موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا لا يمنَعنَّ أحَدَكم مَخافةُ النَّاسِ أن يقولَ بالحَقِّ إذا رآه)) [7790] أخرجه من طرقٍ: أحمد (11403)، وابن حبان (275) واللفظ له، والبيهقي (20675). صحَّحه ابن حبان، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (164)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (423). ، فعَلَّم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه -رِضوانُ اللَّهِ عليهم- وأُمَّتَه مِن بَعدِهم ألَّا تَأخُذَهم في الحَقِّ لَومةُ لائِمٍ، بل يكونونَ أقوياءَ في الحَقِّ، ولا تَمنَعَهم هَيبةُ النَّاسِ أن يقولوا به إذا شَهدوه أو عَلِموه، بل عليهم أن ينطِقوا بالحَقِّ ويقِفوا مَعَه إذا كان عِندَهم عِلمٌ بهذا الحَقِّ، ولو كان صاحِبُ المُنكَرِ ذا وجاهةٍ [7791] يُنظَر: ((عارضة الأحوذي)) لأبي بكر بن العربي (9/ 42)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا علي القاري (8/ 3216)، ((دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين)) لابن علان (2/ 467). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المؤمِنُ القَويُّ خَيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ من المؤمِنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خَيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستَعِنْ باللهِ، ولا تَعجِزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقُلْ: لو أنِّي فعَلْتُ كان كذا وكذا، ولكِنْ قُلْ قَدَّر اللهُ وما شاء فَعَل، فإنَّ لو تفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ)) [7792] أخرجه مسلم (2664) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
(القوَّةُ هنا المَحمودةُ يحتَمِلُ أنَّها في الطَّاعةِ... وقد تَكونُ القوَّةُ هنا في المُنَّةِ وعَزيمةِ النَّفسِ، فيكونُ أقدَمَ على العَدُوِّ في الجِهادِ وأشَدَّ عَزيمةً في تَغييرِ المَناكِرِ، والصَّبرِ على إيذاءِ العَدوِّ، واحتِمالِ المَكروهِ والمَشاقِّ في ذاتِ اللَّهِ، أو تَكونُ القوَّةُ بالمالِ والغِنى... وكُلُّ هذه الوُجوهِ ظاهِرةٌ في القوَّة [7793] يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/ 157). ، والمُؤمِنُ القَويُّ أحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعيفِ؛ وذلك لأنَّ المُؤمِنَ القَويَّ ينفعُ نَفسَه وينفعُ غَيرَه، ورُبَّما تَعَدَّت مَنفعَتُه إلى أهلِه وقَومِه، والمُؤمِنُ الضَّعيفُ قد يقتَصِرُ بنَفعِه على نَفسِه، وقد يضعُفُ عن حِفظِ نَفسِه، ولأنَّ المُؤمِنَ القَويَّ يَكسِرُ حِزبَ الشَّيطانِ بقَولِه إذا قال، وبفِعلِه إذا فَعَل [7794] يُنظَر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (8/ 44). .
قال ابنُ عُثَيمين: ("القَويُّ": أي: في إيمانِه وما يقتَضيه إيمانُه؛ ففي إيمانِه يعني: ما يحُلُّ في قَلبه مِنَ اليقينِ الصَّادِقِ الذي لا يعتَريه شَكٌّ، وفيما يقتَضيه، يعني: العَمَلَ الصَّالحَ: مِنَ الجِهادِ، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عنِ المُنكرِ، والحزمِ في العِباداتِ وما أشبَهَ ذلك.
وهَل يدخُلُ في ذلك قوَّةُ البَدَنِ؟
الجَوابُ: لا يدخُلُ في ذلك قوَّةُ البَدَنِ إلَّا إذا كان في قوَّةِ بَدَنِه ما يزيدُ إيمانَه، أو يزيدُ ما يقتَضيه؛ لأنَّ "القَويَّ"وصفٌ عائِدٌ على مَوصوفٍ، وهو المُؤمِنُ؛ فالمُرادُ: القَويُّ في إيمانِه أو ما يقتَضيه، ولا شَكَّ أنَّ قوَّةَ البَدَنِ نِعمةٌ، إنِ استُعمِلَت في الخَيرِ فخَيرٌ، وإنِ استُعمِلَت في الشَّرِّ فشَرٌّ) [7795] ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/ 366). .

3- عن طارِقِ بنِ شِهابٍ ((أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد وضَعَ رِجله في الغَرزِ: أيُّ الجِهادِ أفضَلُ؟ قال: كَلِمةُ حَقٍّ عِندَ سُلطانٍ جائِرٍ)) [7796] أخرجه النسائي (4209) واللفظ له، وأحمد (18830). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4209)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1505)، وصحَّح إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/229)، والنووي في ((رياض الصالحين)) (117). ، أي: أنَّ تلك الكلمةَ بالعَدلِ والحَقِّ موجَّهةً لوليِّ أمرٍ يلي مِن أُمورِ المُسلمينَ ما يلي، وظَهَرَ مِنه أنَّه ظالمٌ واشتَهَرَ بذلك، ورُبَّما آذى مَن يأمُرُه أو ينهاه: هي من أفضَلِ الجِهادِ، وقال السُّيوطيُّ: (جَعَله أفضَلَ جِهادٍ ليأسِه مِن حَياتِه) [7797] ينظر ((مرقاة الصعود)) للسيوطي (3/ 1105). ، ولأنَّ مُجاهِدَ العَدوِّ مُتَرَدِّدٌ بَينَ أن يَغلِبَ ويُغلَبَ، ومَن عِندَ السُّلطانِ مَقهورٌ في يدِه، فإذا قال الحَقَّ أو أمَرَ به فقد تَعرَّض للتَّلَفِ، وعلى هذا فلا يتَعَرَّضُ للصَّدعِ بالحَقِّ عِندَ هذا السُّلطانِ الجائِرِ إلَّا شَخصٌ قَويٌّ في الحَقِّ ثابتٌ على مَبادِئِ الشَّرعِ عالمٌ بكيفيَّةِ إيصالِ مَعاني الحَقِّ إلى مِثلِ هذا السُّلطانِ؛ ولهذا  فقد جَعَلَ اللَّهُ أجرَ مَن يأمُرُه بالعَدلِ والمَعروفِ وينهاه عنِ المُنكَرِ أنَّه في أعلى مَراتِبِ الجِهادِ؛ وذلك أنَّ وليَّ الأمرِ لو أخَذَ بكلمَتِه لَرُبَّما عَمَّ النَّفعُ عَدَدًا كبيرًا مِنَ النَّاسِ، فتَحصُلُ المَصلَحةُ [7798] ينظر ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 50)، ((شرح المشكاة)) للطيبي (8/ 2581)، ((مرقاة المفاتيح) للملا علي القاري (8/ 3208). .
و(الأمرُ بالمَعروفِ مَعَ السُّلطانِ التَّعريفُ والوَعظُ، وأمَّا المَنعُ بالقَهرِ فليس ذلك لآحادِ الرَّعيَّةِ؛ لأنَّ ذلك يُحَرِّكُ الفِتنةَ، ويُهَيِّجُ الشَّرَّ، ويكونُ ما يتَولَّدُ مِنه مِنَ المَحذورِ أكثَرَ، وأمَّا التَّخَشُّنُ في القَولِ كقَولِك: يا ظالِمُ، يا مَن لا يخافُ اللَّهَ، وما يَجري مَجراه؛ فذلك إن كان يتَعَدَّى شَرُّه إلى غَيرِه لم يجُزْ، وإن كان لا يخافُ إلَّا على نَفسِه فهو جائِزٌ، بل مَندوبٌ إليه؛ فلقد كان مِن عادةِ السَّلَفِ التَّعَرُّضُ للأخطارِ والتَّصريحِ بالإنكارِ مِن غَيرِ مُبالاةٍ بهَلاكِ المُهجةِ؛ لعِلمِهم بأنَّ ذلك جِهادٌ وشَهادةٌ) [7799] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 343). .
4-كان مِن دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَولُه: ((وأسألُك كَلِمةَ الحَقِّ في الرِّضا والغَضَبِ)) [7800] أخرجه من طرقٍ: النسائي (1305) واللفظ له، وأحمد (18325) من حديثِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1971)، وابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/759)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1305)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (30/ 265). ، قال ابنُ القَيِّمِ: (الدِّينُ مَدارُه على أصلَينِ: العَزمِ والثَّباتِ) [7801] ((عدة الصابرين)) (1/90). ، وهذان الأصلانِ إذا اتَّصَف بهما المُسلمُ فإنَّه يكونُ قَويًّا في الحَقِّ ثابتًا على مَبادِئِ الشَّرعِ وأُصولِه؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو اللَّهَ أنَّ يُقَوِّيَه في الحَقِّ الذي هو عليه، وأن يرزُقَه الثَّباتَ على هذا الحَقِّ، وأن يُقَوِّيَه بعَزيمةٍ شَديدةٍ تُثبِّتُه على الرُّشدِ والصَّوابِ، وتُبعِدُه عنِ الغَيِّ والضَّلالِ، وقد دَعَّمَ هذا في دُعائِه: ((وأسألُك كَلِمةَ الحَقِّ في الرِّضا والغَضَبِ))، وكُلُّ هذا فيه الدُّعاءُ بأن يرزُقَه اللَّهُ الثَّباتَ على الحَقِّ والقوَّةَ فيه، والتَّكلُّمَ به في حالِ رِضاه وسُرورِه، وفي حالِ غَضَبِه وانفِعالِه؛ بحَيثُ لا يتَكلَّمُ بباطِلٍ، ولا يميلُ عنِ الحَقِّ، ولا تُلجِئُه شِدَّةُ الغَضَبِ إلى النُّطقِ بخِلافِ الحَقِّ، ويُحتَمَلُ أن يكونَ مَعنى دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أسألُك قَولَ الحَقِّ في حالَتَي رِضا الخَلقِ عنِّي، وغَضَبِهم عليَّ فيما أقولُه؛ فلا أُداهِنُ ولا أُنافِقُ، بل أكونُ مُستَمِرًّا على قَولِ الحَقِّ في جَميعِ أحوالي وأوقاتي [7802] يُنظَر: ((فيض القدير)) للمناوي (2 / 146)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 278)، ((ذخيرة العقبى)) للإتيوبي (15/ 242). ، وقد (جَمَعَ بَينَ الحالَتَينِ؛ لأنَّ الغَضَبَ رُبَّما حالَ بَينَ الإنسانِ وبَينَ الصَّدعِ بالحَقِّ، وكذلك الرِّضا رُبَّما قادَ في بَعضِ الحالاتِ إلى المُداهَنةِ وكتمِ كَلِمةِ الحَقِّ) [7803] يُنظَر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 278). ، وهكذا ينبَغي على كُلِّ مُسلمٍ أن يتَأسَّى بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيدعوَ اللَّهَ بالثَّباتِ والقوَّةِ في الحَقِّ، وأن تَظهَرَ قوَّتُه هذه في تَمَسُّكِه بدينِه وإظهارِه للحَقِّ في كُلِّ جَوانِبِ حَياتِه.
5- عن مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيرًا يُفقِّهْه في الدِّينِ، ولا تَزالُ عِصابةٌ مِنَ المُسلمينَ يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهِرينَ على مَن ناوأَهم إلى يومِ القيامةِ)) [7804] أخرجه البخاري (71) بنحوه، ومسلم (1037) واللفظ له. ، (والفِقهُ لُغةً: الفهمُ، وعُرفًا: العِلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ الفرعيَّةِ عن أدِلَّتِها التَّفصيليَّةِ بالاستِدلالِ، ولا يُناسِبُ هنا إلَّا المَعنى اللُّغَويُّ؛ ليتَناولَ فَهْمَ كُلِّ عِلمٍ مِن عُلومِ الدِّينِ) [7805] يُنظَر: ((البحر المحيط الثجاج)) للإتيوبي (33/ 30). ، والتَّفقُّهُ في الدِّينِ يزيدُ المُسلمَ قوَّةً في الحَقِّ وثَباتًا عليه، وجِهادًا في سَبيلِه، ومِن ثَمَّ فإنَّه في كُلِّ وقتٍ وكُلِّ عَصرٍ توجَدُ جَماعةٌ مِنَ المُسلمينَ أقوياءَ في الحَقِّ، ويُقاتِلونَ في سَبيلِ نُصرَتِه، ويكونونَ ظاهرينَ مَنصورينَ بنَصرِ اللَّهِ على مَن ناوأَهم، غالبينَ على مَن خاصَمَهم وعاداهم،  وسَيظَلُّ هذا الأمرُ إلى يومِ القيامةِ؛ فإن ضَعُفَ الدِّينُ في زَمانٍ فلا بُدَّ أن يبقى مِنَ الأُمَّةِ مَن يقومُ به حتَّى لا يَذِلَّ الإسلامُ وأهلُه [7806] يُنظَر: ((تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة)) للبيضاوي (2/ 591)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/ 262). .
وهذه الطَّائِفةُ القَويَّةُ في الحَقِّ الظَّاهرةُ ليست مَحصورةً في طائِفةٍ مُعَيَّنةٍ، بل قد تَتَنَوَّعُ، (قال البُخاريُّ: هم أهلُ العِلمِ، وقال أحمَدُ: إن لم يكونوا أهلَ الحَديثِ فلا أدري مَن هم، قال النَّوويُّ: يَحتَمِلُ أن تَكونَ هذه الطَّائِفةُ مُفرَّقةً مِن أنواعِ المُؤمِنينَ؛ فمِنهم شُجعانٌ يُقاتِلونَ، ومِنهم فُقَهاءُ مُحَدِّثونَ، ومِنهم زُهَّادٌ، ولا يلزَمُ أنَّ يكونوا مُجتَمِعينَ، بل قد يكونونَ مُتَفرِّقينَ في أقطارِ الأرضِ) [7807] يُنظَر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (11/ 30). ، وكُلُّ هذا فيه دَعوةٌ للمُسلمينَ أن يكونَ مِنهم جَماعاتٌ مُتَنَوِّعةٌ أقوياءُ في الحَقِّ، سَواءٌ في أُمورِ الدِّينِ أوِ الدُّنيا.

انظر أيضا: