موسوعة الفرق

المطلَبُ الأوَّلُ: واصِلُ بنُ عطاءٍ


يُعَدُّ واصِلُ بنُ عطاءٍ الشَّخصيَّةَ الأولى التي نُسِب إليها مذهَبُ الاعتِزالِ، وهو كغَيرِه مِن أصحابِ المقالاتِ المُبتدَعةِ، يُحيطُ بشخصيَّتِه قَدرٌ كبيرٌ مِن الغُموضِ، ابتداءً مِن هذا الولاءِ المنسوبِ لبني ضَبَّةَ، أو لبني مخزومٍ، والأهَمُّ مِن هذا ظروفُ النَّشأةِ، وتلقِّي العِلمِ، والغُموضُ في هذا الجانِبِ يظهَرُ مِن خلالِ صِلاتِه الفِكريَّةِ المُتعدِّدةِ أيضًا؛ فهو مرَّةً يظهَرُ مِن مُنتابي مجلِسِ الحَسنِ البَصريِّ، ومرَّةً يظهَرُ في مجالِسِ الثَّنَويَّةِ والمجوسِ، ومرَّةً يبدو مُختلِفًا إلى مجموعةٍ مِن اليهودِ الذين اندسُّوا بَينَ المُسلِمينَ في البَصرةِ، ويُهِمُّنا أمامَ هذه الإشكالاتِ مُحاوَلةُ إيضاحِ الخَلفيَّةِ الفِكريَّةِ لهذا الرَّجلِ، ودورِه في فَتحِ بابِ الابتِداعِ في عقيدةِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ [133] يُنظر: ((العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 623). بتصرُّفٍ يسير. .
مَولِدُه: يُجمِعُ المُؤرِّخونَ على أنَّه وُلِد في المدينةِ النَّبويَّةِ سنةَ (80هـ)، وكُنيتُه أبو حُذَيفةَ الغَزَّالُ، مولًى لبَني مخزومٍ، وقيل: مولًى لبَني ضَبَّةَ [134] يُنظر: ((أمالي المرتضى)) لابن المرتضى (1/163)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (6/7)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (7/ 292)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/558). .
فما طبيعةُ هذا الولاءِ: هل هو مِن جِهةِ والِدَيه، أم مِن جِهتِه هو؟ وهل هذا الولاءُ يعني العُبوديَّةَ التي ينفيها الدُّكتورُ النَّشَّارُ عن واصِلٍ، مِثلَما حاوَل إلصاقَ ولائِه ببني هاشِمٍ، الذي لم يذكُرْه إلَّا ابنُ المُرتضى [135] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) (ص: 33). ، مُخالِفًا بذلك جميعَ مَن سبَقوه؟ حيثُ قال النَّشَّارُ: (بالرَّغمِ مِن أنَّه كان مولًى فقد وُلِد حُرًّا، معَ أنَّ المصادِرَ ساكِتةٌ تمامًا عن أبوَيه، فلا تذكُرُ عنهما شيئًا، غَيرَ أنَّنا نُلاحِظُ أنَّه لم يُذكَرْ عنه أنَّه كان عبدًا، بل إنَّ المصادِرَ تذكُرُ أنَّه كان غَزَّالًا) [136] ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (1/382). .
وقولُ النَّشَّارِ: (وُلِد حُرًّا)، دعوى لا دليلَ عليها؛ فالولاءُ يعني العُبوديَّةَ، ولعلَّه نال حُرِّيَّتَه مُؤخَّرًا، ولا يوجَدُ أيُّ مصدَرٍ يتحدَّثُ عن هذه العُبوديَّةِ، ومتى انفكَّت عنه.
مِن صِفاتِه الخِلْقيَّةِ:
مِن الصِّفاتِ الخِلْقيَّةِ التي نُقِلَت في وَصفِ واصِلِ بنِ عطاءٍ أنَّه كان ألثَغَ الرَّاءِ، شديدَ اللُّثغةِ فيها.
قال المُبرِّدُ: (كان واصِلُ بنُ ‌عطاءٍ ‌أحدَ ‌الأعاجيبِ؛ وذلك أنَّه كان ألثَغَ قبيحَ اللُّثغةِ في الرَّاءِ، فكان يُخلِّصُ كلامَه مِن الرَّاءِ، ولا يَفطُنُ بذلك؛ لاقتِدارِه وسُهولةِ ألفاظِه.
ففي ذلك يقولُ شاعِرٌ مِن المُعتَزِلةِ يمدَحُه بإطالتِه الخُطبَ واجتِنابِه الرَّاءَ، على كثرةِ تردُّدِها في الكلامِ حتَّى كأنَّها ليست فيه:
عليمٌ بإبدالِ الحُروفِ وقامِعٌ
لكُلِّ خطيبٍ يغلِبُ الحقَّ باطِلُه) [137] ((الكامل في اللغة)) (3/143). ويُنظر أيضًا: ((طبقات المُعتزِلة)) لابن المرتضى (ص: 28). .
وقال الجاحِظُ عن هذه اللُّثغةِ: (ولمَّا علِم واصِلٌ أنَّه ألثَغُ، فاحِشُ اللَّثَغِ، وأنَّ مخرَجَ ذلك منه شنيعٌ، وأنَّه إذا كان داعِيةَ مقالةٍ، ورئيسَ نِحلةٍ، وأنَّه يُريدُ الاحتِجاجَ على أربابِ النِّحَلِ، وزُعماءِ المِلَلِ...، ومِن أجْلِ الحاجةِ إلى حُسنِ البيانِ، وإعطاءِ الحُروفِ حُقوقَها مِن الفصاحةِ- رام أبو حُذَيفةَ إسقاطَ الرَّاءِ مِن كلامِه، وإخراجَها مِن حُروفِ مَنطِقِه، فلم يزَلْ يُكابِدُ ذلك ويُغالِبُه، ويُناضِلُه ويُساجِلُه، ويتأتَّى لسَترِه والرَّاحةِ مِن هُجْنتِه، حتَّى انتظَم له ما حاوَل، واتَّسق له ما أمَّل، ولولا استِفاضةُ هذا الخبرِ وظُهورُ هذه الحالِ حتَّى صار لغرابتِه مَثلًا، ولطرافتِه مَعلَمًا؛ لَما استجَزْنا الإقرارَ به، والتَّأكيدَ له) [138] ((البيان والتبيين)) (1/36). .
ومهما حاوَل أتباعُه مِن المُعتَزِلةِ الاعتِذارَ عن هذا العيبِ، فإنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ رُوِي عنه جُرأةٌ على كتابِ اللهِ تعالى بسببِ لُثغتِه.
قال الذَّهبيُّ: (يُحكى أنَّه كان يُمتحَنُ بأشياءَ في الرَّاءِ، ويتحيَّلُ لها، حتَّى قيل له: اقرَأْ أوَّلَ سورةِ براءةٌ، فقال على البديهةِ: "عَهدٌ مِن اللهِ ونبيِّه إلى الذين عاهَدْتُم مِن الفاسِقينَ، ‌فسِيحوا ‌في ‌البَسيطةِ هِلَالينِ وهِلَالَينِ"! وكان يُجيزُ القراءةَ بالمعنى، وهذه جُرأةٌ على كتابِ اللهِ العزيزِ) [139] ((تاريخ الإسلام)) (8/559)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (27/ 247). .
وقال البَغداديُّ: (أمَّا لُثغتُه في الرَّاءِ فمِن مثالِبِه؛ لأنَّها تمنَعُ مِن كونِه مُؤذِّنًا وإمامًا للقارِئينَ؛ لعَجزِه لقولِه: أشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، وأن يقولَ: اللهُ أكبَرُ، وكان لا يصِحُّ منه قراءةُ آيةٍ فيها الرَّاءُ. وكفى المُعتَزِلةَ خِزيًا أن يكونَ زعيمُها مَن لا يصِحُّ صلاتُهم خَلفَه، وأمَّا خُطبتُه التي لا راءَ فيها فعساه كان في تحبيرِها أيَّامًا) [140] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (ص: 85). .
طَلبُه للعِلمِ:
سبَق القولُ بأنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ وُلِد سنةَ (80 هـ)، وكانت وِلادتُه في المدينةِ النَّبويَّةِ، ولا يُوجَدُ نصٌّ حَولَ طبيعةِ نشأتِه الأولى، وتلقِّيه للعِلمِ، أو مُدَّةِ إقامتِه في المدينةِ، وزَمنِ ذَهابِه إلى البَصرةِ؛ حيثُ ظهَر في مجلِسِ الحَسنِ البَصريِّ، والسُّؤالُ المُتبادِرُ إلى الذِّهنِ: هل عاش واصِلٌ في المدينةِ المُنوَّرةِ مُدَّةً مِن الوَقتِ تُؤهِّلُه للتَّلقِّي عن عُلمائِها الذين كانوا مِن أشَدِّ النَّاسِ التِزامًا بالسُّنَّةِ، وبُعدًا عن البِدعةِ؟ أم إنَّه غادَر المدينةَ في وقتٍ مُبكِّرٍ مِن عُمرِه، ولم تُتَحْ له فُرصةُ التَّلقِّي عن عُلمائِها؟ وهل كانت مِهنتُه "العملَ في الغَزلِ" تحولُ بَينَه، وبَينَ تلقِّي العِلمِ، إذا علِمْنا أنَّه لم يَروِ حديثًا واحِدًا، ولا عدَّه عُلماءُ الرِّجالِ والطَّبَقاتِ مِن رُواةِ الحديثِ؟ أم إنَّه كان في المدينةِ يُعاني مِن العُبوديَّةِ والوَلاءِ، فلمَّا ذهَب إلى البَصرةِ لازَم مجالِسَ الحَسنِ البَصريِّ، فبدأ يطرَحُ إشكالاتِه الفِكريَّةَ، التي تنُمُّ عن ضحالةٍ في العِلمِ الشَّرعيِّ والعَقَديِّ؟
إنَّ هذه الإشكالاتِ ليس لها إجابةٌ في كُتبِ العُلَماءِ الثِّقاتِ، ولكنَّ كُتَّابَ المُعتَزِلةِ القُدماءَ ومَن ناصَرهم مِن المُعاصِرينَ حاوَلوا تدارُكَ هذا الجانِبِ، فبدؤوا بالبحثِ عن طَلبِه للعِلمِ، ونِسبةِ ذلك إلى البَيتِ الهاشِميِّ.
فقد وضَع ابنُ المُرتضى مُحمَّدَ بنَ الحَنفيَّةِ (ت 81هـ) في الطَّبقةِ الثَّانيةِ مِن طَبَقاتِ المُعتَزِلةِ، ثُمَّ قال: (وأمَّا مُحمَّدُ بنُ الحَنفيَّةِ فقد مرَّ أنَّ واصِلًا أخَذ عِلمَ الكلامِ عنه، وصار كالأصلِ لسَندِه)، إلى أن قال: (وسُئِل أبو هاشِمٍ عن مُحمَّدِ بنِ عليٍّ؛ عن مبلَغِ عِلمِه، فقال: إن أردْتُم معرفةَ ذلك فانظُروا إلى أثَرِه في واصِلِ بنِ عطاءٍ، وقال شَبيبُ بنُ شَبَّةَ: ما رأَيتُ في غِلمانِ ابنِ الحَنفيَّةِ أكمَلَ مِن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ، فقيل له: متى اختلَف عَمرُو بنُ عُبَيدٍ إلى ابنِ الحَنفيَّةِ؟ قال: إنَّ عَمرًا غُلامُ واصِلٍ، وواصِلٌ غُلامُ مُحمَّدٍ) [141] ((المُنْية والأمل)) (ص: 16). .
وقال ابنُ المُرتضى أيضًا: (الطَّبقةُ الثَّالثةُ...، فمِن العِترةِ الطَّاهِرةِ الحَسنُ بنُ الحَسنِ، وابنُه عبدُ اللهِ بنُ الحَسنِ، وأولادُه: النَّفسُ الزَّكيَّةُ، وغَيرُه، ومِن أولادِ عليٍّ أبو هاشِمٍ عبدُ اللهِ بنُ مُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ، وهو الذي أخَذ عنه واصِلٌ، وكان معَه في المكتَبِ، فأخَذ عنه، وعن أبيه) [142] ((المُنْية والأمل)) (ص: 24). .
وقال نَشوانُ الحِميَريُّ المُعتَزِليُّ الشِّيعيُّ: (كان واصِلُ بنُ عطاءٍ مِن أهلِ المدينةِ، ربَّاه مُحمَّدُ بنُ الحَنفيَّةِ وعلَّمه، وكان معَ ابنِه أبي هاشِمٍ في الكُتَّابِ، ثُمَّ صحِبه بَعدَ موتِ أبيه صُحبةً طويلةً، وحُكِي عن بعضِ العُلَماءِ أنَّه قيل له: كيف كان عِلمُ مُحمَّدِ بنِ عليٍّ؟ قال: إذا أردْتَ أن تعلَمَ ذلك فانظُرْ إلى أثَرِه في واصِلٍ) [143] ((الحور العين)) (ص: 260). .
فتلك مزاعِمُ لأهلِ الاعتِزالِ والتَّشيُّعِ، ولكن لا يُعتَدُّ بها؛ للأسبابِ الآتيةِ:
أوَّلًا: بمُقارَنةٍ زمنيَّةٍ بَينَ حياةِ واصِلٍ ومُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ يظهَرُ أنَّ هؤلاء الكُتَّابَ يقولونَ كلامًا يستغفِلونَ فيه أتباعَهم، وكأنَّ كُتبَهم لن تقعَ في غَيرِ أيدي أتباعِهم؛ فمِن الثَّابِتِ أنَّ مُحمَّدَ بنَ الحَنفيَّةِ -رحِمه اللهُ- تُوفِّي سنةَ (81هـ)، وواصِلُ بنُ عطاءٍ وُلِد سنةَ (80 هـ)؛ فكيف تلقَّى واصِلٌ العِلمَ عن ابنِ الحَنفيَّةِ وعُمرُه لم يتجاوَزْ سنةً واحِدةً؟! وبهذا يسقُطُ ادِّعاءُ المُعتَزِلةِ عن التَّلمذةِ.
ثانيًا: الزَّعمُ بأنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ قد صحِب عبدَ اللهِ بنَ مُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ في الكُتَّابِ مِن المزاعِمِ الباطِلةِ أيضًا، وقد برَّر المُستشرِقُ (آدَم مِتْز) تلك الكَذبةَ بأنَّ سَندَها مِن وَضعِ الشِّيعةِ الزَّيديَّةِ [144] يُنظر: ((الحضارة الإسلامية)) لمِتز (1/124). .
وذكَر الذَّهبيُّ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مُحمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ أبا هاشِمٍ قد مات "كَهلًا" سنةَ ثمانٍ وتسعينَ هجريَّةً [145] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (4/130). ، فكيف لرجُلٍ كَهلٍ يُحِبُّ طِفلًا في الكُتَّابِ؟ ولكنَّ الواقِعَ الذي يُمكِنُ تصوُّرُه أن واصِلًا قد دخَل الكُتَّابَ سنةَ "87هـ"، أو "88هـ"؛ فهو بذلك طفلٌ صغيرٌ بجانِبِ هذا الكَهلِ على ما قاله الذَّهبيُّ، وعندَما تُوفِّي عبدُ اللهِ كان عُمرُ واصِلٍ ثمانيةَ عَشرَ عامًا، ولا يُنكَرُ أن يكونَ واصِلٌ قد شاهَد عبدَ اللهِ، أو سمِعه، معَ أنَّ الغالِبَ أنَّ الظُّروفَ السِّياسيَّةَ في ذلك الوقتِ ما كانت تسمَحُ لعُلماءِ آلِ البَيتِ بإلقاءِ الدُّروسِ، وتجمُّعِ النَّاسِ حَولَهم، ثُمَّ ما وَجهُ اهتمامِ عبدِ اللهِ بنِ مُحمَّدٍ بطفلٍ صغيرٍ ليس مِن بني هاشِمٍ، ولا مِن مواليهم؟ فالأرجَحُ إذًا أنَّها مُحاوَلةٌ منهم للالتِصاقِ بآلِ البَيتِ. واللهُ تعالى أعلَمُ [146] يُنظر: ((العقيدة الإسلامية وجهود السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 628). .
وقد أنكَر البَغداديُّ هذه الصِّلةَ بالبَيتِ الهاشِميِّ مِن قِبَلِ واصِلٍ، فقال: (قد ادَّعَت المُعتَزِلةُ لواصِلٍ كراماتٍ، كذَبوا في بعضِها، وقَلَبوا في بعضِها؛ فزعَموا أنَّه صحِب مُحمَّدَ بنَ الحَنفيَّةِ، وعبدَ اللهِ بنَ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وأخَذ عنهما مقالتَه...، وهذه خُرافاتُ أمانيِّهم في الغُرورِ، وقيل: لو كان على رأيِ مُحمَّدٍ وعبدِ اللهِ ابنَي عليِّ بنِ أبي طالِبٍ لَما ردَّ شهادةَ أبيهما) [147] ((المِلَل والنِّحَل)) (ص: 84). .
وزيادةً في التَّمويهِ والتَّضليلِ فقد اخترَع المُعتَزِلةُ تَلمذةَ زيدِ بنِ عليِّ بنِ الحُسَينِ على واصِلِ بنِ عطاءٍ، وزعَموا أنَّه كان يَدينُ بمذهَبِ الاعتِزالِ!
قال ابنُ المُرتضى: (رُوِي أنَّ واصِلًا دخَل المدينةَ، ونزَل على إبراهيمَ بنِ يحيى، فسارَع إليه زيدُ بنُ عليٍّ، وابنُه يحيى بنُ زيدٍ، وعبدُ اللهِ بنُ الحَسنِ وإخوتُه، ومُحمَّدُ بنُ عَجلانَ، وأبو عبَّادٍ اللَّيثيُّ. فقال جَعفَرُ بنُ مُحمَّدٍ الصَّادِقُ لأصحابِه: "قوموا بنا إليه"، فجاءه والقومُ عندَه -أعني زيدَ بنَ عليٍّ وأصحابَه-، فقال جَعفَرٌ: أمَّا بَعدُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى بعَث مُحمَّدًا بالحقِّ والبيِّناتِ، والنُّذُرِ والآياتِ، وأنزَل عليه: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6] ، فنحن عِترةُ رسولِ اللهِ، وأقرَبُ النَّاسِ إليه، وإنَّك يا واصِلُ أتَيتَ بأمرٍ يُفرِّقُ الكَلِمةَ، وتطعَنُ به على الأئمَّةِ، وأنا أدعوك إلى التَّوبةِ)، إلى أن قال ابنُ المُرتضى: (فتكلَّم زيدُ بنُ عليٍّ، فأغلَظ لجَعفَرٍ، أي: أنكَر عليه ما قال، وقال: "ما منَعك مِن اتِّباعِه إلَّا الحَسدُ لنا"، فتفرَّقوا)، قال ابنُ المُرتضى: (قُلْتُ: روى ذلك الحاكِمُ وغَيرُه، واللهُ أعلَمُ بصحَّتِها) [148] ((المُنْية والأمل)) (ص: 35). .
إنَّ روايةَ هذه الحادِثةِ على هذه الهيئةِ نوعٌ مِن الوَضعِ والكذِبِ الذي اعتادَته فِرَقُ الابتِداعِ؛ وذلك لأنَّ زيدَ بنَ عليٍّ يكبُرُ واصِلَ بنَ عطاءٍ بالعُمرِ سنتَينِ؛ حيثُ وُلِد سنةَ (78هـ)، ثُمَّ قُتِل سنةَ عِشرينَ ومائةٍ، وهو ابنُ اثنتَينِ وأربَعينَ سنةً [149] يُنظر: ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (9/159). ، فيبعُدُ أن يكونَ تِلميذًا لواصِلٍ، وهو الذي تربَّى في كَنَفِ بَيتِ النُّبوَّةِ مِن عُلَماءِ آلِ البَيتِ، وعُلَماءِ السَّلفِ، إضافةً إلى عِلمِه وقُوَّتِه، واستِقامتِه على منهَجِ السَّلفِ، وردِّه على القَدَريَّةِ النُّفاةِ الذين يَدينُ واصِلٌ بمُعتقدِهم؛ فقد روى ابنُ عساكِرَ أنَّه (جاء رجُلٌ إلى زيدٍ، فقال: يا زيدُ، أنت الذي تزعُمُ أنَّ اللهَ أراد أن يُعصَى؟ فقال له زيدٌ: ‌أفعُصِي ‌عَنوةً؟ فأقبَل يَحصَرُ [150] المرادُ: لم يستَطِعِ الرَّدَّ؛ فقد ضُيِّق عليه بحُجَّتِه، ولم يستطعِ الرَّدَّ والانتصارَ. والحَصَرُ: ضَربٌ من العِيِّ. ‌حَصِر ‌الرَّجُلُ حَصَرًا، فهو حَصِرٌ: عَيِيٌّ في منطقِه، وقيل: حَصِر: لم يقدِرْ على الكلامِ. وحَصِر صدرُه: ضاق. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 193).  مِن بَينِ يدَيه) [151] ((تاريخ دمشق)) (19/ 460). .
ثُمَّ إنَّ هذا النَّصَّ يوحي بأنَّ مذهَبَ الاعتِزالِ غنيمةٌ كُبرى، وأنَّ جَعفَرًا الصَّادِقَ قد حسَد واصِلًا على اعتِناقِه، وأنَّ رِئاسةَ هذا المذهَبِ الضَّالِّ -على رأيِ كاتِبِ النَّصِّ- يجِبُ أن تكونَ لآلِ البَيتِ، وهذا مِن الكذِبِ، ويُضافُ إلى ذلك أنَّ ذلك النَّصَّ يتَّهِمُ واصِلًا بأنَّه طعَن في الأئمَّةِ، ولكنَّ واصِلًا ينفي ذلك، والأرجَحُ أنَّ هذه القصَّةَ موضوعةٌ، وابنُ المُرتضى نَفسُه قال: "اللهُ أعلَمُ بصحَّتِها".
وقد نفى هذه التَّلمذةَ المزعومةَ مُحمَّد أبو زهرةَ، ولكنَّ النَّشَّارَ يُؤكِّدُ عليها تَبعًا لكُتَّابِ المُعتَزِلةِ، فيقولُ: (قد حاوَل العلَّامةُ الكبيرُ الشَّيخُ مُحمَّد أبو زهرةَ أن يُثبِتَ أنَّ الإمامَ زيدًا لم يتتلمَذْ على واصِلِ بنِ عطاءٍ، وإنَّما ذاكَره وزامَله فيها، وبخاصَّةٍ أنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ إنَّما أخَذ مذهَبَه عن رجُلٍ مِن أهلِ البَيتِ، هو أبو هاشِمٍ، وسواءٌ أصحَّت تلمذةُ زيدٍ لواصِلِ بنِ عطاءٍ، أم مُذاكَرتُه له في المذهَبِ، فإنَّ آراءَ المُعتَزِلةِ كانت هي المرحلةَ الحاسِمةَ في تفكيرِ الفتى العَلَويِّ...، كما أنَّ اعتِناقَ زيدٍ المذهَبَ القَدَريَّ أقلَق مُحمَّدًا الباقِرَ) [152] ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) (2/122). .
إنَّه على فَرضِ صحَّةِ لقاءِ زيدٍ بواصِلٍ فإنَّه على الأرجَحِ كان لقاءَ جِدالٍ بَينَ مذهَبِ الحقِّ -وهو ما يعتقِدُه زيدٌ- وبَينَ المذهَبِ الباطِلِ الذي يعتقِدُه واصِلٌ [153] يُنظر: ((الإمام زيد بن علي المفترى عليه)) لشريف الخطيب (ص: 64) بواسطة: ((العقيدة الإسلامية وجهود السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 631). .
أمَّا تلمذةُ واصِلٍ على الحَسنِ البَصريِّ فهي ثابِتةٌ بلا شكٍّ، ولكنَّها تلمذةُ مَن أحدَث البِدعةَ في هذا المجلِسِ، وردَّ على شيخِه بما لا يليقُ، ولا نعلَمُ متى قدِم واصِلٌ إلى البصرةِ، فإذا قُلْنا إنَّه أقام في المدينةِ إلى سنةِ (100هـ)، فيكونُ قد جالَس الحَسنَ البَصريَّ مُدَّةَ خمسِ سنواتٍ، وقد بقِي أربعَ سنواتٍ منها صامِتًا لا يتكلَّمُ، فسألوا الحَسنَ البَصريَّ عن ذلك، فقال: (إمَّا أن يكونَ أجهَلَ النَّاسِ، أو أعلَمَ النَّاسِ)، وكانوا يظُنُّونَ به الخَرَسَ مِن طولِ صَمتِه [154] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) (ص: 34) لابن المرتضى، ((العقيدة الإسلامية وجهود السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 632). .
وماذا يعني هذا الصَّمتُ الطَّويلُ؟ وما دَلالاتُه؟ هل هو صمتُ السَّامعِ المُستزيدِ؟ أم هو صمتُ مَن يُهيِّئُ بنَفسِه مقالةً مُبتدَعةً، خالَف بها ما يقولُ هذا الإمامُ العالِمُ، الذي أجمعَت الأمَّةُ على إمامتِه، أم إنَّه كان يُقارِنُ بَينَ فِكرٍ ومُعتقَدٍ سابِقٍ لديه، وبَينَ ما يُلقيه الحَسنُ البَصريُّ، أم إنَّ المجالِسَ التي كان يحضُرُها بعيدًا عن حَلْقةِ الحَسنِ البَصريِّ هي التي أحدثَت عندَه هذا الانحِرافَ والابتِداعَ؟
هنا يُمكِنُ إلقاءُ بعضِ الضَّوءِ على عَلاقاتِ واصِلٍ الفِكريَّةِ خارِجَ حَلْقةِ الحَسنِ البَصريِّ، التي يُرجَّحُ أنَّها علاقاتٌ كان لها الأثرُ الأكبَرُ في انحِرافِه؛ فقد ذكَر أبو الفَرجِ الأصفَهانيُّ: (كان بالبَصرةِ ستَّةٌ مِن أصحابِ الكلامِ: عَمرُو بنُ عُبَيدٍ، وواصِلُ بنُ عطاءٍ، وبشَّارٌ الأعمى، وصالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوسِ، وعبدُ الكريمِ بنُ أبي العَوجاءِ، ورجُلٌ مِن الأزدِ؛ فكانوا يجتمِعونَ في منزِلِ الأزدِيِّ ويختصِمونَ عندَه، فأمَّا عَمرٌو وواصِلٌ فصارا إلى الاعتِزالِ، وأمَّا عبدُ الكريمِ وصالِحٌ فصحَّحا التَّوبةَ، وأمَّا بشَّارٌ فبقِيَ مُتحيِّرًا مُخلِّطًا، وأمَّا الأزديُّ فمال إلى قولِ السُّمَنيَّةِ، وهو مذهَبٌ مِن مذاهِبِ الهندِ، وبقِي ظاهِرُه على ما كان عليه، قال: فكان عبدُ الكريمِ يُفسِدُ الأحداثَ، فقال له عَمرُو بنُ عُبَيدٍ: قد بلَغَني أنَّك تخلو بالحَدَثِ مِن أحداثِنا فتُفسِدُه وتستزِلُّه وتُدخِلُه في دينِك؛ فإن خرجْتَ مِن مِصرِنا وإلَّا قُمتُ فيك مقامًا آتي فيه على نَفسِك، فلحِق بالكوفةِ، فدلَّ عليه مُحمَّدَ بنَ سُلَيمانَ، فقتَله، وصلَبه بها) [155] ((الأغاني)) (3/138). .
ومعَ عَدمِ الثِّقةِ بهذا المصدَرِ ومعلوماتِه فإنَّه قد يكونُ صادِقًا في قولِه عن واصِلٍ وعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، وأمَّا الشَّخصيَّاتُ الباقِيةُ فهي شخصيَّاتٌ مُنحرِفةٌ أيضًا؛ فبشَّارُ بنُ بُردٍ الشَّاعِرُ كان يميلُ إلى دينِ المجوسِ، ويفضِّلُ النَّارَ على التُّرابِ، ويُصوِّبُ رأيَ إبليسَ في امتِناعِه عن السُّجودِ لآدَمَ عليه السَّلامُ، ورُمِي بالزَّندقةِ عندَ المَهديِّ الخليفةِ العبَّاسيِّ؛ فأمَر به، فضُرِب سبعينَ سوطًا، فمات مِن ذلك، وكان ذلك سنةَ (168هـ) [156] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (1/273). .
وأمَّا صالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوسِ فقتَله المَهديُّ؛ حيثُ أُبلِغَ عنه أنَّه عرَّض بأبياتٍ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقتَله لأجْلِ ذلك [157] يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (23/346)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/492). .
وأمَّا عبدُ الكريمِ بنُ أبي العَوجاءِ، فقال عنه الذَّهبيُّ: (خالُ مَعنِ بنِ زائِدةَ، زِنديقٌ مُعثَرٌ، قال ابنُ عَديٍّ: لمَّا أُخِذ لتُضرَبَ عُنقُه قال: لقد وضعْتُ فيكم أربعةَ آلافِ حديثٍ، أُحرِّمُ فيها الحلالَ، وأحلِّلُ الحرامَ! قتَله مُحمَّدُ بنُ سُلَيمانَ الأميرُ بالبَصرةِ) [158] ((ميزان الاعتدال)) (2/644). .
أمَّا الرَّجلُ الأزدِيُّ فلا يُدرى مَن هو؛ لعَدمِ التَّصريحِ باسمِه، وهذه الشَّخصيَّاتُ التي كانت تجتمِعُ معَ واصِلِ بنِ عطاءٍ، وعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، الأرجَحُ أنَّها أثَّرَت في فِكرِه ومُعتقَدِه، وفي بِدعتِه التي ابتدَعها، ويُضافُ إلى ذلك أنَّ جماعةً مِن اليهودِ الذين أظهَروا الإسلامَ اندَسُّوا بَينَ المُسلِمينَ بالبَصرةِ، وقد تعرَّف إليهم واصِلُ بنُ عطاءٍ، وجعَل يتردَّدُ عليهم، ومِن قولِهم: إنَّ الخيرَ مِن اللهِ، والشَّرَّ مِن أفعالِ البَشرِ، وإنَّ القرآنَ مخلوقٌ مُحدَثٌ، ليس بقديمٍ، وإنَّ اللهَ تعالى غَيرُ مَرئيٍّ يومَ القيامةِ، وإنَّ المُؤمِنَ إذا ارتكَب الذَّنبَ؛ فشرِب الخَمرَ، وغَيرَه، يكونُ في منزِلةٍ بَينَ المنزِلتَينِ لا مُؤمنًا ولا كافِرًا، وإنَّ إعجازَ القرآنِ في الصَّرفِ عنه لا أنَّه مُعجِزٌ في نَفسِه، أي: إنَّ اللهَ لو لم يصرِفِ العربَ عن مُعارَضةِ القرآنِ لأتَوا بما يُعارِضُه [159] يُنظر: ((مقدمات العلوم والمناهج)) للجندي (ص: 433) بواسطة ((العقيدة الإسلامية وجهود السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 634). !
والذي يظهَرُ مِن بعضِ الرِّواياتِ أنَّ واصِلَ بنَ عطاءٍ وعَمرَو بنَ عُبَيدٍ كانا يحضُرانِ إلى الحَسنِ البَصريِّ عندَما كبِرَت سنُّه، وزادت على التِّسعينَ؛ ممَّا حدا بعُلماءِ السَّلفِ باتِّهامِهم بالكذِبِ على الحَسنِ البَصريِّ، وكان عَمرُو بنُ عُبَيدٍ ينسُبُ له ما لم يقُلْه؛ فعن حمَّادِ بنِ سَلَمةَ قال: (كان حُمَيدٌ مَن أكَفَّهم عنه أي: عن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ، قال: فجاء ذاتَ يومٍ إلى حُمَيدٍ قال: فحدَّثنا حُمَيدٌ بحديثٍ، قال عَمرٌو: كان الحَسنُ يقولُه، فقال حُمَيدٌ: ‌لا ‌تأخُذْ ‌عن ‌هذا ‌شيئًا؛ فإنَّه يكذِبُ على الحَسنِ، كان يأتي الحَسنَ بعدَما أسَنَّ، فيقولُ: يا أبا سعيدٍ، أليس تقولُ كذا وكذا؟ للشَّيءِ الذي ليس هو مِن قولِه، قال: فيقولُ الشَّيخُ برأسِه هكذا) [160] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/ 436). .
وذكَر ابنُ المُرتضى أنَّ واصِلًا قد بثَّ دُعاتَه في الآفاقِ، فقال: (بلَغ مِن بأسِه وعملِه أنَّه أنفَذ أصحابَه إلى الآفاقِ، وبثَّ دُعاتَه في البلادِ، قال أبو الهُذَيلِ: بعَث عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ إلى المغرِبِ، فأجابه خَلقٌ كثيرٌ، وبعَث إلى خُراسانَ حَفصَ بنَ سالِمٍ، فدخَل تِرمِذَ، ولزِم المسجِدَ حتَّى اشتَهر، ثُمَّ ناظَر جَهمًا فقَطعه، ورجَع إلى قولِ أهلِ الحقِّ، فلمَّا عاد حَفصٌ إلى البَصرةِ رجَع جَهمٌ إلى قولِ الباطِلِ، وبعَث القاسِمَ إلى اليمنِ، وبعَث أيُّوبَ إلى الجزيرةِ، وبعَث الحَسنَ بنَ ذَكوانَ إلى الكوفةِ، وعُثمانَ الطَّويلَ إلى إرْمِينيَةَ) [161] ((المُنْية والأمل)) (ص: 35) بتصَرُّفٍ، وقال النَّشَّارُ بعد ذكرِه لحملةِ واصلٍ هذه: (وبهذا نرى أنَّه كان لواصلٍ أكبرُ الأثرِ في إرساءِ قواعدِ الاعتزالِ، ويعودُ هذا لشكيمةِ الرَّجُلِ وقوَّةِ عارضتِه وشخصيَّتِه الفتَّانةِ!) يُنظر: ((نشأة الفكر الفلسفي)) (1/384). .
وهذا النَّصُّ يحتمِلُ أمرَينِ:
الاحتِمالُ الأوَّلُ: أن نُصدِّقَ بهذه الحملةِ الشَّرسةِ التي شنَّها المُعتَزِلةُ على أرجاءِ العالَمِ الإسلاميِّ، داعينَ لنَفيِ القَدَرِ والصِّفاتِ، ونَشرِ البِدَعِ العَقَديَّةِ، وبَذرِ بُذورِ الفُرقةِ والاختِلافِ في الأمَّةِ؛ عن طريقِ مُحارَبةِ منهَجِ السَّلفِ في العقيدةِ.
الاحتِمالُ الثَّاني: أنَّها حملةٌ مزعومةٌ لا أساسَ لها مِن الصِّحَّةِ، ولم يتمَّ العُثورُ على تراجِمِ هؤلاء المذكورينَ، إلَّا عُثمانَ الطَّويلَ، وما قاله ابنُ المُرتضى عنه غَيرُ موجودٍ في كُتبِ أهلِ السُّنَّةِ، وهذا أيضًا يحتمِلُ أنَّ هذه الشَّخصيَّاتِ كانت مغمورةً، تدعو لبِدعتِها في الخَفاءِ بعيدًا عن معرفةِ عُلماءِ السَّلفِ بها، حتَّى تُؤسِّسَ هذه النِّحلةَ المُبتدَعةَ، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه الدَّعوةَ البِدعيَّةَ أيضًا أحدثَت بَينَ المُسلِمينَ جِدالًا وإشكالًا واسِعًا لم ينتهِ إلى وقتِنا الحاضِرِ، فكانت مِن أخطَرِ البِدَعِ التي ابتُلِيَت بها الأمَّةُ، وما خِلافُ المُسلِمينَ في مسائِلِ العقائِدِ إلَّا أنَّه نابِعٌ مِن أُصولِ المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ التي تحدُثُ معَ مُعظَمِ الفِرَقِ البِدعيَّةِ، وخاصَّةً في مناطِقِ التَّشيُّعِ، وحتَّى الخوارِجُ استقَوا مباحِثَهم الكلاميَّةَ فيما بَعدُ مِن مناهِجِ المُعتَزِلةِ.
وعندَما حدثَت مِحنةُ خَلقِ القرآنِ التي كان سببَها المُعتَزِلةَ فرِحَت فِرَقُ الضَّلالِ بالاضطِهادِ الذي لاقاه عُلماءُ السَّلفِ، وأُعجِبَت بما تدعو إليه المُعتَزِلةُ، فكان التَّلاقي والذَّوَبانُ في مسائِلِ العقيدةِ بَينَ مُختلِفِ الفِرَقِ، وخاصَّةً الشِّيعةَ، وممَّا عزَّز اتِّحادَ هذه الفِرَقِ معَ المُعتَزِلةِ هزيمةُ المُعتَزِلةِ في النِّهايةِ، وظُهورُ منهَجِ السَّلفِ، وسيادتُه على الأمَّةِ، فعادت هذه الفِرقةُ تبحثُ في سراديبِ الظَّلامِ عن فِتنٍ ومكائِدَ لضربِ هذا المنهَجِ الفِطريِّ الذي يَدينُ به جُمهورُ الأمَّةِ، فحدثَت بَعدَ ذلك انحِرافاتٌ عَقَديَّةٌ خرَج أغلَبُها مِن رحِمِ المُعتَزِلةِ، واليومَ تبرُزُ الدَّعواتُ مِن جديدٍ لإحياءِ هذا الفِكرِ المُبتدَعِ، والعقيدةِ الضَّالَّةِ [162] يُنظر: ((العقيدة الإسلامية وجهود السلف في تقريرها)) للمعايطة (ص: 637). .
هذه نُبذةٌ عن حياةِ واصِلِ بنِ عطاءٍ، الذي تُوفِّي سنةَ إحدى وثلاثينَ ومائةٍ [163] يُنظر: ((أمالي المرتضى)) لابن المرتضى (1/ 164). .
وقد ذُكِر أنَّ له جملةً مِن التَّصانيفِ، ووُجِد منها مطبوعًا: خُطبتُه التي أخرَج منها الرَّاءَ، بعُنوانِ: (خُطبةُ واصِلِ بنِ عطاءٍ) [164] مطبوعة ضمن مجموع ((نوادر المخطوطات)) لعبد السلام هارون (الصفحات: 117- 136). ، ولم يصِلْ شيءٌ مِن بقيَّةِ كُتبِه؛ مِثلُ: أصنافِ المُرجِئةِ، وكتابِ التَّوبةِ، وكتابِ المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ، وكتابِ خُطَبِ التَّوحيدِ والعَدلِ [165] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 209)، ((معجم الأدباء)) للحَمَوي (6/2895)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 465). .

انظر أيضا: