موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: إنكارُ المُعتَزِلةِ مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


يعودُ إنكارُ بعضِ المُعتَزِلةِ لمُعجِزاتِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُعجِزاتِ الرُّسلِ السَّابِقينَ إلى تصوُّرِهم للنُّبوَّةِ؛ فقد اختلَفوا فيما بَينَهم: هل هي جزاءٌ أو ثوابٌ؟ أم لا؟ فقال بعضُهم: هي ثوابٌ وجزاءٌ على عَملٍ صالِحٍ عمِلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاستحقَّ أن يجزيَه اللهُ بالنُّبوَّةِ.
وقال آخَرونَ: ليست بجزاءٍ ولا ثوابٍ [1381] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/297) و (2/326). .
وممَّن قال بأنَّها جزاءٌ على عَملٍ: عبَّادُ بنُ سُلَيمانَ، وممَّن قال بأنَّها تكونُ ابتداءً: أبو عليٍّ الجُبَّائيُّ [1382] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/137). .
ونَفيُ الاصطِفاءِ عن النُّبوَّةِ رأيٌ قديمٌ أبداه بعضُ الفلاسِفةِ؛ حيثُ جعَلوا النُّبوَّةَ مَرتَبةً مِن المعرفةِ والسُّموِّ الرُّوحيِّ، يبلُغُها المُجتهِدونَ الذين يتدرَّجونَ في مُعاناةٍ ورياضةٍ نفسيَّةٍ خاصَّةٍ.
وبذلك افتقدَت النُّبوَّةُ جَلالَها وقُدسيَّتَها، وصارت لدى هؤلاء الفلاسِفةِ ومَن تأثَّر بهم مِن المُعتَزِلةِ مِن الموضوعاتِ التي يتناوَلونَها بعيدًا عمَّا تستحِقُّه مِن الاحتِرامِ؛ فهذا واصِلُ بنُ عطاءٍ يخطُبُ فيُجيدُ، فيقولُ عَمرُو بنُ عُبَيدٍ -وكان شاهِدًا الجَمعَ-: (ترَونَ لو أنَّ مَلَكًا مِن الملائِكةِ أو نبيًّا مِن الأنبِياءِ يزيدُ على هذا؟!) [1383] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/277). .
بل بلَغ بهم استِهانتُهم بمَقامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ جوَّز عليه بعضُهم تعمُّدَ ارتِكابِ المعاصي، إلَّا أنَّها لا تكونُ إلَّا صغائِرَ [1384] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/279). .
وبناءً على هذا فإنَّ الكثيرَ مِن المُعتَزِلةِ يعتبِرونَ الحُجَّةَ قائِمةً على النَّاسِ بالعقلِ لا بالنُّبوَّةِ، فحتَّى مَن لم يبلُغْه خبرُ الرَّسولِ فهو محجوجٌ [1385] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/296). ؛ لتَقصيرِه في إعمالِ عَقلِه للوُصولِ إلى الحقيقةِ!
ومِن المُعتَزِلةِ مَن نفى أن تكونَ المُعجِزاتُ دلائِلَ صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَعواه الرِّسالةَ؛ ففَلْقُ البحرِ، وقَلْبُ العصا حيَّةً، ومَحْقُ السِّحرِ، وانشِقاقُ القَمَرِ، والمَشيُ على الماءِ، وغَيرُها: لا تدُلُّ -في زَعمِهم- على صِدقِ الرِّسالةِ [1386] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 162). .
والقرآنُ نَفسُه عندَ بعضِهم -كما ذهَب إلى ذلك هشامٌ الفُوَطيُّ وعبَّادُ بنُ سُلَيمانَ- (لم يُجعَلْ عَلَمًا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو عَرَضٌ مِن الأعراضِ لا يدُلُّ شيءٌ منها على اللهِ، ولا على نُبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!) [1387] يُنظر: مقدمة ((إعجاز القرآن للباقِلَّاني)) لصقر (ص: 8). .
فهل نعجَبُ بَعدَ هذا إذا أنكَر النَّظَّامُ ما رُوِي مِن مُعجِزاتِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن انشِقاقِ القمرِ، وتسبيحِ الحصا في يدِه، ونُبوعِ الماءِ بَينَ أصابِعِه؟! [1388] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 132)، ((السنة ومكانتها في التشريع)) للسباعي (ص: 206). .
فهو حينَ يتحدَّثُ عن روايةِ ابنِ مسعودٍ لحديثِ الانشِقاقِ [1389] ولَفظُه: عن ابنِ مسعودٍ قال: انشَقَّ القَمَرُ على عَهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِرقَتَيِن؛ فِرقةً فوقَ الجبَلِ، وفِرقةً دونَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشهَدوا)). أخرجه البُخاريُّ (4864) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2800). يتناوَلُها دونَ التِزامٍ لأيِّ لونٍ مِن ألوانِ الأدَبِ إزاءَ الصَّحابةِ الذين قال عنهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسبُّوا أصحابي )) [1390] أخرجه البُخاريُّ (3673) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2541) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرجه مسلم (2540) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فقال: (هذا مِن الكذِبِ الذي لا خَفاءَ به؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يشُقُّ القمرَ له وحدَه، ولا لآخَرَ معَه، وإنَّما يشُقُّه ليكونَ آيةً للعالَمينَ، فكيف لم يعرِفْ بذلك العامَّةُ، ولم يُؤرِّخِ النَّاسُ بذلك العامِ، ولم يذكُرْه شاعِرٌ، ولم يُسلِمْ عنه كافِرٌ، ولم يحتَجَّ به مُسلِمٌ على مُلحِدٍ؟!) [1391] ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 21)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 319). .
وفي الحقيقةِ فإنَّه بإنكارِه للكثيرِ مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يرمي إلى إنكارِ ثُبوتِه [1392] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 132). ، لا سيَّما والنَّظَّامُ مُعجَبٌ بقولِ البراهِمةِ بإبطالِ النُّبوَّاتِ، (ولم يجسُرْ على إظهارِ هذا القولِ خوفًا مِن السَّيفِ) [1393] ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 131). .
وقد ثبَت حديثُ انشِقاقِ القمرَ عن ابنِ مسعودٍ [1394] ولَفظُه: عن ابنِ مسعودٍ قال: انشَقَّ القَمَرُ على عَهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِرقَتَيِن؛ فِرقةً فوقَ الجبَلِ، وفِرقةً دونَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشهَدوا)). أخرجه البُخاريُّ (4864) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2800). ، وابنِ عُمرَ [1395] أخرجه مسلم (2801). ، وأنسٍ [1396] ولَفظُه: عن أنسٍ (أنَّ أهلَ مكَّةَ سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُريَهم آيةً، فأراهم انشِقاقَ القَمَرِ مَرَّتينِ). أخرجه البُخاريُّ (4867)، ومُسلمٌ (2802) واللَّفظُ له. ، وابنِ عبَّاسٍ [1397] ولَفظُه: عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. قال: انشَقَّ القَمَرُ في زمانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. أخرجه البُخاريُّ (4866) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2803). .
جاء عن ابنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه قولُه: ((انشقَّ القمرُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِقَّتَينِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اشهَدوا )) [1398] أخرجه البُخاريُّ (3636) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2800). .
قال القاضي عِياضٌ: (آيةُ انشِقاقِ القمرِ مِن أمَّهاتِ آياتِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُعجزاتِه، وقد رواها عِدَّةٌ مِن الصَّحابةِ، وظاهِرُ الآيةِ أيضًا وسياقُها وما بَعدَها مِن تمادي قُرَيشٍ على التَّكذيبِ يشهَدُ بصحَّتِها؛ لقولِه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، قال أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ: وقد أنكَرها بعضُ أهلِ البِدَعِ، وضاهى في ذلك مُخالِفي الملَّةِ، وذلك لمَّا أعمى اللهُ قلبَه، ولا إنكارَ للعقلِ في جهتِها؛ إذ هو خَلقٌ مِن خَلقِ اللهِ يفعَلُ اللهُ به ما يشاءُ، كما يُفنيه ويُكوِّرُه آخِرَ أمرِه) [1399] ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (8/ 333). .
وبلغَت ببعضِ المُعتَزِلةِ مُناوأَتُهم للإسلامِ وللرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أنكَروا إعجازَ القرآنِ، فقال النَّظَّامُ: (إنَّ نَظمَ القرآنِ وحُسنَ تأليفِ كلماتِه ليس مُعجِزةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا دَلالةَ فيه على صِدقِه في دَعواه النُّبوَّةَ؛ ذلك أنَّ القرآنَ كتابٌ كسائِرِ الكُتبِ المُنزَّلةِ لبيانِ الأحكامِ مِن الحلالِ والحرامِ، ووَجهُ الدَّلالةِ في هذا الكتابِ على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما هو ما فيه مِن الأخبارِ عن الغُيوبِ، فأمَّا نَظمُ القرآنِ وحُسنُ تأليفِ آياتِه فإنَّ العِبادَ قادِرونَ على مِثلِه، وعلى ما هو أحسَنُ منه في النَّظمِ والتَّأليفِ! ولم يُعارِضْه العربُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى صرَفهم عن ذلك، وسلَب عُلومَهم به، وهو ما عُرِف عندَهم بالصَّرْفةِ) [1400] ((فضل الاعتزال)) للبَلْخي وعبد الجبار والجُشَمي (ص: 70)، ((إعجاز القرآن)) للباقِلَّاني (ص: 807)، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 143)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/56). .
وقال عيسى بنُ صَبيحٍ المُلقَّبُ بالمُرْدارِ: (إنَّ النَّاسَ قادِرونَ على مِثلِ القرآنِ فصاحةً ونَظمًا وبلاغةً) [1401] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/54). .
وذهَب ابنُ الرَّاوَنديُّ في كتابِه (الدَّامِع) إلى الطَّعنِ في نَظمِ القرآنِ ومعانيه [1402] يُنظر: مقدمة ((إعجاز القرآن للباقِلَّاني)) لصقر (ص: 8). .
إلَّا أنَّ هذه الآراءَ الغريبةَ كان قد تناوَلها العديدُ مِن رجالِ الاعتِزالِ بالطَّعنِ والتَّجريحِ والرَّدِّ عليها، فتولَّى أبو الحُسَينِ الخيَّاطُ وأبو عليٍّ الجُبَّائيُّ الرَّدَّ على ابنِ الرَّاوَنديِّ، فنقَض ما تورَّط فيه مِن الانحِرافاتِ في كتابِه (الدَّامع)، وتولَّى الجاحِظُ في كتابِه (نَظم القرآنِ) الرَّدَّ على النَّظَّامِ في قولِه بالصَّرْفةِ [1403] يُنظر: مقدمة ((إعجاز القرآن للباقِلَّاني)) لصقر (ص: 8). .

انظر أيضا: