موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: حذْفُ المُسنَدِ إليه


المُسنَدُ إليه هو المَحْكومُ عليه بالفِعلِ أوِ الخبَرِ ونحْوِ ذلك، وهُو المُبْتدأُ والفاعِلُ ونائِبُ الفاعِلِ.
والأصْلُ في الكَلامِ أنْ يُذكَرَ المُسنَدُ إليه في الكَلامِ، وقد يُحذَفُ لأغْراضٍ بَلاغيَّةٍ.
1- دَواعي حذْفِ المُسنَدِ إليه إذا كان مُبْتدأً
أ- أنْ يكونَ ظاهِرًا بدَلالةِ القَرائِنِ، أو ما يُسمَّى بـ (الاحتِرازِ عنِ العبَثِ بِناءً على الظَّاهِرِ) [155] (لأنَّ ذِكرَ الكَلِمةِ الَّتي يدُلُّ عليها سياقُ الكلامِ ثِقَلٌ، وترهُّلٌ في الأسلوبِ، وهي شبيهةٌ بالعَبَثِ وليْست عَبَثًا؛ لأنها جزءٌ مِنَ الكلامِ، وذِكْرُ جُزءٍ مِنَ الكلامِ لا يكونُ عبثًا؛ ولذلك جاء قولهم: «بناءً على الظَّاهِرِ» أي: لا في حقيقةِ الأمرِ؛ لأنَّنا عند التحقيقِ لا نُسَمِّيه عَبَثًا). ينظر: ((خصائص التركيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 160). ، ويكونُ في حالاتٍ:
- إذا جاء في جَوابِ الاسْتِفهامِ، كقَولِه تعالى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ [الحج: 72] ؛ فقولُه: النَّارُ خبَرُ مُبْتدأٍ مَحْذوفٍ دلَّ عليه قولُه: بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ، والتَّقديرُ: شرٌّ مِن ذلكم النَّارُ. وقولِه سُبحانَه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة: 5-6] ، (والتَّقديرُ: هي -أيِ الحُطَمَةُ- نارُ اللهِ، فحذَفَ المُبْتدأَ مِنَ الجُملةِ جرْيًا على طَريقةِ اسْتِعمالِ أمْثالِه مِن كلِّ إخْبارٍ عن شيءٍ بعد تَقدُّمِ حَديثٍ عنه وأوْصافٍ له) [156] ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 540). .
- إذا جاء بعد القوْلِ وما اشتُقَّ منه، كقَولِه تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات: 29]؛ فالمُرادُ: "أنا عَجوزٌ عَقيمٌ"، لكنَّه حذَف المُسنَدَ لدَلالةِ السِّياقِ عليه، كما أنَّه يُفيدُ في الدَّلالةِ على المَوقِفِ النَّفْسيِّ الَّذي كانت عليه زوْجُ إبْراهيمَ آنَذاك، وهُو شُعورُها بالعجَبِ والدَّهْشةِ عند تَلقِّيها تلك البُشْرى، وهُما مُتعلِّقانِ بالمُسنَدِ (عَجُوز) لا بالمُسنَدِ إليه المَحْذوفِ (أنا)؛ إذْ كيف تُنْجِبُ مَن بلَغتْ سِنَّ اليأْسِ وصارت عَجوزًا؟! فحذْفُ المُسنَدِ إليه إذنْ إنَّما هو للإيْحاءِ بمَدى تَعلُّقِ مَشاعِرِها بالمُسنَدِ.
ومنه قولُه سُبحانَه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] ، أيِ: القُرآنُ أساطيرُ الأوَّلِينَ، وقولُه جلَّ وعَلا: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] ، أيْ: هم ثَلاثةٌ.. هم خَمْسةٌ... هم سَبْعةٌ.
- إذا وقَع بعد الفاءِ المُقْترِنةِ بجَوابِ الشَّرطِ، مِثلُ قولِه تعالى: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام: 104] ، أيْ: فبَصَرُه لنفْسِه، وعَماهُ عليها، وقولِه سُبحانَه: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الزمر: 41] ، أي: فهُداهُ لنفْسِه، وضَلالُه عليها، وقَولِه عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46، الجاثية: 15]، أيْ: فصَلاحُه لنفْسِه، وإساءتُه عليها، وقولِه تعالى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب: 5] ، وقولِه عزَّ وجلَّ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [البقرة: 220] ، وقولِه جلَّ وعَلا: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ [التوبة: 11] ، أيْ: فهُم إخْوانُكم.
ب- ضِيقُ المَقامِ عن إطالَةِ الكَلامِ بذكْرِ المُسنَدِ إليه بسَببِ التَّضجُّرِ أوِ التَّوجُّعِ، كما تقولُ: مَريضٌ، في جَوابِ مَن سألَك: كيف حالُك؟
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الخفيف
قالَ لي: كيفَ أنتَ؟ قلتُ: عَليلُ
سَهرٌ دائِمٌ وحُزنٌ طَويلُ
فحذَف الشَّاعِرُ "أنا" مِن قولِه: "أنا عَلِيلٌ" لضِيقِ المَقامِ عن ذكْرِه بسَببِ التَّوجُّعِ والتَّألُّمِ والضَجَرِ ممَّا أصابَه وحلَّ به.
ج- التَّعْجيلُ ببَعْثِ المَسرَّةِ؛ وذلك إذا كان المُسنَدُ أمرًا مَحْبوبًا تَترقَّبُه النُّفوسُ، كقولِك لصَديقِك الَّذي يَنتظِرُ النَّتيجةَ: ناجِحٌ، أيْ: أنت ناجِحٌ.
د- تَعيُّنُ المُسنَدِ إليه حَقيقةً وواقِعًا أو مُبالَغةً وادِّعاءً، فلا يُتوهَّمُ أنْ يكونَ لغيرِه، كما في قولِه تعالى: وَهُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام: 73] ، أيْ: هو عالِمُ الغَيبِ، وتقولُ: فعَّالٌ لِما يُريدُ، أيْ: اللهُ فَعَّالٌ لِما يُريدُ؛ إذْ قد تَعيَّنَ عند الجَميعِ ذلك، ومِثلُه تقولُ: خاتَمُ الأنْبياءِ، أيْ: النَّبيُّ مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمُ الأنْبِياءِ، وتقولُ مُبالَغةً وادِّعاءً: أميرُ الشُّعراءِ، أيْ: شَوْقي.
هـ- خوْفُ فَواتِ فُرصةٍ سانِحةٍ، كأنْ تقولَ لصَيَّادٍ تُنبِّهُه على وُجودِ صيْدٍ ليَصطادَه: غَزالٌ، أيْ: هذا غَزالٌ، وكما تقولُ إذا رأيْتَ حَريقًا في بيتٍ: حَريقٌ، أيْ: هذا حَريقٌ، وإذا رأيْتَ إنْسانًا يغرَقُ: غَريقٌ، أيْ: هذا غَريقٌ.
و- اتِّباعُ الاسْتِعمالِ الوارِدِ على ترْكِه، وذلك في الأمْثالِ وغيرِها، مِثلُ: رَمْيةٌ مِن غيرِ رامٍ، أيْ: هي رَمْيةٌ مُصيبَةٌ مِن غيرِ رامٍ ماهِرٍ يُحسِنُ الرِّمايَةَ، وقضيَّةٌ ولا أبا حَسَنٍ لها [157] (أي: هذه قَضِيَّةٌ مُشكِلةٌ، وليس هناك من يبيِّنُها كما كان يفعَلُ أبو الحسَنِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، الَّذي هو عليُّ بنُ أبي طالِب). ينظر: ((حياة الحيوان الكبرى)) للدَّمِيري (2/ 340). ، أيْ: هذه قضيَّةٌ. أوِ الوارِدِ على ترْكِ نَظائِرِه، مِثلُ: ذكْرِ الدِّيارِ والأطْلالِ، والرَّفعِ على المدْحِ أوِ الذَّمِّ أوِ التَّرحُّمِ.
فمِثالُ ذكْرِ الدِّيارِ:
اعتادَ قلبَكَ من سَلْمَى عوائِدُهُ
وهاجَ أهواءَكَ المَكنونةَ الطَّلَلُ
رَبْعٌ قَواءٌ أذاعَ المُعصِراتُ بِهِ
وكُلُّ حَيْرَانَ جارٍ ماؤُهُ خَضِلُ [158] (قوله: من سَلْمى، أي: من أجْلِ حُبِّ سلمى. وعوائِدُه: جمع عائدة، وهو ما تعوَّده مِن وجْدِه بها وشَوقِه إليها. والرَّبْعُ: المنزِلُ. والقَواءُ: القَفْرُ. ومعنى أذاع: فرَّق ونشر، ومنه إذاعةُ السِّرِّ، وهو نَشْرُه. والمُعصِراتُ: السَّحائِبُ ذواتُ المطَرِ، ويقالُ: الرياحُ، أي: غيَّرَتْه وأزالت بهجَتَه الأمطارُ بما محت منه والرِّياحُ بما أذْرَتْ عليه. وأراد بالحيرانِ: سحابًا تردَّد بمطَرِه عليه ولازَمَه، فجعله كالحيراِن لذلك، والخَضِلُ: الغزيرُ، وسار: الَّذي ينشَأُ باللَّيلِ ويَسيرُ). ينظر: ((شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية)) لشراب (2/ 285).
أيْ: هو رَبعٌ. فالشَّاعرُ قد اعْتاد أنْ يَذكُرَ مَحْبوبتَه ليلى، وقد حرَّك الطَّللُ الباقِي مِن دِيارِها أشْجانَه والحُبَّ الَّذي في قلْبِه لمَحبوبتِه، وأراد أنْ يَتحدَّثَ عن هذا الطَّللِ، وأنْ يُسنِدَ إليه قولَه: ربْعٌ قَواءٌ، فلم يُرِدْ أنْ يُعيدَ ذِكْرَه؛ لأنَّه مِلْءُ سمْعِه وبَصرِه عندَه، وكأنَّه ماثِلٌ أمامَه، مَذْكورٌ لديه [159] ينظر: ((النظم البلاغي بَيْنَ النظرية والتطبيق)) لحسن الجناجي (ص: 117). .
ومِثالُ المدْحِ: الحَمدُ للهِ أهلُ الحمْدِ، أيْ: هو أهلُ الحَمْدِ، ومنه قولُ عبدِ اللهِ الأسَديِّ يمدَحُ عَمْرَو بنَ عُثْمانَ بنِ عفَّانَ:
سأشكُرُ عَمْرًا ما تَراختْ مَنيَّتي
أياديَ لم تَمنُنْ وإنْ هي جَلَّتِ
فتًى غيرُ مَحْجوبِ الغِنى عن صَديقِه
ولا مُظهِرُ الشَّكوى إذا النَّعلُ زَلَّتِ
رأى خَلَّتي مِن حيثُ يَخْفى مَكانُها
فكانتْ قَذى عَينَيه حتَّى تَجلَّتِ
أيْ: هو فَتًى...
فيَذكُرُ الشَّاعرُ أنَّه سيشكُرُ عَمْرًا ما دام يتنفَّسُ ولم يَمُتْ، ويمدَحُه بأنَّه لم يَمُنَّ عليه بما أنْعَم عليه مِن نِعَمٍ ظاهِرةٍ وواضِحةٍ، وأنَّه غيرُ مَحْجوبِ الغِنى عن صَديقِه، وهذا وصْفٌ بالسَّخاءِ والبذْلِ والعَطاءِ، ثمَّ وصفَه أيضًا بأنَّه لا يُظهِرُ الشَّكوى إذا تغيَّر حالُه، وأنَّه رأى حاجَتَه وفقْرَه مِن غيرِ أنْ يُظهِرَها، فلم يشْكُ له ما يُلاقيه، وإنَّما أحَسَّ به، وقَذى العَينِ: الوَسَخُ، فكانت ظاهِرةً في عَينَيه.
ومِثالُ الذَّمِّ: أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمُ -برفْعِ الرَّجيمِ-، أيْ: هو الرَّجيمُ.
ومنه قولُ الأُقَيْشرِ في ابنِ عَمٍّ له غَنِيٍّ، سأله أنْ يُعطيَه، فمنَعه، وقال له: كم أعطيْتُك مالي وأنت تُنفِقُه فيما لا يَعْنيك! واللهِ لا أعْطيك، فترَكه حتَّى اجْتَمع القوْمُ في مَجلسِهم وهُو فيهم، فشَكاه إلى القوْمِ وذمَّه، فوثَب إليه ابنُ عَمِّه فلطَمه، فقال الأُقَيْشِرُ:
سَريعٌ إلى ابنِ العمِّ يَلطِمُ وجهَهُ
وليسَ إلى داعِي النَّدى بِسَريعِ
حَريصٌ على الدُّنيا مُضِيعٌ لدينِهِ
وليسَ لِما في بَيتِهِ بمُضِيعِ
أيْ: هو سَريعٌ، وهُو حَريصٌ على الدُّنيا، وهُو مُضيعٌ لدِينِه.
ومِثالُ التَّرحُّمِ قولُك: اللَّهمَّ ارحَمْ عَبدَك المِسكينُ -بالرَّفعِ-، أيْ: هو المِسكينُ.
ز- تَيسُّرُ الإنْكارِ عند الحاجَةِ؛ فقد تَدعو الحاجَةُ إلى التَّكلُّمِ بشيءٍ، ثمَّ تَدعو الحاجَةُ لإنْكارِه، ومِثالُ ذلك: أنْ تَذكُرَ شَخصًا اسمُه زيدٌ، ثمَّ تقولُ: بَخيلٌ، أيْ: هو بَخيلٌ، فلو حدَّدتَه، فقلتَ: زيدٌ بَخيلٌ، لم تَستطِعِ الإنْكارَ [160] قال بهاء الدين السبكي: (لا يقالُ: كيف ينفَعُ الإنكارُ مع القرينةِ؟ لأنَّا نقولُ: القرينةُ تُرجِّحُ أحَدَ الطَّرَفَينِ ترجيحًا لا يسوِّغُ الشَّهادةَ، لا يقالُ: فهذا حينئذٍ مدعاةٌ إلى الكَذِبِ المحرَّمِ؛ لأنَّا نقولُ: نحن نتكَلَّمُ على أسبابِ الحَذفِ الَّتي لاحظَتْها العَرَبُ، سواءٌ كان ذلك شَرْعًا أم لا، ثم نقولُ: قد يجِبُ الإنكارُ والكَذِبُ، كما إذا كان فيه مصلحةٌ شرعيةٌ، ثم إنَّما يتأتَّى ذلك إذا لم يكُنِ استفهامٌ، فلو قيل لك: ما زيدٌ؟ فتقولُ: فاسِقٌ. لم ينفَعِ الإنكارُ بعد ذلك، ولم يُصدَّقِ المنكِرُ، حتى لو قال له: ما حالُ زَوجتِك؟ فقال: طالِقٌ. لم يُصدَّقْ إذا ادَّعى عَدَمَ إرادتِها). ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) (1/ 159). .
2- دَواعي حذْفِ المُسنَدِ إليه إذا كان فاعِلًا:
أ- الإيجازُ والاخْتِصارُ، كما في قولِه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] ، أيْ: بمِثلِ ما عاقَبكم المُعْتدي به.
ب- المُحافَظةُ على السَّجْعِ في الكَلامِ المَنْثورِ، كما في المَثَلِ: مَنْ طابت سَريرتُه [161] السِّرُّ والسَّرِيرَةُ: الشَّيءُ الَّذي يُكتَمُ. ينظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 146). حُمِدتْ سِيرتُه، فلم يُقَلْ: حَمِد النَّاسُ سِيرتَه. ومِثلِ: مَنْ كَرُمَ أصْلُه وُصِل حَبْلُه، أيْ: وصَل النَّاسُ حبْلَه.
ج- المُحافَظةُ على الوزْنِ أوِ القافِيةِ في الكَلامِ المَنْظومِ، كما في قولِ لَبِيدٍ:
وما المالُ والأهلُونَ إلَّا وَديعَةٌ
ولا بُدَّ يومًا أنْ تُرَدَّ الودائِعُ
فالمَعْنى: يَرُدُّ النَّاسُ الوَدائِعَ.
د- إخْفاءُ الأمرِ عن غيرِ المُخاطَبِ، كأنْ يقولَ المُتكلِّمُ: انتهَتْ؛ يُريدُ: انتهَتِ المُشْكلةُ أوِ القَضيَّةُ أو نحْوُ ذلك، والمُخاطَبُ يَعلَمُ عمَّا يَتحدَّثُ، لكنَّهما لا يُريدانِ للجالِسِ معَهما أنْ يَعلَمَ شيئًا.
هـ- كوْنُ الفاعِلِ مُعيَّنًا مَعْلومًا حَقيقةً، كما في قولِه تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28] ، فمِنَ البَدَهيِّ أنَّ الَّذي خلَق الإنْسانَ هو اللهُ سُبحانَه.
ومنه قولُ المُتَنبِّي:
سُبِقنا إلى الدُّنيا فلو عاشَ أهلُها
مُنِعْنا بها مِن جِيئةٍ وذُهُوبِ
أيْ: سَبَقنا النَّاسُ إلى الدُّنيا. والمَعْنى: (لو عاش أهْلُ الدُّنيا فلا يَموتونَ لامْتلأتِ الأرْضُ مِنَ الخلْقِ، فتعذَّرتِ الحَركةُ عليها؛ المَجيءُ والذَّهابُ؛ لكَثرةِ الخَلْقِ) [162] ((المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي)) للمهلبي (1/ 19). .
و- تَعيُّنُ الفاعِلِ بالعهْدِ الذِّكْريِّ أوِ الذِّهنيِّ، فالذِّهنيُّ كما في قولِه تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة: 26] ، أيْ: إذا بلَغتِ الرُّوحُ، فحُذِفتْ لظُهورِ أنَّها المَقصودُ ظُهورًا لا لبسَ فيه؛ فالآيةُ في ذكْرِ المَوتِ، ولا يبلُغُ التَّراقيَ عند المَوتِ إلَّا النَّفْسُ والرُّوحُ.
ومنه قولُ حاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أماويَّ ما يُغْني الثَّراءُ عنِ الفَتى
إذا حَشرَجَتْ يومًا وضاقَ بها الصَّدرُ [163] (ماوِيَّ: اسمُ امرأةٍ، شُبِّهَت بالماءِ لصَفائِها، والنِّسبةُ إلى الماء: ماوِيٌّ ومائيٌّ، كما يُقال: كِساوِيٌّ وكِسائيٌّ. وهي ماوِيَّةُ بنتُ عفرز، وكانت مَلِكةً، وهي تحتَ حاتمٍ. الحَشْرَجةُ: الغَرغرةُ عند الموتِ، والثَّراءُ: الغِنى والثَّروةُ). ينظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/ 173).
أيْ: إذا حَشرجتِ الرُّوحُ أوِ النَّفْسُ.
ومنه قولُه تعالى -حِكايةً عن سيِّدِنا سُليمانَ عليه السَّلامُ-: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، أيْ: حتَّى توارَتِ الشَّمسُ بالحِجابِ؛ فحُذِفتِ الشَّمسُ لبَيانِ أنَّها المُرادُ.
ومنه قولُه تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] ، بنَصْبِ (بيْنَ) على إضْمارِ الفاعِلِ؛ وحَسُنَ حذْفُه لدَلالةِ ما قبلَه عليه، أيْ: تَقَطَّع الأمرُ، أو الاشْتراكُ، أو وصْلُكم بينَكم [164] ينظر: ((تفسير القاسمي)) (4/ 434)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/ 385). .
ومِنَ العهْدِ الذِّكْريِّ قولُه تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] ، فقد سبَقت في قولِه: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ، و(الفُلْكُ: هي السَّفِينةُ، ويُذكَّرُ ويُؤنَّثُ، ويكونُ واحِدًا وجمْعًا) [165] ((المذكر والمؤنث)) لابن التستري (ص: 7). .
ز- كوْنُ الفاعِلِ مَجْهولًا، كما إذا قلتَ: «سُرِق بَيْتي»، ولم تَعرِفْ مَنِ السَّارِقُ، وليس في قولِك: «سرَق السَّارقُ بَيْتي» فائِدةٌ زائِدةٌ في الإفْهامِ أو إزالةِ الإبْهامِ على قولِك: «سُرِق بيتي».
ومنه قولُ الشَّاعِر:
إنَّا بَني نَهْشَلٍ لا ندَّعي لأِبٍ
عنهُ، ولا هو بالأبْناءِ يَشْرِينا
إنْ تُبتدَرْ غايةٌ يومًا لمكرُمةٍ
تَلْقَ السَّوابِقَ منَّا والمُصلِّينا
يَفتخِرُ الشَّاعِرُ بقوْمِه بَني نَهْشَلٍ بأنَّهم لا يَرغَبون عن أبيهم ولا يَنْتسبونَ إلى غيرِه، وهُو لا يَرغبُ عنْهم، فيَتَبنَّى غيرَهم ويَبيعُهم به، وأنَّهم إذا استُبِق إلى نِهايةِ مجْدٍ أو غايةِ مَكرُمةٍ، يَجدُ الإنْسانُ أنَّ السَّابِقينَ منْهم والتَّالينَ منْهم أيضًا، (والمُصلِّي مِن أَسْماءِ خيْلِ الحَلْبةِ الَّتي تَخرُجُ للسِّباقِ، وَهِي عشَرَةٌ، أَوَّلُها السَّابِقُ، وَثَانِيها المُصلِّي) [166] ((شرح ديوان الحماسة)) للمرزوقي (ص: 77). .
والشَّاهِدُ هنا أنَّه قال: (تُبتدَرْ غايةٌ) فبنَى الفِعلَ للمَجْهولِ وحذَف الفاعِلَ؛ لأنَّه غيرُ مُحدَّدٍ، وقد يُريدُ الشَّاعرُ بذلك التَّعْميمَ؛ فهُم يَسبقونَ أيَّ أحَدٍ ولا يَسبِقُهم أحدٌ.
ح- تَعْظيمُ الفاعِلِ؛ وذلك بصَوْنِ اسمِه عن أنْ يَجريَ على لِسانِ المُتكلِّمِ، أو بصوْنِه عن أنْ يَقترِنَ بالمَفْعولِ به في الذِّكْرِ، كما تقولُ: خُلِقَ الخِنزيرُ، ومَعْلومٌ أنَّ الخالِقَ هو اللهُ تعالى.
ط- الإبْهامُ على السَّامِعِ، كما تقولُ: تُصُدِّقَ بألْفِ دِينارٍ.
ي- تَحْقيرُ الفاعِلِ؛ فلا يَجْري اللِّسانُ بذِكْرِه، كمَنْ يقولُ في وصْفِ شخْصٍ يَرضى الهَوانَ والذُّلَّ: «يُهانُ ويُذَلُّ فلا يغضَبُ».
ومنه قولُ النَّابِغةِ مُخاطِبًا النُّعْمانَ بنَ المُنْذِرِ: الطويل
لئنْ كُنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي وِشايةً
لَمُبلِغُك الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
فلم يَذكُرِ الواشِيَ باسْمِه وبنَى الفِعلَ للمَجهولِ فقال: «بُلِّغتَ» احْتقارًا له.
ك- خوْفُ المُتَكلِّمِ مِنَ الفاعِلِ أو خوْفُه عليه، كمَنْ يقولُ: قُتِل فُلانٌ، فلا يَذكُرُ القاتِلَ خوْفًا منه، أو خوْفًا عليه فيُريدُ أنْ يَحميَه مِنَ القِصاصِ.
ومن ذلك قولُ النَّابِغةِ:
نُبِّئتُ أَنَّ أبا قابُوسَ أوْعدَني
ولا قَرارَ على زَأرٍ مِنَ الأسَدِ
فحذَف الفاعِلَ خوْفًا عليه؛ حتَّى لا يَعلَمَه أبو قابوسَ فيُعاقِبَه. أوْعَدني: مِنَ الوَعيدِ، والقَرارُ: الاسْتِقرارُ في المَكانِ، وزأر الأسدُ: إذا صاح وغَضِب، يُريدُ أنَّه لا يَجدُ مَكانًا يَأوي إليه إذا تَوعَّده أبو قابوسَ النُّعمانُ بنُ المُنذِرِ.
ل- عدَمُ تَحقُّقِ غَرَضٍ مُعيَّنٍ في الكَلامِ بذِكْرِ الفاعِلِ، مِثلُ قولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] ؛ فبُنيَ الفِعلانِ «ذُكِر وتُلِي» للمَجهولِ؛ لعَدمِ تَعلُّقِ الغَرَضِ بشَخصِ الذَّاكِرِ والتَّالي للآياتِ؛ (فالمُرادُ مِن قولِه: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ إذا نطَق ناطِقٌ باسمٍ مِن أسْماءِ اللهِ، أو بشأنٍ مِن شُؤونِه) [167] ((تفسير ابن عاشور)) (9/ 256). ، وكذلك إذا تَلا أيُّ تالٍ آياتِ اللهِ.
ومِن المُلاحَظِ أنَّ حذْفَ الفاعِلِ في مُعظَمِ الأمْثلةِ السَّابِقةِ هو حذْفٌ للمُسنَدِ إليه الحّقيقيِّ، وإن كان المُسنَدُ إليه في اللَّفظِ -وهُو نائِبُ الفاعِلِ- مَذْكورًا [168] ينظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (2/ 4)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 155)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 103 - 104)، ((علم المعاني)) لعبد العزيز عتيق (ص: 122 - 128)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 90 - 92). .

انظر أيضا: