موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّالثُ: حذْفُ المَفْعولِ


الأصْلُ في الفِعلِ المُتعدِّي أنَّهُ يحتاجُ إلى مَفْعولٍ به يَقعُ عليه الفِعلُ؛ ولهذا كان الأصْلُ ذِكْرُه في الجُملةِ، إلَّا أنَّه يَجوزُ حذْفُه لأحَدِ أغْراضٍ بَلاغيَّةٍ؛ منْها:
1- أنْ يكونَ القَصْدُ مِن حذْفِ المَفْعولِ إثْباتَ الفِعلِ في ذاتِه للفاعِلِ دونَ النَّظرِ إلى تَعلُّقِه بمَفْعولٍ، ويُنزَّلُ حِينَئذٍ الفِعلُ المُتعدِّي مَنْزِلةَ اللَّازِم الَّذي لا فِعلَ له، فإذا قلتَ: علِيٌّ يُعْطي، فقد أردْتَ أنْ تُثبِتَ له الإعْطاءَ مِن غيرِ تَعْيينِ مَنْ يُعْطي؛ فقد يُعْطي أهْلَه، أو يُعْطي أصْدقاءَه، أو يُعْطي النَّاسَ كلَّهم، وقد يُعْطي ذهَبًا أو فِضَّةً أو غيرَهما، ولا يُقدَّرُ هاهنا المَفْعولُ؛ لأن َّالمُقدَّرَ كالمَذْكورِ.
ومِن ذلك قولُه تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم: 43-44] ؛ وقولُه: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم: 48] ، فالأفْعالُ: "أضْحَكَ، أبْكَى، أمَاتَ، أحْيَا، أغْنَى، أقْنَى [176] ينظر اختلاف المفسرين في معناه: ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 149). " كلُّها أفْعالٌ مُتعدِّيةٌ تَحْتاجُ إلى مَفْعولٍ، أيْ: أضْحَك الإنْسانَ وأبْكاه، وأماتَه وأحْياه، لكنَّ الغَرَضَ هنا هو تَعْظيمُ اللهِ تعالى والثَّناءُ عليه بعَظيمِ فِعلِه، وذكْرُ تلك الأفْعالِ يُناسِبُ التَّعْظيمَ والمدْحَ، بغَضِّ النَّظرِ عن المَفْعولِ؛ قال ابنُ عاشورٍ: (ولم يَذكُرْ مَفْعولَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى؛ لأنَّ القَصْدَ إلى الفِعلَينِ لا إلى مَفْعولَيهما، فالفِعلانِ مُنزَّلانِ مَنْزِلةَ اللَّازِمِ، أيْ: أوْجَدَ الضَّحِكَ والبُكاءَ... وفِعْلا أَمَاتَ وَأَحْيَا مُنزَّلانِ مَنْزِلةَ اللَّازِمِ... إظْهارًا لبَديعِ القُدرةِ على هذا الصُّنْعِ الحَكيمِ، معَ التَّعْريضِ بالاسْتِدلالِ على كيْفيَّةِ البَعْثِ وإمْكانِه حيثُ أحالَه المُشرِكونَ، وشاهِدُه في خلْقِ أنْفُسِهم) [177] ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 143، 144). . وقال عبدُ القاهِرِ: (المَعْنى: هو الَّذي منه الإحْياءُ والإماتَةُ والغَناءُ والإقْناءُ. وهكذا كلُّ مَوضِعٍ كان القَصْدُ فيه أنْ تُثبِتَ المَعْنى في نفْسِه فِعلًا للشَّيءِ، وأنْ تُخبِرَ بأنَّ مِن شأنِه أنْ يكونَ منه، أوْ لا يكونَ إلَّا منه، أوْ لا يكونَ منه، فإنَّ الفِعلَ لا يُعدَّى هناك؛ لأَنَّ تَعْديتَه تَنْقُضُ الغَرَضَ وتُغيِّرُ المَعْنى) [178] ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر (ص: 154، 155). .
وقولُه سُبحانَه: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 23-24] ؛ فالأفْعالُ (يَسقُونَ، تَذُودانِ، نَسقي، سقَى) أفْعالٌ مُتعدِّيةٌ تَحتاجُ إلى مَفاعيلَ، لكنْ تُرِكتِ المَفاعيلُ غيرَ مَذْكورةٍ؛ لأنَّ الغرَضَ هو الفِعلُ لا المَفْعولُ؛ ألَا تَرى أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ إنَّما رحِمَ المَرْأتَينِ وسقَى لهُما؛ لأنَّهما كانتا على الذِّيادِ [179] الذَّوْد والذِّيادُ: الطَّردُ والدَّفْعُ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 281). والقوْمُ على السَّقيِ، ولم يَرْحَمْهما لأنَّ مَذُودَهما غنَمٌ ومَسْقِيَّ القومِ إبلٌ مَثلًا؛ فليس لاخْتِلاف نوْعِ المَاشِيةِ تأثيرٌ في القصَّةِ. فهذا مِن تَنزيلِ الفِعلِ المُتعدِّي مَنْزِلةَ اللَّازمِ [180] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/ 401)، ((تفسير البيضاوي)) (4/ 175)، ((تفسير أبي السعود)) (7/ 8)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/ 99). .
ومنه قولُه تعالى: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، وقولُه سُبحانَه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، وقولُه عزَّ وجلَّ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] .
ومنه أيضًا قولُ البُحْتُريِّ يَمدحُ الخَليفةَ المُعْتزَّ: الخفيف
شَجْوُ حُسَّادِه وغَيْظُ عِداهُ
أنْ يَرى مُبصِرٌ ويَسمَعَ واعِ
فالمَعْنى المُرادُ "أنْ يَرى مُبْصِرٌ آثارَه ويَسمَعَ واعٍ أخبارَه"، ولكنَّه أغفَل هذينِ المَفعولَين وأبْعدَهما عن وهْمِه؛ ليَتسنَّى له أنْ يُبيِّنَ أنَّ محاسِنَ الخَليفةِ قد ذاع صِيتُها واشتَهَر أمرُها، فلا تَخْفى على ذي بصَرٍ وسمْعٍ، فيَكفي في مَعرفةِ أنَّها سَببٌ في اسْتِحقاقِه الإمامَةَ دُونَ غيرِه أنْ يَقعَ عليها بصَرٌ ويَعِيَها سمْعٌ، حتَّى يَعلَمَ الرَّائي والسَّامِعُ أنَّه لا يَليقُ لمَقامِ الخِلافةِ غيرُه؛ ومِنْ ثَمَّ تَرى الحُسَّادَ والأعداءَ يَتمنَّون ألَّا توجَدَ عَينٌ تُبصِرُ ولا أذُنٌ تَسمَعُ؛ لتَخْفى هذه الفَضائِلُ فيَجِدوا إلى مُنازعتِه فيها سَبيلًا.
2- التَّعْميمُ والإيْحاءُ بشُموليَّةِ الفِعلِ، وعدَمِ تَخصُّصِه بمَفْعولٍ دون آخَرَ، كقَولِه تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] . فلم يَذكُرْ مَفْعولَ: "يدعو" ليُفيدَ عُمومَه، وأنَّه ليس خاصًّا بأحدٍ دُونَ أحدٍ، بل يَدْعو جَميعَ الثَّقلَينِ، مُسْلمَهم وكافِرَهم، أوَّلَهم وآخِرَهم.
وفي الجُملةِ الَّتي بعدَها ما يُثبِتُ ذلك، وهو قولُه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فذكَر المَفْعولَ هنا معَ الهِدايةِ؛ ليُبيِّنَ أنَّ دعْوةَ النَّاسِ إلى الإسْلامِ -الَّذي هو طَريقُ الجنَّةِ والرِّضوانِ- دَعْوةٌ عامَّةٌ لكلِّ أحدٍ، وهذه هِدايةُ البَيانِ والإرْشادِ، أمَّا قولُه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فخَصَّصها لأنَّها هِدايةٌ خاصَّةٌ لعِبادِه المُؤْمنينَ، وهي هِدايةُ التَّوْفيقِ.
3- البَيانُ بعدَ الإبْهامِ، ويَكثُرُ ذلك في فِعلِ المَشِيئةِ أوِ الإرادَةِ أو نحْوِهما، إذا كان فِعلَ الشَّرطِ؛ فإنَّ جوابَ الشَّرطِ يدُلُّ عليه ويُبَيِّنُه، ومنه قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [النحل: 93] ، وقولُه سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا [الفرقان: 45] ، وقولُه عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99] .
ومنه قولُ الشَّاعِرِ:
لو شئتَ لم تُفسِدْ سَماحةَ حاتِمٍ
كَرَمًا ولم تَهدِمْ مآثِرَ خالِدِ [181] يمدَحُ البحتريُّ يُوسُفَ بنَ سَعيدٍ فيقولُ: (لو شئْتَ ألَّا تُفْسِدَ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ بجودِك لأمسكْتَ عن العطاءِ، فلَمْ تُفْسِدْ سماحةَ حاتمٍ كَرَمًا، ولو شِئْتَ ألَّا تَهْدِمَ مآثِرَ خالدٍ بشجاعتِك وإقدامِك وحُسْنِ تدبيرِك في الحَربِ، لتهاونْتَ فلَمْ تَهْدِمْ مآثِرَ خالدٍ). ينظر: ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبنَّكة (1/ 46).
فأصلُ الكَلامِ: لوْ شِئتَ ألَّا تُفسِدَ سَماحةَ حاتِمٍ لم تُفسِدْها، ثمَّ حذَف ذلك مِنَ الأوَّلِ اسْتِغناءً بدَلالتِه في الثَّاني عليه، والواجِبُ في حُكمِ البَلاغَةِ ألَّا يُنطَقَ بالمَحْذوفِ ولا يَظهرَ إلَّا اللفْظُ، فليس يَخْفى أنَّك لو رجَعتَ فيه إلى ما هو أصلُه فقلتَ: لو شِئْتَ ألَّا تُفسِدَ سَماحةَ حاتِمٍ لم تُفسِدْها، صِرتَ إلى كَلامٍ غَثٍّ وإلى شيءٍ يَمُجُّه السَّمعُ وتَعافُه النَّفْسُ؛ وذلك لأنَّ في البَيانِ إذا وَرَدَ بعدَ الإبهامِ وبعدَ تَحريكِ النَّفْسِ لمَعرفتِه لُطفًا ونُبلًا لا يكونُ إذا لم يَتقدَّمْ ما يُحرِّكُ النَّفْسَ ويُشَوِّقُها، وأنتَ إذا قلتَ: لو شِئتَ، عَلِم السَّامِعُ أنَّك قد علَّقتَ هذه المَشِيئةَ في المَعْنى بشيءٍ، فهو يَضَعُ في نفْسِه أنَّ هنا شيئًا تَقْتضي مَشِيئتُه له أنْ يكونَ أو ألَّا يكونَ، فإذا قلتَ: لم تُفسِدْ سَماحةَ حاتِمٍ، عرَفَ ذلك الشَّيءَ [182] ينظر: ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر (ص: 133). .
وقد يَذكُرُ الأديبُ فِعلَ المَشِيئةِ؛ ليُقرِّرَه في نفْسِ السَّامِعِ ويُؤْنسَه به؛ وذلك لأنَّه مِنَ الأمُورِ المُسْتغرَبَةِ، كما إذا قلتَ: لو شئتُ أنْ أرُدَّ على الأمير رَددْتُ، وإنْ شئتُ أنْ أَلْقى الرَّئيسَ كلَّ يومٍ لَقِيتُه، فليس كلُّ إنْسانٍ يَسْتطيعُ أنْ يُقابِلَ رَئيسَ الدَّوْلةِ أو أميرَ البِلادِ كلَّ يومٍ.
ومنه قولُ إسْحاقَ بنِ حسَّانَ الخُرَيميِّ:
قَضى وطَرًا منك الحَبيبُ المُودِّعُ
وحلَّ الَّذي لا يُستطاعُ فيُدفَعُ
ولو شِئتُ أن أبْكي دمًا لبَكَيتُهُ
عليهِ ولكنْ ساحةُ الصَّبرِ أوسَعُ
فبُكاءُ العَينِ دمًا شيءٌ غَريبٌ، لن يُفهَمَ عند حذْفِه، فاحْتاج الشَّاعِرُ إلى النَّصِّ عليه.
وقد يذكُرُ البَليغُ مَفْعولَ المَشيئَةِ والإرادَةِ لأنَّه مُخْتلِفٌ عن جوابِ الشَّرطِ، فحذْفُ فِعلِ الشَّرطِ في هذه الحالَةِ يُوقِعُ في التَّعْميةِ والإلْغازِ، كما في قولِ الشَّاعِرِ:
فلم يُبقِ منِّي الشَّوقُ غيرَ تَفكُّري
فلوْ شِئتُ أنْ أبْكي بَكيْتُ تَفكُّرا
فليس المُرادُ: فلوْ شِئتُ أنْ أبْكي تفكُّرًا بَكيتُ تَفكُّرًا، بل المَعْنى: لو شئتُ أنْ أبْكي الدُّموعَ لا أسْتطيعُ، فليس في عَينيَّ دمْعٌ؛ فقد أذْهَب الشَّوقُ كلَّ صِفاتِه الحِسِّيَّةِ، وأبْقى التَّفكُّرَ وحدَه، فالبُكاءُ الأوَّلُ غيرُ البُكاءِ الثَّاني؛ فالثَّاني لا يَصلُحُ أنْ يكونَ تَفْسيرًا وبَيانًا للأوَّلِ.
ومِنَ البَيانِ بعدَ الإبْهامِ قولُ البُحْتُريِّ:
قد طَلبْنا فلم نَجِدْ لكَ في السُّؤْ
دُدِ والمَجدِ والمَكارمِ مِثْلَا
فالمَعْنى: قد طلَبْنا لك مِثلًا فلم نَجِدْه؛ فـ(حذَف مَفْعولَه؛ لأنَّ الأصْلَ: قد طلَبْنا لك، ولكنَّه حذَف لإيْقاعِ الفِعلِ المَنْفيِّ على صَريحِ لفْظِه -كما جاء عليه البيْتُ-، ولو أنَّه ذكَر المَفْعولَ فقال: طلَبْنا لك مِثلًا، لناسَب أنْ يقولَ بعْدَ ذلك: فلم نَجِدْه؛ لأنَّ المَقامَ حِينَئذٍ يكونُ للضَّميرِ؛ لتقدُّمِ مَرْجعِه، فيَفوتُ المَقْصودُ، وهو: إيْقاعُ الفِعلِ المَنْفيِّ على صَريحِ لفْظِ المَفْعولِ الدَّالِّ صَراحةً على عدَمِ وُجودِ المِثلِ؛ وذلك أنْسبُ بمَقامِ المدْحِ؛ إذْ لو سلَّط الفِعلَ على ضَميرِه -والضَّميرُ يَصحُّ أنْ يعودَ على شخْصٍ آخَرَ غيرِ المَمْدوحِ- لَما كان نصًّا صَريحًا في نفْسِ المِثلِ عنه) [183] ((النظم البلاغي بَيْنَ النظرية والتطبيق)) لحسن الجناجيِّ (ص: 423). .
4- دفْعُ توهُّمِ إرادَةِ غيرِ المُرادِ ابْتداءً، كما في قولِ البُحْتُريِّ يَمْدحُ أبا صقْرٍ الشَّيْبانيَّ:
وكم ذُدْتَ عَنِّي مِن تَحامُلِ حادِثٍ
وسَورةِ أيَّامٍ حَززْنَ إلى العَظْمِ
فـ(يذكُرُ الشَّاعرُ فضْلَ أبي صقْرٍ عليه، ودفْعَه عنه بَلايا الأيَّامِ وأحْداثَها، فقال: حَززْنَ إلى العظْمِ، والأصْلُ: حززْنَ اللَّحمَ إلى العظْمِ، ولكنَّه حذَف المَفْعولَ؛ لأنَّه أراد أنْ يُوقِعَ في النَّفْسِ مِن أوَّلِ الأمرِ أنَّ سَورةَ الأيَّامِ الَّتي يَذُودُها عنه صاحِبُه سَوْرةٌ عاتِيةٌ، وكأنَّها سُيوفُ زَمانٍ بالِغةُ الضَّربِ والإيجاعِ، تُمزِّقُ الجسَدَ وتَضرِبُ في العِظامِ، وكلَّما بالَغ الشَّاعِرُ في وصْفِ هذه الشَّدائِدِ الَّتي يَدفعُها عنه صاحِبُه، كان ذلك أدخَلَ في مدْحِه، وأبْينَ لشدَّةِ ولائِه، وأدَلَّ على صدْقِ إخْلاصِه وعِرفانِه، ولو قال: حززْنَ اللَّحمَ إلى العظْمِ، لوقَع في الوهْمِ أوَّلَ وهْلةٍ أنَّ هذا الحزَّ قد يكونُ حزًّا ضَعيفًا لا يَتجاوَزُ ظاهِرَ اللَّحمِ إلى بواطِنِه، أو هو إذا أُعمِلَ في هذا الباطِنِ، فربَّما لا يَصِلُ فيه إلى آخِرِه، وقلتُ: في الوهْمِ أوَّلَ وهْلةٍ؛ لأنَّ ذلك الوهْمَ سيذْهبُ بقولِه: إلى العظْمِ، ولكنَّ الشَّاعِرَ لا يُريدُ لسامِعِه أنْ يَتوهَّم أنَّ هذا الحزَّ كان حزًّا بارِدًا، أو ضَعيفًا وأنَّه وقع في ظاهِرِ الجلْدِ، أو غار في بواطِنِه غَوْرًا لا يَصِلُ إلى نِهايتِه؛ ولذلك حذَف هذا اللَّفْظَ، وانْتقَل سَريعًا إلى الغايةِ الَّتي تَصِفُ لنا تَمزُّقَ جِلْدِه، وأنَّه عرَّى عِظامَه) [184] ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 355). .
5- للاخْتِصارِ والإيجازِ، ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] ، فالتَّقديرُ: بَعَثهُ... وقد يكونُ فيه (إشارَةٌ إلى حالِ نُفوسِهم؛ فإنَّ حِقدَهم على النَّبيِّ صلَّى اللُه عليه وسلَّم جعَل نُفوسَهم تَتخاذَلُ فلا تقولُ: بعَثه، وكأنَّهم يَتحاشَون النُّطقَ بذلك) [185] ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 357). .
6- رِعايةُ الفاصِلَةِ، كقَولِه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] . فالأفْعالُ: آوَى، هدَى، أغْنى" كلُّها تَحْتاجُ إلى مَفْعولٍ، والتَّقْديرُ: "فآواك، فهداك، فأغْناك"، وقد حُذِف المَفْعولُ لمُراعاةِ فَواصِلِ الآياتِ في السُّورةِ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى: 1 - 5] ؛ فالآياتُ تَنْتهي بألِفِ المدِّ، وساعَد على الحذْفِ دَلالةُ السِّياقِ في "يَجدْك، ووجَدَك [186] ينظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (2/ 154)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 93)، ((خصائص التراكيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 341 - 363). .
أمَّا النَّوعُ الرَّابِعُ مِنَ الحذْفِ، وهُو حذْفُ جُملةٍ بأكْملِها، فهذا يأتي ذكْرُه في مَبْحثِ الذِّكْرِ والحذْفِ.

انظر أيضا: