موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- مِنَ القُرآنِ الكريمِ


- قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] .
في هذه الآيةِ مَدَح اللَّهُ تعالى القوَّةَ في طاعَتِه؛ قوَّةَ القَلبِ والبَدَنِ؛ فإنَّه يحصُلُ مِنها مِن آثارِ الطَّاعةِ وحُسنِها وكثرَتِها ما لا يحصُلُ مَعَ الوهنِ وعَدَمِ القوَّةِ، وأنَّ العَبدَ ينبَغي له تَعاطي أسبابِها، وعَدَمُ الرُّكونِ إلى الكسَلِ والبطالةِ المُخِلَّةِ بالقُوى، المُضعِفةِ للنَّفسِ [7782] يُنظَر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 712). وقد اختُلِف في المرادِ بالقُوَّةِ هنا؛ فقيل: هي القُوَّةُ على العبادةِ. يُنظَر: ((الوسيط)) للواحدي (3/543)، ((تفسير القرطبي)) (15/158). وقيل: المرادُ: القوَّةُ في العِلمِ والعَمَلِ. يُنظَر: ((تفسير ابن كثير)) (7/57). وقال ابنُ عطيَّةَ: (الأيْدُ: القُوَّةُ، وهي في داودَ متضَمِّنةٌ قُوَّةَ البَدَنِ، وقوَّتَه على الطاعةِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/496). وقال ابنُ جُزَيٍّ: (وكان داودُ جمعَ قُوَّةَ البدَنِ، والقُوَّةَ في الدِّينِ، والمُلكَ، والجنودَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/203). وقيل: المرادُ: مُطلَقُ القُوَّةِ، سواءٌ في العبادةِ، أو في المُلكِ، أو فيما سوى ذلك؛ فهو ذو أيدٍ في كُلِّ ما تكونُ القُوَّةُ فيه صفةَ مَدحٍ. يُنظَر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة ص)) (ص: 84). .
- ذَكَر اللَّهُ تعالى القوَّةَ على أنَّها مَظهَرٌ مِن مَظاهرِ الفَضلِ والنِّعمةِ، ونَعَتَ بها المُؤمِنينَ، فقال سُبحانَه: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [هود: 52] ، وقال: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح: 29] .
- ومِمَّا يدُلُّ على شَرَفِ القوَّةِ أنَّ اللَّهَ تعالى وصف نَفسَه بالقوَّةِ، فقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود: 66] ، وقال تعالى:كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .
- وقال تعالى: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26] ، فدَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ هَذَينِ الوصفينِ القوَّةَ والأمانةَ ينبَغي اعتِبارُهما في كُلِّ مَن يتَولَّى للإنسانِ عَمَلًا بإجارةٍ أو غَيرِها؛ فإنَّ الخَلَلَ لا يكونُ إلَّا بفَقدِهما أو فَقدِ إحداهما، وأمَّا باجتِماعِهما فإنَّ العَمَلَ يتِمُّ ويَكمُلُ [7783] يُنظَر:((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 614). .
وفي تَقديمِ القوَّةِ على الأمانةِ دَليلٌ على أنَّها أهَمُّ مِنَ الأمانةِ؛ لأنَّه كم مِن إنسانٍ أمينٍ، ولا يُخشى مِنه الخيانةُ أبَدًا، لكِنَّه ضَعيفٌ لا يُنتِجُ ولا يُثمِرُ! وكم مِن إنسانٍ قَويٍّ في أداءِ عَمَلِه لكِنَّه ضَعيفٌ في أمانَتِه! فالثَّاني أحسَنُ لإقامةِ العَمَلِ؛ ولهذا تَجِدُ كثيرًا مِنَ النَّاسِ -الذين لَدَيهم قوَّةٌ وحَزمٌ وتَصَرُّفٌ- تَجِدُهم يُنتِجونَ مِنَ الأعمالِ أكثَرَ بكثيرٍ مِن قَومٍ ضُعَفاءَ وعِندَهم أمانةٌ [7784] يُنظَر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/259). .
- وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] ، فأمر اللَّهُ سُبحانَه وتعالى بإعدادِ القوَّةِ للأعداءِ، مَعَ أنَّ اللَّهَ تعالى لو شاءَ لهَزَمَهم، ولكِنَّه أرادَ أن يُبليَ بَعضَ النَّاسِ ببَعضٍ بعِلمِه السَّابقِ وقَضائِه النَّافِذِ؛ فأمَر بإعدادِ القُوى والآلةِ في فُنونِ الحَربِ، التي تَكونُ لَنا عُدَّةً، وعليهم قوَّةً [7785] يُنظَر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/421). .
