موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادِسُ: صِفةُ الحَياةِ


يُثبِتُ الأشاعِرةُ للهِ سُبْحانَه صِفةَ الحَياةِ، ووافَقوا في إثْباتِها السَّلَفَ الصَّالِحَ مِن حيثُ الجُمْلةُ، وأَنْكَروا على أهْلِ البِدَعِ الَّذين نَفَوا عن اللهِ سُبْحانَه صِفةَ الحَياةِ، لكنَّهم خاضوا فيما خاضَ فيه أهْلُ عِلمِ الكَلامِ فيما يَتَعلَّقُ بشَأنِها، وذَكَروا في كُتُبِهم أقْوالَ المُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ في هذه الصِّفةِ، وتَكَلَّفوا في الرَّدِّ عليهم بعُقولِهم مُجاراةً لهم.
أقْوالُ الأشاعِرةِ في صِفةِ الحَياةِ
1- قالَ الباقِلَّانيُّ: (أنَّه الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ، والدَّائِمُ الَّذي لا يَزولُ، وأنَّه إلهُ كلِّ مَخْلوقٍ، ومُبْدِعُه ومُنْشِئُه، ومُخْتَرِعُه، وأنَّه لم يَزَلْ مُسَمِّيًا لنَفْسِه بأسْمائِه، وواصِفًا لها بصِفاتِه، قَبْلَ إيجادِ خَلْقِه، وأنَّه قَديمٌ بأسْمائِه وصِفاتِ ذاتِه الَّتي مِنها: الحَياةُ الَّتي بِها بانَ مِن المَوْتِ والأمْواتِ، والقُدْرةُ الَّتي أَبدَعَ بِها الأجْناسَ والذَّواتِ، والعِلمُ الَّذي أَحكَمَ به جَميعَ المَصْنوعاتِ، وأحاطَ بجَميعِ المَعْلوماتِ، والإرادةُ الَّتي صَرَفَ بها أصْنافَ المَخْلوقاتِ، والسَّمْعُ والبَصَرُ اللَّذانِ أَدرَكَ بِهما جَميعَ المَسْموعاتِ والمُبْصَراتِ، والكَلامُ الَّذي به فارَقَ الخَرَسَ والسُّكوتَ وذَوي الآفاتِ، والبَقاءُ الَّذي به سَبَقَ المُكَوَّناتِ، ويَبْقى به بَعْدَ جَميعِ الفانِياتِ) [589] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 23) باختصارٍ. .
وقالَ الباقِلَّانيُّ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ الباريَ جَلَّتْ قُدْرتُه حَيٌّ، وهذه المَسْألةُ أوَّلُ مَسائِلِ قَوْلِ الشَّيْخِ: مَوْصوفٌ بما وَصَفَ به نَفْسَه في كِتابِه، وعلى لِسانِ نَبيِّه، فنَقولُ: الباري يوصَفُ بالحَياةِ، والدَّليلُ عليه قَوْلُه تَعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، وقَوْلُه تَعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ) [590] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 33). .
2- قالَ الغَزاليُّ: (العِلمُ بكَوْنِه عَزَّ وجَلَّ حَيًّا، فإنَّ مَن ثَبَتَ عِلمُه وقُدْرتُه بالضَّرورةِ حَياتُه، ولو تُصُوِّرَ قادِرٌ وعالِمٌ فاعِلٌ مُدَبِّرٌ دونَ أن يكونَ حَيًّا، لجازَ أن يُشَكَّ في حَياةِ الحَيَواناتِ عنْدَ تَرَدُّدِها في الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ، بل في حَياةِ أرْبابِ الحِرَفِ والصِّناعاتِ، وذلك انْغِماسٌ في غَمْرةِ الجَهالاتِ والضَّلالاتِ!) [591] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 179). .
وقالَ الغَزاليُّ أيضًا: (نَدَّعي أنَّه تَعالى حَيٌّ، وهو مَعْلومٌ بالضَّرورةِ، ولم يُنكِرْه أحَدٌ مِمَّن اعْتَرَفَ بكَوْنِه تَعالى عالِمًا قادِرًا، فإنَّ كَوْنَ العالِمِ القادِرِ حَيًّا ضَروريٌّ؛ إذْ لا يَعْني بالحَيِّ إلَّا ما يَشعُرُ بنَفْسِه، ويَعلَمُ ذاتَه وغَيْرَه. والعالِمُ بجَميعِ المَعْلوماتِ، والقادِرُ على جَميعِ المَقْدوراتِ كيف لا يكونُ حَيًّا؟! وهذا واضِحٌ، والنَّظَرُ في صِفةِ الحَياةِ لا يَطولُ) [592] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 61). .
3- قالَ الغَزْنويُّ: (صانِعُ العالَمِ حَيٌّ بحَياةٍ أزَلِيَّةٍ، لا بِرُوحٍ بداخِلِه، ولا نَفَسٍ يَخرُجُ مِنه؛ لأنَّ وُجودَ هذا العالَمِ البَديعِ صَنْعتُه لن يُتَصَوَّرَ إلَّا مِن حَيٍّ قادِرٍ) [593] ((أصول الدين)) (ص: 93). .
4- قالَ الفَخْرُ الرَّازيُّ: (إذا كانَ قادِرًا وَجَبَ أن يكونَ عالِمًا؛ لأنَّ أفْعالَه مُحْكَمةٌ مُتْقَنةٌ، وكلُّ فِعْلٍ مُتْقَنٍ ففاعِلُه عالِمٌ، فإذَنْ صانِعُ العالَمِ عالِمٌ، وكلُّ عالِمٍ فهو حَيٌّ، فصانِعُ العالَمِ حَيٌّ؛ فثَبَتَ أنَّه تَعالى قادِرٌ عالِمٌ حَيٌّ) [594] ((الإشارة في علم الكَلام)) (ص: 110 - 112). .
وقالَ أيضًا: (اعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِن كَوْنِه تَعالى حَيًّا أنَّه يَصِحُّ أن يَعلَمَ ويَقدِرَ، ولمَّا ثَبَتَ بالدَّليلِ كَوْنُه قادِرًا عالِمًا، وكُلُّ ما كانَ مَوْجودًا امْتَنَعَ أن يكونَ مُمْتنِعَ الوُجودِ، يَثبُتُ أنَّه تَعالى يَصِحُّ أن يَعلَمَ ويَقدِرَ، ولا مَعنى لكَوْنِه حَيًّا إلَّا ذلك) [595] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (3/ 217). .
5- قالَ الآمِدِيُّ: (مَذهَبُ أصْحابِنا أنَّ اللهَ تَعالى حَيٌّ بحَياةٍ، وأنَّ الحَياةَ صِفةٌ وُجوديَّةٌ زائِدةٌ على ذاتِ الرَّبِّ تَعالى، وما له مِن الصِّفاتِ الوُجوديَّةِ السَّابِقِ ذِكْرُها، واتَّفَقَتِ المُعْتَزِلةُ على كَوْنِه حَيًّا لا بحَياةٍ، لكنَّ مِنهم مَن قالَ: مَعْنى كَوْنِه حَيًّا: أنَّه لا يَمْتنِعُ عليه أن يَعلَمَ ويَقدِرَ، كأبي الحُسَيْنِ البَصْريِّ، وذَهَبَتِ الفَلاسِفةُ إلى أنَّ مَعْنى كَوْنِه حَيًّا أنَّه ليس بمَيِّتٍ) [596] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 436). .
6- قالَ البَيْضاويُّ: (اتَّفَقَ الجُمْهورُ على أنَّه تَعالى حَيٌّ، لكنَّهم اخْتَلَفوا في المَعْنى، فذَهَبَ الحُكَماءُ وأبو الحُسَيْنِ إلى أنَّ حياتَه عِبارةٌ عن صِحَّةِ اتِّصافِه بالعِلمِ والقُدْرةِ، وذَهَبَ الباقونَ إلى أنَّها عِبارةٌ عن صِفةٍ تَقْتَضي هذه الصِّحَّةَ، ويَدُلُّ عليها أنَّها لو لم تكنْ كذلك لكانَ اخْتِصاصُه تَعالى بِهذه الصِّحَّةِ تَرْجيحًا بلا مُرَجِّحٍ، ويَنْتَقِضُ باتِّصافِه تَعالى بتلك الصِّفةِ، ويَنْدَفِعُ بأنَّ ذاتَه المَخْصوصَ كافٍ في التَّخْصيصِ والاقْتِضاءِ) [597] ((طوالع الأنوار من مطالع الأنظار)) (ص: 185). .
7- قالَ ابنُ أبي شَريفٍ المَقْدِسيُّ: (ليس مَعْنى الحَياةِ في حَقِّه تَعالى ما يَقولُه الطَّبيعيُّ مِن قُوَّةِ الحِسِّ، ولا قُوَّةِ التَّغْذيةِ، ولا القُوَّةِ التَّابِعةِ للاعْتِدالِ النَّوْعيِّ الَّتي تَفيضُ عنها سائِرُ القُوى الحَيَوانيَّةِ، ولا ما يَقولُه الحُكَماءُ وأبو الحُسَيْنِ البَصْريُّ مِن أنَّ مَعْنى حَياتِه تَعالى كَوْنُه يَصِحُّ أن يَعلَمَ ويَقدِرَ، بلْ هي صِفةٌ حَقيقيَّةٌ قائِمةٌ بالذَّاتِ، تَقْتَضي صِحَّةَ العِلمِ والقُدْرةِ) [598] ((المسامرة في شرح المسايرة في علم الكَلام)) (ص: 58). .
8- قالَ قاسِمٌ الحَنَفيُّ في حاشيتِه على شَرْحِ المُسايَرةِ: (اتَّفَقَ العُقَلاءُ على أنَّ اللهَ تَعالى حَيٌّ، لكنَّهم اخْتَلَفوا في تَفْسيرِ الحَياةِ، فقالَتِ الفَلاسِفةُ وأبو الحَسَنِ البَصْريُّ مِن المُعْتَزِلةِ: هي عَدَمُ امْتِناعِ العِلمِ والقُدْرةِ، يَعْني: فليس هناك إلَّا الذَّاتُ المُسْتَلْزِمةُ لِهذا الامْتِناعِ، وقالَ أهْلُ السُّنَّةِ وباقي المُعْتَزِلةِ: هي صِفةٌ يَصِحُّ لأجْلِها عن الذَّاتِ أن تَعلَمَ وتَقدِرَ، يَعْني أنَّها صِفةٌ حَقيقيَّةٌ قائِمةٌ بالذَّاتِ، مُقْتَضِيةٌ لصِحَّةِ العِلمِ والقُدْرةِ. وتَحْقيقُ ما ذُكِرَ أنَّ مَلْزوماتِ الحَياةِ مِن العِلمِ والقُدْرةِ والحِكْمةِ ثابِتةٌ للهِ تَعالى، وتَحَقُّقُ المَلْزومِ بدونِ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ مُحالٌ، فتَحَقُّقُ المَلْزومِ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ اللَّازِمِ، واللهُ أَعلَمُ. ودَليلٌ آخَرٌ: وهو أنَّ الحَياةَ صِفةُ كَمالٍ، ونَقيضَها نَقْصٌ، وأنَّ اللهَ تَعالى مُنَزَّهٌ عن النَّقائِصِ) [599] ((المسامرة في شرح المسايرة في علم الكَلام)) (ص: 58). .
9- قالَ الجُرْجانيُّ: (اللهُ تَعالى حَيٌّ، هذا ما اتَّفَقَ عليه الكلُّ مِن أهْلِ المِلَلِ وغَيْرِهم؛ لأنَّه عالِمٌ قادِرٌ، وقدْ أَطبَقوا أيضًا عليه، أي: على أنَّه عالِمٌ، إلَّا شِرْذِمةً لا يُعبَأُ بهم، وكلُّ عالِمٍ قادِرٍ فهو حَيٌّ بالضَّرورةِ، لكن اخْتَلَفوا في مَعْنى حَياتِه؛ لأنَّها في حَقِّنا إمَّا اعْتِدالُ المِزاجِ النَّوْعيِّ، كما يُشعِرُ به كَلامُ المُحَصِّلِ؛ حيثُ قالوا: المُرادُ مِن الحَياةِ إن كانَ اعْتِدالَ المِزاجِ أو قُوَّةَ الحِسِّ والحَرَكةِ فهو مَعْقولٌ، وإن كانَ أمْرًا ثالِثًا فلا بُدَّ مِن تَصْويرِه وإقامةِ الدَّليلِ عليه، وإمَّا قُوَّةٌ تَتْبَعُ ذلك الاعْتِدالَ؛ سَواءٌ كانَتْ نَفْسَ قُوَّةِ الحِسِّ والحَرَكةِ أو مُغايِرةً لها على ما اخْتارَه ابنُ سينا، ولا تُتَصَوَّرُ الحَياةُ بشيءٍ مِن هذه المَعاني في حَقِّه تَعالى، فقالوا: إنَّما هي كَوْنُه يَصِحُّ أن يَعلَمَ ويَقدِرَ، وهو مَذهَبُ الحُكَماءِ وأبي الحُسَيْنِ البَصْريِّ مِن المُعْتَزِلةِ، وقالَ الجُمْهورُ مِن أصْحابِنا ومِن المُعْتَزِلةِ: إنَّها صِفةٌ توجِبُ صِحَّةَ العِلمِ والقُدْرةِ؛ إذ لولا اخْتِصاصُه بصِفةٍ توجِبُ صِحَّةَ العِلمِ الكامِلِ والقُدْرةِ الشَّامِلةِ لَكانَ اخْتِصاصُه بصِحَّةِ العِلمِ والقُدْرةِ المَذْكورَينِ تَرْجيحًا بِلا مُرَجِّحٍ، وأجابوا عنه بأنَّه مَنْقوضٌ باخْتِصاصِه بتلك الصِّفةِ الموجِبةِ للصَّحَّةِ، فإنَّه لو كانَ بصِفةٍ أخرى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ في الصِّفاتِ الوُجوديَّةِ، هذا خَلْفٌ، فلا بُدَّ مِن الانْتِهاءِ إلى ما يكونُ اخْتِصاصُه به بصِفةٍ أخرى، فيكونُ تَرْجيحًا بِلا مُرَجِّحٍ) [600] ((شرح المواقف)) (3/ 115) باختصار. .
10- قالَ الصَّفاقُسِيُّ: (مِن صِفاتِه تَعالى الواجِبةِ له تَعالى: الحَياةُ القَديمةُ...، والحَياةُ: صِفةٌ أزَلِيَّةٌ تُصَحِّحُ لمَن قامَتْ به أن يَتَّصِفَ بالعِلمِ والإرادةِ والقُدْرةِ، والدَّليلُ على اتِّصافِه تَعالى بالحَياةِ: اتِّصافُه تَعالى بالصِّفاتِ الَّتي لا يُمكِنُ أن تَقومَ إلَّا بالحَيِّ؛ مِن العِلمِ، والقُدْرةِ، والإرادةِ وغَيْرِها، وأنَّه لو لم يكنْ حيًّا لم يوجَدْ شيءٌ مِن الحَوادِثِ، وهو خِلافُ المُشاهَدِ، وقالَ تَعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ) [601] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 72). .
11- قالَ السَّنوسيُّ: (الحَياةُ صِفةٌ تُصَحِّحُ لمَن قامَتْ به أن يَتَّصِفَ بالإدْراكِ، ومَعْنى كَوْنِها لا تَتَعلَّقُ بشيءٍ أنَّها لا تَقْتَضي أمْرًا زائِدًا على القِيامِ بمَحَلِّها، والصِّفةُ المُتَعلِّقةُ هي الَّتي تَقْتَضي أمْرًا زائِدًا على ذلك، أَلَا تَرى أنَّ العِلمَ بَعْدَ قِيامِه بمَحَلِّه يَطلُبُ أمْرًا يُعلَمُ به؟ وكَذا القُدْرةُ والإرادةُ ونَحْوُهما، وبالجُمْلةِ، فجَميعُ صِفاتِ المَعاني مُتَعلِّقةٌ، أي: طالِبةٌ لزائِدٍ على القِيامِ بمَحَلِّها سِوى الحَياةِ، وهذا التَّعلُّقُ نَفْسيٌّ لتلك الصِّفاتِ، كما أنَّ قِيامَها بالذَّاتِ نَفْسيٌّ لها أيضًا) [602] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 108). .
وقالَ الدُّسوقيُّ في حاشيتِه على كَلامِ السَّنوسيِّ السَّابِقِ: (قَوْلُه: "لمَن قامَتْ به"، هذا تَحْقيقٌ لمَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ مِن أنَّ الصِّفةَ إنَّما توجِبُ حُكْمَها لمَن قامَتْ به، لا لإخْراجِ صِفةٍ لم تكنْ كذلك. قَوْلُه: "أن يَتَّصِفَ بالإدْراكِ" إنَّما قالَ: أن يَتَّصِفَ بالإدْراكِ، ولم يَقُلْ: أن يُدرِكَ؛ لأنَّ الَّذي مِن لَوازِمِ الحَياةِ صِحَّةُ الإدْراكِ، لا الإدْراكُ نَفْسُه، وشَمِلَ قَوْلُه: الإدْراك، العِلمَ والسَّمْعَ والبَصَرَ، وإدْراكَ نَحْوِ اللَّمْسِ والشَّمِّ والذَّوْقِ على القَوْلِ به، فإن قُلْتَ: مُقْتَضى التَّعْريفِ أنَّ الحَياةَ ليسَتْ شَرْطًا في غَيْرِ الإدْراكِ مِن الصِّفاتِ، وليس كذلك، بلْ كما أنَّها شَرْطٌ في الإدْراكِ، وهو العِلمُ والسَّمْعُ والبَصَرُ، هي شَرْطٌ أيضًا في القُدْرةِ والإرادةِ والكَلامِ؛ لاسْتِحالةِ وُجودِها بدونِها، وأُجيبَ بأنَّ ذِكْرَ الإدْراكِ في التَّعْريفِ وجَعْلَه مَشْروطًا بالحَياةِ، وهي شَرْطٌ له، لا يُفيدُ أنَّ غَيْرَه مِن الصِّفاتِ ليس كذلك؛ لأنَّ الإدْراكَ لا مَفْهومَ له؛ لكَوْنِه اسْمًا جامِدًا لَقَبًا، فلا يكونُ ذِكْرُه في التَّعْريفِ لأجْلِ الاحْتِرازِ عن غَيْرِه كما هو مَشْهورٌ عنْدَ جُمْهورِ الأُصولِيِّينَ، سَلَّمْنا أنَّ له مَفْهومًا، وأنَّه يُذكَرُ للاحْتِرازِ، لكن دَعْوى ذِكْرِه للاحْتِرازِ هنا غَيْرُ مُسَلَّمةٍ؛ لأنَّ شَرْطيَّةَ الحَياةِ لبَقِيَّةِ الصِّفاتِ تُفهَمُ بطَريقِ اللُّزومِ، وذلك لأنَّ الإدْراكَ لازِمٌ للقُدْرةِ والإرادةِ والكَلامِ، وهي مَلْزومةٌ له، وما كانَ شَرْطًا في اللَّازِمِ فهو شَرْطٌ في المَلْزومِ) [603] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 108). .
12- قالَ الباجوريُّ: (الحَياةُ لا تَتَعلَّقُ بشيءٍ، أي: أمْرٍ مَوْجودٍ أو مَعْدومٍ، فالمُرادُ بالشَّيءِ هنا المَعْنى اللُّغويُّ الشَّامِلُ للمَوْجودِ والمَعْدومِ، ويَصِحُّ أن يكونَ المُرادُ به المَعْنى الاصْطِلاحيَّ، ويُقالُ: إذا كانَتْ لا تَتَعلَّقُ بالمَوْجودِ فأَوْلى ألَّا تَتَعلَّقَ بالمَعْدومِ، فليسَتِ الحَياةُ مِن الصِّفاتِ المُتَعلِّقةِ؛ لأنَّها صِفةٌ مُصَحِّحةٌ للإدْراكِ، أي: مُصَحِّحةٌ لمَن قامَتْ به أن يَتَّصِفَ بصِفاتِ الإدْراكِ، ولا تَقْتَضي أمْرًا زائِدًا على قِيامِها بمَحَلِّها، ومِثلُ الحَياةِ: الوُجودُ، والقِدَمُ، والبَقاءُ، عنْدَ مَن يَعُدُّها مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ) [604] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 150). .
فتَبَيَّنَ مِن هذه النُّقولِ أنَّ الأشاعِرةَ يُثبِتونَ للهِ سُبْحانَه صِفةَ الحَياةِ، لكنَّهم يَتَكلَّفونَ في إثْباتِها بخَلْطِها بكَلامِ الفَلاسِفةِ ونَحْوِهم مِن أهْلِ البِدَعِ، وهذا خِلافُ ما عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فعُلَماءُ أهْلِ السُّنَّةِ المُتَّبِعونَ للسَّلَفِ الصَّالِحِ يَتَجَنَّبونَ الخَوْضَ فيما خاضَ فيه الفَلاسِفةُ والمُعْتَزِلةُ ومَن تَأثَّرَ بِهم وجاراهم مِن المُتَكلِّفينَ في المَباحِثِ العَقَديَّةِ.
نُقولٌ مِن كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ يُبَيِّنُ فيها مَذهَبَ السَّلَفِ في صِفةِ الحَياةِ بلا تَكَلُّفٍ ولا تَنَطُّعٍ:
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (لا رَيْبَ أنَّ اللهَ حَيٌّ كما نَطَقَتْ بذلك كُتُبُه المُنزَّلةُ، الَّتي هي آياتُه القَوْليَّةُ، ودَلَّتْ على ذلك آياتُه كمَخْلوقاتِه، الَّتي هي آياتُه الفِعْليَّةُ...، وقالَ تَعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] . والدَّلائِلُ على حَياتِه كَثيرةٌ:
مِنها: أنَّه قد ثَبَتَ أنَّه عالِمٌ، والعِلمُ لا يَقومُ إلَّا بحَيٍّ، وثَبَتَ أنَّه قادِرٌ، مُخْتارٌ، يَفعَلُ بمَشيئتِه، والقادِرُ المُخْتارُ لا يكونُ إلَّا حيًّا.
ومِنها: أنَّه خالِقُ الأحْياءِ وغَيْرِهم، والخالِقُ أَكمَلُ مِن المَخْلوقِ، فكلُّ كَمالٍ ثَبَتَ للمَخْلوقِ فهو مِن الخالِقِ، فيَمْتنِعُ أن يكونَ المَخْلوقُ أَكمَلَ مِن خالِقِه، وكَمالُه أَكمَلَ مِنه.
والمُتَفَلْسِفةُ القائِلونَ بالموجِبِ بالذَّاتِ يُسَلِّمونَ هذا، ويَقولونَ: كَمالُ المَعْلولِ مُسْتَفادٌ مِن عِلَّتِه، فإذا كانَ خالِقًا للأحْياءِ كانَ حَيًّا بطَريقِ الأَوْلى والأَحْرى.
ومِنها: أنَّ الحَيَّ أَكمَلُ مِن غَيْرِ الحَيِّ، كما قالَ تَعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 22] ، فلو كانَ الخالِقُ غَيْرَ حَيٍّ لَزِمَ أن يكونَ المُمكِنُ المُحدَثُ المَخْلوقُ أَكمَلَ مِن الواجِبِ القَديمِ الخالِقِ، فيكونَ أَنقَصُ المَوْجودينَ أَكمَلَ مِن أَكمَلِها...! اللهُ مَوْصوفٌ بصِفاتِ الكَمالِ الثُّبوتيَّةِ؛ كالحَياةِ والعِلمِ والقُدْرةِ، فيَلزَمُ مِن ثُبوتِها سَلْبُ صِفاتِ النَّقْصِ، وهو سُبْحانَه لا يُمدَحُ بالصِّفاتِ السَّلْبيَّةِ إلَّا لتَضَمُّنِها المَعانيَ الثُّبوتيَّةَ؛ فإنَّ العَدَمَ المَحْضَ والسَّلْبَ الصِّرْفَ لا مَدْحَ فيه ولا كَمالَ؛ إذ كانَ المَعْدومُ يُوصَفُ بالعَدَمِ المَحْضِ، والعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ لا كَمالَ فيه، إنَّما الكَمالُ في الوُجودِ) [605] ((الجواب الصَّحيح لمن بدل دين المسيح)) (3/ 207 - 209). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (قَوْلُه تَعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] ، نَزَّهَ نَفْسَه عن السِّنةِ والنَّوْمِ؛ لأنَّ ذلك يَتَضمَّنُ كَمالَ حَياتِه وقَيَّوميَّتِه، كما قالَ تَعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ، فهو سُبْحانَه حَيٌّ لا يَموتُ...، مَوْصوفٌ بصِفاتِ الكَمالِ، مُنَزَّهٌ عن كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، مَوْصوفٌ بالحَياةِ، والعِلمِ، والقُدْرةِ، والسَّمْعِ، والبَصَرَ، والكَلامِ، مُنَزَّهٌ عن المَوْتِ، والجَهْلِ، والعَجْزِ، والصَّمَمِ، والعَمى، والبَكَمِ، وهو سُبْحانَه لا مِثلَ له في شيءٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ، وهو مُنَزَّهٌ عن كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، فإنَّه قُدُّوسٌ سَلامٌ، يَمْتنِعُ عليه النَّقائِصُ والعُيوبُ بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ، وهو سُبْحانَه لا مِثلَ له في شيءٍ مِن صِفاتِ كَمالِه، بلْ هو الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكنْ له كُفُوًا أحَدٌ؛ ولِهذا كانَ مَذهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها أنَّهم يَصِفونَ اللهَ بِما وَصَفَ به نَفْسَه، وبما وَصَفَ به رَسولُه، مِن غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ، فيُثبِتونَ له ما أَثبَتَه لنَفْسِه مِن الأسْماءِ والصِّفاتِ، ويُنَزِّهونَه عمَّا نَزَّهَ عنه نَفْسَه مِن مُماثَلةِ المَخْلوقاتِ، إثْباتٌ بلا تَمْثيلٍ، وتَنْزيهٌ بلا تَعْطيلٍ) [606] ((جامع المَسائِل لابن تَيْمِيَّةَ)) (3/ 207). .

انظر أيضا: