موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (20-22)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

غُرُورٍ: أي: باطِلٍ، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقظةِ، يقال: غَررْتُ فلانًا: أصبتُ غِرَّتَهُ ونِلتُ منه ما أُريدُه، وأصلُ ذلك مِن الغَرِّ، وهو الأثَرُ الظَّاهرُ مِن الشَّيءِ، والغَرورُ: كلُّ ما يَغُرُّ الإنسانَ مِن مالٍ وجاهٍ وشهوةٍ وشيطانٍ [333] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/392)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603، 604)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 263)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .
لَجُّوا: أي: تَمادَوْا واستمَرُّوا، واللَّجاجُ: التَّمادي والعِنادُ في تعاطي الفِعلِ المَزجورِ عنه، وأصلُ (لجج): يدُلُّ على تردُّدِ الشَّيءِ بَعضِه على بَعضٍ [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 736)، ((تفسير القرطبي)) (18/218). .
عُتُوٍّ: أي: طُغيانٍ ومُعانَدةٍ واستِكبارٍ، والعُتُوُّ: الخُروجُ عن الطَّاعةِ، وأصلُ (عتو): يدُلُّ على استِكبارٍ [335] يُنظر: ((العين)) للخليل (2/226)، ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 332)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 205). .
وَنُفُورٍ: أي: ذَهابٍ، وبُعدٍ عن الحَقِّ، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على تَجافٍ وتَباعُدٍ [336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/603)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 817)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .
مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ: أي: لا يُبصِرُ يمينًا ولا شمالًا، ولا ما بيْنَ يدَيْه، والكَبُّ: إسقاطُ الشَّيءِ على وجهِه، وأصلُ (كبب): يدُلُّ على جمعٍ وتجَمُّعٍ [337] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((تفسير ابن جرير)) (23/132)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/124)، ((البسيط)) للواحدي (22/60)، ((تفسير البغوي)) (8/179)، ((المفردات)) للراغب (ص: 695). .
سَوِيًّا: أي: مُنتصبَ القامةِ، مُعتدلًا، ناظرًا إلى ما بيْنَ يدَيْه، سالمًا مِن العُثُورِ والخُرورِ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتِدالٍ بيْنَ شَيئيْنِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/132)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((تفسير البغوي)) (5/127)، ((تفسير الرسعني)) (8/209)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((تفسير الشوكاني)) (5/315). .
صِرَاطٍ: أي: طريقٍ [339] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 310)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/349)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى للمشركينَ الَّذينَ عَبَدوا غيرَه، يَبْتَغونَ عندَهم نصرًا ورِزقًا، مُنكِرًا عليهم: أمْ مَن هذا الَّذي هو عَونٌ وناصِرٌ لكم -أيُّها الكافِرونَ- يَدفَعُ عنكم العذابَ مِن دُونِ الرَّحمنِ؟! ما الكافِرونَ باللهِ إلَّا في غُرورٍ!
أمْ مَن هذا الَّذي يأتيكم بالرِّزقِ إنْ منَعَه اللهُ عنكم؟! بل استَمَرَّ -هؤلاء الكافِرون- وتمادَوا في طُغيانِهم وتكَبُّرِهم، ونُفورِهم عن الحَقِّ!
ثمَّ يضربُ الله تعالى المثَلَ للمؤمنِ والكافرِ، فيقولُ: أفمَن يَمشي مُنكِّسًا رأسَه لا يُبصِرُ طَريقَه، فيَخِرُّ على وَجهِه: أهدَى أمِ الَّذي يَمشي مُعتَدِلًا سالِمًا مِن التَّعثُّرِ مُبصِرًا طَريقَه؟!

تفسير الآيات:

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الكُفَّارُ يمتَنِعونَ عن الإيمانِ ويُنكِرونَ التَّوحيدَ مع وُضوحِ الأدِلَّةِ، صاروا كأنَّهم يمتَنِعونَ مِن عذابِ اللهِ بجُندٍ، وأشبَهَت حالُهم مَن يملِكُ دَفْعَ العذابِ إن أتاه؛ فقال اللهُ تعالى مُنكِرًا عليهم أن يكونَ لهم امتناعٌ مِن عَذابِه [340] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/58، 59). :
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ.
 أي: أم مَن هذا الَّذي هو عَونٌ وناصِرٌ لكم -أيُّها الكافِرونَ- يَدفَعُ عنكم العذابَ غَيرُ الرَّحمنِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((تفسير القرطبي)) (18/218)، ((تفسير أبي حيان)) (10/228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). ؟!
قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ [الأنبياء: 42، 43].
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ.
أي: ما الكافِرونَ باللهِ إلَّا في غُرورٍ عَظيمٍ قد أحاط بهم، فلا خَلاصَ لهم منه، وذلك باستِمرارِهم على كُفرِهم الَّذي يتَوهَّمونَه صَوابًا، وتوَهُّمِهم أنَّ آلهتَهم تَنفَعُهم [342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((تفسير القرطبي)) (18/218)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/255)، ((تفسير الشوكاني)) (5/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/42، 43). .
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قدَّم أعظَمَ الرَّحمةِ بالحِياطةِ والنُّصرةِ المُوجِبةِ للبقاءِ؛ أتْبَعَه ما يَتِمُّ به البقاءُ [343] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/255). .
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ.
أي: أم مَن هذا الَّذي يأتيكم بالرِّزقِ -أيُّها الكافِرونَ- إنْ منَعَه اللهُ عنكم [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((الوسيط)) للواحدي (4/330)، ((تفسير القرطبي)) (18/218)، ((تفسير أبي حيان)) (10/228)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((تفسير الشوكاني)) (5/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). ؟!
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73].
وقال سُبحانَه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 3] .
بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.
أي: لم يَرجِعوا عن تكذيبِهم وكُفْرِهم مع ما ذُكِرَ مِن دلائِلَ وحُجَجٍ، بل استَمَرُّوا وتمادَوا في طُغيانِهم وعِنادِهم وتكَبُّرِهم، ونُفورِهم عن الحَقِّ، وهُروبِهم منه [345] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/131)، ((تفسير القرطبي)) (18/218)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/256، 257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/44). .
كما قال تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60] .
وقال سُبحانَه: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 49 - 51] .
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَهم بالعُتُوِّ والنُّفورِ؛ نبَّه على ما يدُلُّ على قُبحِ هذَينِ الوَصفَينِ [346] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/594). .
وأيضًا لَمَّا كان ذلك فِعلَ مَن لا بَصَرَ له ولا بصيرةَ؛ سَبَّبَ عنه قَولَه مُمثِّلًا للمُوَحِّدِ والمُشرِكِ بسالكَينِ، ولدِينَيْهما بمَسْلَكينِ [347] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/257). .
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22).
أي: أفمَن يَمشي مُنكِّسًا رأسَه لا يُبصِرُ طَريقَه، فيَسقُطُ مُتعَثِّرًا ويَخِرُّ على وَجهِه: أهْدَى أمِ الَّذي يَمشي مُعتَدِلًا قائِمًا، رافِعًا رأسَه ناصِبًا وَجْهَه، سالِمًا مِن التَّعثُّرِ مُبصِرًا طَريقَه، سائِرًا على دَربٍ مُستَوٍ واضِحٍ لا اعوِجاجَ فيه [348] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/219)، ((تفسير البيضاوي)) (5/231)، ((تفسير ابن كثير)) (8/181)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/257). قال ابنُ عاشور: (هذا مَثَلٌ ضرَبه اللهُ للكافِرينَ والمؤمِنينَ، أو لِرَجُلَينِ: كافرٍ ومُؤمِنٍ... وذلك ممَّا اتَّفَق عليه المفسِّرونَ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/44). وقال القرطبي: (قولُه تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ضرَبَ الله مثَلًا للمؤمنِ والكافرِ مُكِبًّا أي: مُنكِّسًا رأسَه، لا يَنظُرُ أمامَه ولا يمينَه ولا شِمالَه، فهو لا يأمَنُ مِن العُثورِ والانكبابِ على وجْهِه؛ كمَنْ يَمشي سَويًّا مُعتَدِلًا ناظِرًا ما بيْنَ يدَيْه وعن يمينِه وعن شِمالِه؟!). ((تفسير القرطبي)) (18/219). وقال الشوكاني: (قيل: هو الَّذي يَكُبُّ رأسَه فلا يَنظُرُ يمينًا ولا شِمالًا ولا أمامًا،... وقيل: أرادَ به الأعمَى الَّذي لا يَهتدي إلى الطَّريقِ، فلا يَزالُ مَشْيُه يُنَكِّسُه على وجهِه. قال قَتادةُ: هو الكافرُ يَكُبُّ على معاصي اللهِ في الدُّنيا، فيَحشُرُه اللهُ يومَ القيامةِ على وجْهِه... وقيل: أراد بمَنْ يَمشي مُكِبًّا على وجْهِه: مَن يُحشَرُ على وجْهِه إلى النَّارِ، ومَن يَمشي سَوِيًّا: مَن يُحشَرُ على قدَمَيْه إلى الجنَّةِ، وهو كقَولِ قَتادةَ الَّذي ذَكَرْناه، ومِثلُه قولُه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ). ((تفسير الشوكاني)) (5/314). ؟!

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ جَمَعَ سُبحانَه بيْن النَّصرِ والرِّزقِ؛ فإنَّ العَبدَ مُضطَرٌّ إلى مَن يَدفَعُ عنه عَدُوَّه بنَصرِه، ويَجلِبُ له مَنافِعَه برِزقِه؛ فلا بُدَّ له مِن ناصرٍ ورازقٍ، واللهُ وحْدَه هو الَّذي يَنصُرُ ويَرزُقُ، فهو الرَّزَّاقُ ذو القُوَّةِ المتينُ [349] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/34). ، فالنَّصرُ يتضمَّنُ دفْعَ الضَّررِ؛ والرِّزقُ يتضمَّنُ حُصولَ المنفعةِ [350] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/31). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. قولُه تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ مَثَلُ الكافِرِ؛ حالُه في سَيرِه إلى اللهِ حالُ المُكِبِّ، أي: الَّذي كَبَّ نَفْسَه بغايةِ الشَّهوةِ على وَجْهِه، لا يرى ما حَوْلَه، ولا يَشعُرُ بما أحاط به، ولا يَنظُرُ في الآياتِ، ولا يَعتَبِرُ بالمسموعاتِ، فهو اليَومَ شَيءٌ باطِنٌ يظهرُ يومَ القيامةِ، فيُحشَرُ على وَجْهِه إلى النَّارِ؛ جزاءً لرِضاه بحالتِه هذه في هذه الدَّارِ، فيُظهِرُ له سُبحانَه ما أبطَنَ له اليومَ، والمؤمِنُ بخِلافِ ذلك، فقَولُه تعالى: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ هذا مَثَلُ مَن رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، فإنَّه يَتبَعُ الفِطرةَ الأُولى، السَّليمةَ عن شَهوةٍ أو غَضَبٍ أو شائبةِ حَظٍّ [351] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/258). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- إنَّ المخلوقَ ليس عندَه للعبدِ نفعٌ ولا ضرٌّ، ولا عطاءٌ ولا منْعٌ، ولا هُدًى ولا ضلالٌ، ولا نصرٌ ولا خِذلانٌ، ولا خَفضٌ ولا رفعٌ، ولا عِزٌّ ولا ذُلٌّ، بلِ اللهُ وحْدَه هو الَّذي يَملِكُ له ذلك كلَّه؛ قال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ، وقال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] ، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107] ، وقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 160] ، إلى غيرِ ذلك [352] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/33). .
2- مِن القواعدِ الَّتي يَكثُرُ ذِكرُها في القرآنِ في المقاماتِ المُهِمَّةِ -كالمُقابَلةِ بيْنَ الإيمانِ والكفرِ، والتَّوحيدِ والشِّركِ- قاعدةُ: (ذِكْر الأوصافِ المُتقابِلاتِ يُغْني عن التَّصريحِ بالمُفاضَلةِ إذا كان الفرقُ معلومًا). فيَذكُرُ تَبايُنَ الأوصافِ الَّتي يَعرِفُ العقلاءُ بالبداهةِ التَّفاوُتَ بيْنَها، ويَدَعُ التَّصريحَ بالمُفاضَلةِ للعقلاءِ، وهو مِن بلاغةِ القرآنِ وأسلوبِه العجيبِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [353] يُنظر: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 162، 163). .
3- الكُفرُ هو التَّأخُّرُ والرَّجعيَّةُ والانقِلابُ على العَقِبِ، وأمَّا الإسلامُ فإنَّه التَّقدُّمُ والمُضيُّ إلى الأمامِ فيما يَنفَعُ الإنسانَ في دِينِه ودُنياه، يَشهَدُ لهذا قَولُه تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [354] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/259). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ
- قولُه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ عَديلٌ لقولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ على معْنى: أوَلمْ تَنظُروا في أمثالِ هذه الصَّنائعِ، فلم تَعلَموا قُدرتَنا على تَعذيبِهم بنحْوِ خَسفٍ وإرسالِ حاصبٍ، أمْ لكم جُندٌ يَنصُرُكم مِن دونِ اللهِ إنْ أرسَلَ عليكم عَذابَه، فهو كقولِه: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا [الأنبياء: 43] ، إلَّا أنَّه أُخرِجَ مُخرَجَ الاستِفهامِ لنُكتةٍ؛ وهو أنَّهم لاعتِقادِهم نصْرَ آلهتِهم لهم أتى باسمِ الاستفهامِ بعْدَها تهكُّمًا بهم، كأنَّ النُّصرةَ مُقرَّرةٌ، وإنَّما الكلامُ في تَعيينِ النَّاصرِ لهم [355] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/231)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/223). .
- وقيل: مَساقُ هذه الآيةِ إمَّا لإنكارِ أنْ يكونَ للمُخاطَبينَ ناصرٌ ورازقٌ سِوى الرَّحمنِ، وإمَّا لإنكارِ كَونِ الأصنامِ تَنصُرُهم وتَرزُقُهم، وعلى الأوَّلِ الاستِفهامُ للإنكارِ، ويُقدَّرُ بعْدَه: يُقالُ:...، وعلى الثَّاني للتَّحقيرِ [356] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/223). .
- وقيل: إنَّ قولَه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ تَبْكيتٌ لهم بنفْيِ أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يُلوِّحُ به التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ، ويَعضُدُه قولُه تعالَى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ، أو ناصرٌ مِن عَذابِه تعالَى، كما هو الأنسَبُ بما سَيأتي مِن قولِه تعالَى: إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ، كقولِه تعالَى: أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا [الأنبياء: 43] في المعنيينِ معًا، خَلا أنَّ الاستفهامَ هُناكَ مُتوجِّهٌ إلى نفْسِ المانعِ وتَحقُّقهِ، وهاهُنا إلى تَعيينِ النَّاصرِ؛ لتَبكيتِهم بإظهارِ عَجزِهم عن تَعيينِه له [357] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8). . فالاستفهامُ هنا مُستعمَلٌ في التَّعجيزِ عن التَّعيينِ، فيَؤولُ إلى الانتفاءِ، والإشارةُ مُشارٌ بها إلى مَفهومِ جُندٍ مَفروضٍ في الأذهانِ استُحضِرَ للمُخاطَبينَ، فجُعِلَ كأنَّه حاضرٌ في الخارجِ يُشاهِدُه المخاطَبونَ، فيَطلُبُ المُتكلِّمُ منهم تَعيينَ قَبيلةٍ بأنْ يَقولوا: بنو فُلانٍ، ولَمَّا كان الاستفهامُ مُستعمَلًا في التَّعجيزِ استَلزَمَ ذلك أنَّ هذا الجندَ المفروضَ غيرُ كائنٍ [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/41). . ويَجوزُ أنْ يكونَ اسمُ الإشارةِ مُشارًا به إلى جَماعةِ الأصنامِ المعروفةِ عِندَهم الموضوعةِ في الكعبةِ وحوْلَها الَّذي اتَّخذْتُموه جُندًا، فمَن هو حتَّى يَنصُرَكم مِن دونِ اللهِ؟! فتَكونَ (مَن) استفهاميَّةً مُستعمَلةً في التَّحقيرِ والتَّقريعِ والتَّوبيخِ، أي: مَن هذا الجندُ؟! فإنَّه أحقَرُ مِن أنْ يُعرَفَ، واسمُ الإشارةِ صِفةٌ لاسمِ الاستفهامِ مُبيِّنةٌ له، والَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ صِفةٌ لاسمِ الإشارةِ، وجُملةُ يَنْصُرُكُمْ خبَرٌ عن اسمِ الاستفهامِ، أي: هو أقَلُّ مِن أنْ يَنصُرَكم مِن دونِ الرَّحمنِ [359] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/228)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/41، 42). . وإيثارُ (هذا) لتَحقيرِ المُشارِ إليه [360] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (15/21). .
- و(أم) في أَمَّنْ مُنقطِعةٌ، وهي للإضرابِ الانتقاليِّ مِن غرَضٍ إلى غرَضٍ، مُقدَّرةٌ بـ (بل) المُفيدةِ للانتقالِ مِن تَوبيخِهم على ترْكِ التَّأمُّلِ فيما يُشاهِدونَه مِن أحوالِ الطَّيرِ المُنبئةِ عن تَعاجيبِ آثارِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، إلى التَّبكيتِ بما ذُكِرَ؛ فبَعْدَ استيفاءِ غرَضِ إثباتِ الإلهيَّةِ الحقِّ للهِ تعالَى بالوَحدانيَّةِ وتَذكيرِهم بأنَّهم مُفتقِرونَ إليه، انتُقِلَ إلى إبطالِ أنْ يكونَ أحدٌ يَدفَعُ عنهم العذابَ الَّذي تَوعَّدَهم اللهُ به، فوُجِّهَ إليهم استفهامٌ أنْ يَدُلُّوا على أحدٍ مِن أصنامِهم أو غيرِها يُقالُ فيه: هذا هو الَّذي يَنصُرُ مِن دونِ اللهِ؛ فإنَّهم غيرُ مُستطيعينَ تَعيينَ أحدٍ لذلك إلَّا إذا سَلَكوا طَريقَ البُهتانِ، وما هم بِسالِكِيه في مِثلِ هذا؛ لافتِضاحِ أمْرِه، وهذا الكلامُ ناشئٌ عن قولِه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16] الآيةَ، فهو مِثلُه مُعترِضٌ بيْنَ حُجَجِ الاستِدلالِ [361] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/40، 41). .
- وقولُه: هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ فيه الْتِفاتٌ، ونُكتَتُه المُبالَغةُ في التَّهديدِ، والتَّشديدُ في التَّبكيتِ [362] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/223). .
- وفي قولِه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ جِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ؛ لدَلالتِها على الدَّوامِ والثُّبوتِ؛ لأنَّ الجُندَ يكونُ على استعدادٍ للنَّصرِ إذا دُعِيَ إليه، سواءٌ أقاتَلَ أمْ لم يُقاتِلْ؛ لأنَّ النَّصرَ يَحتاجُ إلى استعدادٍ وتَهيُّؤٍ؛ فالمعنى: يَنصرُكم عِندَ احتياجِكم إلى نَصرِه؛ فهذا وجْهُ الجمْعِ بيْنَ جُملةِ هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وجُملةِ يَنْصُرُكُمْ، ولم يَستغنِ بالثَّانيةِ عن الأُولَى [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/42). .
- قولُه: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِما قبلَه، ناعٍ عليهم ما هُم فيه مِن غايةِ الضَّلالِ، أي: ما هُم في زعْمِهم أنَّهم مَحفوظونَ مِن النَّوائبِ بحِفظِ آلهتِهم لا بحِفظِه تعالَى فقطْ، أو أنَّ آلهتَهم تَحفَظُهم مِن بأْسِ اللهِ؛ إلَّا في غُرورٍ عَظيمٍ وضَلالٍ فاحشٍ مِن جِهةِ الشَّيطانِ، ليس لهم في ذلك شَيءٌ يُعتَدُّ به في الجُملةِ، والالتفاتُ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهم للإعراضِ عنهم، وبَيانِ قَبائحِهم لغيرِهم، والإظهارُ في مَوقعِ الإضمارِ لذَمِّهم بالكُفرِ، وتَعليلِ غُرورِهم به [364] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/8). .
وقيل: قولُه: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتِراضٌ تَذييليٌّ، أي: ذلك شأْنُ الكافرينَ كلِّهم، وهم أهلُ الشِّركِ مِن المخاطَبينَ وغيرِهم، فتَعريفُ الْكَافِرُونَ للاستِغراقِ، وليس المرادُ به كافِرِينَ معهودينَ حتَّى يكونَ مِن وضْعِ المظهَرِ مَوضعَ الضَّميرِ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/42). .
- والظَّرفيَّةُ في قولِه: فِي غُرُورٍ مُستعمَلةٌ في شِدَّةِ التَّلبُّسِ بالغُرورِ، حتَّى كأنَّ الغُرورَ مُحيطٌ بهم إحاطةَ الظَّرفِ، والمعْنى: ما الكافِرونَ في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالِ الغرورِ، وهذا قصْرٌ إضافيٌّ [366] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). لقلْبِ اعتقادِهم أنَّهم في مأْمنٍ مِن الكوارثِ بحِمايةِ آلهتِهم [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/43). .
2- قولُه تعالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ انتقالٌ آخَرُ، وهذا الكلامُ ناظِرٌ إلى قولِه: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك: 15] على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المعكوسِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/43). اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73]؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8]، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403 - 406). .
- وجِيءِ بالصِّلةِ فِعلًا مُضارعًا يَرْزُقُكُمْ؛ لدَلالتِه على التَّجدُّدِ؛ لأنَّ الرِّزقَ يَقْتضي التَّكرارَ؛ إذ حاجةُ البشرِ إليه مُستمرَّةٌ [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/43). .
- قولُه: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ استئنافٌ بَيانيٌّ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ ناشئٍ عن الدَّلائلِ والقَوارعِ، والزَّواجرِ والعِظاتِ، والعِبَرِ المتقدِّمةِ، فيَتَّجِهُ للسَّائلِ أنْ يقولَ: لعلَّهم نفَعَتَ عِندَهم الآياتُ والنُّذُرُ، واعتَبَروا بالآياتِ والعِبَرِ، فأُجِيبَ بإبطالِ ظنِّه بأنَّهم لَجُّوا في عُتوٍّ ونُفورٍ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/43). .
أو: أنَّ قولَه: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ مُنبئٌ عن مُقدَّرٍ يَستدعيهِ المقامُ، كأنَّه قيلَ: إثرَ تَمامِ التَّبكيتِ والتَّعجيزِ لمْ يَتأثَّروا بذلكَ، ولم يُذعنُوا للحقِّ، بلْ لجُّوا وتَمادَوا في عُتوٍّ ونُفورٍ [371] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/9). .
- وحرْفُ (بَل) للإضرابِ أو الإبطالِ عمَّا تَضمَّنه الاستِفهامانِ السَّابقانِ، أو للانتقالِ مِن غرَضِ التَّعجيزِ إلى الإخبارِ عن عِنادِهم [372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/44). .
3- قولُه تعالَى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- الفاءُ الَّتي في صدْرِ الجُملةِ للتَّفريعِ على جميعِ ما تَقدَّمَ مِن الدَّلائلِ والعِبَرِ مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا، والاستفهامُ تَقريريٌّ تَوبيخيٌّ [373] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/46)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/158). .
- وهذا مَثَلٌ للمُؤمنِ والكافرِ؛ فالكافرُ في اضطرابِه وتَعسُّفِه في عَقيدتِه، وتَشابُهِ الأمرِ عليه، كالماضي في انخفاضٍ وارتفاعٍ، كالأعمى يَتعثَّرُ كلَّ ساعةٍ فيَخِرُّ لوَجْهِه، وأمَّا المؤمنُ فإنَّه لطُمأنينةِ قلْبِه بالإيمانِ، وكَونِه قد وَضَحَ له الحقُّ، كالماشي صَحيحَ البصرِ، مُستويًا، لا يَنحرِفُ، على طَريقٍ واضحِ الاستِقامةِ، لا حُزونَ [374] الحُزُون: جمعُ الحَزْنِ، وهو ما غَلُظ مِن الأرضِ، وهو خِلافُ السَّهلِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/134). فيها؛ فآلةُ نَظَرِه صَحيحةٌ، ومَسلكُه لا صُعوبةَ فيه [375] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/582)، ((تفسير البيضاوي)) (5/231)، ((تفسير أبي حيان)) (10/228)، ((تفسير أبي السعود)) (9/9)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/159). ؛ فهذا مَثَلٌ ضَرَبَه اللهُ للكافرين والمؤمنينَ، أو لرُجَلينِ: كافرٍ ومؤمِنٍ؛ لأنَّه جاء مُفرَّعًا على قولِه: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] ، وقولِه: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 21] ، وما اتَّصَلَ ذلك به مِن الكلامِ الَّذي سِيقَ مَساقَ الحُجَّةِ عليهم بقولِه: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الملك: 20] أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك: 21] . والتَّمثيلُ جَرى على تَشبيهِ حالِ الكافرِ والمؤمنِ بحالةِ مَشْيِ إنسانٍ مُختلفةٍ، وعلى تَشبيهِ الدِّينِ بالطَّريقِ المَسلوكةِ، كما يَقْتضيهِ قولُه: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فلا بُدَّ مِن اعتبارِ مشْيِ المُكِبِّ على وَجْهِه مَشيًا على صِراطٍ مُعْوجٍّ، وتَعيَّنَ أنْ يكونَ في قولِه: مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ تَشبيهُ حالِ السَّالكِ صِراطًا مُعْوجًّا في تَأمُّلِه وتَرسُّمِه آثارَ السَّيرِ في الطَّريقِ غيرِ المستقيمِ خَشيةَ أنْ يَضِلَّ فيه؛ بحالِ المُكِبِّ على وَجْهِه يَتوسَّمُ حالَ الطَّريقِ، وقَرينةُ ذلك مُقابَلتُه بقولِه: سَوِيًّا المُشعِرِ بأنَّ مُكِبًّا أُطلِقَ على غيرِ السَّويِّ، وهو المُنْحني المُطأْطِئُ يَتوسَّمُ الآثارَ اللَّائحةَ مِن آثارِ السَّائرينَ؛ لعلَّه يَعرِفُ الطَّريقَ المُوصِلةَ إلى المقصودِ، فالمُشرِكُ يَتوجَّهُ بعِبادتِه إلى آلهةٍ كَثيرةٍ لا يَدْري لعلَّ بَعضَها أقْوى مِن بَعضٍ، وأعطَفُ على بَعضِ القبائلِ مِن بَعضٍ؛ فقد كانت ثَقيفٌ يَعْبُدون اللَّاتَ، وكان الأوسُ والخزرجُ يَعبُدون مَناةَ، ولكلِّ قَبيلةٍ إلهٌ أو آلهةٌ، فتَقسَّموا الحاجاتِ عِندَها، واستَنصَرَ كلُّ قومٍ بآلهتِهم، وطَمِعوا في غَنائها عنهم، وهذه حالةٌ يَعرِفونَها، فلا يَمتَرُون في أنَّهم مَضربُ المَثَلِ الأوَّلِ، وكذلك حالُ أهلِ الإشراكِ في كلِّ زَمانٍ؛ ألَا تَسمَعُ ما حَكاهُ اللهُ عن يُوسُفَ عليه السَّلامُ مِن قولِه: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] .
وقولُه: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا تَشبيهٌ لحالِ الَّذي آمَنَ بربٍّ واحدٍ، الواثقِ بنصْرِ ربِّه وتأْييدِه، وبأنَّه مُصادِفٌ للحقِّ؛ بحالِ الماشي في طَريقٍ جادَّةٍ واضحةٍ، لا يَنظُرُ إلَّا إلى اتِّجاهِ وَجْهِه، فهو مُستوٍ في سَيرِه. وقد حصَلَ في الآيةِ إيجازُ حذْفٍ؛ إذ استُغْنِيَ عن وصْفِ الطَّريقِ بالالتواءِ في التَّمثيلِ الأوَّلِ؛ لدَلالةِ مُقابَلتِه بالاستِقامةِ في التَّمثيلِ الثَّاني [376] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/44 - 46). .
- وأَهْدَى مُشتَقٌّ مِن الهُدى، وهو مَعرفةُ الطَّريقِ، وهو اسمُ تَفضيلٍ مَسلوبُ المُفاضَلةِ؛ لأنَّ الَّذي يَمْشي مُكِبًّا على وَجْهِه لا شَيءَ عندَه مِن الاهتداءِ، ومِثلُ هذا لا يَخلُو مِن تَهكُّمٍ أو تَمْليحٍ بحسَبِ المقامِ [377] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/46). .
- والآيةُ فيها احتِباكٌ [378] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فذَكَر (الكَبَّ) أوَّلًا دليلًا على ضِدِّه ثانيًا، و(المستقيمَ) ثانيًا دليلًا على المُعوَجِّ أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذَكَر أنكَأَ ما للمُجرِمِ، وأسَرَّ ما للمُسلِمِ [379] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/258). .