- ونهى اللهُ تعالى عن الوَهنِ والضَّعفِ، فقال: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] .
قولُه: (وَلَا تَهِنُوا أي: لا تَضعُفوا بسَبَبِ ما جرى) [7786] يُنظَر: ((تفسير القرآن العظيم)) (2/127). أي: يومَ أُحُدٍ.
- وقال تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35] .
فـ (نَهى سُبحانَه المُؤمِنينَ عنِ الوهنِ والضَّعفِ، فقال: فَلَا تَهِنُوا أي: تَضعُفوا عنِ القِتالِ، والوَهنُ: الضَّعفُ، وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي: ولا تَدعوا الكُفَّارَ إلى الصُّلحِ ابتِداءً مِنكم؛ فإنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا عِندَ الضَّعفِ) [7787] ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 49). .
- وقال سُبحانَه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]
قَولُه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ أي: وكم مِن نَبيِّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي: جَماعاتٌ كثيرونَ مِن أتباعِهم، الذين قد رَبَّتهمُ الأنبياءُ بالإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ، فأصابَهم قَتلٌ وجِراحٌ وغَيرُ ذلك! فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا أي: ما ضَعُفت قُلوبُهم، ولا وهَنَت أبدانُهم، ولا استَكانوا، أي: ذَلُّوا لعَدوِّهم، بل صَبَروا وثَبَتوا، وشَجَّعوا أنفُسَهم؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [7788] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 151). .
- وقال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ [الأعراف: 145] .
قال مُحَمَّد رَشيد رِضا في هذه الآيةِ: (والعِبرةُ التي يجِبُ أن يتَذَكَّرَها ويتَدَبَّرَها كُلُّ قارِئٍ لهذه الآيةِ مِن وُجوهٍ) ذَكرَ مِنها: (أنَّ الكِتابَ الإلهيَّ يجِبُ أخذُه بقوَّةٍ وإرادةٍ وجِدٍّ وعَزيمةٍ؛ لتَنفيذِ ما هَدى إليه مِنَ الإصلاحِ، وتَكوينِ الأُمَّةِ تَكوينًا جَديدًا صالحًا، ويتَأكَّدُ ذلك في الرَّسولِ المُبَلِّغِ له، والدَّاعي إليه، والمُنَفِّذِ له بقَولِه وعَمَلِه؛ ليكونَ لقَومِه فيه أُسوةٌ حَسَنةٌ، وتلك سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في سائِرِ الانقِلاباتِ والتَّجديداتِ الاجتِماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ، وإن لم يكُنْ بهدايةِ الدِّينِ، والدِّينُ أحوجُ إلى القوَّةِ والعَزيمةِ؛ لأنَّه إصلاحٌ للظَّاهرِ والباطِنِ جَميعًا.
وقد أمَرَ اللَّهُ تعالى بَني إسرائيلَ بما أمَرَ به رَسولَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أخذِ الكِتابِ أو ميثاقِ الكِتابِ بقوَّةٍ، أمرًا مَقرونًا بتَهديدِهم وتَخويفِهم مِن وُقوعِ جَبَلِ الطُّورِ بهم، كما في قَولِه تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63] ، وقَولِه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 93] ، وقَولِه: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف: 171] .
وقد أخَذَ سَلَفُنا القُرآنَ بقوَّةٍ فسادوا به جَميعَ الأُمَمِ التي كان لها مِنَ القوى العَدَديَّةِ والحَربيَّةِ والنِّظاميَّةِ والماليَّةِ والصِّناعيَّةِ ما ليس لهم، وإنَّما سادوا بالعَمَلِ بهدايتِه كما أرادَ اللَّهُ تعالى. إنَّ مَن يأخُذُ القُرآنَ بقوَّةٍ يكونُ القُرآنُ حُجَّةً له فيَسعَدُ به في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن لا يأخُذُه بقوَّةٍ يكونُ حُجَّةً عليه، فيشقى بالإعراضِ عنه) [7789] ((تفسير المنار)) (9/ 167) بتصرف. .

انظر أيضا: