موسوعة التفسير

سُورةُ الكَوْثَرِ
الآيات (1-3)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

الْكَوْثَرَ: أي: الخَيرَ الكَثيرَ، والنَّهرَ الَّذي تَرِدُه أُمَّتُه صلَّى الله عليه وسلَّم في القيامةِ، والكَوثَرُ: فَوعَلٌ، مِنَ الكَثرةِ، وأصلُ (كثر): يدُلُّ على خِلافِ القِلَّةِ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 541)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/160)، ((البسيط)) للواحدي (24/371)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 472)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/289). .
وَانْحَرْ: أي: اذبَحْ، والنَّحرُ: مَوضِعُ القِلادةِ مِن الصَّدرِ، ونَحَرْتُه: أصَبْتُ نَحْرَه، ومنه: نحرُ البعيرِ، ويُقالُ لذَبْحِ البَعيرِ: النَّحْرُ؛ لأنَّ مَنحَرَه في صَدْرِه [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 541)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/400)، ((البسيط)) للواحدي (24/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 794)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 296). .
شَانِئَكَ: أي: مُبغِضَك وعَدُوَّك، وأصلُ (شنأ): يدُلُّ على البُغضِ والتَّجَنُّبِ للشَّيءِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 541)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/217)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 472)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 479)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 541). .
الْأَبْتَرُ: المُنقَطِعُ عن الخَيرِ، وأصلُ (بتر): يدُلُّ على القَطْعِ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 541)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 88)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/194)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 472)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 479). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مخاطِبًا نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُبشِّرًا له بقَولِه: إنَّا أعطَيْناك -يا محمَّدُ- نَهرًا في الجنَّةِ اسمُه الكوثَرُ.
ثُمَّ أمَرَه اللهُ تَعالى بالشُّكْرِ على هذه المِنَّةِ، فقال: فاشكُرِ اللهَ تعالى بأن تُصَلِّيَ مُخلِصًا له، وأن تَنحَرَ له وَحْدَه.
ثُمَّ بَشَّرَ اللهُ سُبْحانَه نَبِيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ببِشارةٍ أُخْرى، فقال: إنَّ مُبغِضَك -يا محمَّدُ- هو المنقَطِعُ عن كلِّ خَيرٍ.

 تفسير الآيات:

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1).
أي: إنَّا أعطيناك -يا محمَّدُ- نَهرًا في الجنَّةِ اسمُه الكَوثَرُ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/685)، ((الوسيط)) للواحدي (4/560)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/529-531). قال ابنُ الجَوْزيِّ: (وفي الكَوثَرِ سِتَّةُ أقْوالٍ؛ أحَدُها: أنَّه نَهْرٌ في الجَنَّةِ...، والثَّاني: أنَّ الكَوثَرَ: الخَيْرُ الكَثيرُ الَّذي أُعطِيَ نَبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، قالَه ابنُ عبَّاسٍ. والثَّالِثُ: العِلمُ والقُرآنُ، قالَه الحَسَنُ. والرَّابِعُ: النُّبوَّةُ، قالَه عِكْرِمةُ. والخامِسُ: أنَّه حَوْضُ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي يَكثُرُ النَّاسُ عليه، قالَه عَطاءٌ. والسَّادِسُ: أنَّه كَثْرةُ أَتْباعِه وأمَّتِه، قالَه أبو بَكْرِ بنُ عيَّاشٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/497). ممَّن اخْتارَ القَولَ المَذْكورَ؛ أنَّ المُرادَ بالكَوثَرِ نَهْرٌ في الجَنَّةِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، وابنُ جَريرٍ، والبَغَويُّ، وابنُ الجَوْزيِّ، والرَّسْعَنيُّ، والخازِنُ، وأبو حَيَّانَ، وابنُ حَجَرٍ، والعُلَيْميُّ، والشرْبينيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/879)، ((تفسير ابن جرير)) (24/685)، ((تفسير البغوي)) (5/314)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 472)، ((تفسير الرسعني)) (8/748)، ((تفسير الخازن)) (4/480)، ((تفسير أبي حيان)) (10/556)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/732)، ((تفسير العليمي)) (7/444)، ((تفسير الشربيني)) (4/595). قال ابنُ كَثيرٍ: (وقد صَحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه فَسَّرَه بالنَّهْرِ...، وهكذا رُوِيَ عن أنَسٍ، وأبي العالِيةِ، ومُجاهِدٍ، وغَيرِ واحِدٍ مِن السَّلفِ: أنَّ الكَوثَرَ: نَهْرٌ في الجَنَّةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/502). وقال ابنُ عطيَّةَ: (قال أنَسٌ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وجَماعةٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ: الكَوثَرُ: نَهْرٌ في الجَنَّةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/529). قال الرَّازيُّ: (المَشْهورُ والمُسْتَفيضُ عندَ السَّلَفِ والخَلَفِ أنَّه نَهْرٌ في الجَنَّةِ). ((تفسير الرازي)) (32/313). وقال الواحِديُّ: (أكثَرُ المُفَسِّرينَ على أنَّ الكَوثَرَ نَهْرٌ في الجَنَّةِ). ((الوسيط)) (4/560). وقال الرَّسْعَنيُّ: (الَّذي عليه جُمهورُ المفَسِّرينَ وتدُلُّ عليه الأخبارُ والآثارُ: أنَّه نهرٌ في الجنَّةِ). ((تفسير الرسعني)) (8/748). وقال ابنُ حَجَرٍ: (والكَوثرُ فَوعَلٌ مِن الكَثرةِ، سُمِّيَ بها النَّهرُ؛ لكثرةِ مائِه وآنِيَتِه، وعِظَمِ قَدْرِه وخَيرِه). ((فتح الباري)) (8/731). وقال ابنُ جَريرٍ: (وصَفَه اللهُ بالكَثرةِ؛ لعِظَمِ قَدْرِه). ((تفسير ابن جرير)) (24/685). وممَّن اخْتارَ القَولَ الثَّانيَ، وأنَّ المُرادَ العُمومُ، أي: أنَّ الكَوثَرَ هو الخَيرُ الكَثيرُ، ومنه النَّهرُ الَّذي يُقالُ له: الكَوثَرُ، والحَوْضُ: السَّمَرْقَنديُّ، والقُشَيْريُّ، والبَيْضاويُّ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ تيميَّةَ، واختارَه البِقاعيُّ، والسعديُّ، وابنُ عُثَيْمينَ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/627)، ((تفسير القشيري)) (3/775)، ((تفسير البيضاوي)) (5/342)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/531، 532)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 935)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 332). وأخرج البخاريُّ في ((صحيحه)) (6578) بسندِه عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: (الكَوثرُ: الخَيرُ الكثيرُ الَّذي أعطاهُ اللهُ إيَّاه. قال أبو بِشْرٍ: قلتُ لسعيدٍ: إنَّ أُناسًا يَزْعُمونَ أنَّه نَهرٌ في الجنَّةِ؟ فقال سعيدٌ: النَّهَرُ الَّذي في الجَنَّةِ مِن الخَيرِ الَّذي أعطاهُ اللهُ إيَّاه). قال ابن حجر: (حاصلُ ما قاله سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: أنَّ قولَ ابنِ عبَّاسٍ: إنَّه الخيرُ الكثيرُ، لا يُخالِفُ قولَ غيرِه: أنَّ المرادَ به نهرٌ في الجنةِ؛ لأنَّ النَّهرَ فردٌ مِن أفرادِ الخَيرِ الكثيرِ، ولعلَّ سعيدًا أَوْمأَ إلى أنَّ تأويلَ ابنِ عبَّاسٍ أَولى؛ لِعُمومِه، لكنْ ثبَت تخصيصُه بالنَّهرِ مِن لَفظِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا مَعْدِلَ عنه). ((فتح الباري)) (8/732). .
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا عُرِجَ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السَّماءِ قال: أُتِيتُ على نهرٍ حافَتاه قِبابُ اللُّؤلؤِ مُجَوَّفًا، فقُلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟! قال: هذا الكَوثَرُ )) [9] رواه البخاري (4964). .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَيْنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ بيْنَ أظهُرِنا إذ أغفى إغفاءةً [10] أَغْفى إغْفاءةً: نامَ نَوْمًا خَفيفًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/163). ، ثمَّ رَفَع رأسَه مُتبَسِّمًا! فقُلْنا: ما أضحَكَك يا رَسولَ اللهِ؟! قال: أُنزِلَت علَيَّ آنفًا سُورةٌ، فقرأ: بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ثمَّ قال: أتَدْرُونَ ما الكَوثَرُ؟ فقُلْنا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. قال: فإنَّه نَهرٌ وعَدَنِيه ربِّي عزَّ وجَلَّ، عليه خَيرٌ كثيرٌ، هو حَوضٌ تَرِدُ عليه أُمَّتي يومَ القيامةِ [11] قال ابن كثير: (ومعنَى ذلك: أنَّه يَشْخبُ [أي يسيلُ ويجري] مِن الكوثَرِ -وهو في الجنَّةِ- ميزابانِ إلى الحوضِ، والحوضُ في موقفِ القيامةِ قبلَ الصِّراطِ؛ لأنَّه يُخْتَلَجُ عنه، ويُمْنَعُ منه أقوامٌ قد ارْتَدُّوا على أعقابِهم...، وجاء مُصَرَّحًا به أنَّه في العَرَصاتِ...، وأمَّا الكوثَرُ فإنَّه نهرٌ في الجنَّةِ). ((البداية والنهاية)) (19/426). ، آنيَتُه عدَدُ النُّجومِ، فيُختَلَجُ [12] يُختلَجُ: أي: يُنتزَعُ ويُقتطَعُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/113). العَبدُ منهم، فأقولُ: ربِّ إنَّه مِن أُمَّتي! فيَقولُ: ما تدري ما أحدَثَت بَعْدَك!)) [13] رواه مسلم (400). .
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر مِنَّتَه عليه؛ أمَرَه بشُكْرِها [14] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2).
أي: فاشكُرِ اللهَ تعالى -يا محمَّدُ- على الكَوثَرِ الَّذي أعطاك، بأن تُصَلِّيَ مُخلِصًا له، وأن تَنحَرَ له وَحْدَه دونَ ما سِواه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/696، 697)، ((تفسير ابن كثير)) (8/502-504)، ((تفسير السعدي)) (ص: 936)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 333). قال ابنُ الجَوْزيِّ: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وفي هذه الصَّلاةِ ثلاثةُ أقْوالٍ؛ أحدُها: أنَّها صَلاةُ العيدِ. وقال قَتادةُ: صلاةُ الأَضْحى. والثَّاني: أنَّها صلاةُ الصُّبْحِ بالمُزْدَلِفةِ، قالَه مُجاهِدٌ. والثَّالِثُ: الصَّلَواتُ الخَمْسُ، قاله مُقاتِلٌ. وفي قَولِه عزَّ وجَلَّ: وَانْحَرْ خمسةُ أقوالٍ؛ أحدُها: اذبَحْ يَومَ النَّحْرِ، رواه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وبه قال عَطاءٌ ومُجاهِدٌ والجُمهورُ. والثَّاني: وَضْعُ اليُمْنى على اليُسْرى عندَ النَّحْرِ في الصَّلاةِ، رواه أبو الجَوْزاءِ عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو قَولُ عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، قال ابنُ جَريرٍ: فيَكونُ المعنى: ضَعِ اليُمْنى على اليُسْرى عندَ النَّحْرِ في الصَّلاةِ. والثَّالثُ: أنَّه رَفْعُ اليَدَينِ بالتَّكْبيرِ إلى النَّحْرِ، قالَه أبو جَعفرٍ محمَّدُ بنُ عليٍّ. والرَّابعُ أنَّ المعنى: صَلِّ للهِ، وانْحَرْ للهِ؛ فإنَّ ناسًا يُصَلُّونَ لغَيْرِه، ويَنحَرونَ لغَيْرِه، قاله القُرَظيُّ. والخامِسُ: أنَّه اسْتِقبالُ القِبْلةِ بالنَّحْرِ، حَكاه الفَرَّاءُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/498). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/880)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/296). قال ابنُ عثيمين: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ المرادُ بالصَّلاةِ هنا: جميعُ الصَّلواتِ، وأوَّلُ ما يَدخُلُ فيها الصَّلاةُ المقرونةُ بالنَّحْرِ، وهي صلاةُ عيدِ الأضحى، لكِنَّ الآيةَ شامِلةٌ عامَّةٌ فَصَلِّ لِرَبِّكَ الصَّلَواتِ المفروضةَ والنَّوافِلَ، صَلواتِ العيدِ والجُمُعةِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 333). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/529). وقال الرَّسْعَنيُّ: (أمَّا قَولُه: وَانْحَرْ فقال عامَّةُ المُفَسِّرينَ: اذبَحْ يَومَ النَّحرِ). ((تفسير الرسعني)) (8/750). وقال ابنُ كَثيرٍ بعْدَ أن ذكَرَ ما قيلَ في معنى النَّحرِ: (كلُّ هذه الأقوالِ غَريبةٌ جدًّا، والصَّحيحُ القَولُ الأوَّلُ؛ أنَّ المُرادَ بالنَّحرِ ذَبْحُ المَناسِكِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/503). وقال ابنُ جَريرٍ: (أَوْلى هذه الأقوالِ عندي بالصَّوابِ: قَولُ مَن قال: معنى ذلك: فاجْعَلْ صَلاتَك كلَّها لرَبِّك خالِصًا دونَ ما سِواه مِن الأنْدادِ والآلِهةِ، وكذلك نَحْرُك اجْعَلْه له دونَ الأوْثانِ؛ شُكرًا له على ما أعْطاك مِن الكَرامةِ والخَيرِ الَّذي لا كُفْءَ له، وخَصَّك به، مِن إعْطائِه إيَّاك الكَوثَرَ. وإنَّما قُلْتُ: ذلك أَوْلى الأقوالِ بالصَّوابِ في ذلك؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ ثَناؤُه أَخبَرَ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بما أَكرَمَه به مِن عَطِيَّتِه وكَرامتِه، وإنْعامِه عليه بالكَوثَرِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلك قَولَه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فكان مَعْلومًا بذلك أنَّه خَصَّه بالصَّلاةِ له والنَّحْرِ على الشُّكْرِ له على ما أعْلَمَه مِن النِّعْمةِ الَّتي أنْعَمَها عليه، بإعْطائِه إيَّاه الكَوثَرَ، فلم يكنْ لِخُصوصِ بعضِ الصَّلاةِ بذلك دونَ بعضٍ، وبعضِ النَّحْرِ دونَ بعضٍ وَجْهٌ؛ إذ كان حَثًّا على الشُّكْرِ على النِّعَمِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/696). قال ابنُ تيميَّةَ: (وقد امتَثَلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمْرَ رَبِّه، فكان كَثيرَ الصَّلاةِ لرَبِّه، كَثيرَ النَّحْرِ، حتَّى نَحَرَ بيَدِه في حَجَّةِ الوَداعِ ثَلاثًا وسِتِّينَ بَدَنةً، وكان يَنحَرُ في الأعْيادِ وغَيْرِها). ((مجموع الفتاوى)) (16/532). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162-163].
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله -تعالى- لَمَّا بَشَّرَه بالنِّعَمِ العظيمةِ، وعَلِمَ -تعالى- أنَّ النِّعمةَ لا تَهنَأُ إلَّا إذا صارَ العدوُّ مَقهورًا؛ لا جَرَمَ وَعَدَه بقَهرِ العَدوِّ [16] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/322). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَه باستِغراقِ الزَّمانِ في عِبادَةِ الخالقِ، والإحسانِ إلى الخَلائقِ بأعلَى الخَلائقِ؛ عَلَّلَه بما حاصِلُه أنَّه لا شاغِلَ له ولا حاجةَ أصلًا تُلِمُّ به، فقال [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/291). :
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3).
أي: إنَّ مُبغِضَك -يا محمَّدُ- هو المنقَطِعُ عن كلِّ خَيرٍ، ومِن ذلك حُسنُ الذِّكْرِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/697)، ((الوسيط)) للواحدي (4/563)، ((تفسير ابن عطية)) (5/530)، ((تفسير ابن جزي)) (2/517)، ((تفسير ابن كثير)) (8/504)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 936)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 333، 334). قال الرَّاغب: (زَعَموا أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم يَنقَطِعُ ذِكْرُه إذا انقطَعَ عُمُرُه؛ لفِقْدانِ نَسْلِه، فنَبَّه تعالى أنَّ الَّذي ينقَطِعُ ذِكرُه هو الَّذي يَشْنَؤُه، فأمَّا هو فكما وصَفَه اللهُ تعالى بقَولِه: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ؛ وذلك لجَعْلِه أبًا للمُؤمِنينَ، وتقييضِ مَن يُراعيه ويُراعي دِينَه الحَقَّ). ((المفردات)) (ص: 107). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ لم يَقُلْ: (أعطَينا الرَّسولَ) أو (النَّبيَّ) أو (العالِمَ) أو (المُطيعَ)؛ لأنَّه لو قال ذلك لَأشعَرَ أنَّ تلك العَطيَّةَ وقَعَت مُعَلَّلةً بذلك الوَصفِ، فلمَّا قال: أَعْطَيْنَاكَ عُلِمَ أنَّ تلك العَطيَّةَ غيرُ مُعَلَّلةٍ بعِلَّةٍ أصلًا، بل هي مَحْضُ الاختيارِ والمشيئةِ، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف: 32] ، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [19] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/311، 312). [الحج: 75] .
2- قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ في إسنادِ الإعطاءِ إليه دونَ الإيتاءِ إشارةٌ إلى أنَّ ذلك إيتاءٌ على جهةِ التَّمليكِ؛ فإنَّ الإعطاءَ دونَه كثيرًا ما يُستعمَلُ في ذلك، ومنه قولُه تعالى لِسُلَيمانَ عليه السَّلامُ: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] بعْدَ قولِه: وَهَبْ لِي مُلْكًا [ص: 35] . وقيلَ: فيه إشارةٌ إلى أنَّ المُعطَى وإن كان كثيرًا في نَفْسِه قَليلٌ بالنِّسبةِ إلى شأْنِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِناءً على أن الإيتاءَ لا يُستعمَلُ إلَّا في الشَّيءِ العظيمِ، كقولِه تعالى: وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة: 251] ، وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] وآَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] ، والإعطاءُ يُستعمَلُ في القليلِ والكثيرِ، كما قال تعالى: وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى [النجم: 34] ، ففيهِ مِن تَعظيمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما فيه. وقيلَ: التَّعبيرُ بذلك؛ لأنَّه بالتَّفضُّلِ أَشْبَهُ، بخِلافِ الإيتاءِ، فإنَّه قد يكونُ واجِبًا، ففيهِ إشارةٌ إلى الدَّوامِ والتَّزايُدِ أبدًا؛ لأنَّ التَّفضُّلَ نَتيجةُ كَرمِ اللهِ تعالى، غيرِ المُتناهِي [20] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/480). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أبلَغُ مِن: (فَصَلِّ لله)؛ لأنَّ لَفظَ الرَّبِّ يُفيدُ التَّربيةَ المتقَدِّمةَ المشارَ إليها بقَولِه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، ويُفيدُ الوَعدَ الجَميلَ في المستقبَلِ أنَّه يُرَبِّيه ولا يَترُكُه [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/319). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فيه سُؤالٌ: المَذكورُ عَقِبَ الصَّلاةِ هو الزَّكاةُ، فلِمَ كان المَذكورُ هاهنا هو النَّحرَ؟
الجوابُ: أمَّا على قَولِ مَن قال: المُرادُ مِن الصَّلاةِ: صلاةُ العيدِ، فالأمرُ ظاهرٌ فيه. وأمَّا على قَولِ مَن حَمَلَه على مُطلقِ الصَّلاةِ؛ فلِوُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المُشرِكينَ كانت صَلَواتُهم وقَرابِينُهم للأَوثانِ، فقِيلَ له: اجعَلْهما للهِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ مِن النَّاسِ مَن قال: إنَّه -عليه السَّلامُ- ما كان يَدخُلُ في مِلكِه شَيءٌ مِن الدُّنيا، بل كان يَملِكُ بقَدرِ الحاجةِ، فلا جَرَمَ لم تجِبِ الزَّكاةُ عليه، أمَّا النَّحرُ فقد كان واجِبًا عليه.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ أعزَّ الأموالِ عندَ العَربِ هو الإبِلُ، فأمَرَه بنَحْرِها، وصَرفِها إلى طاعةِ الله تعالى؛ تَنبِيهًا على قَطعِ العَلائقِ النَّفْسانيَّةِ عن لَذَّاتِ الدُّنيا وطَيِّباتِها [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/319). .
5- قال اللهُ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ الذَّبحُ في مَوضِعِه أفضَلُ مِن الصَّدَقةِ بثَمَنِه ولو زاد، كالهدايا والأضاحيِّ؛ فإنَّ نَفْسَ الذَّبحِ وإراقةِ الدَّمِ مقصودٌ؛ فإنَّه عِبادةٌ مَقرونةٌ بالصَّلاةِ، كما قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، وقال: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] ، ففي كلِّ مِلَّةٍ صلاةٌ ونَسيكةٌ لا يقومُ غيرُهما مقامَهما؛ ولهذا لو تَصَدَّقَ عن دمِ المُتعةِ والقِرانِ بأضعافِ أضعافِ القيمةِ لَمْ يَقُمْ مَقامَه، وكذلك الأضحيَّةُ [23] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 65). .
6- في قَولِه تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَمَرَه اللهُ أنْ يَجْمَعَ بيْن هاتَينِ العِبادتَينِ العَظيمتَينِ، وهُما الصَّلاةُ والنُّسُكُ الدَّالَّتانِ على القُربِ، والتَّواضُعِ والافتقارِ، وحُسْنِ الظَّنِّ، وقوَّةِ اليقينِ، وطُمَأنينةِ القَلبِ إلى اللهِ وإلى عِدَتِه وأَمْرِه، وفَضْلِه وخَلَفِه، عَكْسُ حالِ أهلِ الكِبْرِ والنَّفرةِ، وأهلِ الغِنى عن اللهِ، الَّذين لا حاجةَ في صَلاتِهم إلى رَبِّهم يَسألونَه إيَّاها، والَّذين لا يَنحَرونَ له؛ خَوفًا مِن الفَقرِ، وترْكًا لإعانةِ الفُقَراءِ وإعطائِهم، وسوءَ ظَنٍّ منهم بربِّهم؛ ولهذا جَمَعَ اللهُ بيْنَهما في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] ، والنُّسُكُ هي الذَّبيحةُ ابتغاءَ وَجْهِه [24] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/531). .
7- في قَولِه تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أنَّ الصَّلاةَ والنُّسُكَ هما أجَلُّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى اللهِ؛ فإنَّه أتى فيهما بالفاءِ الدَّالَّةِ على السَّبَبِ؛ لأنَّ فِعْلَ ذلك -وهو الصَّلاةُ والنَّحرُ- سَبَبٌ للقيامِ بشُكرِ ما أعطاه اللهُ إيَّاه مِن الكَوثرِ والخَيرِ الكثيرِ، فشُكْرُ المنعِمِ عليه وعِبادتُه أعْظَمُها هاتان العبادتانِ، بلِ الصَّلاةُ نهايةُ العباداتِ وغايةُ الغاياتِ، كأنَّه يقولُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ الخيرَ الكثيرَ -على قولٍ-، وأنعَمْنا عليك بذلك؛ مِن أَجْلِ قيامِك لنا بهاتَينِ العِبادتينِ شُكرًا لإنعامِنا عليك، وهما السَّبَبُ لإنعامِنا عليك بذلك، فقُمْ لنا بهما؛ فإنَّ الصَّلاةَ والنَّحرَ محفوفانِ بإنعامٍ قَبْلَهما وإنعامٍ بَعْدَهما، وأَجَلُّ العباداتِ الماليَّةِ النَّحرُ، وأَجَلُّ العباداتِ البَدَنيَّةِ الصَّلاةُ، وما يَجتَمِعُ للعبدِ في الصَّلاةِ لا يَجتمِعُ له في غيرِها مِن سائرِ العباداتِ، كما عَرَفَه أربابُ القُلوبِ الحَيَّةِ وأصحابُ الهِمَمِ العاليةِ، وما يَجتمعُ له في نَحْرِه مِن إيثارِ اللهِ، وحُسْنِ الظَّنِّ به، وقُوَّةِ اليقينِ، والوُثوقِ بما في يَدِ اللهِ: أمرٌ عَجيبٌ إذا قارَنَ ذلك الإيمانُ والإخلاصُ [25] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/532). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ عن عَطاءٍ قال: (فَصَلِّ صلاةَ العِيدِ)؛ ففي الآيةِ مَشروعيَّةُ صلاةِ العيدِ، والأضحيَّةِ، وتأخيرِها عن الصَّلاةِ [26] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 300). .‌‌ وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ. والأُضحيَّةُ مِن أعظمِ شعائرِ الإسلامِ، وهي النُّسُكُ العامُّ في جميعِ الأمصارِ، والنُّسُكُ مَقْرونٌ بالصَّلاةِ في قَولِه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] ، وقد قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، فأَمَرَ بالنَّحْرِ كما أَمَرَ بالصَّلاةِ [27] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/162). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ استدَلَّ به مَن قال بأنَّ الأُضحيَّةَ كانت واجِبةً على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [28] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 300). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ استدَلَّ به مَن قال بأنَّ وَقتَ الأضحيَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ قَدْرِ الصَّلاةِ خاصَّةً، ولم يعتَبِرِ الخُطبتَينِ [29] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 300). مذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والحَنابِلةِ أنَّ وقتَ الأضْحِيَّةِ يَبدأُ بعْدَ صلاةِ العيدِ، واختارَه الطَّحاويُّ، والشَّوكانيُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي و((حاشية الشِّلْبي)) (6/4)، ((الفروع)) لابن مفلح (6/92)، ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (4/174)، ((الدراري المضية)) للشوكاني (2/343)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/459). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ في ظاهِرِ الآيةِ أنَّ الإبِلَ أفضَلُ مِن البَقَرِ والغَنَمِ في الضَّحايا، لأنَّه تعالى أمَرَ بالنَّحرِ، والنَّحرُ إنَّما يكونُ فيها. وقال مالِكٌ رحمه اللهُ تعالى: الغَنَمُ أفضَلُ، وقد ضَحَّى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بكَبشَينِ [30] أخرجه البخاريُّ (5558)، ومسلمٌ (1966) مِن حديثِ أنَسٍ رضيَ الله عنه. ، ويُحمَلُ الأمرُ بالنَّحرِ في الآيةِ إنْ جعَلْناها في الضَّحِيَّةِ خارجًا على ما كان الأكثَرُ عِندَهم في ذلك الوَقتِ، وهو الإبِلُ؛ فلذلك خَصَّ النَّحْرَ، وبيَّن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقَولِه وفِعْلِه أنَّ الغَنَمَ أفضَلُ، وأيضًا فإنَّما فُدِيَ ابنُ إبراهيمَ عليهما السَّلامُ مِن الذَّبحِ بكَبْشٍ [31] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/629). مَذهَبُ الجُمهورِ مِن الحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنابِلةِ: أنَّ أَفضَلَ الأضاحي البَدَنةُ، ثُمَّ البَقَرةُ، ثمَّ الشَّاةُ. يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجَصَّاص (7/326)، ((المجموع)) للنَّووي (8/ 396)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (2/530). ومَذهَبُ المالِكيَّةِ أن أَفضَلَها الغَنَمُ، ثمَّ البَقَرُ، ثمَّ الإبِلُ. يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/ 430)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/143). .
12- الذَّبحُ لغَيرِ اللهِ شِركٌ أكبَرُ؛ لأنَّ الذَّبحَ عبادةٌ، كما أمر به في قَولِه تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، وقَولِه سُبحانَه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [32] يُنظر: ((فتاوى أركان الإسلام)) لابن عثيمين (ص: 147). [الأنعام: 162-163] .
13- قَولُه تَعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فيه إشارةٌ إلى أنَّك لا تَتأسَّفُ على شيءٍ مِن الدُّنْيا، كما ذَكَرَ ذلك في آخِرِ (طه) و(الحِجْرِ) وغَيْرِهما، وفيها الإشارةُ إلى تَرْكِ الالْتِفاتِ إلى النَّاسِ وما يَنالُك مِنهم، بلْ صَلِّ لرَبِّك وانْحَرْ [33] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/532، 533). .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَانْحَرْ فيه سُؤالٌ: لِمَ لَمْ يقلْ: (ضَحِّ)؛ حتَّى يَشملَ جميعَ أنواعِ الضَّحايا؟
الجوابُ: أنَّ الصَّلاةَ أعظَمُ العباداتِ البَدَنيَّةِ؛ فقُرِنَ بها أعظَمُ أنواعِ الضَّحايا، وأيضًا فيه إشارةٌ إلى أنَّك بعْدَ فَقْرِك تصيرُ بحيثُ تَنحَرُ المِئةَ مِنَ الإبِلِ [34] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/320). !
15- في قَولِه تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أنَّ مَن شَنَأَ شيئًا ممَّا جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فله مِن ذلك نَصيبٌ، قال أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ: «إنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَبقَونَ ويَبقى ذِكْرُهم، وأهلَ البدعةِ يموتون ويموتُ ذِكْرُهم»؛ وذلك أنَّ أهلَ البدعةِ شَنَؤُوا بعضَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَبْتَرَهم بقَدْرِ ذلك، والَّذين أَعلنوا ما جاء به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم صار لهم نصيبٌ مِن قَولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ؛ فإنَّ ما أَكرمَ اللهُ به نبيَّه مِن سعادةِ الدُّنيا والآخِرةِ فللمؤمِنينَ المتابِعينَ نَصيبٌ بقَدْرِ إيمانِهم، فما كان مِن خصائصِ النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ فلَمْ يُشارِكْ فيه أحدٌ مِن أُمَّتِه، وما كان مِن ثوابِ الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ فلكلِّ مُؤمنٍ نَصيبٌ بقَدْرِ ذلك [35] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/38). .
16- قال تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ فكلُّ مَن شنَأه أو أبغَضه وعاداه فإنَّ اللهَ يَقطعُ دابِرَه، ويَمحَقُ عَيْنَه وأثَرَه [36] يُنظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (ص: 165). .

بلاغة الآيات:

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
- افتِتاحُ الكلامِ بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بالخبَرِ، والإشعارِ بأنَّه شَيءٌ عَظيمٌ يَستتبِعُ الإشعارَ بتَنويهِ شَأنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والكلامُ مَسوقٌ مَساقَ البِشارةِ، وإنشاءِ العَطاءِ، لا مَساقَ الإخبارِ بعَطاءٍ سابقٍ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/572). .
- وأُرِيدَ مِن هذا الخبَرِ بِشارةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإزالةُ ما عسى أنْ يكونَ في خاطِرِه مِن قولِ مَن قال فيه: هو أبتَرُ، فقُوبِلَ معْنى الْأَبْتَرُ بمعْنى الكَوثرِ؛ إبطالًا لِقولِهم [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/573). .
- وضَميرُ العَظَمةِ (نا) مُشعِرٌ بالامتنانِ بعَطاءٍ عَظيمٍ [39] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/603)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/572). .
- والكَوثرُ: اسمٌ في اللُّغةِ للخَيرِ الكثيرِ، صِيغَ على زِنةِ فَوعَلٍ، ولَمَّا وَقَعَ هنا فيها مادَّةُ الكُثْرِ، كانتْ صِيغتُه مُفيدةً شِدَّةَ ما اشتُقَّت منه، بِناءً على أنَّ زِيادةَ المَبْنى تُؤذِنُ بزِيادةِ المعْنى، أي: المُفرِطُ في الكثرةِ [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/806، 807)، ((تفسير البيضاوي)) (5/342)، ((تفسير أبي السعود)) (9/205)، ((تفسير أبي حيان)) (10/556)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/572، 573). .
- وقولُه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ اعتِراضٌ، والفاءُ للتَّفريعِ على البِشارةِ بإعطاءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الكَوثرَ بأنْ يَشكُرَ ربَّه عليها؛ فإنَّ الصَّلاةَ أفعالٌ وأقوالٌ دالَّةٌ على تَعظيمِ اللهِ، والثَّناءِ عليه، وذلك شُكرٌ لنِعمتِه. وناسَبَ أنْ يكونَ الشُّكرُ بالازديادِ ممَّا عاداهُ عليه المشرِكون وغيرُهم ممَّن قالوا مَقالتَهم الشَّنعاءَ: إنَّه أبتَرُ؛ فإنَّ الصَّلاةَ للهِ شُكرٌ له، وإغاظةٌ للَّذين يَنْهَونه عن الصَّلاةِ؛ كما قال تعالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق: 9-10] ؛ لأنَّهم إنَّما نَهَوه عن الصَّلاةِ الَّتي هي لِوجْهِ اللهِ دونَ العِبادةِ لأصنامِهِم، وكذلك النَّحرُ للهِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/205)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/573). .
- وكان المُقتضى أنْ يقولَ: (فصَلِّ لنا)، ولكنَّه انتَقَلَ مِن المُضمَرِ إلى المُظهَرِ على سَبيلِ الالْتفاتِ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ؛ اهتمامًا بذِكرِ (رَبِّكَ)، وتَعظيمًا له، ولِما في لَفظِ الرَّبِّ مِن الإيماءِ إلى استِحقاقِه العِبادةَ مِن أجْلِ رُبوبيَّتِه؛ لأنَّ مَن يُرَبِّيك يَستحِقُّ العِبادةَ، فضْلًا عن فَرْطِ إنعامِه [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/574)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/597 - 599). . فمِن فَوائِدِ الآيةِ اللَّطيفةِ الالْتِفاتُ في قَوْلِه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، الدَّالَّةِ على أنَّ رَبَّك مُسْتحِقٌّ لِذلك، وأنت جَديرٌ بأن تَعبُدَه وتَنحَرَ له [43] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (16/533). .
- وإضافةُ (ربّ) إلى ضَميرِ المُخاطَبِ؛ لقَصْدِ تَشريفِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتَقريبِه، وفيه تَعريضٌ بأنَّه يَرُبُّه ويَرأَفُ به [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/574). .
- قولُه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ في تَفريعِ الأمرِ بالنَّحرِ مع الأمْرِ بالصَّلاةِ على أنْ أعطاهُ الكوثرَ: خُصوصيةٌ تُناسِبُ الغرَضَ الَّذي نزَلَت السُّورةُ له؛ ألَا تَرى أنَّه لم يَذكُرِ الأمرَ بالنَّحرِ مع الصَّلاةِ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجْرِ: 97-98]؟ ويَظهَرُ أنَّ هذه تَسليةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عن صَدِّ المشركينَ إيَّاهُ عن البيتِ في الحُدَيْبيَةِ، فأعْلَمَه اللهُ تعالَى بأنَّه أعطاهُ خيرًا كثيرًا، أي: قدَّرَه له في المستقبَلِ، وعبَّرَ عنه بالماضي؛ لتَحقيقِ وُقوعِه [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/574). .
- وأفادتِ اللَّامُ مِن قولهِ: لِرَبِّكَ أنَّه يَخُصُّ اللهَ بصَلاتِه، فلا يُصلِّي لغيرِه، ففيه تَعريضٌ بالمشرِكينَ بأنَّهم يُصَلُّون للأصنامِ بالسُّجودِ لها والطَّوافِ حَوْلَها، وفيه تَنذيرٌ بالكفَّارِ حيث كانت صَلاتُهم مُكاءً وتَصديةً، ونحْرُهم للأصنامِ [46] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/557)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/574). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/533). . وقيلَ: فيها التَّعْريضُ بحالِ الأَبتَرِ الشَّانِئِ، الَّذي صَلاتُه ونُسُكُه لغَيْرِ اللهِ [47] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/532). .
- وعطْفُ وَانْحَرْ على فَصَلِّ لِرَبِّكَ يَقْتضي تَقديرَ مُتعلَّقِه مُماثِلًا لمُتعلَّقِ فَصَلِّ لِرَبِّكَ؛ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه، فالتَّقديرُ: وانحَرْ له، وهو إيماءٌ إلى إبطالِ نحْرِ المُشرِكين قُربانًا للأصنامِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/574، 575). .
- والأمْرُ بالنَّحرِ دونَ الذَّبحِ تَغليبٌ للَفظِ النَّحرِ، وهو الَّذي رُوعِيَ في تَسميةِ يومِ الأضحى يومَ النَّحرِ، ولِيَشملَ الضَّحايا في البُدنِ والهَدايا في الحجِّ، أو ليَشملَ الهَدايا الَّتي عُطِّلَ إرسالُها في يومِ الحُدَيبيَةِ، ويُرشِّحُ إيثارَ النَّحرِ رَعْيُ فاصلةِ الرَّاءِ في السُّورةِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/575). وقال ابنُ عثيمين: (وَانْحَرْ أي: تقَرَّبْ إليه بالنَّحرِ، والنَّحْرُ يختَصُّ بالإبِلِ، والذَّبحُ للبَقَرِ والغَنَمِ، لكِنَّه ذكَرَ النَّحرَ؛ لأنَّ الإبِلَ أنفَعُ مِن غيرِها بالنِّسبةِ للمَساكينِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 333). وسبَقَ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّه ذكَرَ النَّحرَ؛ حمْلًا على ما كان الأكثَرَ عِندَهم في ذلك الوَقتِ، وهو الإبِلُ. .
- وخَصَّ هاتَين العِبادتينِ بالذِّكرِ؛ لأنَّهما مِن أفضَلِ العِباداتِ، وأجَلِّ القُرُباتِ، ولأنَّ الصَّلاةَ تتضَمَّنُ الخُضوعَ في القَلْبِ والجوارحِ للهِ، وتنقُّلَها في أنواعِ العُبوديَّةِ، وفي النَّحرِ تقَرُّبٌ إلى اللهِ بأفضَلِ ما عندَ العَبدِ مِنَ النَّحائِرِ، وإخراجٌ للمالِ الَّذي جُبِلَت النُّفوسُ على محبَّتِه والشُّحِّ به [50] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 935). .
- قولُه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ استِئنافٌ يَجوزُ أنْ يكونَ استِئنافًا ابتدائيًّا، ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ تَعليلًا [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/575). .
- وفي قَوْلِه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أنْواعٌ مِن التَّأكيدِ؛ أحَدُها: تَصْديرُ الجُمْلةِ بإنَّ. الثَّاني: الإتْيانُ بضَميرِ الفَصْلِ الدَّالِ على قُوَّةِ الإسْنادِ والاخْتِصاصِ. الثَّالثُ: مَجيءُ الخَبَرِ على أَفعَلِ التَّفْضيلِ دونَ اسْمِ المَفْعولِ. الرَّابعُ: تَعْريفُه بـ «اللَّامِ» الدَّالَّةِ على حُصولِ هذا المَوْصوفِ له بتَمامِه، وأنَّه أَحَقُّ به مِن غَيْرِه، ونَظيرُ هذا في التَّأكيدِ قَولُه تَعالى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [52] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (16/533). [طه: 68] .
- واشتمالُ الكلامِ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ على صِيغةِ قصْرٍ، وعلى ضَميرِ غائبٍ، وعلى لَفظِ الْأَبْتَرُ: مُؤذِنٌ بأنَّ المقصودَ به ردُّ كَلامٍ صادرٍ مِن مُعيَّنٍ، وحِكايةُ لَفظٍ مُرَادٍ بالرَّدِّ، وكانوا يَصِفون مَن ليس له ابنٌ بـ (أبتَرَ)، فأنْزَلَ اللهُ هذه السُّورةَ، فحصَلَ القصْرُ في قَولِه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ؛ لأنَّ ضَميرَ الفصلِ يُفيدُ قصْرَ صِفةِ الأبتَرِ على الموصوفِ -وهو شانئُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم- قصْرَ المُسنَدِ على المسنَدِ إليه، وهو قَصْرُ قلْبٍ [53] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصِرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكورِ منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 92 - 100)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: إنَّ مَن أبْغَضَك مِن قَومِك لمُخالَفتِك لهم هُو الأبتَرُ لا أنت [54] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/807، 808)، ((تفسير البيضاوي)) (5/342)، ((تفسير أبي حيان)) (10/557)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/575، 576). .
- ولَمَّا كان وَصْفُ الأبتَرِ في الآيةِ جِيءَ به لمُحاكاةِ قولِ القائلِ: (محمَّدٌ أبتَرُ) إبطالًا لقولِه ذلك، وكان عُرْفُهم في وَصْفِ الأبتَرِ أنَّه الَّذي لا عَقِبَ له؛ تعيَّنَ أنْ يكونَ هذا الإبطالُ ضَرْبًا مِن الأُسلوبِ الحَكيمِ، وهو تَلقِّي السَّامعِ بغَيرِ ما يَترقَّبُ، بحَمْلِ كَلامِه على خِلافِ مُرادِه؛ تَنبيهًا على أنَّ الأحقَّ غيرُ ما عَناهُ مِن كَلامِه، وذلك بصَرْفِ مُرادِ القائلِ عن الأبتَرِ الَّذي هو عَديمُ الابنِ الذَّكَرِ إلى ما هو أجدَرُ بالاعتبارِ، وهو النَّاقصُ حظِّ الخَيرِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/577). .