موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: وُجوبُ معرفةِ اللهِ بالدَّليلِ عندَ المُعتَزِلةِ


كان الإيمانُ باللهِ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصحابتِه رضِي اللهُ عنهم سهلًا غَيرَ مُعقَّدٍ، حتَّى إذا ما نشأَت فِرقةُ المُعتَزِلةِ أدخَلَت مباحِثَ غريبةً عن الإسلامِ، مُتأثِّرةً بالمذاهِبِ والمقولاتِ الفلسفيَّةِ، وكان البحثُ في معرفةِ اللهِ بالدَّليلِ وإيقافِ صحَّةِ الإيمانِ على ذلك مِن بَينِ تلك الموضوعاتِ التي أحدَثَتْها المُعتَزِلةُ، وبذلك فرَضوا على الفِرَقِ الأخرى النَّظرَ فيها، وقد ورِثها عنهم الأشاعرةُ رَغمَ انفِصالِهم عن المُعتَزِلةِ.
فقد جاء عن أبي جَعفَرٍ السِّمْنانيِّ -وهو مِن كبارِ الأشاعرةِ- قولُه: (إنَّ هذه المسألةَ مِن مسائِلِ المُعتَزِلةِ بقِيَت في المذهَبِ) [1361] ((فتح الباري)) لابن حجر (1/77). ، أي المذهَبِ الأشعَريِّ.
ولشِدَّةِ تعلُّقِ المُعتَزِلةِ بهذا المَبحَثِ فإنَّهم جعَلوه مُنضويًا تحتَ مفهومِ الإيمانِ؛ فهذا أبو شَمِرٍ يزعُمُ (أنَّ المعرفةَ باللهِ وبما جاء مِن عندِه... ومعرفةَ التَّوحيدِ والعدلِ، عدلِ اللهِ سُبحانَه، ونَفيَ التَّشبيهِ عنه، كُلُّ ذلك إيمانٌ، والشَّاكُّ فيه كافِرٌ) [1362] ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/171). .
وإذا كانت معرفةُ اللهِ وصفاتِه مُقرَّرةً في الإسلامِ؛ فإنَّ تعقيدَ هذه المعرفةِ ووُجوبَ تحصيلِ الدَّليلِ عليها هو البِدعةُ المُنافيةُ معَ السُّنَّةِ الصَّحيحةِ.
فهذا أبو هاشِمٍ (عبدُ السَّلامِ بنُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ الجُبَّائيُّ ابنُ أبي عليٍّ الجُبَّائيِّ) مِن المُعتَزِلةِ ذهَب إلى أنَّ (مَن لا يعرِفُ اللهَ بالدَّليلِ فهو كافِرٌ)؛ لأنَّ ضدَّ المعرفةِ النَّكَرةُ، والنَّكَرةُ كُفرٌ [1363] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (17/118). .
كما أنَّ إبراهيمَ بنَ يَسارٍ النَّظَّامَ ذهَب إلى أنَّ المُتمكِّنَ مِن المعرفةِ إن كان عاقِلًا (يجِبُ عليه تحصيلُ معرفةِ الباري تعالى بالنَّظرِ والاستِدلالِ) [1364] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/ 58). .
نعَم إنَّ التَّقليدَ مذمومٌ؛ لذلك نجِدُ بعضَ أهلِ السُّنَّةِ يوجِبُ الاستِدلالَ هو أيضًا، إلَّا أنَّه لم يُرِدْ به (التَّعمُّقَ في طُرقِ المُتكلِّمينَ)، بل اكتَفى بما لا يخلو عنه مَن نشأ بَينَ المُسلِمينَ مِن الاستِدلالِ بالمصنوعِ على الصَّانِعِ، وغايتُه أنَّه يحصُلُ في الذِّهنِ مُقدِّماتٌ ضروريَّةٌ تتألَّفُ تألُّفًا صحيحًا وتُنتِجُ العِلمَ، لكنَّه لو سُئِل: كيف حصَل له ذلك؟ ما اهتدى للتَّعبيرِ عنه [1365] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (17/118). .
وقال ابنُ حجرٍ: لا حُجَّةَ لمَن اشترَط النَّظرَ؛ (لأنَّ مَن لم يشترِطِ النَّظرَ لم ينكِرْ أصلَ النَّظرِ، وإنَّما أنكَر توقُّفَ الإيمانِ على وُجودِ النَّظرِ بالطُّرقِ الكلاميَّةِ؛ إذ لا يلزَمُ مِن التَّرغيبِ في النَّظرِ جَعْلُه شَرطًا) [1366] ((فتح الباري)) (17/122). .
والذي يُثبِتُ مُخالَفةَ ما ذهَب إليه المُعتَزِلةُ مِن وُجوبِ معرفةِ اللهِ بالدَّليلِ ما ورَد عن ابنِ عُمرَ رضي اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ؛ فإذا فعَلوا ذلك عصَموا منِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) [1367] أخرجه البُخاريُّ (25) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (22). .
ففي هذا الحديثِ -كما ذكَر ابنُ حجرٍ- دليلٌ على الاكتِفاءِ في قَبولِ الإيمانِ بالاعتِقادِ الجازِمِ خلافًا لمَن أوجَب تعلُّمَ الأدلَّةِ [1368] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/83). .
وجاء عن مُعاوِيةَ بنِ الحَكمِ قولُه: (وكانت لي جاريةٌ ترعى غَنمًا لي قِبَلَ أحُدٍ والجَوَّانيَّةِ فاطَّلَعْتُ ذاتَ يومٍ فإذا الذِّيبُ قد ذهَب بشاةٍ مِن غَنَمِها، وأنا رجُلٌ مِن بني آدَمَ آسَفُ كما يأسَفونَ، لكنِّي صكَكْتُها صكَّةً، فأتَيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَظَّم ذلك علَيَّ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أفلا أُعتِقُها؟ قال: ائتِني بها، فأتَيتُه بها، فقال لها: أين اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ، قال: مَن أنا؟ قالت: أنت رسولُ اللهِ، قال: أعتِقْها؛ فإنَّها مُؤمِنةٌ) [1369] أخرجه مسلم (537). .
فبهذه المعرفةِ الأوَّليَّةِ المُجمَلةِ باللهِ وبرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثبَت لها الإسلامُ، وأجاز رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِتْقَها.
وكتَب الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى هِرَقلَ وكِسرى وغَيرِهما مِن المُلوكِ يدعوهم إلى التَّوحيدِ [1370] فأمَّا كتابتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى هِرَقْلَ: عن أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (.. ثُمَّ دعا بكتابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي بَعَث به دِحْيةُ إلى عظيمِ بُصْرى، فدفَعَه إلى هِرَقْلَ، فقرأه فإذا فيه: ((بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، من محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِه إلى هِرَقْلَ عَظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، أمَّا بعدُ؛ فإنِّي أدعوك بدِعايةِ الإسلامِ، أسلِمْ تَسلَمْ، يُؤتِكَ اللهُ أجرَك مرَّتينِ، فإن توَلَّيتَ فإنَّ عليك إثمَ الأَرِيسيِّينَ ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64])) [آل عمران: 64]). أخرجه البُخاريُّ (7) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (1773). وأمَّا كتابتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى كِسْرى وقيصَرَ والنَّجاشيِّ: فعن أنسٍ (أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَتَب إلى كِسرى، وإلى قيصَرَ، وإلى النَّجاشيِّ، وإلى كُلِّ جَبَّارٍ، يدعوهم إلى اللهِ تعالى. وليس بالنَّجاشيِّ الذي صلَّى عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). أخرجه مسلم (1774). ، ورسائِلُه كُلُّها تُثبِتُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (لم يَزِدْ في دُعائِه على أن يُؤمِنوا باللهِ ويُصدِّقوه فيما جاء به مِن عندِه، فمَن فعل ذلك قُبِل منه، سواءٌ كان إذعانُه عن تقدُّمِ نَظرٍ أم لا) [1371] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (17/121). .

انظر أيضا: