موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: صُوَرُ الوفاءِ


1- الوَفاءُ بالعَهدِ الذي بَينَ العَبدِ ورَبِّه:
 (فالعُهودُ التي يرتَبطُ المُسلمُ بها دَرَجاتٌ؛ فأعلاها مَكانةً وأقدَسُها ذِمامًا: العَهدُ الأعظَمُ الذي بَينَ العَبدِ وربِّ العالمينَ؛ فإنَّ اللهَ خَلقَ الإنسانَ بقُدرَتِه، وربَّاه بنِعمَتِه، وطَلبَ منه أن يعرِفَ هذه الحَقيقةَ، وأن يعتَرِفَ بها، وألَّا تَشرُدَ به المُغوياتُ، فيجهَلَها أو يجحَدَها؛ قال تعالى: لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60 - 61] ) [9620] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 50). .
2- الوفاءُ في سَدادِ الدَّينِ:
اهتَمَّ الإسلامُ بالدَّينِ؛ لأنَّ أمرَه عَظيمٌ، وشَأنَه جَسيمٌ، وقد أكَّدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قَضاءِ الدَّينِ، وكان لا يُصَلِّي على المَيِّتِ إذا كان عليه دَينٌ حتَّى يُقضى عنه. وقد قال: ((مَن أخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومَن أخَذَها يُريدُ إتلافَها أتلَفَه اللهُ)) [9621] رواه البخاري (2387) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
3- الوفاءُ بشُروطٍ عَقدِ النِّكاحِ:
 قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أحَقُّ الشُّروطِ أن تُوفُوا به ما استَحللْتُم به الفُروجَ)) [9622] رواه البخاري (2721) واللفظ له، ومسلم (1418) من حديثِ عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال الخَطَّابيُّ: (الشُّروطُ في النِّكاحِ مُختَلفةٌ؛ فمِنها ما يجِبُ الوفاءُ به اتِّفاقًا، وهو ما أمَرَ اللهُ به من إمساكٍ بمَعروفٍ، أو تَسريحٍ بإحسانٍ، وعليه حَمل بَعضُهم هذا الحَديثَ، ومِنها ما لا يُوفَى به اتِّفاقًا، كسُؤالِ طَلاقِ أُختِها... ومِنها ما اختُلف فيه كاشتِراطِ ألَّا يتَزَوَّجَ عليها، أو لا يتَسَرَّى، أو لا ينقُلَها من مَنزِلها إلى مَنزِلِه) [9623] ((فتح الباري)) لابن حجر (9/218). .
4- الوفاءُ بَينَ الزَّوجَينِ:
الوفاءُ بَينَ الزَّوجَينِ يجعلُ الأُسَرَ مُستَقِرَّةً، والبُيوتَ مُطمَئِنَّةً، فيكونُ رابطُ الوفاءِ بَينَهما في حالِ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ، وفي العُسرِ واليُسرِ.
5- الوفاءُ بإعطاءِ الأجيرِ أجْرَه:
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: ثَلاثةٌ أنا خَصمُهم يَومَ القيامةِ: رَجُلٌ أعطى بي [9624] أي: حَلَف بي؛ وذلك لأنَّه اجترأ على ربِّه عزَّ وجَلَّ، أو أعطى الأمانَ باسمي أو بما شرَعْتُه من ديني. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 533)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/ 2210). ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَه، ورَجُلٌ استَأجَرَ أجيرًا فاستَوفى منه ولم يُعطِ أجرَه)) [9625] رواه البخاري (2227). .
6- وفاءُ العامِلِ بعَمَلِه:
 وذلك بأن يعمَلَ العامِلُ، ويُعطيَ العَمَلَ حَقَّه باستيفائِه خاليًا من الغِشِّ والتَّدليسِ.
7- الوفاءُ بالنَّذرِ:
قال تعالى مادِحًا الأبرارَ لوفائِهم بنُذورِهم: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان: 7] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومَن نَذَرَ أن يعصيَ اللهَ فلا يَعْصِه))، ويجِبُ الوفاءُ بالنَّذرِ إذا كان نَذرَ طاعةٍ.
8- الوفاءُ بما التَزَمَ به من بَيعٍ أو إجارةٍ وغَيرِ ذلك من العُقودِ:
 فمن صورِ الوفاءِ (الوفاءُ بما التَزَمَ به من بَيعٍ أو إجارةٍ وغَيرِ ذلك من المُعامَلاتِ الماليَّةِ ما دامَت مَشروعةً؛ يقولُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، وسَواءٌ كانت هذه العُقودُ مُبرَمةً بَينَ المُسلمِ والمُسلمِ، أو المُسلمِ وغَيرِ المُسلمِ) [9626] ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 218). .
9- الوفاءُ بَينَ الدُّوَلِ في المُعاهَداتِ والمَواثيقِ:
 وقد دَلَّت على ذلك عُموماتُ النُّصوصِ، وأكَّدَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على احتِرامِ الأحلافِ المَعقودةِ في الجاهليَّةِ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُؤَكِّدًا على ضَرورةِ الوفاءِ بأحلافِ الجاهليَّةِ: ((أوفوا بحِلفِ الجاهليَّةِ؛ فإنَّه لا يزيدُه -يعني الإسلامَ- إلَّا شِدَّةً)) [9627] رواه الترمذي (1585) واللفظ له، وأحمد (6933). من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الترمذي، والطبري في ((التفسير)) (8/288)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1585)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/140)، وحسَّنه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/461)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6933) وقال: ولبعضِه شواهِدُ يَصِحُّ بها. . وظَلَّ تاريخُ الإسلامِ مُنذُ فجرِ عَهدِه، وعلى مَرِّ مَراحِلِه التَّاريخيَّةِ، صَفحةً بَيضاءَ نَقيَّةً لم يُدَنَّسْ بخيانةٍ ولا غَدرٍ، ولا نَقضِ عَهدٍ، بدونِ وُجودِ ناقِضٍ من العَدوِّ [9628] يُنظَر: ((الوفاء بالعهود والمواثيق في الشريعة الإسلامية)) لعبد اللهِ بن محمد الحجيلي (ص: 337). .
10- الوفاءُ في الكَيلِ والميزانِ؛ قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام: 152] ، وقال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35] .
11- الوفاءُ بأداءِ الأماناتِ ورَدِّ الودائِعِ.
12- الوفاءُ بالوُعودِ.
13- الوَفاءُ بالأيمانِ؛ قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91] .
(قَولُه تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ، والعَهدُ هاهنا هو اليمينُ؛ قال الشَّعبيُّ: العَهدُ يمينٌ وكفَّارَتُه كفَّارةُ اليمينِ، وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا تَشديدِها، فتَحنَثوا فيها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شَهيدًا بالوفاءِ) [9629] ((تفسير البغوي)) (3/ 93). .
قال ابنُ كثيرٍ: (وهذا مِمَّا يأمُرُ اللهُ تعالى به، وهو الوفاءُ بالعُهودِ والمَواثيقِ، والمُحافظةُ على الأيمانِ المُؤَكَّدةِ؛ ولهذا قال: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، ولا تَعارُضَ بَينَ هذا وبَينَ قَولِه: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة: 224] ، وبَينَ قَولِه: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89] أي: لا تَتركوها بلا تَكفيرٍ، وبَينَ قَولِه عليه السَّلامُ فيما ثَبَتَ عنه في الصَّحيحَينِ: ((إنِّي واللهِ -إن شاءَ اللهُ- لا أحلِفُ على يمينٍ فأرى غَيرَها خَيرًا مِنها إلَّا أتَيتُ الذي هو خَيرٌ وتَحَلَّلتُها)). وفي رِوايةِ: ((وكَفَّرت عن يميني))؛ لا تَعارُضَ بَينَ هذا كُلِّه ولا بَينَ الآيةِ المَذكورةِ هاهنا، وهي قَولُه: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل: 91] ؛ لأنَّ هذه الأيمانَ المُرادُ بها الدَّاخِلةُ في العُهودِ والمَواثيقِ لا الأيمانُ التي هي وارِدةٌ على حَثٍّ أو مَنعٍ) [9630] ((تفسير ابن كثير)) (4/ 598). .
14- من الوفاءِ أن لا ينسى المَرءُ من أحسَنَ إليه أو أسدى إليه مَعروفًا.
 عن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في أُسارى بَدرٍ: ((لو كان المَطعِمُ بنُ عَديٍّ حَيًّا، ثُمَّ كلمَني في هؤلاء النَّتْنى لتَركتُهم له)) [9631] أخرجه البخاري (3139). .
والمُرادُ بقَولِه: ((النَّتْنى)): أُسارى بَدرٍ من المُشرِكينَ، ومَعنى قَولِه: ((لتَركتُهم)) أي: بغَيرِ فِداءٍ، وذلك لأنَّ المَطعِمَ كانت له يدٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: وهي أنَّه لمَّا رَجَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الطَّائِفِ دَخَل في جِوارِ المَطعِمِ بنِ عَديٍّ، فأمَرَ المَطعِمُ أربَعةً من أولادِه فلَبِسوا السِّلاحَ وقامَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم عِندَ رُكنٍ من الكعبةِ، فبَلغَ ذلك قُرَيشًا فقالوا له: أنت الرَّجُلُ الذي لا تُخفَرُ ذِمَّتُك، وقيل: المُرادُ باليدِ المَذكورةِ أنَّه كان من أشَدِّ من قامَ في نَقضِ الصَّحيفةِ التي كتَبتْها قُرَيشٌ على بَني هاشِمٍ ومَن مَعَهم من المُسلمينَ حينَ حَصَروهم في الشِّعْبِ [9632] ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 324). .

انظر أيضا: