موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (7-9)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مُزِّقْتُمْ: أي: بَلِيتُم، وتفرَّقت أجسادُكم، وأصلُ (مزق): يدُلُّ على تخَرُّقٍ في شَيءٍ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/318)، ((تفسير القرطبي)) (14/262)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496). .
أَفْتَرَى: الافتراءُ: الاختِلاقُ، وهو ما عَظُمَ مِن الكَذبِ، ومِنه قيل: افترَى فُلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، ويُستَعمَلُ في القُرآنِ في الكَذِبِ والشِّركِ والظُّلمِ، وأصلُ (فري): قَطْعُ الشَّيءِ، ومِن ذلك: فَرَيْتُ الشَّيءَ أفْريه فَرْيًا، وهو قطْعُه لإصلاحِه، وأفرَيْتُه: إذا أنت قطعتَه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ [120] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 128، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102، 460)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/496، 497)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634، 635)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .
جِنَّةٌ: أي: جُنونٌ، وأصلُ (جنن): يدُلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ، ومنه المجنونُ؛ لاستتارِ عقلِه، وتَواريه عنه [121] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((تفسير ابن جرير)) (17/35)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((المفردات)) للراغب (ص: 205)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 94)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 306، 213). .
نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ: أي: نُغَيِّبْهم فيها، يُقالُ: خسَفَ اللهُ به الأرضَ، أي: غابَ به فيها، وأصلُ (خسف): يدُلُّ على ذَهابٍ وغُؤورٍ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/180)، ((البسيط)) للواحدي (13/398)، ((تفسير السمعاني)) (4/318)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 771). .
كِسَفًا: أي: قِطَعًا، وأصلُ (كسف): يدُلُّ على قَطعِ شَيٍء مِن شَيءٍ [123] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/81)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/177)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 269). .
مُنِيبٍ: أي: رجَّاعٍ تائبٍ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على رُجوعِ الشَّيءِ مرَّةً بعدَ أخرى [124] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 441)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((تفسير القرطبي)) (14/264)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 236). .

المعنى الإجماليُّ:

يحكي الله تعالى ما قاله الكفرةُ فيما بيْنَهم، على سبيلِ الاستهزاءِ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في إخبارِه بالبعثِ، واستِبعادَهم ذلك، فيقولُ: وقال الَّذين كَفَروا: هل ندُلُّكم على رجُلٍ يُنَبِّئُكم بأنَّكم إذا مِتُّم وبَلِيَت أجسادُكم أنَّكم بعدَ تلك الحالِ ستُبعَثونَ أحياءً؟! هل اختلَقَ محمَّدٌ ذلك وكَذَب على اللهِ أم به جُنونٌ؟!
ثمَّ يرُدُّ الله تعالى عليهم، فيقولُ: ليس الأمرُ كما زَعَموا، بل هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ في العَذابِ والذَّهابِ البعيدِ عن الحَقِّ.
ثمَّ يقولُ تعالى منبِّهًا لهم على قدرتِه، ومهدِّدًا لهم بسوءِ العاقبةِ إذا ما استمَرُّوا في ضلالِهم وجهالاتِهم: أفلَمْ يَرَ أولئك الكُفَّارُ إلى ما بينَ أيديهم وما خَلْفَهم مِنَ السَّماءِ والأرضِ؛ فإنْ نَشَأْ نُغَيِّبْهم في باطِنِ الأرضِ، أو نُسقِطْ عليهم قِطَعًا مِنَ السَّماءِ فنُهلِكْهم، إنَّ في ذلك لَدَلالةً لكُلِّ عبدٍ تائبٍ إلى اللهِ تعالى راجِعٍ إليه.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَجَّب سُبحانَه مِنَ الَّذين كفروا في قَولِهم لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] ، المتضَمِّنِ لِتَكذيبِهم، وختَمَ بتصديقِ الَّذين أُوتوا العِلمَ، مُشيرًا إلى أنَّ سببَ تكذيبِ الكفَرةِ الجهلُ، الَّذي سببُه الكِبْرُ؛ عجَّب منهم هنا تعجيبًا آخَرَ أشَدَّ مِن الأوَّلِ؛ لتصريحِهم بالتَّكذيبِ على وجهٍ عجيبٍ [125] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/450). .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّن أنَّ الكافرينَ أنكَروا السَّاعةَ، وردَّ عليهم بقولِه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] ، وبيَّن ما يكونُ بعدَ إتيانِها مِن جزاءِ المؤمنِ على عمَلِه الصَّالحِ، وجزاءِ السَّاعي في تكذيبِ الآياتِ بالتَّعذيبِ على السَّيِّئاتِ؛ بيَّن حالَ المؤمنِ والكافرِ بعدَ قولِه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ؛ فقال: المؤمنُ هو الَّذي يقولُ: الَّذي أُنزِل إليك الحقُّ وهو يَهدي. وقال: الكافرُ هو الَّذي يقولُ: هو باطلٌ! ومِن غايةِ اعتِقادِهم وعِنادِهم في إبطالِ ذلك، قالوا على سبيلِ التَّعجُّبِ [126] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/151). ما حكاه اللهُ تعالى عنهم:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7).
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: هل نَدُلُّكم -أيُّها النَّاسُ [127] قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يكونَ قَولُهم هذا تقاوُلًا بيْنَهم، أو يقولُه بَعضُهم لبعضٍ، أو يقولُه كُبَراؤهم لعامَّتِهم ودَهْمائِهم؛ ويجوزُ أن يكونَ قَولَ كُفَّارِ مكَّةَ للوارِدينَ عليهم في الموسِمِ، وهذا الَّذي يُؤْذِنُ به فِعلُ نَدُلُّكُمْ مِن أنَّه خِطابٌ لِمَن لم يَبلُغْهم قَولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (22/147). - على رجُلٍ [128] قال البِقاعي: (ولَمَّا أخرَجوا الكلامَ مخرجَ الغرائِبِ المُضحِكةِ، لم يَذكُروا اسمَه مع أنَّه أشهرُ الأسماءِ، بل قالوا: عَلَى رَجُلٍ أي: ليس هو صبيًّا ولا امرأةً حتَّى تَعذِروه). ((نظم الدرر)) (15/450). يُنَبِّئُكم بأنَّكم إذا مِتُّمْ وتقَطَّعَت أجسادُكم وتفَرَّقَت في قُبورِكم كُلَّ تقطيعٍ وتَفريقٍ: أنَّكم بعدَ تلك الحالِ ستُبعَثونَ أحياءً مِن جَديدٍ [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/214)، ((تفسير القرطبي)) (14/262)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/450، 451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 675)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/265). ؟!
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8).
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ.
أي: هل اختلَق محمَّدٌ ذلك الأمرَ فكَذَب على اللهِ في إخبارِه بأنَّه سيَبعثُنا بعدَ مَوتِنا، أم هو امرؤٌ مَجنونٌ يَهْذي بكَلامٍ لا معنى له [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/215)، ((تفسير القرطبي)) (14/263)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 675)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 72، 73). ؟!
بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ.
أي: ليس الأمرُ كما زعَم أولئك المُشرِكونَ؛ فليس هو بمُفتَرٍ على اللهِ تعالى في ذلك، وليس بمَجنونٍ، ولكِنَّ هؤلاء الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ في العذابِ والذَّهابِ البَعيدِ عن الحَقِّ [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/216)، ((تفسير القرطبي)) (14/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 675)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 74). .
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الدَّليلَ بكَونِه عالمَ الغَيبِ، وكَونِه جازيًا على السَّيِّئاتِ والحَسَناتِ؛ ذكَرَ دليلًا آخَرَ، وذكَرَ فيه تهديدًا [132] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/195). .
وأيضًا لَمَّا كان المُشرِكونَ قد أنكَروا السَّاعةَ؛ لِقَطعِهم بأنَّ مَن مُزِّق كُلَّ مُمَزَّقٍ لا يمكِنُ إعادتُه، فقطعوا -جهلًا- بأنَّ الله تعالى لا يقولُ ذلك، فنَسَبوا الصَّادِقَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الإخبارِ بذلك إلى أحَدِ أمْرَينِ: تعمُّدِ الكَذِبِ، أو الجُنونِ- شَرَع اللهُ سُبحانَه يدُلُّ على صِدقِه في جميعِ ما أخبَرَ به، فبدأ بإثباتِ قُدرتِه على ذلك [133] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/453). .
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: أفلمْ يَرَ أولئك الكُفَّارُ إلى ما بينَ أيديهم وما خَلْفَهم [134] ممَّن اختار أنَّ المعنى: ألم يَنظُروا إلى السَّماءِ والأرضِ كيف أحاطتْ بهم؟ لأنَّك إن نظَرْتَ عن يمينِك أو شمالِك، أو بيْنَ يدَيك أو خَلْفَك رأيتَ السَّماءَ والأرضَ: ابنُ جرير، وابنُ الجوزي، والقرطبيُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/490)، ((تفسير القرطبي)) (14/264)، ((تفسير ابن جزي)) (2/162)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218). وقال الرَّسْعَني: (قَولُه تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ استِفهامٌ في معنى التَّقريرِ لهم بإحاطةِ السَّماءِ والأرضِ بهم حيث نظَروا وتوجَّهوا. ومقصودُ ذلك: [تذكيرُهم] بقُدرةِ الله تعالى عليهم، وتخويفُهم مِن سطوتِه وبطشتِه، ألَا تراه يقول: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ؟ وهذا المعنى قولُ قَتادةَ وجُمهورِ المفَسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (6/214). وقال ابن عاشور: (والمرادُ بـ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: ما يَستقبِلُه كلُّ أحدٍ منهم مِن الكائناتِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ، وبـ «مَا خَلْفَهم»: ما هو وراءَ كُلِّ أحدٍ منهم). ((تفسير ابن عاشور)) (22/153). وقال ابن عثيمين: (يحتمِلُ أن يكون المرادُ فيها المكانَ، ويحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ الزَّمانَ... انظُرْ ما بيْنَ يديك في المكانِ، أو ما بين يديك في الزمانِ، وما خَلْفَك مِن المكانِ أو الزَّمانِ: هل نجا أحدٌ مِن عذاب الله؟). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 79). وقيل: معنى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ممَّن أهلكهم اللهُ تعالى مِن الأُمَمِ الماضية في أرضِه، وَمَا خَلْفَهُمْ مِن أمرِ الآخرةِ في سمائِه. قاله أبو صالحٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/434). مِنَ السَّماءِ والأرضِ المحيطتَينِ بهما، وأنَّهم حيثما توجَّهوا فلن يَخرُجوا مِن ملَكوتِ اللهِ، وأنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على تَعذيبِهم [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218)، ((تفسير القرطبي)) (14/264). قال ابن جُزَي: (والمعنى: ألم يَرَوْا إلى السَّماءِ والأرضِ فيَعلَموا أنَّ الَّذي خلَقَهما قادرٌ على بعثِ النَّاسِ بعدَ موتِهم؟ ويحتمِلُ أن يكونَ المعنى تهديدًا لهم، ثمَّ فَسَّره بقَولِه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ، أي: أفلمْ يَرَوا إلى السَّماءِ والأرضِ أنَّهما مُحيطتان بهم، فيَعلَمونَ أنَّهم لا مَهرَبَ لهم مِن اللهِ؟). ((تفسير ابن جزي)) (2/162). ؟!
إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ.
أي: إنْ نشَأْ نُغَيِّبْهم في باطِنِ الأرضِ، أو نُسقِطْ عليهم قِطَعًا مِن السَّماءِ فنُهلِكْهم بسَبَبِ ظُلمِهم؛ فلْيرتَدِعوا عن التَّكذيبِ بالبَعثِ، ولْيَعلَموا كمالَ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ [136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218)، ((تفسير القرطبي)) (14/264)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/265، 266). .
كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16، 17].
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ.
أي: إنَّ في ذلك لَدَلالةً وعَلامةً ظاهِرةً [137] قيل: المشارُ إليه إحاطةُ السَّماءِ والأرضِ بالعبادِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ عطية، والرسعني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218)، ((تفسير ابن عطية)) (4/407)، ((تفسير الرسعني)) (6/216). وقال ابنُ عاشور: (والمشارُ إليه هو ما بيْنَ أيديهم وما خَلْفَهم مِن السَّماءِ والأرضِ، أي: مِن الكائناتِ فيهما). ((تفسير ابن عاشور)) (22/154). وقال السعدي: (إِنَّ فِي ذَلِكَ أي: خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، وما فيهما مِن المخلوقاتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 676). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 81، 82). لكُلِّ عبدٍ تائبٍ إلى اللهِ سُبحانَه، راجعٍ إلى مَعرفتِه وتوحيدِه والإقبالِ على طاعتِه [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/218)، ((تفسير القرطبي)) (14/264)، ((تفسير ابن كثير)) (6/496)، ((تفسير السعدي)) (ص: 676)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/154). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إلى قولِه سُبحانَه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أنَّ في السَّماءِ والأرضِ آياتٍ عظيمةً لِمَن نَظَر وتدبَّر، وهذا أثْبَتَه اللهُ تعالى في القرآنِ في مواضعَ كثيرةٍ، كما في قولِه سُبحانَه وتعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: 20]، وقولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، فكلُّ مَن تدبَّرَ ما في السَّماءِ وما في الأرضِ وما بيْنَهما؛ تَبَيَّنَ له مِن آياتِ اللهِ ما يُقَوِّي إيمانَه، ويَزيدُه طمَعًا في فَضْلِ اللهِ تعالى، وخَوْفًا مِن عِقابِه [139] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 84). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أنَّ اللهَ يَمُنُّ على العبدِ بظُهورِ الآياتِ له حتَّى يَتبيَّنَ له الحقُّ، وإذا مَنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على العبدِ بالنَّظَرِ في آياتِه والتدبُّرِ؛ ازدادَ بذلك إيمانًا باللهِ، وإيمانًا بما تقتَضيه هذه الآياتُ مِن صِفاتِه؛ فإنَّ كُلَّ آيةٍ تدُلُّ على صِفةٍ مُعَيَّنةٍ مِن صِفاتِ اللهِ تعالى [140] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 83). .
3- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ فيه حَثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابةِ [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/124). ، وأنَّه كُلَّما كان العبدُ أعظَمَ إنابةً إلى اللهِ، كان انتِفاعُه بالآياتِ أعظَمَ؛ لأنَّ المُنيبَ مُقبِلٌ على رَبِّه، قد توجَّهَت إراداتُه وهِمَّتُه لرَبِّه، ورجَعَ إليه في كُلِّ أمرٍ مِن أمورِه، فصار قريبًا مِن رَبِّه، ليس له همٌّ إلَّا الاشتِغالُ بمَرضاتِه، فيكونُ نَظَرُه للمَخلوقاتِ نَظرَ فِكرةٍ وعِبرةٍ، لا نظَرَ غَفلةٍ غيرِ نافِعةٍ [142] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 676). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ سُمِّيَ خَلقًا جديدًا؛ لأنَّ الإنسانَ إذا بُعِثَ فإنَّه لا يُبعَثُ كحالِه في الدُّنيا، بل يُبعَثُ في حالٍ أشَدَّ وأقوى؛ لأنَّه سيُبعَثُ على أنَّه مُؤبَّدٌ لا يموتُ، وقَولُه تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: في أوصافِه؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنَّ الخَلْقَ هو إعادةُ ما مضَى [143] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 70). .
2- في قَولِه تعالى: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا بيانُ قُبحِ الافتراءِ على اللهِ تعالى، حتَّى إنَّ الكافِرينَ يَستَقبِحونَه [144] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 76). .
3- في قَولِه تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وُجوبُ النَّظَرِ والاعتبارِ فيما حصَلَ مِن الآياتِ في السَّماءِ والأرضِ؛ لأنَّ هذا الاستِفهامَ للتَّوبيخِ، ولا يُوبَّخون إلَّا على تَركِ واجبٍ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 83). .
4- قَولُ الله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فيه سؤالٌ: هلَّا ذَكَر الأيمانَ والشَّمائِلَ كما ذكرَها في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف: 17] ؟
الجوابُ: أنَّه وُجِدَ هنا ما يُغْني عن ذِكرِهما مِن لَفظِ العُمومِ والسَّماءِ والأرضِ، بخِلافِه ثَمَّ [146] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 465). .
5- في قَولِه تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ أنَّ ما يحصُلُ مِن الخَسْفِ والزَّلازلِ والنَّوازلِ فإنَّه بإذْنِ اللهِ؛ عقوبةً للعِبادِ واعتبارًا؛ خلافًا لِمَن قال: إنَّ هذه أمورٌ طبيعيَّةٌ لا تدُلُّ على غضبِ اللهِ ولا على إنذارِه -كما هو رأيُ مَن لا يؤمنُ باللهِ تعالى-! فالخَسْفُ في الأرضِ عقوبةٌ؛ وما يأتي مِن الصَّواعقِ والكوارثِ الأفقيَّةِ فهي أيضًا عقوبةٌ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 83). .
6- في قولِه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ... تَنبيهٌ على أنَّه لم يَبْقَ مِن أسبابِ وُقوعِ العذابِ إلَّا تَعلُّقُ مَشيئةِ اللهِ به [148] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/123). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ... انتِقالٌ إلى قَولةٍ أُخرى مِن شَناعةِ أهْلِ الشِّركِ مَعطوفةٍ على وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] . وهذا القولُ قائمٌ مَقامَ الاستدلالِ على قولِهم الأوَّلِ: لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ الَّذي هو بمنزلةِ دَعوى، وقولُهم: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مُستنَدُ تلك الدَّعوى؛ ولذلك حُكِيَ بمِثلِ الأُسلوبِ الَّذي حُكِيت به الدَّعوى في المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه. وأدْمَجوا في الاستِدلالِ التَّعجُّبَ مِن الَّذي يأْتي بنَقيضِ دَليلِهم، ثمَّ إردافَ ذلك التَّعجُّبِ بالطَّعنِ في المُتعجَّبِ به [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/147). .
- والمُخاطَبُ بقَولِهم: هَلْ نَدُلُّكُمْ غيرُ مَذكورٍ؛ لأنَّ المقصودَ في الآيةِ الاعتبارُ بشَناعةِ القولِ، ولا غرَضَ يَتعلَّقُ بالمَقولِ لهم [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/147). .
- والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في العرْضِ، مِثلُ قولِه تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] ، وهو عَرْضٌ مُكنًّى به عن التَّعجُّبِ، أي: هلْ نَدُلُّكم على أُعجوبةٍ مِن رَجُلٍ يُنبِّئُكم بهذا النَّبأِ المُحالِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/147). ؟!
- قولُه: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ ... إنْ كان التَّقاوُلُ بيْنَ المشركينَ بعضِهم لِبَعضٍ؛ فالتَّعبيرُ عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بـ رَجُلٍ مُنَكَّرٍ، مع كَونِه مَعروفًا بيْنهم ومِن أهْلِ بَلدِهم؛ لأنَّهم قَصَدوا مِن تَنكيرِه أنَّه لا يُعرَفُ؛ تَجاهُلًا وسُخريةً منهم، فأخْرَجوهُ مُخرَجَ التَّحلِّي ببَعضِ الأحاجيِّ الَّتي يُتحاجَى بها للضَّحِكِ والتَّلهِّي، مُتجاهِلينَ به وبأمْرِه. وإنْ كان قولُ المشركينَ مُوجَّهًا إلى الواردينَ مكَّةَ في المَوسمِ؛ كان التَّعبيرُ بـ رَجُلٍ جَرْيًا على مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لأنَّ الواردينَ لا يَعرِفون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا دَعوتَه، فيكونُ كقولِ أبي ذَرٍّ قبْلَ إسلامِه لأخيهِ [152] يُنظر ما أخرجه البخاري (3522)، ومسلم (2474) من حديث ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. : (اذهَبْ فاستعْلِمْ لنا خبَرَ هذا الرَّجُلِ الَّذي يَزعُمُ أنَّه نَبيٌّ) [153] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/570)، ((تفسير أبي حيان)) (8/521)، ((تفسير أبي السعود)) (7/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/148). . وقيل: نُكِّر للتَّحقيرِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 68). .
- وشِبهُ الجُملةِ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ليس ممَّا نَبَّأَ به الرَّجُلُ، وإنَّما هو اعتِراضٌ في كلامِ الحاكينَ؛ تَنبيهًا على استِحالةِ ما يَقولُه هذا الرَّجلُ على أنَّه لازمٌ لإثباتِ الخلْقِ الجديدِ لكلِّ الأمواتِ. وتَقديمُ هذا الاعتِراضِ؛ للاهتمامِ به؛ لِيَتقرَّرَ في أذهانِ السَّامعينَ؛ لأنَّه مَناطُ الإحالةِ في زَعْمِهم؛ فإنَّ إعادةَ الحياةِ للأمواتِ تكونُ بعْدَ انعدامِ أجزاءِ الأجسادِ، وتكونُ بعْدَ تَفرُّقِها تَفرُّقًا قَريبًا مِن العدَمِ، وتكونُ بعدَ تَفرُّقٍ ما، وتكونُ مع بَقاءِ الأجسادِ على حالِها بقاءً مُتفاوِتًا في الصَّلابةِ والرُّطوبةِ، وهم أنْكَروا إعادةَ الحياةِ في سائرِ الأحوالِ، ولكنَّهم خَصُّوا في كَلامِهم الإعادةَ بعدَ التَّمزُّقِ كلَّ مُمزَّقٍ -أي: بعدَ اضمحلالِ الأجسادِ أو تَفرُّقِها الشَّديدِ-؛ لِقُوَّةِ استِحالةِ إرجاعِ الحياةِ إليها بعدَئذٍ [155] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/242)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/149). .
- وفي قولِه: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ عُدِلَ إليه عن الجُملةِ الفِعليَّةِ الدَّالَّةِ على الحُدوثِ مِثلُ (تُبعثون)، أو (تُخلَقون خلْقًا جديدًا)؛ للإشباعِ في الاستِبعادِ والتَّعجُّبِ [156] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/122، 123). .
2- قَولُه تعالى: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ
- جُملةُ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ في مَوضعِ صِفةٍ ثانيةٍ لـ رَجُلٍ، أتَوا بها استفهاميَّةً؛ لِتَشريكِ المخاطَبينَ معهم في تَرديدِ الرَّجُلِ بيْنَ هذينِ الحالَينِ: الكذِبِ، والجُنونِ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/150). .
- ولَمَّا كان الكلامُ في البعثِ قال: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ؛ فرَتَّبَ العذابَ على إنكارِ البَعثِ [158] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/522). .
- قولُه: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ردٌّ مِن اللهِ تعالى على استِدلالِهم بما أشارَ إلى أنَّهم ضالُّون أو مُضِلُّون، وَواهِمون أو مُوهِمون؛ فأبطَلَ قَولَهم بحَذافِرِه بحَرْفِ الإضرابِ (بل)، ثمَّ بجُملةِ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ؛ فقابَلَ ما وَصَفوا به الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوَصفَينِ: أنَّهم في العذابِ، وذلك مُقابِلُ قَولِهم: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؛ لأنَّ الَّذي يَكذِبُ على اللهِ يُسلِّطُ اللهُ عليه عَذابَه، وأنَّهم في الضَّلالِ البعيدِ، وذلك مُقابِلُ قَولِهم: بِهِ جِنَّةٌ. وعُدِلَ عن أنْ يُقالَ: بلْ أنتمْ في العذابِ والضَّلالِ، إلى: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ؛ إدماجًا [159] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لِتَهديدِهم، وتَنبيهًا على تَحقيقِ وُقوعِه [160] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/242)، ((تفسير أبي السعود)) (7/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/151). .
- وأيضًا في قولِه: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ وَضْعُ المَوصولِ مَوضعَ ضَميرِهم؛ للتَّنبيهِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ عِلَّةَ ما ارْتَكَبوه واجْتَرؤوا عليه مِن الشَّناعةِ الفظيعةِ: كُفْرُهم بالآخِرةِ وما فيها مِن فُنونِ العِقابِ، ولولاه لَمَا فَعَلوا ذلك؛ خَوفًا مِن غائلتِه. ووَصْفُ الضَّلالِ بالبُعدِ؛ للمُبالَغةِ [161] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/123). .
- وتَقديمُ العذابِ على ما يُوجِبُه ويَستتبِعُه؛ للمُسارعةِ إلى بَيانِ ما يَسوؤُهم، ويَفُتُّ في أعضادِهم، والإشعارِ بغايةِ سُرعةِ تَرتُّبِه عليه، كأنَّه يُسابِقُه فيَسبِقُه، وللمُبالَغةِ في استحقاقِهم له [162] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/569)، ((تفسير البيضاوي)) (4/242)، ((تفسير أبي السعود)) (7/123). ، ولأنَّه لَمَّا كان هذا القَولُ مُسَبَّبًا عن ضَلالِ المُشرِكينَ، وكان ضَلالُهم سببًا لعذابِهم- قدَّم العذابَ؛ لأنَّه المحطُّ، ولِيَرتدِعَ مَن أرادَ اللهُ إيمانَه [163] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/452). .
- وقولُه: فِي الْعَذَابِ إدماجٌ، يَصِفُ به حالَهم في الآخِرةِ مع وَصْفِ حالِهم في الدُّنيا [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/152). .
- قولُه: وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ أي: الضَّلالِ الَّذي يَصعُبُ الرُّجوعُ منه إلى الهُدى؛ تشبيهًا بمن ضَلَّ عن مَحجَّةِ [165] المَحَجَّة: جادَّةُ الطَّريقِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/304). الطَّريقِ بُعدًا مُتناهيًا، فلا يَكادُ يُرجى له العَودُ إليها [166] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 133). .
3- أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
- قولُه: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ استِئنافٌ مَسوقٌ لِتَهويلِ ما اجْتَرؤوا عليه وقالوه مِن تَكذيبِ آياتِ اللهِ تعالى، واستِعظامِ ما قالوا في حقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه مِن العظائمِ المُوجِبةِ لِنُزولِ أشدِّ العِقابِ، وحُلولِ أفظَعِ العذابِ مِن غَيرِ رَيْثٍ وتأخيرٍ [167] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/123). .
- والفاءُ في قولِه: أَفَلَمْ يَرَوْا ... للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقتضيهِ المَقامُ، ولِتَفريعِ ما بعْدَها على قولِه: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ ... [سبأ: 8] إلخ؛ لأنَّ رُؤيةَ مَخلوقاتِ اللهِ في السَّماءِ والأرضِ مِن شَأنِها أنْ تَهدِيَهم لو تَأمَّلوا حقَّ التَّأمُّلِ. والاستِفهامُ للتَّعجُّبِ الَّذي يُخالِطُه إنكارٌ على انتفاءِ تَأمُّلِهم فيما بيْنَ أيْدِيهم وما خلْفَهم مِن السَّماءِ والأرضِ. والرُّؤيةُ بَصريَّةٌ؛ بقَرينةِ تعدِيَتِها بحرفِ (إلى)؛ فمعنى الاستِفهامِ عن انتفائِها منهم: انتِفاءُ آثارِها مِن الاستِدلالِ بأحوالِ الكائناتِ السَّماويةِ والأرضيَّةِ على إمكانِ البَعثِ؛ فشَبَّه وُجودَ الرُّؤيةِ بعَدمِها، وعُبِّرَ عنه بحَرْفِ النَّفيِ، والمَقصودُ: حثُّهم على التَّأمُّلِ والتَّدبُّرِ؛ لِيَتداركوا عِلمَهم بما أهْمَلوه [168] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/152). .
- وقيل: هو استِئنافٌ مَسوقٌ لتذكيرِهم بما يُعايِنونَ ممَّا يدُلُّ على كمالِ قدرتِه عزَّ وجلَّ، وتنبيهِهم على ما يَحتمِلُ أنْ يقَعَ مِن الأمورِ الهائلةِ في ذلك؛ إزاحةً لاستِحالتِهم الإحياءَ حتَّى جَعَلوه افتراءً وهُزءًا، وتَهديدًا عليها، والمعنى: أَعَمُوا فلمْ يَنظُروا إلى ما أحاطَ بجوانبِهم مِن السَّماءِ والأرضِ، ولم يَتفكَّروا أهُمْ أشَدُّ خلقًا أمْ هي [169] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/242)، ((تفسير أبي السعود)) (7/123)، ((تفسير الألوسي)) (11/286). ؟!
- وفي قولِه: أَفَلَمْ يَرَوْا زِيدَ حَرْفُ الفاءِ؛ لأنَّ الاعتبارَ فيها بالمُشاهَدةِ، وخُصَّت بالفاءِ؛ لِشِدَّةِ اتِّصالِها بالأوَّلِ؛ لأنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى الَّذين قَسَموا الكلامَ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالوا: محمَّدٌ إمَّا غافلٌ أو كاذبٌ، وإمَّا مَجنونٌ هاذٍ، وهو قولُهم: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ [سبأ: 8] ، فقال اللهُ تعالى: بل تَركْتُم القِسمةَ الثَّالثةَ، وهي: وإمَّا صَحيحُ العقلِ صادقٌ [170] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 208)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/383). .
- وجُملةُ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ اعتِراضٌ بالتَّهديدِ؛ فمُناسَبةُ التَّعجُّبِ الإنكاريِّ بما يُذكِّرُهم بقُدْرةِ خالقِ تِلك المخلوقاتِ العظيمةِ على عِقابِ الَّذين أشْرَكوا معه غيرَه، والَّذين ضيَّقوا واسِعَ قُدْرتِه، وكذَّبوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما يَخطُرُ في عُقولِهم؛ ذِكرُ الأُمَمِ الَّتي أصابَها عِقابٌ بشَيءٍ مِن الكائناتِ الأرضيَّةِ كالخَسفِ، أو السَّماويَّةِ كإسقاطِ كِسَفٍ مِن الأجرامِ السَّماويَّةِ، مِثلُ ما أصاب قارونَ مِن الخسْفِ، وما أصاب أهْلَ الأَيْكةِ مِن سُقوطِ الكِسَفِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/153). .
- وجُملة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ تَعليلٌ للتَّعجُّبِ الإنكاريِّ في قولِه: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ باعتبارِ ما يَتضمَّنُه مِن الحثِّ على التَّأمُّلِ والتَّدبُّرِ؛ فمَوقعُ حَرفِ التَّوكيدِ هنا لِمُجرَّدِ التَّعليلِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/154). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ بالإفرادِ، وقال بعْدَه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] بالجمْعِ؛ ووَجْهُه: أنَّ الإشارةَ هنا إلى قولِه تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [سبأ: 9] ، ولم يَتقدَّمْ ما حُرِّكوا إلى الاعتبارِ به غيرُ هذا، وقد انضَمَّ ذلك تحتَ (ما) الموصولةِ، ولَفظُها مُفرَدٌ؛ فرُوعِيَ مِن حيث اللَّفظُ، فقيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً بالإفرادِ. وأمَّا الثَّانيةُ فتَقدَّمَ قبْلَها قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10] ، ثمَّ قال: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سبأ: 12] ، إلى قولِه: مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14] ، ثمَّ قال: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ: 15] ؛ فذَكَّرَ سُبحانَه بالاعتبارِ بما منَحَ داودَ عليه السَّلامُ مِن تَسبيحِ الجِبالِ والطَّيرِ معه، وإلَانةِ الحديدِ، وبما سخَّرَ لِسُليمانَ عليه السَّلامُ مِن الرِّيحِ تَحمِلُه وجُنودَه حيث شاء في السُّرعةِ الَّتي أشارَتْ إليها الآيةُ، وإسالةِ عَينِ القِطرِ له، وعمَلِ الجِنِّ بيْن يَديْه، ثمَّ ذكَرَ ما كان لِسَبأٍ في مَساكنِهم مِن آيةِ الجنَّتينِ عن يَمينٍ وشِمالٍ، وأكْلِهم منها، وتَنعيمِهم إلى أنْ أعرَضوا، فأرسَلَ عليهم سَيْلَ العَرِمِ، إلى آخِرِ قِصَّتِهم؛ فهذه المُعتبراتُ لم تَدخُلْ تحتَ مَوصولٍ، ولا اسمٍ مُفرَدٍ يَضُمُّ جَميعَها، بل ذُكِرَت مُفصَّلةً؛ فقِيل إشارةً إلى جِميعِها: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ [173] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/408، 409). . وقيل غير ذلك [174] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 208)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/384)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 465). .