موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيتان (10-11)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَوِّبِي: أي: رَجِّعي معه التَّسبيحَ، والتَّأويبُ: التَّسبيحُ والتَّرجيعُ [175] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 353)، ((تفسير ابن جرير)) (19/219)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 74)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 305). .
سَابِغَاتٍ: أي: دُروعًا واسِعةً طويلةً، وأصلُ (سبغ): يدُلُّ على تمامِ الشَّيءِ وكمالِه [176] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/143)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 353)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تفسير القرطبي)) (14/267)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 342). .
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ: أي: في النَّسْجِ؛ فلا تَجعَلِ المساميرَ دِقاقًا فَتَقْلَقَ، ولا غِلاظًا فتُكَسِّرَ الحِلَقَ، واجعَلْه على القَصدِ وقَدْرِ الحاجةِ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ ونهايتِه، وأصلُ (سرد): يدُلُّ على التَّوالي والتَّتابُعِ [177] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 354)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 267)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/157) و(5/62)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (18/328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 305). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
قَولُه: وَالطَّيْرَ في نصبِه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه معطوفٌ على محلِّ (جبالُ)؛ لأنَّه منصوبٌ تقديرًا، كأنَّه قال: أنادي الجِبالَ والطَّيرَ. الثَّاني: أنَّه مفعولٌ معه. الثَّالِثُ: أنَّه معطوفٌ على فَضْلًا على نِيَّةِ حَذْفِ مُضافٍ، تقديرُه: آتَيْناه فضلًا وتسبيحَ الطَّيرِ. الرَّابعُ: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فِعلٍ، أي: وسَخَّرْنا له الطَّيرَ [178] يُنظَر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/355)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/243)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/229)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/289)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/583)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/159). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مخبرًا عمَّا أنعَم به على عبدِه ورسولِه داودَ عليه السَّلامُ: ولقدْ آتَينا داودَ مِن عِندِنا فَضلًا، فقُلْنا: يا جِبالُ سَبِّحي معه والطَّيرَ، فكان يُسَبِّحُ والجِبالُ والطَّيرُ تُرَدِّدُ تَسبيحَه، وألَنَّا لداودَ الحديدَ، وقُلْنا له: اصنَعْ مِنَ الحديدِ دُروعًا تامَّةً طَويلةً وافيةً، واجعَلْ نسْجَ الدُّروعِ على نَسَقٍ مُتناسِبٍ مُحكَمٍ، واعمَلوا عملًا صالِحًا، إنِّي بَصيرٌ بما تَعملونَ.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ قِصَّةِ داودَ وسُلَيمانَ -عليهما السَّلامُ- لِما قَبْلَها، هي: أنَّ أولئك الكُفَّارَ أنكروا البَعثَ لاستِحالتِه عندَهم، فأُخبِروا بوقوعِ ما هو مُستحيلٌ في العادةِ ممَّا لا يُمكِنُهم إنكارُه؛ إذ طفَحَت ببعضِه أخبارُهم وشعراؤُهم؛ من تأويبِ الجِبالِ والطَّيرِ مع داودَ، وإلانةِ الحديدِ -وهو الجِرْمُ المُستعصي- وتسخيرِ الرِّيحِ لسُلَيمانَ، وإسالةِ النُّحاسِ له كما ألانَ الحديدَ لأبيه، وتسخيرِ الجِنِّ فيما شاء مِن الأعمالِ الشَّاقَّةِ [179] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/524). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى مَن يُنيبُ مِن عبادِه؛ ذكَرَ منهم مَن أناب وأصاب، ومِن جُملتِهم: داودُ، كما قال تعالى عنه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24] ، وبيَّن ما آتاه اللهُ على إنابتِه [180] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/195). .
وأيضًا لَمَّا أشار اللهُ سُبحانَه في الآيةِ السَّابِقةِ -الَّتي دلَّت على نفوذِ الأمرِ- إلى أنَّه تارةً يَعدِلُ، وتارةً يَتفضَّلُ، وكان الفَضلُ أكثَرَ استِجلابًا لذَوي الهِمَمِ العَليَّةِ والأنفُسِ الأبِيَّةِ؛ بدأ به في عبدٍ مِن رُؤوسِ المُنيبِينَ، على وَجهٍ دالٍّ على البَعثِ بكَمالِ التَّصَرُّفِ في الخافِقَينِ وما فيهما [181] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/455). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا.
أي: ولقد آتَينا داودَ مِن عِندِنا ما فضَّلْناه به على غَيرِه، وخَصَصْناه به مِن بينِ النَّاسِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/219)، ((تفسير القرطبي)) (14/264، 265)، ((تفسير ابن كثير)) (6/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/155، 156). قال ابنُ عاشور في بيانِ الفضلِ الَّذي آتاه اللهُ داودَ عليه السَّلامُ: (وهو فَضْلُ النُّبُوةِ، وفضلُ المُلكِ، وفضلُ العنايةِ بإصلاحِ الأُمَّةِ، وفضلُ القَضاءِ بالعدلِ، وفضلُ الشَّجاعةِ في الحربِ، وفضلُ سَعةِ النِّعمةِ عليه، وفضلُ إغنائِه عن النَّاسِ بما ألهمَه مِن صُنعِ دُروعِ الحديدِ، وفضلُ إيتائِه الزَّبورَ، وإيتائِه حُسْنَ الصَّوتِ، وطولَ العُمُرِ في الصَّلاحِ، وغَيرُ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (22/155، 156). وقال الشنقيطي: (قولُه تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ذَكَر جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه آتى داودَ منه فضلًا تَفَضَّل به عليه، وبَيَّن هذا الفضلَ الَّذي تَفَضَّل به على داودَ في آياتٍ أُخَرَ؛ كقولِه تعالَى: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة: 251] ، وقولِه تعالَى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20] ، وقولِه تعالَى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] ، وقولِه تعالَى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ [ص: 25] ، وقولِه تعالَى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] ، وقولِه تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: 15] ، وقولِه تعالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (6/266). .
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ.
أي: قُلْنا: يا جِبالُ سَبِّحي مع داودَ، والطَّيرَ أيضًا إذا سَبَّح داودُ رَبَّه؛ فكان يُسَبِّحُ والجبالُ والطَّيرُ تُردِّدُ تَسبيحَه [183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/219، 221)، ((تفسير ابن كثير)) (6/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/156)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 87، 88). !
كما قال تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 79] .
وقال سبُحانَه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص: 17 - 19] .
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ.
أي: وألَنَّا لداودَ مَعدِنَ الحديدِ الصُّلْبِ، فهو يتصَرَّفُ فيه بسُهولةٍ [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/222)، ((تفسير ابن كثير)) (6/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/156)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 88، 89). قال ابنُ جرير: (ذُكِرَ أنَّ الحديدَ كان في يَدِه كالطِّينِ المبلولِ يُصَرِّفُه في يدِه كيف يَشاءُ، بغيرِ إدخالِ نارٍ، ولا ضَرْبٍ بحديدٍ!). ((تفسير ابن جرير)) (19/222). .
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11).
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ.
أي: وأمَرْنا داودَ فقُلْنا له: اصنَعْ مِن الحديدِ دُروعًا تامَّةً كاملةً، طويلةً وافيةً [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/222)، ((تفسير القرطبي)) (14/267)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/458)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 89، 90). قال ابنُ تيميَّة: (السَّابغاتُ: هي الدُّروعُ الكاملةُ الَّتي تكونُ لها أيدٍ وأفخاذٌ). ((قاعدة تتضمن ذكر ملابس النبي وسلاحه ودوابه)) (ص: 28). .
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ.
أي: واجعَلْ نَسْجَ الدُّروعِ على مِقدارٍ مَحدودٍ، ونَسَقٍ مُتناسِبٍ مُحكَمٍ [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/224)، ((تفسير القرطبي)) (14/267، 268)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/410) و (16/134)، ((تفسير ابن كثير)) (6/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/157)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 91). قال ابن عاشور: (والسَّردُ: صُنعُ دِرعِ الحديدِ، أي: تركيبُ حِلَقِها ومساميرِها الَّتي تَشُدُّ شُقَقَ الدِّرعِ بَعضَها ببعضٍ، فهي للحديدِ كالخياطةِ للثَّوبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/157). قيل: معنى الآيةِ: عدِّل المسمارَ في الحَلْقةِ، ولا تُصَغِّرْه فيَقلَقَ، ولا تُعَظِّمْه فتَنفصِمَ الحَلْقةُ، قاله مجاهدٌ. وقيل: المعنى: لا تجعَلْ حِلَقَه واسعةً، فلا تَقي صاحبَها، قاله قتادةُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/436)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/491). قال الشنقيطي: (اجْعَلِ المساميرَ والحِلَقَ في نَسجِ الدُّروعِ بأقدارٍ مُتناسِبةٍ متلائمةٍ؛ لأنَّ المِسمارَ إن كان أكبرَ مِن الحلْقةِ جدًّا كَسَرَها، وإذا كان أصغرَ منها جدًّا لم يَشُدَّها كما ينبغي، فإذا كانت المساميرُ والحِلَقُ بأقدارٍ مُتناسِبةٍ كانت الدُّروعُ مَشدودةً كما ينبغي، ترُدُّ وقعَ السِّلاحِ مِن السُّيوفِ والسِّهامِ). ((العذب النمير)) (3/469). وقال الرسعني: (والمعنى: اجعَلْه على القَصدِ وقَدْرِ الحاجةِ). ((تفسير الرسعني)) (6/218). وقال البِقاعي: (والظَّاهرُ أنَّه لم يكُنْ في حِلَقِها مَساميرُ؛ لعدمِ الحاجةِ بإلانةِ الحديدِ إليها، وإلَّا لم يكُنْ بيْنَه وبينَ غيرِه فَرقٌ، ولا كان للإلانةِ فائدةٌ). ((نظم الدرر)) (15/459). وقيل: المعنى: لا تصرِفْ جميعَ أوقاتِك إليه، بل مِقدارَ ما يحصلُ به القوتُ، وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة. ذكر هذا المعنى: الرازيُّ، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/196)، ((تفسير أبي السعود)) (7/125). قال أبو السعود: (وهو الأنسَبُ بقولِه تعالى: وَاعْمَلُوا صَالِحًا). ((تفسير أبي السعود)) (7/125). وقال الرازي: (وقوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي: الزَّردِ؛ إشارةً إلى أنَّه غيرُ مأمورٍ به أمرَ إيجابٍ، إنَّما هو اكتسابٌ، والكَسبُ يكونُ بقدر الحاجةِ، وباقي الأيامِ واللَّيالي للعبادةِ، فقَدِّرْ في ذلك العملِ، ولا تَشغَلْ جميعَ أوقاتِك بالكَسبِ، بل حصِّل به القوتَ فحَسْبُ، ويدُلُّ عليه قَولُه تعالى: وَاعْمَلُوا صَالِحًا، أي: لستُم مخلوقينَ إلَّا للعملِ الصَّالحِ، فاعمَلوا ذلك وأكثِروا منه، والكَسبُ قَدِّروا فيه). ((تفسير الرازي)) (25/196). .
كما قال تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80] .
وَاعْمَلُوا صَالِحًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا سخَّرَ اللهُ له ما استصْعَبَ على غيرِه؛ أتْبَعَه بأمْرِه بالشُّكرِ بأنْ يَعمَلَ صالحًا [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/157). .
وَاعْمَلُوا صَالِحًا.
أي: واعمَلوا عَمَلًا خالِصًا لله، مُوافِقًا لِشَرعِه [188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/226)، ((تفسير القرطبي)) (14/268)، ((تفسير ابن كثير)) (6/498)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/461)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676). ممَّن اختار أنَّ هذا خِطابٌ لداودَ وأهلِه: ابنُ جرير، ومكِّي، والبغوي، والزمخشري، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، وابن جُزَي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/226)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5893)، ((تفسير البغوي)) (3/672)، ((تفسير الزمخشري)) (3/571)، ((تفسير ابن عطية)) (4/408)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/491)، ((تفسير القرطبي)) (14/268)، ((تفسير ابن جزي)) (2/163)، ((تفسير الشوكاني)) (4/363)، ((تفسير القاسمي)) (8/136). وقيل: هو خِطابٌ لداودَ ولِمَن أطاعه. وممَّن قال به: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/461). وقيل: خاطبه بلفظ الجماعةِ. وقيل: إنَّه أراد به داودَ وقومَه. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/82). .
إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: إنِّي بصيرٌ بما تَعمَلونَه مِن أعمالٍ، لا يخفَى علَيَّ شَيءٌ منها [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/226)، ((تفسير ابن كثير)) (6/498)، ((تفسير الشوكاني)) (4/363)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 92). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ... في هذه الآيةِ دَليلٌ على تعلُّمِ أهلِ الفَضلِ الصَّنائِعَ، وأنَّ التَّحَرُّفَ بها لا يَنقُصُ مِن مناصِبِهم، بل ذلك زيادةٌ في فَضلِهم وفَضائِلِهم؛ إذ يَحصُلُ لهم التَّواضُعُ في أنفُسِهم، والاستِغناءُ عن غيرِهم، وكَسْبُ الحلالِ الخَليِّ عن الامتنانِ، وفي الصَّحيحِ [190] أخرجه البُخاري (2072) من حديثِ المِقْدامِ بنِ مَعدِ يْكَرِبَ رضيَ الله عنه. عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما أكَل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا مِن أن يأكُلَ مِن عمَلِ يدِه، وإنَّ نبيَّ الله داودَ كان يأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِه )) [191] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/267). . فالآيةُ فيها دَليلٌ على الاكتِسابِ بعَمَلِ اليدِ [192] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/687). .
2- في قَولِه تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ دليلٌ على التَّثبُّتِ في العَمَلِ، وتقديرِه وإحكامِه [193] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/687). .
3- في قَولِه تعالى: وَاعْمَلُوا صَالِحًا أنَّه يجِبُ على مَن أنعَمَ اللهُ تعالى عليه نِعمةً أن يَقومَ بشُكرِها بالعَمَلِ الصَّالحِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 95). .
4- في قَولِه تعالى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 96). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ... ذكَرَ اللهُ تعالى نِعمتَه على داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ؛ احتِجاجًا على ما مَنَح محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: لا تَستَبعِدوا هذا؛ فقد تفضَّلْنا على عَبيدِنا قديمًا بكذا وكذا [196] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/524). .
2- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ في قَولِه عزَّ وجَلَّ: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ أنَّ الجمادَ يُدرِكُ خِطابَ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ ووجْهُ ذلك: لولا أنَّه يُدرِكُ لَكان توجيهُ الخطابِ إليه عَبَثًا، واللهُ سُبحانَه وتعالى مُنَزَّهٌ عن العَبَثِ في أقوالِه وأفعالِه، ويدُلُّ على أنَّه يُدرِكُ ذلك أنَّها أوَّبَتْ مع داودَ ورَجَّعَتْ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 94). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ جَعَل الجِبالَ بمنزلةِ العُقَلاءِ الَّذين إذا أمَرَهم أطاعوا وأذعَنوا، وإذا دعاهم سَمِعوا وأجابوا؛ إشعارًا بأنَّه ما مِن حيوانٍ وجمادٍ وناطقٍ وصامتٍ إلَّا وهو مُنقادٌ لِمَشيئتِه تعالى، غيرُ مُمتنِعٍ على إرادتِه؛ ودَلالةً على عزَّةِ الرُّبوبيَّةِ، وكبرياءِ الأُلوهيَّةِ؛ حيثُ نادى الجِبالَ وأمَرَها [198] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/524). .
4- في قَولِه تعالى: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ دليلٌ على إباحةِ لُبْسِ الدُّرُوعِ، وأنَّها لا تكون مؤَثِّرَةً في التَّوكُّلِ، والفِرارِ مِن الأجَلِ! وتكونُ حِرزًا بينَ لابِسِها وبينَ ما يتَّقيه مِن الطَّعْنِ والجَرْحِ؛ وجُنَّةً مِن وصولِ المكارِهِ إلى المكانِ؛ والتَّوكُّلُ قائمٌ على حالِه [199] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/687). .
5- لا بُدَّ في الخَلقِ والأمرِ مِن العَدلِ؛ فلا بُدَّ مِن التَّسويةِ بينَ المتماثِلَينِ، فإذا فُضِّل أحدُهما فسَدَ المصنوعُ، كما في مصنوعاتِ العبادِ؛ إذا بَنَوا بنيانًا فلا بدَّ مِن التَّسويةِ بينَ الحيطانِ؛ إذ لو رُفِعَ حائِطٌ على حائطٍ رَفعًا كثيرًا، فَسَد، وكذلك إذا صُنِعَت ملابِسُ للآدميِّينَ فلا بدَّ من أن تكونَ مُقدَّرةً على أبدانِهم لا تَزيدُ ولا تَنقُصُ، وكذلك ما يُصنَعُ مِن الطَّعامِ لا بُدَّ أن تكونَ أخلاطُه على وجهِ الاعتدالِ، والنَّارُ الَّتي تَطبُخُه كذلك، وكذلك السُّفُنُ المصنوعةُ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى لداود: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، أي: لا تُدِقَّ المِسمارَ فيَقلَقَ، ولا تُغلِظْه فيَفصِمَ، واجعَلْه بقَدَرٍ، فإذا كان هذا في مصنوعاتِ العبادِ وهي جزءٌ مِن مصنوعاتِ الرَّبِّ، فكيف بمخلوقاتِه العظيمةِ الَّتي لا صُنعَ فيها للعبادِ؛ كخَلقِ الإنسانِ وسائرِ البهائِمِ، وخَلقِ النَّباتِ، وخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ والملائكةِ؟! فالفَلَكُ الَّذي خَلَقه وجعَلَه مستديرًا ما له من فُروجٍ، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3، 4]، وقال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7]، وقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] ؛ فهو سُبحانَه سَوَّاها كما سوَّى الشَّمسَ والقمَرَ وغيرَ ذلك مِن المخلوقاتِ، فعَدَل بيْنَ أجزائِها. فالعَدلُ والتَّسويةُ لازِمٌ لجَميعِ المخلوقاتِ والمصنوعاتِ، فمتى لم تُصنَعْ بالعَدلِ والتَّسويةِ بين المتماثِلَينِ، وقع فيها الفَسادُ [200] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/133). .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ في ذِكرِ فَضلِه عِبرةٌ للنَّاسِ بحُسنِ عِنايةِ اللهِ بالمُنيبِينَ؛ تَعريضًا بضِدِّ ذلك للَّذين لم يَعتبِروا بآياتِ اللهِ، وفي هذا إيماءٌ إلى بِشارةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه بعدَ تَكذيبِ قَومِه وضِيقِ حالِه منهم؛ سَيَؤولُ شَأنُه إلى عِزَّةٍ عَظيمةٍ، وتأسيسِ مُلكِ أُمَّةٍ عظيمةٍ، كما آلَتْ حالُ داودَ [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/155). .
- وتَنكيرُ فَضْلًا؛ للتَّفخيمِ، وقولُه: مِنَّا؛ لِتَأكيدِ فَخامتِه الذَّاتيَّةِ بفَخامتِه الإضافيَّةِ. وتَقديمُه على المَفعولِ الصَّريحِ؛ للاهتِمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّر، تَبْقَى النَّفْسُ مُترقِّبةً له، فإذا ورَدَها يَتمكَّنُ عندَها فضْلَ تَمكُّنٍ [202] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/155). .
- وجُملةُ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: وقُلْنا: يا جِبالُ. وفِعلُ القولِ المَحذوفِ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لِجُملةِ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا، وفي هذا الأُسلوبِ الَّذي نُظِمَت عليه الآيةُ مِن الفَخامةِ وجَلالةِ الخالقِ، وعِظَمِ شأْنِ داودَ، مع وَفرةِ المعاني، وإيجازِ الألفاظِ، وإفادةِ معنَى المعيَّةِ بالواوِ دونَ ما لو كانتْ حَرْفَ عطْفٍ- ما لا يخفَى [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/156). .
- قيل: خصَّ الجبالَ والطَّيرَ بالذِّكرِ؛ لأنَّ الصُّخورَ للجمودِ، والطَّيرَ للنُّفورِ، وكِلاهما تُستبعَدُ منها الموافقةُ، فإذا وافَقه هذه الأشياءُ، فغيرُها أَولى [204] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/196)، ((تفسير ابن عادل)) (16/22)، ((تفسير الشربيني)) (3/282). .
2- قَولُه تعالى: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
- قولُه: سَابِغَاتٍ صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ؛ لِظُهورِه مِن المَقامِ؛ إذ شاع وَصْفُ الدُّروعِ بالسَّابغاتِ والسَّوابغِ حتَّى استَغْنَوا عندَ ذِكرِ هذا الوَصفِ عن ذِكرِ المَوصوفِ [205] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/571)، ((تفسير البيضاوي)) (4/243)، ((تفسير أبي حيان)) (8/524)، ((تفسير أبي السعود)) (7/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/156، 157). . وأيضًا مِن أجْلِ العنايةِ بفائدةِ هذه الدُّرُوعِ؛ وهي أنْ تكونَ سابغةً تامَّةً [206] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/318). .
- وضَميرُ (اعْمَلُوا) لِداودَ وآلهِ، أو له وحْدَه على وَجهِ التَّعظيمِ [207] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/526)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/157). .
- وقولُه: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَعليلٌ للأمْرِ، أو لِوُجوبِ الامتثالِ به [208] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/157). .