موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: نشأةُ مذهبِ الجَهْميَّةِ


نشأت الجَهْميَّةُ على عِدَّةِ مراحِلَ:
المرحلةُ الأُولى: كانت انطلاقتُها في حرَّانَ حيثُ الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ المقتولُ سنة 124هـ، وكانت البيئةُ الحرَّانيَّةُ تشتَمِلُ على كثيرٍ من الفلاسفةِ الصَّابئةِ، فأثَّر ذلك في مُعتقَدِ الجَعْدِ، فنفى الصِّفاتِ، وأعلن نَفيَ أن يكونَ اللهُ تعالى كلَّم موسى تكليمًا، وزعَم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا.
أمَّا المرحلةُ الثَّانيةُ: فتمثَّلت في إعلانِ الجَهْمِ بنِ صَفوانَ المقتولِ سنةَ 128هـ للبِدَعِ التي تلقَّفها من الجَعْدِ، وزاد عليها نفيَ جميعِ الأسماءِ والصِّفاتِ للهِ تعالى، خاصَّةً بَعدَ مناظرةِ السُّمَنيَّةِ -وهم من الفلاسِفةِ الملاحِدةِ، وألزَموه بعِدَّةِ إلزاماتٍ وهميَّةٍ؛ لأنَّه ناظرَهم عن جَهلٍ بأصولِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والوَحيِ، كما أعلَن الجَهْمُ القَولَ بالجَبرِ والإرجاءِ.
وأمَّا المرحلةُ الثَّالثةُ: فتمَثَّل فيها اكتِمالُ أصولِ الجَهْميَّةِ وانتشارُها، وذلك في حُدودِ المائةِ الثَّالثةِ: وأبرَزُ من يمثِّلُها بِشرُ بنُ غِياثٍ المِرِّيسيُّ وطبقَتُه، وفيها عُرِّبَت كُتُبُ الدِّياناتِ والفَلْسَفاتِ الرُّوميَّةِ واليونانيَّةِ والفارسِيَّةِ والصَّابئيَّةِ، وذلك في عَهدِ المأمونِ، وقد مكَّنَهم من ذلك.
وثمَّةَ مَرحلةٌ أُخرى كان فيها انحِسارُ الجَهْميَّةِ وتفَرُّقُ أصولِها بَينَ الفِرَقِ، فقد انسابت أصولُ الجَهْميَّةِ إلى سائِرِ الفِرَقِ؛ فالتأويلاتُ التي قال بها كِبارُ مُتكلِّمةِ الأشاعرةِ، كابنِ فُورَك، والبغداديِّ، والجُوَينيِّ، وغَيرِهم: امتدادٌ لهذا الاتجاهِ الجَهْميِّ، وكذلك الماتُريديُّ وأتباعُه، وكثيرٌ من أصولِ الصُّوفيَّةِ في التَّعطيلِ، والجَبرِ والإرجاءِ، والحُلولِ والاتحادِ: امتِدادٌ للجَهْميَّةِ، كما أنَّ الرَّافضةَ أخذَت بأكثَرِ أصولِ الجَهْميَّةِ في الصِّفاتِ، وكذلك الخوارِجُ الإباضيَّةُ [86] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 21- 23)، ((الجهمية والمعتزلة نشأتهما وأصولهما)) لناصر العقل (ص: 48- 50). .
وفي ضَوءِ مراحلِ تلك النَّشأةِ يمكِنُ تقسيمُ الجَهْميَّةِ إلى درَجاتٍ على النَّحوِ الآتي:
الدَّرَجةُ الأُولى: هم الجَهْميَّةُ الغاليةُ النَّافونَ لأسماءِ اللهِ وصفاتِه، وإذا سَمَّوه بشيءٍ من الأسماءِ الحُسنى قالوا: هو مجازٌ!
الدَّرَجةُ الثَّانيةُ: هم المُعتَزِلةُ ونحوُهم، الذين يُقرُّونَ بأسماءِ اللهِ الحُسنى في الجُملةِ، لكنْ ينفونَ صفاتِه.
الدَّرَجةُ الثَّالثةُ: هم قِسمٌ من الصِّفاتيَّةِ المُثبِتينَ لها المُخالِفينَ للجَهْميَّةِ، ولكن فيهم نوعٌ من التجَهُّمِ، فهم يُقِرُّونَ بأسماءِ اللهِ وصفاتِه في الجُملةِ، ولكِنَّهم يَعمِدونَ إلى طائفةٍ من الأسماءِ، والصِّفاتِ الخَبَريَّةِ وغيرِ الخَبَريَّةِ ويُؤَوِّلونَها.
ومنهم من يُقِرُّ بصفاتِه الخَبَريَّةِ الواردةِ في القرآنِ دونَ الحديثِ، كما عليه كثيرٌ من أهلِ الكلامِ والفِقهِ، وطائفةٌ من أهلِ الحديثِ. ومنهم من يُقِرُّ بالصِّفاتِ الواردةِ في الأخبارِ أيضًا في الجُملةِ، لكنْ مع نَفيٍ وتعطيلٍ لبعضِ ما ثبت بالنُّصوصِ وبالمعقولِ، وذلك كأبي مُحمَّدِ بنِ كُلَّابٍ ومن اتَّبَعه. وفي هذا القِسمِ يدخُلُ أبو الحسَنِ الأشعَريُّ وطوائفُ من أهلِ الفِقهِ والكلامِ والحديثِ والتصَوُّفِ، وهؤلاء إلى السُّنَّةِ المحضةِ أقرَبُ منهم إلى الجَهْميَّةِ والرَّافِضةِ والخوارجِ والقَدَريَّةِ، لكن انتَسَب إليهم طوائِفُ هم إلى الجَهْميَّةِ أقرَبُ منهم إلى أهلِ السُّنَّةِ المحضةِ [87] يُنظر: ((التسعينية)) لابن تيمية 1/ (270)، ((فرق معاصرة)) لغالب عواجي (3/1134). .

انظر أيضا: