موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (1-3)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

غريب الكلمات:

التَّوْبِ: أي: التَّوبةِ، وهو مصدرُ تابَ يَتوبُ، والتَّوبُ: ترْكُ الذَّنْبِ على أجمَلِ الوُجوهِ، وقيلَ: التَّوبُ جمعُ تَوبةٍ، وأصلُ (توب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/277)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/357)، ((المفردات)) للراغب (ص: 169)، ((تفسير الشوكاني)) (4/551). قال البِقاعي: (جَعْلُه اسمَ جِنسٍ كأخَواتِه أنسَبُ مِن جَعْلِه بيْنَها جَمعًا كتَمْرٍ وتَمرةٍ). ((نظم الدرر)) (17/6). .
الطَّوْلِ: أي: القُدرةِ والغِنى والفَضلِ، وأصلُ (طول): يدُلُّ على فَضلٍ وامتِدادٍ في شَيءٍ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/433)، ((المفردات)) للراغب (ص: 533)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 334)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 366). .

المعنى الإجمالي:

 بدأت هذه السُّورةُ الكريمةُ بقَولِه تعالى: حم، المشتمِلِ على حرفَينِ مِن الحُروفِ المُقَطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القُرآنِ؛ وذلك للإشارةِ إلى إعجازِه، ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ تَنزيلٌ مِن عندِ اللهِ العزيزِ، العَليمِ، غافِرِ ذُنوبِ عبادِه، وقابِلِ تَوبةِ التَّائبينَ، شَديدِ العِقابِ، ذي الفَضلِ والإنعامِ الواسِعِ، لا مَعبودَ حَقٌّ إلَّا هو وَحْدَه دونَ ما سِواه، وإليه وَحْدَه مَرجِعُ العبادِ، فيُجازيهم بأعمالِهم؛ خَيرِها وشَرِّها.

تفسير الآيات:

حم (1).
هذانِ الحرفانِ مِن الحروفِ المُقطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ؛ لبيانِ إعجازِ هذا القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضَتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [9] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/24). .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2).
أي: تَنزيلُ القُرآنِ مِن عندِ اللهِ القاهِرِ الغالِبِ، المَنيعِ الجَنابِ، الممتنعِ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، ذي القدرِ والسيادةِ؛ العِليمِ الَّذي أحاط عِلمُه بكُلِّ شَيءٍ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/276)، ((تفسير ابن كثير)) (7/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 41، 42). .
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3).
غَافِرِ الذَّنْبِ.
أي: سَاتِرِ ذُنوبِ عبادِه، ومُتجاوِزٍ عن مُؤاخَذتِهم بها [11] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/197)، ((تفسير ابن عبد السلام)) (3/108)، ((تفسير البيضاوي)) (5/51)، ((تفسير ابن كثير)) (7/127)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 42). .
وَقَابِلِ التَّوْبِ.
أي: وقابِلِ تَوبةِ التَّائِبينَ مِن الشِّركِ وجَميعِ المعاصي [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/277)، ((الوسيط)) للواحدي (4/4)، ((تفسير ابن عطية)) (4/546)، ((تفسير ابن كثير)) (7/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731). .
كما قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [الشورى: 25] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ اللهَ يَقبَلُ تَوبةَ العَبدِ ما لم يُغَرْغِرْ [13] أي: ما لم تَبلُغْ رُوحُه حُلقومَه، فيكون بمنزلةِ الشَّيءِ الَّذي يَتغَرغَرُ به المريضُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/360). ) [14] رواه الترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253)، وأحمد (6160). قال الترمذيُّ: (حسَنٌ غريبٌ). وقال ابن القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/412): (محتملٌ أن يُقال فيه: صحيحٌ). وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (9/18)، وحسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3537). .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تابَ قبلَ أنْ تطلُعَ الشَّمسُ مِن مغربِها، تابَ الله عليه )) [15] رواه مسلم (2703). .
شَدِيدِ الْعِقَابِ.
أي: شديدِ العِقابِ لِمَن يَستحِقُّ مِن عِبادِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 43). قال ابن جرير: (فلا تَتَّكِلوا على سَعةِ رَحمتِه، ولكِنْ كونوا منه على حَذَرٍ، باجتنابِ معاصيه، وأداءِ فرائِضِه). ((تفسير ابن جرير)) (20/278). .
كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2] .
وقال سُبحانَه: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49، 50].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو يَعلَمُ المؤمِنُ ما عندَ اللهِ مِن العُقوبةِ ما طَمِعَ بجَنَّتِه أحَدٌ، ولو يَعلَمُ الكافِرُ ما عندَ اللهِ مِن الرَّحمةِ ما قَنَط مِن جنَّتِه أحَدٌ )) [17] رواه البخاري (6469)، ومسلم (2755) واللفظ له. .
ذِي الطَّوْلِ.
أي: صاحبِ الغنَى الواسِعِ، والفَضلِ والإنعامِ على خَلْقِه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/278)، ((تفسير ابن كثير)) (7/127، 128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 45). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20] .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ حَقٌّ إلَّا اللهُ وَحْدَه دونَ ما سِواه [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731). .
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَرجِعُ العِبادِ، فيُجازيهم بأعمالِهم؛ خَيرِها وشَرِّها [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/279)، ((تفسير القرطبي)) (15/292)، ((تفسير ابن كثير)) (7/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالمصيرِ إلى الله تعالى: الرُّجوعُ إليه يومَ القيامةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ كثير، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/705)، ((تفسير ابن كثير)) (7/128)، ((تفسير الشوكاني)) (4/552)، ((تفسير السعدي)) (ص: 731)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عُمرَ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/272). وقيل: المرادُ: إليه المرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ في الدُّنيا والآخرةِ، كالحُكمِ بيْنَ النَّاسِ، وتدبيرِ الأمورِ؛ وإليه المرجِعُ بعدَ الموتِ. وممَّن ذهب إلى هذا العموم: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 50). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/7). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ الحَثُّ على كُلِّ ما تَكونُ به المَغفِرةُ. وَجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى لم يُخبِرْنا بأنَّه غافِرُ الذَّنْبِ مِن أجْلِ أن نعلَمَ أنَّه غافِرٌ فقط، لكِنْ مِن أجْلِ أن نتعَرَّضَ لِمَغفرتِه [21] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 52). .
2- قال الله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ؛ تأنيسًا لِمَنِ استجاب بحَمدِه، وأناب بلُطفِه، وجريًا على حُكمِ الرَّحمةِ وتَغليبِها، ثمَّ قال: شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ؛ ليأخُذَ المؤمِنُ بلازِمِ عُبوديَّتِه مِن الخَوفِ والرَّجاءِ [22] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/4). ، فهذه الآيةُ قد اجتَمع فيها الرَّجاءُ والخَوفُ، وهي كقولِه تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]؛ حيثُ يُقرَنُ هذان الوصْفانِ كثيرًا في مواضعَ متعدِّدةٍ مِن القرآنِ؛ ليبقَى العبدُ بيْنَ الرَّجاءِ والخَوفِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/127). في السَّيرِ إلى اللهِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنَّ المَصيرَ إلى اللهِ، وأنَّه غافِرُ الذَّنْبِ وقابِلُ التَّوبِ وشَديدُ العِقابِ؛ فإنَّه يَرجو مِن وَجهٍ، ويَخافُ مِن وَجهٍ آخَرَ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 63). .
3- في قَولِه تعالى: شَدِيدِ الْعِقَابِ أنَّ عِقابَ الله تعالى شديدٌ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: الحذرُ مِن التَّعرُّضِ لعِقابِه، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49، 50]، وقال في آيةٍ أخرى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 62). [المائدة: 98].
4- قَولُ الله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ مُشعِرٌ بتَرجيحِ جانِبِ الرَّحمةِ والفَضلِ؛ لأنَّه تعالى لَمَّا أراد أن يَصِفَ نَفْسَه بأنَّه شديدُ العِقابِ ذكَرَ قَبْلَه أمْرَينِ كُلُّ واحدٍ منهما يَقتضي زَوالَ العِقابِ، وهو كَونُه غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ، وذكَرَ بَعْدَه ما يدُلُّ على حُصولِ الرَّحمةِ العَظيمةِ، وهو قَولُه: ذِي الطَّوْلِ، فكَونُه شَدِيدِ الْعِقَابِ لَمَّا كان مَسبوقًا بتَيْنِك الصِّفَتينِ، ومَلحوقًا بهذه الصِّفةِ؛ دَلَّ ذلك على أنَّ جانِبَ الرَّحمةِ والكَرَمِ أرجَحُ [26] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/484، 485). ، وفي هذا تَصديقُ الحَديثِ الصَّحيحِ وشاهِدٌ له، وهو قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خَلَق اللهُ الخَلْقَ، كَتَب في كتابِه، فهو عندَه فوقَ العرشِ: إنَّ رحمَتي تَغلِبُ غَضَبي )) [27] أخرجه البخاري (7404)، ومسلم (2751) واللَّفظُ له من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. ، وفي لَفظٍ: ((سَبَقَتْ غضبي )) [28] أخرجه البخاري (7554) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. ، وقد سبَقَت صِفةُ الرَّحمةِ هنا وغَلَبَت [29] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/193). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَجْهُ المُناسَبةِ بذِكرِ نُزولِ القُرآنِ مِن اللهِ المَوصوفِ بهذه الأوصافِ: أنَّ هذه الأوصافَ مُستلزِمةٌ لجَميعِ ما يَشتَمِلُ عليه القُرآنُ مِن المعاني؛ فإنَّ القُرآنَ إمَّا إخبارٌ عن أسماءِ اللهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وهذه أسماءٌ وأوصافٌ وأفعالٌ. وإمَّا إخبارٌ عن الغُيوبِ الماضيةِ والمُستَقبَلةِ، فهي مِن تعليمِ العليمِ لعِبادِه. وإمَّا إخبارٌ عن نِعَمِه العَظيمةِ وآلائِه الجَسيمةِ، وما يُوصِلُ إلى ذلك مِن الأوامِرِ، فذلك يدُلُّ عليه قَولُه: ذِي الطَّوْلِ. وإما إخبارٌ عن نِقَمِه الشَّديدةِ، وعمَّا يُوجِبُها ويَقتَضيها مِن المعاصي، فذلك يدُلُّ عليه قَولُه: شَدِيدِ الْعِقَابِ. وإمَّا دَعوةٌ للمُذنِبينَ إلى التَّوبةِ والإنابةِ والاستِغفارِ، فذلك يدُلُّ عليه قَولُه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ. وإمَّا إخبارٌ بأنَّه وَحْدَه المألوهُ المعبودُ، معَ إقامةِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ والنَّقليَّةِ على ذلك، والحَثِّ عليه، والنَّهيِ عن عِبادةِ ما سِوى اللهِ، وإقامةِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ والنَّقليَّةِ على فَسادِها والتَّرهيبِ منها، فذلك يدُلُّ عليه قَولُه تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وإمَّا إخبارٌ عن حُكمِه الجزائيِّ العَدلِ، وثوابِ المُحسِنينَ، وعِقابِ العاصينَ، فهذا يدُلُّ عليه قَولُه: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. فهذا جميعُ ما يَشتَمِلُ عليه القُرآنُ مِن المطالِبِ العالياتِ [30] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 731). ، وأيضًا فبَعْدَ أن بَيَّنَ أنَّ الكِتابَ مُنَزَّلٌ مِنَ الله بيَّنَ أنَّه تعالى مَوصوفٌ بصِفاتِ الجَلالِ، وسِماتِ العَظَمةِ؛ ليَصيرَ ذلك حامِلًا على التَّشميرِ عن ساقِ الجِدِّ عندَ الاستِماعِ، وزَجرِه عن التَّهاوُنِ والتَّواني فيه [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/483). .
2- في قَولِه تعالى: حم أنَّ القُرآنَ الكَريمَ حُروفٌ، تكَلَّمَ اللهُ به بحُروفٍ؛ ففيه الرَّدُّ على الأشاعِرةِ ومَن سلَك سبيلَهم، الَّذين يقولون: إنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى القائِمُ بالنَّفْسِ، وأنَّ اللهَ لا يَتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، لكِنْ يَخلُقُ حُروفًا وأصواتًا تُسمَعُ تَعبيرًا عمَّا في نفْسِه! وحقيقةُ هذا القَولِ نَفيُ الكلامِ؛ لأنَّ ما في النَّفْسِ مِن المعلوماتِ المُرتَّبةِ ليست كلامًا، ولكِنَّها مَعلوماتٌ؛ عِلمٌ، وليست كلامًا [32] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 50). .
3- قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ التَّنزيلُ يَستلزِمُ عُلُوَّ المُنزَّلِ مِن عِندِه، ولا تَعقِلُ العَرَبُ مِن لُغتِها -بل ولا غَيرُها مِن الأُمَمِ السَّليمةِ الفِطرةِ- إلَّا ذلك، وقد أخبَرَ سُبحانَه أنَّ تنزيلَ الكِتابِ منه؛ فهذا يدُلُّ على شَيئينِ:
أحَدُهما: عُلُوُّه تعالى على خَلْقِه.
والثَّاني: أنَّه هو المتكَلِّمُ بالكتابِ المُنزَّلِ مِن عِندِه لا غَيرُه؛ فإنَّه أخبَرَ أنَّه منه، وهذا يَقتضي أن يكونَ منه قولًا، كما أنَّه منه تنزيلًا؛ فإنَّ غيرَه لو كان هو المتكَلِّمَ به لَكان الكِتابُ مِن ذلك الغَيرِ؛ فإنَّ الكلامَ إنَّما يُضافُ إلى المتكَلِّمِ به، ومِثلُ هذا: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] ، ومِثلُه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل: 102] ، ومِثلُه: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ؛ فاستَمسِكْ بحَرفِ «مِنْ» في هذه المواضِعِ؛ فإنَّه يَقطَعُ شَغَبَ المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ، وتأمَّلْ كيف قال: تَنْزِيلٌ مِنْ ولم يقُلْ: «تنزيلُه»! فتضَمَّنَت الآيةُ إثباتَ عُلُوِّه وكلامِه، وثُبوتَ الرِّسالةِ [33] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/193). .
4- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ أنَّ القُرآنَ غيرُ مَخلوقٍ [34] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 51). ؛ وذلك لأنَّ ما كان مِنَ اللهِ إنْ كان عَيْنًا قائِمةً أو صِفةً قائِمةً بغَيرِها -كما في السَّمَواتِ والأرضِ، والنِّعَمِ، والرُّوحِ الَّذي أرسَلَه إلى مَريمَ وقال: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19] - كان مخلوقًا، وإن كان صِفةً لا تقومُ بنَفْسِها ولا يتَّصِفُ بها المخلوقُ، لم يكُنْ مخلوقًا، كالقُرآنِ؛ فإنَّ ذلك قائِمٌ باللهِ، وما يَقومُ باللهِ لا يكونُ مَخلوقًا [35] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (4/71). .
5- في قَولِه تعالى: الْكِتَابِ وصْفُ القرآنِ الكريمِ بالكتابِ، وهو بمعنى مَكتوبٍ؛ وذلك لأنَّه يُكتَبُ؛ فهو مَكتوبٌ بالمصاحفِ الَّتي بأيدينا، والصُّحُفِ الَّتي بأيدي الملائكةِ؛ قال تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس: 12، 13]، ومكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 51). [البروج: 21، 22].
6- قال تعالى: الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وتَضمَّنَ هذان الاسْمانِ صِفتَيِ القُدرةِ والعِلمِ، وخَلْقَ أعمالِ العِبادِ، وحُدوثَ كُلِّ ما سِوى اللهِ؛ لأنَّ القَدَرَ هو قُدرةُ اللهِ، كما قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ؛ فتضَمَّنَت إثباتَ القَدَرِ، ولأنَّ عِزَّتَه تَمنَعُ أن يكونَ في مُلكِه ما لا يَشاؤُه، أو أن يَشاءَ ما لا يكونُ؛ فكانت عِزَّتُه تُبطِلُ ذلك، وكذلك كَمالُ قُدرتِه يُوجِبُ أن يكونَ خالِقَ كُلِّ شَيءٍ، وذلك يَنفي أن يكونَ في العالَمِ شَيءٌ قَديمٌ لا يَتعَلَّقُ به خَلْقُه؛ لأنَّ كَمالَ قُدرتِه وعِزَّتِه يُبطِلُ ذلك [37] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/194). .
7- قَولُ الله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ جمَعَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ بيْن التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، والوَعدِ والوَعيدِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقَلاءِ مَحصورةٌ في أمْرَينِ؛ هما: جَلبُ النَّفعِ، ودَفعُ الضُّرِّ [38] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/372). .
8- قال الله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ فكما أنَّه لا يُؤْيِسُ أهلَ الإجرامِ والآثامِ مِن عَفْوِه، وقَبولِ تَوبةِ مَن تاب منهم مِن جُرْمِه، كذلك لا يُؤَمِّنُهم مِن عِقابِه وانتِقامِه منهم بما استحَلُّوا مِن مَحارِمِه، ورَكِبوا مِن مَعاصِيه [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/278). .
9- قال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ والذَّنْبُ مُخالَفةُ شَرعِه وأمْرِه؛ فتَضَمَّنَ هذان الاسْمانِ إثباتَ شَرعِه وإحسانِه وفَضلِه [40] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/194). .
10- قال تعالى: شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَمَّا ذكَرَ تعالى شِدَّةَ عِقابِه أردَفَه بما يُطمِعُ في رحمتِه، وهو قَولُه: ذِي الطَّوْلِ؛ فجاء ذلك وعيدًا اكتَنَفَه وَعْدانِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/235). .
11- قَولُه تعالى: شَدِيدِ الْعِقَابِ هذا جزاؤُه للمُذنِبينَ، وذِي الطَّوْلِ جزاؤُه للمُحسِنينَ؛ فتضَمَّنَت الآيةُ إثباتَ الثَّوابِ والعِقابِ [42] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/194). .
12- في قَولِه تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ إثباتُ التَّوحيدِ والمَعادِ [43] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/194). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
- قولُه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ المقصودُ بتَوجيهِ هذا الخبَرِ هُمُ المُشرِكونَ المُنكِرونَ أنَّ القرآنَ مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ؛ فتَجريدُ الخبَرِ عن المؤكِّدِ إخراجٌ على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ بجَعلِ المُنْكِرِ كغَيرِ المُنكِرِ؛ لأنَّه يَحُفُّ به مِنَ الأدلَّةِ ما إنْ تأمَّلَه ارتَدَع عن إنكارِه، فما كان مِن حَقِّه أنْ يُنكِرَ ذلك [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/78، 79). !
- ووصْفُ اللهِ تعالَى بوَصفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ هنا تَعريضٌ بأنَّ مُنكِري تَنزيلِ الكِتابِ منه مَغلوبونَ مَقهورونَ، وبأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تُكِنُّه نُفوسُهم؛ فهو مُحاسِبُهم على ذلك. ورمزٌ إلى أنَّ القرآنَ كلامُ العزيزِ العليمِ؛ فلا يَقدِرُ غَيرُ اللهِ على أنْ يأتيَ بمِثلِه. وفي ذِكرِهما رمزٌ إلى أنَّ اللهَ أعلَمُ حيث يَجعَلُ رسالتَه، وأنَّه لا يُجاري أهواءَ النَّاسِ فيمَن يُرَشِّحونَه لذلك مِن كُبَرائِهم؛ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وهُما صِفتانِ دالَّتانِ على المُبالَغةِ في القُدرةِ والغَلَبةِ والعِلمِ [45] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/51)، ((تفسير أبي حيان)) (9/233)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/79). . وأيضًا فهذه السُّورةُ تَتحدَّثُ عن المكَذِّبينَ للرُّسُلِ، وما جرَى عليهم مِنَ الهَلاكِ والانتِقامِ؛ فالَّذي يُناسِبُ ذلك: العِزَّةُ الَّتي فيها الغَلَبةُ والأخْذُ؛ فلهذا جاء هنا «العَزيزُ»، وجاء «العَليمُ»؛ لِيُفيدَ أنَّه لعِزَّتِه أخَذَ هؤلاء المكَذِّبينَ، ولعِلْمِه أنزَلَ الكُتُبَ، وعَلِمَ كيفَ يأخُذُ هؤلاء المكَذِّبينَ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 52). .
2- قولُه تعالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
- قولُه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ... أُجريَ على اسمِ اللهِ تعالى مِن صِفاتِه ما فيه تَعريضٌ بدَعْوتِهم إلى الإقلاعِ عمَّا هُم فيه، فكانتْ فاتحةُ السُّورةِ مِثلَ دِيباجةِ الخُطبةِ؛ مُشيرةً إلى الغرَضِ مِن تَنزيلِ هذه السُّورةِ. وفي إتْباعِ الوصفَينِ العَظيمَينِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بأوصافِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ تَرشيحٌ [47] التَّرشيحُ: هو أنْ يأتيَ المتكلمُ بكلمةٍ لا تصلُحُ لضربٍ مِن المحاسنِ، حتَّى يُؤتَى بلفظةٍ ترشِّحُها وتؤهِّلُها لذلك.  يُنظر: ((تحرير التحبير)) لأبن أبي الأصبع (ص: 271). لذلك التَّعريضِ، كأنَّه يقولُ: إنْ كنتُم أذنَبْتُم بالكُفرِ بالقرآنِ، فإنَّ تَدارُكَ ذَنْبِكم في مُكنَتِكم؛ لأنَّ اللهَ مُقَرَّرٌ اتِّصافُه بقَبولِ التَّوبةِ، وبغُفرانِ الذَّنْبِ، فكما غفَرَ لِمَن تابوا مِنَ الأُمَمِ فقَبِل إيمانَهم، يَغفِرُ لِمَن يَتوبُ منكم [48] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/51)، ((تفسير أبي السعود)) (7/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/77 - 79). .
- والذَّنْبُ في قولِه: غَافِرِ الذَّنْبِ هنا مفردٌ محلًّى بـ «أل»، فيكونُ عامًّا، أي: أنَّ الله جلَّ وعلا يغفرُ الذُّنوبَ جميعًا [49] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 52). .
- وتَقديمُ غَافِرِ الذَّنْبِ على (قَابِلِ التَّوْبِ) مع أنَّه مُرتَّبٌ عليه في الحُصولِ؛ للاهتِمامِ بتَعجيلِ الإعلامِ به لِمَنِ استعَدَّ لتَدارُكِ أمْرِه؛ فوصْفُ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ تَعريضٌ بالتَّرغيبِ، وصِفَتَا شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ تَعريضٌ بالتَّرهيبِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/79، 80). قال ابن عاشور: (والطَّوْلُ يُطلقُ على سَعةِ الفضلِ وسَعةِ المالِ، ويُطلقُ على مُطلقِ القُدرةِ، وظاهِرُه الإطلاقُ، ووُقوعُه مع شديدِ العِقابِ ومُزاوجَتُها بوصْفَيْ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ لِيُشيرَ إلى التَّخويفِ بعذابِ الآخرةِ مِن وصْفِ شديدِ العقابِ، وبعذابِ الدُّنيا مِن وصفِ ذي الطَّوْلِ، كقولِه: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 42] ، وقولِه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً [الأنعام: 37] ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/80، 81) بتصرفٍ يسيرٍ. وتقدَّم في الفوائدِ أنَّ قولَه تعالى: ذِي الطَّوْلِ يدُلُّ على حُصولِ الرَّحمةِ العَظيمةِ، ويُطمِعُ فيها. .
- قولُه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اختلفَتْ هذه الصِّفاتُ تعريفًا وتنكيرًا، والمَوصوفُ مَعرفةٌ يَقتَضي أنْ يَكونَ مِثلُه مَعارِفَ؛ وذلك أنَّ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ مَعرِفتانِ؛ لأنَّه لم يُرَدْ بهما حُدوثُ الفِعلَينِ، وأنَّه يَغفِرُ الذَّنْبَ ويَقبَلُ التَّوبَ الآنَ أو غدًا حتَّى يَكونَا في تَقديرِ الانفِصالِ، فتَكونَ إضافَتُهما غيْرَ حقيقيَّةٍ، وإنَّما أُريدَ ثُبوتُ ذلك ودوامُه. وتَنكيرُ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ لأنَّه في تقديرِ: شديدٌ عِقابُه، فيَجوزُ أنْ يُقالَ: قد تُعُمِّدَ تَنكيرُه وإبهامُه؛ للدَّلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ، وعلى ما لا شَيءَ أدهَى منه وأمَرُّ؛ لِزيادةِ الإنذارِ [51] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/148، 149)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/453)، ((تفسير أبي حيان)) (9/233)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/457، 458). .
- قولهُ: وَقَابِلِ التَّوْبِ جُرِّد المصدَرُ؛ لِيُفهِمَ أنَّ أدنَى ما يُطلَقُ عليه الاسمُ كافٍ [52] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/6). .
- وفي قَولِه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ أُتيَ بالواوِ في الوَصفَينِ الأوَّلَينِ، وحُذِفَت في الوصفَينِ الآخَرينِ؛ لأنَّ غُفرانَ الذَّنْبِ وقَبولَ التَّوبِ قد يُظَنُّ أنَّهما يَجريانِ مجرى الوَصفِ الواحِدِ؛ لِتَلازُمِهما؛ فمَن غَفَر الذَّنْبَ قَبِلَ التَّوبَ، فكان في عَطفِ أحَدِهما على الآخَرِ ما يَدُلُّ على أنَّهما صِفتانِ وفِعلانِ مُتغايِرانِ، ومَفهومان مختَلِفانِ لكُلٍّ منهما حُكمُه، أحَدُهما يَتعلَّقُ بالإساءةِ والإعراضِ، وهو المَغفِرةُ، والثَّاني يَتعلَّقُ بالإحسانِ والإقبالِ على اللهِ تعالى والرُّجوعِ إليه، وهو التَّوبةُ؛ فتُقبَلُ هذه الحَسَنةُ، وتُغفَرُ تلك السَّيِّئةُ، وحَسَّنَ العطفَ هاهنا هذا التَّغايُرُ الظَّاهِرُ، وكلَّما كان التَّغايرُ أبْيَنَ كان العَطفُ أحسَنَ؛ ولهذا جاء العَطفُ في قَولِه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3] ، وتُرِكَ في قَولِه: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23] ، وقَولِه: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [53] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/52). [الحشر: 24] .
- وقيل: عُطِفَتْ صِفةُ وَقَابِلِ التَّوْبِ بالواوِ على صِفةِ غَافِرِ الذَّنْبِ، ولم تُفصَلْ؛ إشارةً إلى نُكتةٍ جليلةٍ، وهي إفادةُ أنْ يَجمَعَ للمُذنِبِ التَّائبِ بيْنَ رحمتَينِ: بيْن أنْ يَقبَلَ تَوبتَه فيَجعَلَها له طاعةً، وبيْن أنْ يَمحوَ عنه بها الذُّنوبَ الَّتي تاب منها، ونَدِمَ على فِعلِها، فيُصبِحَ كأنَّه لم يَفعَلْها، كأنَّه قال: جامِعُ المَغفرةِ والقَبولِ، وهذا فَضلٌ مِنَ اللهِ [54] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/149)، ((تفسير البيضاوي)) (5/51)، ((تفسير أبي حيان)) (9/235)، ((تفسير أبي السعود)) (7/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/80)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/459). .
وأمَّا قَولُه: شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ فتُرِكَ العَطفُ بيْنَهما؛ لنُكتةٍ بَديعةٍ، وهي: الدَّلالةُ على اجتِماعِ هذينِ الأمْرَينِ في ذاتِه سُبحانَه، وأنَّه حالَ كَونِه شَديدَ العِقابِ فهو ذو الطَّولِ، وطَولُه لا يُنافي شِدَّةَ عِقابِه، بل هما مُجتَمِعانِ له، بخِلافِ قَولِه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ [الحديد: 3] ؛ فإنَّ الأوَّلِيَّةَ لا تُجامِعُ الآخِرِيَّةَ؛ فأوَّلِيَّتُه أزلِيَّتُه، وآخرِيَّتُه أبَدِيَّتُه [55] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/53). .
- والوَصفُ بـ شَدِيدِ الْعِقَابِ إفضاءٌ بصَريحِ الوَعيدِ على التَّكذيبِ بالقُرآنِ؛ لأنَّ مَجيئَه بعدَ قَولِه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [غافر: 2] يُفيدُ أنَّه المَقصودُ مِن هذا الكلامِ بواسِطةِ دَلالةِ مُستَتبَعاتِ التَّراكيبِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/80). .
- قولُه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ لَمَّا ذكَرَ جُملةً مِن صِفاتِه العُلا الذَّاتيَّةِ والفِعليَّةِ، ذكَرَ أنَّه المُنفرِدُ بالأُلوهيَّةِ والوَحدانيَّةِ، المَرجوعُ إليه في الحشرِ بأنَّ المصيرَ والمَرجِعَ إليه؛ تَسجيلًا لبُطلانِ الشِّركِ، وإفسادًا لإحالَتِهمُ البَعثَ [57] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). .
- وجُملةُ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ إنذارٌ بالبَعثِ والجَزاءِ؛ لأنَّه لَمَّا أُجريَتْ صِفاتُ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، أُثيرَ في الكلامِ الإطماعُ والتَّخويفُ؛ فكان حَقيقًا بأنْ يَشعروا بأنَّ المصيرَ إمَّا إلى ثَوابِه وإمَّا إلى عِقابِه، فلْيَزِنوا أنفُسَهم؛ لِيَضَعوها حيثُ يَلوحُ مِن حالِهم [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). .
- وقولُه: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: إليه فحَسْبُ، لا إلى غَيرِه، لا استِقلالًا ولا اشتِراكًا، فيَجزي كُلًّا مِنَ المُطيعِ والعاصي؛ فتقديمُ المَجرورِ إِلَيْهِ لإفادةِ الاختِصاصِ [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/266). . وقيل: إنَّ تقديمَ المَجرورِ في إِلَيْهِ الْمَصِيرُ؛ للاهتِمامِ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ بحَرفَينِ: حَرفِ لِينٍ، وحَرفٍ صَحيحٍ؛ مِثلَ: الْعَلِيمِ [غافر: 2] ، والْبِلَادِ [غافر: 4] ، وعِقَابِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). [غافر: 5] .
- وقد اشتملَتْ فاتحةُ سُورةِ (غافرٍ) على ما يُشيرُ إلى جَوامِعِ أغراضِها، ويُناسِبُ الخَوضَ في تَكذيبِ المُشركينَ بالقرآنِ، ويُشيرُ إلى أنَّهم قد اعتَزُّوا بقوَّتِهم ومَكانَتِهم، وأنَّ ذلك زائلٌ عنهم كما زال عن أُمَمٍ أشَدَّ منهم؛ فاستَوفَتْ هذه الفاتحةُ كَمالَ ما يُطلَبُ في فَواتِحِ الأغراضِ ممَّا يُسمَّى بَراعةَ المَطْلَعِ أو بَراعةَ الاستِهلالِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/81). .