجدالِ والخُصوماتِ والمُناظَراتِ، ولم يكُنْ له بصرٌ بعلمِ الحديثِ، ولم يكنْ من المهتمِّينَ به، ولم يُعَدَّ من أهلِ العِلمِ قطُّ؛ إذ شغله علمُ الكلامِ عن ذلك، وقد نبَذ عُلَماءُ السَّلَفِ أفكارَه، وشنَّعوا عليه، ومَقَتوه أشَدَّ المَقْتِ [32] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 26)، ((ديوان الضعفاء)) (ص: 67) كلاهما للذهبي. ويُنظر أيضًا: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 32). .
قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (الجَهْمُ وشيعتُه دَعَوا النَّاسَ إلى المُتشابهِ من القُرآنِ والحديثِ، فضلُّوا وأضلُّوا بكلامِهم بَشَرًا كثيرًا، فكان ممَّا بلغَنا من أمرِ الجَهْمِ عَدُوِّ اللهِ أنَّه كان من أهلِ خُراسانَ؛ من أهلِ تِرمِذَ، وكان صاحِبَ خُصوماتٍ وكلامٍ، وكان أكثَرُ كلامِه في اللهِ تعالى، فلقِيَ أُناسًا من المُشرِكين يقالُ لهم: السُّمَنِيَّةُ، فعرفوا الجَهْمَ، فقالوا له: نُكلِّمُك، فإن ظهَرَت حُجَّتُنا عليك دخَلْتَ في دينِنا، وإن ظهَرت حُجَّتُك علينا دخَلْنا في دينِك، فكان ممَّا كلَّموا به الجَهْمَ أن قالوا له: ألسْتَ تزعُمُ أنَّ لك إلَهًا؟ قال الجَهْمُ: نعم. فقالوا له: فهل رأيتَ إلهَك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمِعتَ كلامَه؟ قال: لا. قالوا: فشَمِمْتَ له رائحةً؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْتَ له حِسًّا؟ قال: لا. قالوا: فوجَدْت له مجَسًّا؟ قال: لا. قالوا: فما يُدريك أنَّه إلهٌ؟ قال: فتحيَّرَ الجَهْمُ، فلم يَدرِ مَن يعبُدُ أربعينَ يومًا!) [33] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 92- 95). .
فبَقِيَ أربعين يومًا لا يَعبُدُ شيئًا! ثُمَّ لَمَّا خلا قلبُه من معبودٍ يألهُه، نقَش الشَّيطانُ اعتقادًا نَحَتَه فِكرُه، فقال: إنَّه الوجودُ المُطلَقُ! ونفى جميعَ الصِّفاتِ، واتَّصل بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ [34] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 795). والمرادُ كما يوضِّحه ما سبق من المقولاتِ: أنَّه لمَّا تأثَّر بمناظرة السُّمَنيَّة أثبت بعدها لله تعالى وجودًا ذهنيًّا، ونفى عنه جميعَ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ تأثرًا بمقالتهم الضَّالَّةِ، ثمَّ اتصل بالجعدِ فطوَّر مقالاتِه، وحشد لها الاستدلالاتِ العقليَّةَ. .
من أبرَزِ مُعتَقَداتِ جَهْمٍ:
1- أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ فقط، والكُفرَ هو الجَهلُ به فقط [35] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 115). .
2- أنَّه لا فِعلَ لأحدٍ في الحقيقةِ إلَّا اللهِ وَحدَه، وأنَّ النَّاسَ إنَّما تُنسَبُ إليهم أفعالهم على المجازِ، كما يقال: تحرَّكت الشَّجرةُ، ودارَ الفُلْكُ، وزالت الشَّمسُ، وإنَّما فَعَل ذلك بالشَّجَرةِ والفَلَكِ والشَّمسِ اللهُ سُبحانَه، إلَّا أنَّه خَلَق للإنسانِ قوَّةً كان بها الفِعلُ، وخَلَق له إرادةً للفِعلِ واختيارًا له.
3- يُحكى عنه أنَّه كان يقولُ: لا أقولُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه شيءٌ؛ لأنَّ ذلك تشبيهٌ له بالأشياءِ [36] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 220)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/ 585). .
4- يُحكى عنه أنَّه كان يقولُ: إنَّ عِلمَ اللهِ سُبحانَه مُحدَثٌ [37] يُنظر: ((إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)) لابن جماعة (ص: 34). .
5- كان يقولُ بخَلقِ القُرآنِ، وأنَّه لا يقالُ: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ عالمًا بالأشياءِ قَبلَ أن تكونَ [38] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 219)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 796). .
6- القَولُ بتحريفِ القُرآنِ الكريمِ: قال ابنُ صالحٍ: لَقيتُ جَهْمًا فقُلتُ: نطَق اللهُ؟ قال: لا، قُلتُ: فهو ينطِقُ؟ قال: لا، قُلتُ: فمَن يقولُ يومَ القيامةِ: لِمَن المُلكُ اليومَ؟ ومن يَرُدُّ عليه: للهِ الواحِدِ القَهَّارِ؟ قُلتُ: إنَّهم ‌زادوا ‌في ‌القُرآنِ ‌ونقَصوا ‌منه [39] يُنظر: ((التسعينية)) لابن تيمية (1/ 241). .
7- القَولُ بأنَّ الجنَّةَ والنَّارَ تَبيدانِ وتَفنَيانِ. وكان يقولُ: إنَّ لمقدوراتِ اللهِ تعالى ومعلوماتِه غايةً ونهايةً، ولأفعالِه آخِرٌ، وإنَّ الجنَّةَ والنَّارَ تفنَيانِ، ويفنى أهلُهما حتى يكونَ اللهُ سُبحانَه آخرًا لا شيءَ معه، كما كان أوَّلًا لا شيءَ معه [40] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 135). .
قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ في ثنايا ردِّه على الجَهْمِ: (ووجَد ثلاثَ آياتٍ من المُتشابِهِ:
قَولَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام: 3] ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] .
فبنى أصلَ كلامِه على هذه الآياتِ، وتأوَّل القرآنَ على غيرِ تأويلِه، وكذَّب بأحاديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وزعَم أنَّ مَن وصَف اللهَ بشيءٍ ممَّا وصَف به نفسَه في كِتابِه أو حدَّث عنه رسولُه، كان كافِرًا، وكان من المُشبِّهةِ، فأضلَّ بكلامِه بشرًا كثيرًا، وتَبِعَه على قَولِه رجالٌ من أصحابِ أبي حنيفةَ، وأصحابِ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ بالبصرةِ، ووضَع دينَ الجَهْميَّةِ، فإذا سألهم النَّاسُ عن قَولِ اللهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقولونَ: ليس كمِثلِه شيءٌ من الأشياءِ، وهو تحتَ الأرَضينَ السَّبعِ، كما هو على العَرشِ، ولا يخلو منه مكانٌ، ولا يكونُ في مكانٍ دونَ مكانٍ، ولم يتكلَّمْ، ولا يتكلَّمُ، ولا ينظُرُ إليه أحدٌ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، ولا يُوصَفُ ولا يُعرَفُ بصفةٍ، ولا يفعَلُ ولا له غايةٌ، ولا له مُنتهًى، ولا يُدرَكُ بعقلٍ، وهو وَجهٌ كُلُّه، وهو عِلمٌ كُلُّه، وهو سمعٌ كُلُّه، وهو بصَرٌ كُلُّه، وهو نورٌ كُلُّه، وهو قُدرةٌ كُلُّه، ولا يكونُ فيه شيئانِ، ولا يُوصَفُ بوصفينِ مختلفَينِ، وليس له أعلى ولا أسفَلُ، ولا نواحٍ ولا جوانِبُ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا هو خفيفٌ ولا ثقيلٌ، ولا له لونٌ، ولا له جِسمٌ، وليس هو بمعلومٍ ولا معقولٍ، وكُلُّ ما خطر على قَلبِك أنَّه شيءٌ تعرِفُه فهو على خِلافِه!) [41] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 95-99). .
أقوالُ العُلَماءِ في الجَهْمِ:
1- ذُكِر الجَهْمُ عِندَ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ، فقال: (عَجِبتُ لشيطانٍ أتى إلى النَّاسِ داعيًا إلى النَّارِ، واشتَقَّ اسمَه عن جَهنَّمَ!) [42] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 425). .
2- قال أبو مُعاذٍ البَلْخيُّ: (كان جَهْمٌ على مَعبَرِ تِرمِذَ، وكان رجُلًا كوفَّي الأصلِ، فصيحَ اللِّسانِ، لم يكُنْ له علمٌ، ولا مجالَسةٌ لأهلِ العلمِ، كان تكلَّم كلامَ المُتكلِّمينَ، وكلَّمه السُّمَنيَّةُ فقالوا له: صِفْ لنا ربَّك الذي تعبُدُه، فدخل البيتَ لا يخرُجُ كذا وكذا، قال: ثُمَّ خرج عليهم بَعدَ أيَّامٍ، فقال: هو هذا الهواءُ مع كُلِّ شيءٍ، وفي كُلِّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ، قال أبو مُعاذٍ: كَذَب عَدُوُّ اللهِ، إنَّ اللهَ في السَّماءِ على عَرشِه، وكما وصَفَ نَفْسَه) [43] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 423). .
3- قال يزيدُ بنُ هارونَ: (لعَنَ اللهُ الجَهْمَ ومَن قال بقَولِه، كان كافرًا جاحدًا، ترك الصَّلاةَ أربعينَ يومًا، يزعُمُ أنَّه يرتادُ دينًا، وذلك أنَّه شَكَّ في الإسلامِ).
قال يزيدُ: (قتَلَه ‌سَلمُ ‌بنُ ‌أحوَزَ على هذا القولِ) [44] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 167). .
4- قال ابنُ تيميَّةَ: (قال الإمامُ أحمدُ: وكان يقالُ: إنَّه من أهلِ حرَّانَ، وعنه أخَذ الجَهْمُ بنُ صَفوانَ مَذهَبَ نُفاةِ الصِّفاتِ، وكان ‌بحرَّانَ ‌أئمَّةُ ‌هؤلاءِ ‌الصَّابئةِ الفلاسِفةِ، بقايا أهلِ هذا الدِّينِ، أهلِ الشِّركِ ونَفيِ الصِّفاتِ والأفعالِ، ولهم مُصَنَّفاتٌ في دعوةِ الكواكِبِ) [45] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 313). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أوَّلُ من عُرِف في الإسلامِ أنَّه ‌أنكَر ‌أنَّ اللهَ ‌يحِبُّ أو يُحَبُّ: الجَهْمُ بنُ صَفوانَ، وشيخُه الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ، وكذلك هو أوَّلُ من عُرِف أنَّه أنكر حقيقةَ تكليمِ اللهِ لموسى وغيرِه، وكان جَهْمٌ ينفي الصِّفاتِ والأسماءَ، ثُمَّ انتقَل بعضُ ذلك إلى المُعتَزِلةِ وغيرِهم، فنفَوا الصِّفاتِ دونَ الأسماءِ، وليس هذا قَولَ أحدٍ مِن سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها) [46] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 392). .
5- قال ابنُ أبي العِزِّ: (قال بفَناءِ الجنَّةِ والنَّارِ ‌الجَهْمُ ‌بنُ ‌صَفوانَ إمامُ المُعطِّلةِ، وليس له سلَفٌ قطُّ، لا من الصَّحابةِ ولا من التَّابعينَ لهم بإحسانٍ، ولا من أئمَّةِ المُسلِمينَ، ولا من أهلِ السُّنَّةِ. وأنكره عليه عامَّةُ أهلِ السُّنَّةِ، وكفَّروه به، وصاحوا به وبأتباعِه من أقطارِ الأرضِ. وهذا قاله لأصلِه الفاسِدِ الذي اعتقَده، وهو امتناعُ وُجودِ ما لا يتناهى من الحوادثِ! وهو عُمدةُ أهلِ الكلامِ المذمومِ، التي استدلُّوا بها على حُدوثِ الأجسامِ، وحُدوثِ ما لم يخْلُ من الحوادِثِ، وجعلوا ذلك عُمدتَهم في حُدوثِ العالمِ) [47] ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 621). .
ثالثًا: بِشرٌ المِرِّيسيُّ
هو بِشرُ بنُ غِياثِ بنِ أبي كريمةَ العَدَويُّ، مولاهم، البغداديُّ، المِرِّيسيُّ [48] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/199). . كان والِدُ بِشرٍ يهوديًّا، وصنَّف بِشرٌ كِتابًا في التَّوحيدِ، وكِتابَ (الإرجاء)، وكِتابَ (الرَّدُّ على الخوارجِ)، وكِتاب (الاستطاعة)، و(الرَّدُّ على الرَّافضةِ في الإمامةِ)، وكِتاب (كُفرُ المُشَبِّهة)، وكِتاب (المعرفة)، وكِتابُ (الوعيد) [49] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/201). .
نظَر في الفقهِ أوَّلَ أمرِه فأخذ عن القاضي أبي يوسُفَ، وروى عن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ، وسُفيانَ بنِ عُيَينةَ. ثُمَّ نظر في عِلمِ الكلامِ، فغلب عليه، ودعا إلى القولِ بخلقِ القرآنِ، حتى كان عينَ الجَهْميَّةِ في عصرِه وعالِمَهم، فمقَتَه أهلُ العلمِ، وكفَّره عِدَّةٌ منهم، ولم يُدرِكْ جَهْمَ بنَ صَفوانَ، بل تلقَّف مقالاتِه من أتباعِه [50] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 200). ويُنظر أيضًا: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 192). . ومات بِشرٌ سنةَ 218هـ.
وقد وقَف العُلَماءُ منه موقفًا شديدًا، ونُقِل عن كثيرٍ تكفيرُه، ومنهم: سفيانُ بنُ عُيَينةَ، وعبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ، وعبَّادُ بنُ العوَّامِ، وعليُّ بنُ عاصمٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ مَهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النَّضرِ هاشِمُ بنُ القاسِمِ، وشبابةُ بنُ سوارٍ، والأسودُ بنُ عامرٍ، ويزيدُ بنُ هارونَ، وبِشرُ بنُ الوليدِ، ويوسُفُ بنُ الطَّبَّاعِ، وسُليمانُ بنُ حسَّانَ الشَّاميُّ، ومُحمَّدٌ ويَعلَى ابنا عُبَيدٍ الطَّنافسيَّانِ، وعبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ، وأبو قتادةَ الحرَّانيُّ، وعبدُ الملِكِ بنُ عبدِ العزيزِ الماجِشونُ، ومُحمَّدُ بنُ يوسُفَ الفِريابيُّ، وأبو نُعَيمٍ الفضلُ بنُ دُكَينٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مَسلَمةَ القَعْنبيُّ، وبِشرُ بنُ الحارثِ، ومُحمَّدُ بنُ مُصعَبٍ الزَّاهِدُ، وأبو البَختريِّ وَهبُ بنُ وَهبٍ السَّوائيُّ المدنيُّ قاضي بغدادَ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ، وعليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ السَّلامِ بنُ صالحٍ الهَرَويُّ، والحَسَنُ بنُ عليٍّ الحلوانيُّ [51] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 426). .
وسبَبُ هذا الموقِفِ الشديدِ تجاهَه أنَّ الأصولَ والمناهِجَ التي سلكها المِرِّيسيُّ أصولٌ ومناهِجُ كُفريَّةٌ تقومُ على التلبيسِ والخِداعِ اللَّفظيِّ، وذلك أنَّه قد توسَّع في بابِ التأويلاتِ وصَرفِ النُّصوصِ، وخاض فيها أكثَرَ ممَّن سبقه من الجَهْميَّةِ، فآراؤه ومقالاتُه تمثِّلُ المرحلةَ الثَّالثةَ من مراحلِ الجَهْميَّةِ وأطوارِها بَعدَ الجَعْدِ والجَهْمِ؛ لأنَّ المِرِّيسيَّ نهَج نهجًا أكثَرَ تلبيسًا وتمويهًا وخُبثًا من أسلافِه، حيث كان منهَجُ الجَعْدِ والجَهْمِ يصادِمُ النُّصوصَ بعُنفٍ، أمَّا المِرِّيسيُّ فقد سلك مسلَكَ التأويلِ، وعَرَض مَذهَبَ الجَهْميَّةِ بأسلوبٍ ماكرٍ، ولديه شيءٌ من العِلمِ والفقهِ، يُلبِّسُ به على النَّاسِ. ومن وُجوهِ خُطورةِ فِكرِه أنَّ توسُّعَه في بابِ التأويلاتِ صار نهجًا لكثيرٍ من المُتكلِّمين بَعدَه، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والشَّهْرَستانيِّ، والجُوَينيِّ، والرَّازيِّ، والماتُريديِّ، وأتباعِهم من متأخِّري الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ؛ ولذلك أطلق مُتأخِّرو السَّلَفِ على هؤلاء (الجَهْميَّةَ)؛ لأنَّهم سلكوا مَسلَكَ المِرِّيسيِّ الجَهْميِّ في تأويلِ الصِّفاتِ [52] يُنظر: ((الجهمية والمعتزلة نشأتها وأصولها ومناهجها)) لناصر العقل (ص: 42- 45). .
وعن تأثُّرِ المُتكلِّمين بتأويلاتِ المِرِّيسيِّ قال ابنُ تيميَّةَ: (عَينُ تأويلاتِهم هي عينُ ‌تأويلاتِ ‌المِرِّيسيِّ، ويدُلُّ على ذلك كِتابُ «الرَّدُّ» الذي صنَّفه عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ، أحدُ الأئمَّةِ المشاهيرِ في زمانِ البُخاريِّ، صنَّف كِتابًا سمَّاه: «ردُّ عثمانَ بنِ سعيد على الكاذِبِ العنيد فيما افتراه على اللهِ في التوحيد»، حكى فيه هذه التأويلاتِ بأعيانِها عن بِشرٍ المِرِّيسيِّ بكلامٍ يقتضي أنَّ المِرِّيسيَّ أقعَدُ بها، وأعلَمُ بالمنقولِ والمعقولِ من هؤلاء المُتأخِّرينَ، الذين اتَّصلت إليهم من جهتِه، ثُمَّ ردَّ عثمانُ بنُ سعيدٍ بكلامٍ إذا طالعه العاقِلُ الذَّكيُّ عَلِم حقيقةَ ما كان عليه السَّلَفُ، وتبيَّن له ظهوُر الحُجَّةِ في طريقِهم، وضَعفُ حُجَّةِ من خالفَهم. ثُمَّ إذا رأى الأئمَّةَ -أئمَّةَ الهدى- قد أجمعوا على ذمِّ المِرِّيسيَّةِ، وأكثَرُهم كفَّروهم أو ضلَّلوهم، وعَلِم أنَّ هذا القولَ السَّاريَ في هؤلاء المُتأخِّرينَ هو مَذهَبُ المِرِّيسيَّةِ، تبَيَّن الهدى لِمن يريدُ اللهُ هدايتَه) [53] ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 250- 252). .
مُلَخَّصُ عقيدةِ المِرِّيسيِّ وأتباعِه:
1- الزَّعمُ بأنَّ الإيمانَ هو التصديقُ؛ لأنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ هو التصديقُ، وما ليس بتصديقٍ فليس بإيمانٍ [54] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 120)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 548)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/ 356) كلاهما لابن تيمية. .
2- القَولُ بأنَّ التصديقَ يكونُ بالقَلبِ وباللِّسانِ جميعًا [55] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 120)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 548)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/ 356) كلاهما لابن تيمية. .
3- القَولُ بخَلقِ القُرآنِ [56] يُنظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 156)، ((الشريعة)) للآجري (1/ 549). .
4- القَولُ بنفيِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ [57] يُنظر : ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 111). .
5- الزَّعمُ بأنَّ السُّجودَ للشَّمسِ ليس بكُفرٍ، ولكنَّه عَلَمٌ على الكُفرِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بيَّن لنا أنَّه لا يسجُدُ للشَّمسِ إلَّا كافرٌ [58] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 120)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 548)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (5/ 356) كلاهما لابن تيمية. .
أقوالُ العُلَماءِ في بِشرٍ المِرِّيسيِّ:
1- عن أبي مُسلِمٍ صالحِ بنِ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ العِجليِّ عن أبيه قال: (رأيتُ بِشرًا المِرِّيسيَّ -عليه لعنةُ اللهِ- مرَّةً واحدةً شيخًا قصيرًا دميمَ المنظَرِ، وَسِخَ الثِّيابِ، وافِرَ الشَّعرِ، أشبَهَ شيءٍ باليهودِ، وكان أبوه يهوديًّا صَّباغًا بالكوفةِ في سُوقِ المراضِعِ)، ثُمَّ قال: (لا يرحمُه اللهُ؛ لقد كان فاسِقًا) [59] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (7/ 61). .
2- عن الحَسَنِ بنِ عليٍّ قال: سمِعتُ يزيدَ بنِ هارونَ، يقولُ: (بِشرٌ المِرِّيسيُّ كافِرٌ باللهِ) [60] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد)) رواية أبي داود السجستاني (ص: 361). .
3- عن زُهَيرِ بنِ نُعَيمٍ، قال: سُئِل حمَّادُ بنُ زيدٍ وأنا معه، في سُوقِ البَصرةِ عن ‌بِشرٍ ‌المِرِّيسيِّ، فقال: (ذاك كافِرٌ) [61] يُنظر: ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 205). .
4- عن الرَّبيعِ بنِ سُلَيمانَ، قال: سمِعتُ الشَّافعيَّ يقولُ: (دخَلتُ بغدادَ، فنزَلْتُ على ‌ِبِشرٍ ‌المِرِّيسيِّ، فأنزَلني في غُرفةٍ له، فقالت لي أمُّه: لمَ جئتَ إلى هذا؟ قلتُ: أسمعُ منه العِلمَ، فقالت: هذا ‌ِزنديقٌ!) [62] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (7/ 531). .
5- عن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ: أنَّه سمِعَ ابنَ مَهديٍّ أيَّامَ صُنِعَ ببِشرٍ ما صُنِعَ يقولُ: (مَن زعَم أنَّ اللهَ لم يُكلِّمْ موسى، يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا ضُرِبَت عُنُقُه) [63] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 201). .
قال المَرُّوذيُّ: سمِعتُ أبا عبدِ اللهِ وذكَرَ المِرِّيسيَّ، فقال: (كان أبوه يهوديًّا، أيَّ شيءٍ تراه يكونُ؟!) قال أبو عبدِ اللهِ: (ما كان صاحِبَ حُجَجٍ، بل صاحِبَ خُطَبٍ).
وقال أبو بكرٍ الأثرَمُ: سُئِل أحمدُ عن الصَّلاةِ خَلْفَ بِشرٍ المِرِّيسيِّ، فقال: (لا تُصَلِّ خَلْفَه).
وقال قُتَيبةُ: بِشرٌ المِرِّيسيُّ كافِرٌ [64] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/201). .
رابعًا: أحمدُ بنُ أبي دُؤادَ
هو أحمدُ ‌بنُ ‌أبي ‌دُؤادَ بنِ جَريرٍ الإياديُّ، القاضي البَصريُّ، ثُمَّ البغداديُّ، الجَهْميُّ، وليَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ والواثِقِ وبَعضِ أيَّامِ المتوكِّلِ [65] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (5/233)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (71/ 108)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 169)، ((أخبار القضاة)) لوكيع (3/ 294). . وُلِد سنةَ ستينَ ومائةٍ بالبصرةِ، وتوفِّيَ سنةَ أربعينَ ومائتينِ، ودُفِن بدارِه ببغدادَ. وكان شاعرًا مُجيدًا، فصيحًا بليغًا، إلَّا أنَّه كان داعيةً إلى خَلقِ القُرآنِ. وقد كان يومَ المحنةِ مُؤَلِّبًا على أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، وسببًا في شِدَّةِ تعذيبِه، وكان يقولُ: (يا أميرَ المؤمِنينَ، اقتُلْه، هو ضالٌّ مُضِلٌّ!) [66] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 169-171). .
قال ابنُ عساكِرَ: (وليَ ابنُ أبي دُؤادَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ ثُمَّ للواثِقِ، وكان موصوفًا بالجودِ والسَّخاءِ، وحُسنِ الخُلُقِ ووُفورِ الأدَبِ، غيرَ أنَّه أعلَن بمَذهَبِ الجَهْميَّةِ، وحَمَل السُّلطانَ على امتحانِ النَّاسِ بخَلقِ القُرآنِ) [67] ((تاريخ دمشق)) (71/ 108). وُينظر أيضًا: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 363). .
وحكى عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ دورَ ابنِ أبي دُؤادَ في إشعالِ فِتنةِ خَلقِ القُرآنِ، فقال: (أكرَهوا النَّاسَ عليه بالسُّيوفِ والسِّياطِ، فلم تَزَلِ الجَهْميَّةُ سنواتٍ يركَبونَ فيها أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ بقُوَّةِ ابنِ أبي دُؤادَ المحادِّ للهِ ولرَسولِه، حتى استُخلِف المتوكِّلُ -رحمةُ اللهِ عليه- فطمَس اللهُ به آثارَهم، وقَمَع به أنصارَهم، حتى استقام أكثَرُ النَّاسِ على السُّنَّةِ الأُولى، والمنهاجِ الأوَّلِ) [68] ((نقض الدارمي على المريسي)) (1/ 534). .
وقد ذكَر بعضُ أهلِ التراجِمِ مُناظَرةً حصَلَت بين ابنِ أبي دُؤادَ وأحَدِ الشُّيوخِ، فقد ذكَروا أنَّ مُحمَّدَ بنَ الواثِقِ الذي يقالُ له المهتدي باللهِ، قال: كان أبي إذا أراد أن يقتُلَ رجُلًا أحضَرَنا ذلك المجلِسَ، فأُتيَ بشيخٍ مخضوبٍ مُقيَّدٍ، فقال أبي: ائذَنوا لأبي عبدِ اللهِ وأصحابِه -يعني ابنَ أبي دُؤادَ- قال: فأُدخِلَ الشَّيخُ والواثِقُ في مُصَلَّاه. قال: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمِنينَ، فقال له: لا سلَّم اللهُ عليك.
فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، بِئسَ ما أدَّبك مُؤدِّبُك! قال اللهُ تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86] واللهِ ما حيَّيتَني بها، ولا أحسَنَ منها! فقال ابنُ أبي دُؤادَ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، الرَّجُلُ مُتكلِّمٌ، فقال له: كلِّمْه. فقال: يا شيخُ، ما تقولُ في القرآنِ؟ قال الشَّيخُ: لم تُنصِفْني -يعني وليَ السُّؤالُ- فقال له: سَلْ، فقال له الشَّيخُ: ما تقولُ في القرآنِ؟ فقال: مخلوقٌ، فقال: هذا شيءٌ عَلِمَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعُثمانُ، وعَلِيٌّ، والخلفاءُ الرَّاشِدونَ أم شيءٌ لم يَعلَموه؟ فقال: شيءٌ لم يعلَموه. فقال: سُبحانَ اللهِ! شيءٌ لم يعلَمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا أبو بكرٍ، ولا عُمَرُ، ولا عُثمانُ، ولا عليٌّ، ولا الخُلَفاءُ الرَّاشدونَ، عَلِمْتَه أنت؟!. قال: فخَجِل، وقال: أقِلْني: قال: والمسألةُ بحالها؟ قال: نعم، قال: ما تقولُ في القُرآنِ؟ فقال: مخلوقٌ، فقال: هذا شيءٌ عَلِمَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعُثمانُ، وعَلِيٌّ، والخلفاءُ الرَّاشِدونَ أم لم يَعلَموه؟ فقال: عَلِموه ولم يَدْعوا النَّاسَ إليه، قال: أفلا وَسِعَك ما وَسِعَهم؟! قال: ثُمَّ قام أبي فدخَل مجلِسَ الخَلوةِ واستلقى على قفاه، ووضَع إحدى رِجلَيه على الأُخرى وهو يقولُ: هذا شيءٌ لم يعلَمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا أبو بكرٍ، ولا عُمَرُ، ولا عثمانُ، ولا عليٌّ، ولا الخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ، عَلِمتَه أنت! سُبحانَ اللهِ! شيءٌ عَلِمه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ، وعُمَرُ، وعُثمانُ، وعَليٌّ، والخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ ولم يَدْعوا النَّاسَ إليه؟ أفلا وَسِعَك ما وَسِعَهم؟ ثُمَّ دعا عمَّارًا الحاجِبَ، فأمر أن يرفَعَ عنه القُيودَ ويُعطيه أربَعَمئةِ دينارٍ، ويأذَنَ له في الرُّجوعِ، وسقط من عينِه ابنُ أبي دُؤادَ ولم يمتَحِنْ بَعدَ ذلك أحدًا) [69] يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (71/ 123)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 367- 368). .
وقال إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ هانئٍ: (حضَرتُ العيدَ مع أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ، فإذا بقاصٍّ يقولُ: على ابنِ أبي دؤادَ اللَّعنةُ، وحشا اللهُ قَبْرَه نارًا). وعاده عبدُ العزيزِ الكنانيُّ وقال: (لم آتِك عائدًا، بل لأحمَدَ اللهَ على أن سَجَنك في جِلْدِك!).
وقال المُغيرةُ بنُ مُحمَّدٍ المُهَلَّبيُّ: (مات هو وولدُه مُحمَّدٌ منكوبَينِ، الوَلَدُ أولًا، ثُمَّ مات الأبُ في المحرَّمِ، سنةَ أربعينَ ومائتينِ، ودُفِن بدارِه ببغدادَ) [70] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 170). .
أقوالُ العُلَماءِ في ابنِ أبي دُؤادَ:
1- قال عبدُ العزيزِ بنُ يحيى المكِّيُّ: (دخَلتُ على أحمَدَ بنِ أبي دُؤادَ وهو مفلوجٌ، فقُلتُ: إنِّي لم آتِكَ عائدًا، ولكِنْ جئتُ لأحمدَ اللهَ على أنَّه ‌سجَنَك ‌في ‌ِجِلْدِك!) [71] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (5/ 233). .
2- قال الحَسَنُ بنُ ثوابٍ: سألتُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ عمَّن يقولُ: القرآنُ مخلوقٌ؟ قال: كافِرٌ، قُلتُ: فابنُ أبي دُؤادَ؟ قال: كافِرٌ باللهِ العظيمِ، قُلتُ: بماذا كَفَر؟ قال: بكِتابِ اللهِ تعالى؛ قال اللهُ تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 120] الآية، فالقُرآنُ مِن عِلمِ اللهِ، فمَن زَعَم أنَّ عِلمَ اللهِ مخلوقٌ فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ) [72] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) للبغدادي (5/ 233). .
وقال حَنبَلٌ: حجَجْتُ في سنةِ إحدى وعشرينَ، فرأيتُ في المسجِدِ الحرامِ كِسوةَ البيتِ من الدِّيباجِ وهي تخاطُ في صَحنِ المسجِدِ، وقد كُتِب في الدَّاراتِ: ليس كمِثلِه شَيءٌ وهو اللَّطيفُ الخبيرُ! فلمَّا قَدِمتُ سألني أبو عبدِ اللهِ يقصِدُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ عن بعضِ الأخبارِ، فأخبَرتُه بذلك، فقال أبو عبدِ اللهِ: (قاتَلَه اللهُ! الخبيثُ ‌َعَمَد ‌إلى ‌كِتابِ ‌اللهِ ‌فغَيَّره!) يعني ابنَ أبي دُؤادَ، يعني: أزال السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [73] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 144). ونصُّ الآية: فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة الشورى، آية 11]. .
3- قال الدَّارَقُطنيُّ: (هو الذي يَمتحِنُ العُلَماءَ في أيَّامِه، ويدعوهم إلى خَلقِ القرآنِ) [74] ((المؤتلف والمختلف)) (2/ 965). .
4- قال الذَّهبيُّ: (أحمدُ بنُ ‌أبي ‌دُؤادَ القاضي، جَهْميٌّ بغيضٌ، هلَك سنةَ أربعينَ ومائتينِ. قلَّ ما روى) [75] ((ميزان الاعتدال)) (1/ 97). .
وقال أيضًا: (أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ هو أحمدُ السُّنَّةِ، وأحمدُ بنُ أبي دؤادَ أحمَدُ البِدعةِ) [76] ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 202). .
5- قال ابنُ كثيرٍ: (أحمدُ ابنُ أبي دُؤادَ القاضي لم يحتَفِلْ أحدٌ بموتِه، ولا شيَّعه أحدٌ من النَّاسِ، إلَّا القليلُ) [77] ((البداية والنهاية)) (14/ 426). .
6- قال بكر أبو زيد: (كان له مجدٌ في الثَّراءِ والقَضاءِ، والحُظوةُ لدى الخُلَفاءِ، لكنْ أبغضَتْه العامَّةُ؛ لفسادِ مُعتَقَدِه، وإيقادِه الفِتَنَ. قام هذا السَّبَأيُّ الماكِرُ بالنَّوبةِ عن الجَهْميَّةِ والمُعتَزِلةِ بدعوى خَلقِ القرآنِ، متستِّرًا بثلاثةٍ من خُلَفاءِ بني العبَّاسِ على التَّعاقُبِ: المأمونِ، فالمعتَصِمِ، فالواثِقِ) [78] ((المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد)) (1/ 390). .
خامسًا: الخليفةُ المأمونُ
هو أبو جَعفَرٍ المأمونُ عبدُ اللهِ بنُ هارونَ الرَّشيدِ. ناصِرُ مَذهَبِ الجَهْميَّةِ، وحامِلُ النَّاسِ على القَولِ بخَلقِ القرآنِ، ولم تكُنِ ‌الجَهْميَّةُ يَظهَرونَ في دولةِ المهديِّ والرَّشيدِ والأمينِ، فلمَّا وَليَ ‌المأمونُ كان منهم، وأظهر المقالةَ [79] يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (33/ 275)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 236). .
قال ابنُ تيميَّةَ عن دَورِ المأمونِ في نَشرِ مُعتَقَدِ الجَهْميَّةِ: (قَوِيَ أمرُهم لمَّا مات الرَّشيدُ، وتولى ابنُه المُلقَّبُ بالمأمونِ بالمَشرِقِ، وتلقَّى عن هؤلاء ما تلقَّاه. ثُمَّ لمَّا وليَ الخلافةَ اجتمع بكثيرٍ من هؤلاء، ودعا إلى قَولِهم في آخِرِ عُمُرِه) [80] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 183). .
وقد وُلِد المأمونُ سنةَ سبعينَ ومائةٍ، وقرأ العِلمَ والأدَبَ، والأخبارَ والعقليَّاتِ وعُلومَ الأوائِلِ، وأمَر بتعريبِ كُتُبِهم، ودعا إلى القَولِ بخلقِ القُرآنِ وبالَغَ.
وقد سمِعَ من: هُشَيمٍ، وعُبَيدِ بنِ العوَّامِ، ويوسُفَ بنِ عطيَّةَ، وأبي معاويةَ، وطائفةٍ.
وروى عنه: وَلَدُه الفَضلُ، ويحيى بنُ أكثَمَ، وجَعفَرُ بنُ أبي عثمانَ الطَّيالِسيُّ، وعبدُ اللهِ بنُ طاهرٍ الأميرُ، ودِعبِلٌ الشَّاعِرُ، وأحمدُ بنُ الحارثِ الشِّيعيُّ [81] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 272). .
أقوالُ العُلَماءِ في المأمونِ:
1- قال الذَّهَبيُّ: (قد كان ‌المأمونُ بأسًا وبلاءً على الإسلامِ) [82] ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 234). .
وقال أيضًا: (إنَّ المأمونَ نظَر في الكلامِ، وناظر، وبقِيَ متوقِّفًا في الدُّعاءِ إلى بدعتِه. قال أبو الفَرَجِ بنُ الجوزيِّ: خالطَه قومٌ من المُعتَزِلةِ، فحسَّنوا له القَولَ بخَلقِ القُرآنِ، وكان يتردَّدُ ويراقِبُ بقايا الشُّيوخِ، ثُمَّ قَوِيَ عزمُه، وامتحَن النَّاسَ) [83] ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 237). .
وقال الذَّهَبيُّ أيضًا: (وأمَّا مسألةُ خَلقِ القُرآنِ فلم يرجِعْ عنها، وصَمَّم عليها في سنةِ ثمانِ عشرةَ، وامتحن العُلَماءَ، فعُوجِلَ ولم يُمهَلْ) [84] ((تاريخ الإسلام)) (15/ 239). .
2- قال ابنُ القيِّمِ: (جاء أوَّلُ المائةِ الثَّالثةِ، ووَلِيَ على النَّاسِ عبدُ اللهِ المأمونُ، وكان يحِبُّ أنواعَ العلومِ، ‌وكان ‌مجلِسُه ‌عامرًا ‌بأنواعِ ‌المُتكلِّمينَ في العُلومِ، فغَلَب عليه حبُّ المعقولاتِ، فأمر بتعريبِ كُتُبِ يونانَ، وأقدَم لها المترجِمينَ من البلادِ، فعُرِّبت له، واشتَغَل بها النَّاسُ. والمَلِكُ سُوقٌ ما سُوِّقَ فيه جُلِبَ إليه. فغَلَب على مجلِسِه جماعةٌ من الجَهْميَّةِ ممَّن كان أبوه الرَّشيدُ قد أقصاهم وتَبِعَهم بالحَبسِ والقَتلِ، فحَشَوا بِدعةَ التجهُّمِ في أذُنِه وقَلبِه، فقَبِلَها واستحسَنَها، ودعا النَّاسَ إليها، وعاقَبَهم عليها) [85] ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1072). .

انظر أيضا: