موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّابِعُ: صِفةُ البَقاءِ


اخْتَلَفَ الأشاعِرةُ في إثْباتِ صِفةِ البَقاءِ للهِ سُبْحانَه، معَ أنَّ الأمْرَ واضِحٌ في إثْباتِ هذه الصِّفةِ، ولكنْ بسَبَبِ خَوْضِهم في عِلمِ الكَلامِ تَكَلَّفوا حتَّى اخْتَلَفوا، وإن كانَ خِلافُهم فيها قَريبًا.
أقْوالُ الأشاعِرةِ في صِفةِ البَقاءِ:
1- قالَ الباقِلَّانيُّ: (قَديمٌ بأسْمائِه وصِفاتِ ذاتِه الَّتي مِنها: الحَياةُ الَّتي بِها بانَ مِن المَوْتِ والأمْواتِ...، والبَقاءُ الَّذي به سَبَقَ المُكَوَّناتِ، ويَبْقى به بَعْدَ جَميعِ الفانِياتِ) [607] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 23). .
وقالَ أيضًا: (يَجِبُ أن يُعلَمَ: أنَّ اللهَ سُبْحانَه باقٍ، ومَعْنى ذلك: أنَّه دائِمُ الوُجودِ، والدَّليلُ عليه قَوْلُه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، يَعْني ذاتَ رَبِّك، وأيضًا قَوْلُه تَعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، يَعْني ذاتَه، ولأنَّه قد ثَبَتَ قِدَمُه، وما ثَبَتَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه) [608] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 36). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ أيضًا: (بابٌ: البَقاءُ مِن صِفاتِ ذاتِه، فإن قالَ قائِلٌ: وما الدَّليلُ على أنَّ البَقاءَ مِن صِفاتِ ذاتِه؟ قُلْنا: مِن قِبَلِ أنَّه لم يَزَلْ باقِيًا؛ إذ كانَ كائِنًا مِن غَيْرِ حُدوثٍ، والباقي مِنَّا لا يكونُ باقِيًا إلَّا ببَقاءٍ، دَليلُ ذلك اسْتِحالةُ بَقاءِ الشَّيءِ في حالِ حُدوثِه، فلو بَقِيَ لنَفْسِه كانَ باقِيًا في حالِ حُدوثِه، وذلك مُحالٌ باتِّفاقٍ، فصَحَّ أنَّه باقٍ ببَقاءٍ؛ إذ كانَ قَديمًا يَسْتحيلُ أن تكونَ ذاتُه بَقاءً أو في مَعْنى الصِّفاتِ) [609] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 299). .
2- قالَ الجُوَيْنيُّ: (يَجِبُ القَطْعُ بأنَّ اللهَ تَعالى باقٍ، وما وَجَبَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه، فإنَّ القَديمَ هو الَّذي قَضى العَقْلُ بوُجوبِ وُجودِه؛ إذ لو كانَ وُجودُه جائِزًا لوَقْتٍ، لَحُكِمَ بحُدوثِه) [610] ((العَقيدة النظامية في الأركان الإسْلامية)) (ص: 164). .
وقالَ أيضًا: (ذَهَبَ العُلَماءُ مِن أئِمَّتِنا إلى أنَّ البَقاءَ صِفةَ الباقي زائِدةٌ على وُجودِه، بمَثابةِ العِلمِ في حَقِّ العالِمِ، والَّذي نَرْتَضيه أنَّ البَقاءَ يَرجِعُ إلى نَفْسِ الوُجودِ المُسْتَمِرِّ مِن غَيْرِ مَزيدٍ، ولو لم نَسلُكْ هذا المَسلَكَ للَزِمَنا أن نَصِفَ الصِّفاتِ الأزَلِيَّةَ بكَوْنِها باقِيةً، ثُمَّ نُثبِتَ لها بَقاءً. ويَجُرُّ سِياقُ هذا القَوْلِ إلى قِيامِ المَعْنى بالمَعْنى، ثُمَّ لو قَدَّرْنا بَقاءً قَديمًا، للَزِمَنا أن نَصِفَه ببَقاءٍ، ثُمَّ يَتَسَلْسَلُ القَوْلُ. فإن قيلَ: الدَّليلُ على ثُبوتِ المَعاني تَجَدُّدُ أحْكامِها على مَحالِّها؛ فإذا وَجَدْنا جَوْهَرًا غَيْرَ مُتَحرِّكٍ، ثُمَّ اتَّصَفَ بالتَّحَرُّكِ، كانَ ذلك دالًّا على تَجَدُّدِ المَعْنى، وهذا بعَيْنِه مُتَحَقِّقٌ في البَقاءِ؛ فإنَّ الجَوْهَرَ في حالِ حُدوثِه لا يَتَّصِفُ بكَوْنِه باقِيًا، وإذا اسْتَمَرَّ له الوُجودُ اتَّصَفَ بكَوْنِه باقِيًا. قُلْنا: الاتِّصافُ بالبَقاءِ راجِعٌ إلى اسْتِمْرارِ الوُجودِ، وهو بمَثابةِ القِدَمِ، فما وُجِدَ وكانَ حَديثَ عَهْدٍ بالحُدوثِ لم يُسَمَّ قَديمًا، فإذا عَتَقَ وتَقادَمَ سُمِّيَ في الإطْلاقِ قَديمًا، ولا يَدُلُّ ذلك على أنَّ القِدَمَ مَعنًى. فإن قيلَ: إذا صَرَفْتُم البَقاءَ إلى نَفْسِ الباقي فما الَّذي تُنكِرونَ مِن قَوْلِ مَن يَقولُ: بَقاءُ الأعْراضِ؟ قُلْنا: الأعْراضُ يَسْتَحيلُ بَقاؤُها، فإنَّها لو بَقِيَتْ لاسْتَحالَ عَدَمُها؛ فإنَّا إذا قَدَّرْنا بَقاءَ بَياضٍ ودَوامَ وُجودِه، لم يُتَصَوَّرِ انْتِفاؤُه، فيَعقُبُه سَوادٌ؛ إذ ليس السَّوادُ بنَفْيِ البَياضِ، ومُضادَّاتُه أَوْلى مِن البَياضِ بدَفْعِ السَّوادِ، ومَنْعِه مِن الطُّرُوِّ. ولا مَعْنى لِما يَتَخيَّلُه بعضُ النَّاسِ مِن أنَّ الباقيَ يَعدَمُ بإعْدامِ اللهِ؛ فإنَّ الإعْدامَ هو العَدَمُ، والعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، ولا مَعْنى لتَعلُّقِ القُدْرةِ بالنَّفْيِ المَحْضِ. وتَحْصيلُ قَوْلِ القائِلِ: يَقدِرُ الباري على إعْدامِ المَوْجودِ يَؤولُ إلى أنَّه يَقدِرُ على ألَّا يكونَ الموجِدَ) [611] ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 158). .
3- قالَ الغَزاليُّ: (الحَقُّ سُبْحانَه وتَعالى قَبْلَ الزَّمانِ، وحيثُ خَلَقَ الزَّمانُ لم يَتَغيَّرْ مِن ذاتِه شيءٌ، وقَبْلَ خَلْقِ الزَّمانِ لم يكنْ لِلزَّمانِ عليه جَرَيانٌ، وبَقِيَ بَعْدَ خَلْقِ الزَّمانِ على ما عليه كانَ، ولقد أَبعَدَ مَن قالَ: البَقاءُ صِفةٌ زائِدةٌ على ذاتِ الباقي. وأَبعَدُ مِنه مَن قالَ: القِدَمُ وَصْفٌ زائِدٌ على ذاتِ القَديمِ، وناهيك بُرْهانًا على فَسادِه ما لَزِمَه مِن الخَبْطِ في بَقاءِ البَقاءِ، وبَقاءِ الصِّفاتِ، وقِدَمِ القِدَمِ، وقِدَمِ الصِّفاتِ!) [612] ((المقصد الأسنى)) (ص: 148). .
وقالَ الغَزاليُّ أيضًا: (العِلمُ بأنَّه تَعالى معَ كَوْنِه أزَلِيًّا أبَدِيًّا ليس لوُجودِه آخِرٌ فهو الأوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهِرُ والباطِنُ؛ لأنَّ ما ثَبَتَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه. وبُرْهانُه أنَّه لو انْعَدَمَ لكانَ لا يَخْلو إمَّا أن يَنْعَدِمَ بنَفْسِه، أو بمُعدِمٍ يُضادُّه، ولو جازَ أن يَنْعدِمَ شيءٌ يُتَصَوَّرُ دَوامُه بنَفْسِه لَجازَ أن يوجَدَ شيءٌ يُتَصَوَّرُ عَدَمُه بنَفْسِه، فكما يَحْتاجُ طَرَيانُ الوُجودِ إلى سَبَبٍ فكذلك يَحْتاج طَرَيانُ العَدَمِ إلى سَبَبٍ، وباطِلٌ أن يَنْعدِمَ بمُعدِمٍ يُضادُّه؛ لأنَّ ذلك المُعدِمَ لو كانَ قَديمًا لَما تُصُوِّرَ الوُجودُ معَه، وقدْ ظَهَرَ بالأَصْلَينِ السَّابِقَينِ وُجودُه وقِدَمُه، فكيف كانَ وُجودُه في القِدَمِ ومعَه ضِدُّه؟ فإن كانَ الضِّدُّ المُعدِمُ حادِثًا كانَ مُحالًا؛ إذ ليس الحادِثُ في مُضادَّتِه للقَديمِ حتَّى يَقطَعَ وُجودَه بأَوْلى مِن القَديمِ في مُضادَّتِه للحادِثِ حتَّى يَدفَعَ وُجودَه، بلِ الدَّفْعُ أَهوَنُ مِن القَطْعِ، والقَديمُ أَقْوى وأَوْلى مِن الحادِثِ) [613] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 157). .
4- قالَ ابنُ العَرَبيِّ: (الباقي في اللُّغةِ هو: المَوْجودُ زَمانَينِ فما زادَ، وهو في الشَّريعةِ عِبارةٌ عن ذلك المَعْنى بنَفْيِ التَّناهي، قالَ تَعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]...، وَصْفُ الباري بأنَّه باقٍ عِبارةٌ عن أنَّه لا انْقِطاعَ لوُجودِه، فلا باقيَ في الحَقيقةِ إلَّا اللهُ...، اخْتَلَفَ عُلَماؤُنا في أنَّ الباريَ باقٍ ببَقاءٍ كما هو عالِمٌ بعِلمٍ أم لا؟ وهو أمْرٌ قَريبٌ لا يَضُرُّ في الاعْتِقادِ) [614] ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) (ص: 488) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
5- قالَ الرَّازيُّ: (مَذهَبُ شَيْخِنا أبي الحَسَنِ رَحِمَه اللهُ تَعالى والأَكثَرينَ مِن أصْحابِه أنَّ البَقاءَ صِفةٌ زائِدةٌ على الذَّاتِ، شاهِدًا كانَ أو غائِبًا، ومَذهَبُ القاضي وإمامِ الحَرَمَينِ والأَكثَرينَ مِن المُعْتَزِلةِ: أنَّ الباقيَ باقٍ لنَفْسِه، شاهِدًا كانَ أو غائِبًا، ومَذهَبُ الكَعْبيِّ ومُتَّبِعيه إثْباتُه شاهِدًا ونَفْيُه غائِبًا، وهو اخْتِيارُ الإمامِ والِدي رَحِمَه اللهُ تَعالى) [615] ((الإشارة في علم الكَلام)) (ص: 245). .
وقالَ أيضًا: (اللهُ تَعالى باقٍ لِذاتِه خِلافًا للأشْعَريِّ. لنا: أنَّه واجِبُ الوُجودِ لِذاتِه، والواجِبُ لِذاتِه يَمْتنِعُ أن يكونَ واجِبًا لغَيْرِه، فيَمْتنِعُ كَوْنُه باقِيًا بالبَقاءِ، وأيضًا لو كانَ باقِيًا بالبَقاءِ لَكانَ كَوْنُ بَقائِه بَقاءَه؛ إن كانَ لبَقاءِ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلَ، وإن كانَ لبَقاءِ الذَّاتِ لَزِمَ الدَّوْرَ، وإن كانَ لنَفْسِه فحينَئذٍ يكونُ البَقاءُ باقِيًا لنَفْسِه، والذَّاتُ باقِيةً ببَقاءِ البَقاءِ، فكانَ البَقاءُ واجِبَ الوُجودِ لِذاتِه، والذَّاتُ واجِبةَ الوُجودِ لغَيْرِه، فحينَئذٍ تَنْقلِبُ الذَّاتُ صِفةً، والصِّفةُ ذاتًا، وهو مُحالٌ) [616] ((معالم أصول الدين)) (ص: 68). .
6- قالَ الآمِدِيُّ: (مِن أئِمَّتِنا مَن زادَ على هذا، وأَثبَتَ له صِفاتٍ زائِدةً على ذلك، وجَزَمَ بها كالبَقاءِ...، وقدِ اتَّفَقَ المُتَكلِّمونَ على جَوازِ إطْلاقِ الباقي على الخالِقِ، والمَخْلوقِ المُسْتَمِرِّ الوُجودِ حَقيقةً، خِلافًا لأبي هاشِمٍ؛ فإنَّه قالَ: الباقي على الحَقيقةِ إنَّما هو اللهُ تَعالى، وتَسْميةُ المَخْلوقِ باقِيًا مَجازٌ، واتَّفَقوا على أنَّ الحادِثَ في أوَّلِ زَمانِ حُدوثِه لا يوصَفُ بكَوْنِه باقِيًا، ما عَدا الكَرَّاميَّةَ، فإنَّهم وَصَفوه بكَوْنِه باقِيًا، وأمَّا كَوْنُ الباقي باقِيًا ببَقاءٍ زائِدٍ عليه فقدْ أَثبَتَه الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ رَحِمَه اللهُ، ومُعظَمُ أئِمَّتِنا، وقالَ القاضي أبو بَكْرٍ: الباقي باقٍ بنَفْسِه، لا ببَقاءٍ زائِدٍ عليه، وهو مَذهَبُ المُعْتَزِلةِ. واخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ في بَقاءِ اللهِ تَعالى وصِفاتِه، فقالَ تارةً: اللهُ تَعالى وصِفاتُه باقِيةٌ ببَقاءٍ واحِدٍ، وذلك البَقاءُ باقٍ ببَقاءٍ آخَرَ، وقالَ تارةً: اللهُ تَعالى باقٍ ببَقاءٍ قائِمٍ به، وكلُّ صِفةٍ مِن صِفاتِه باقِيةٌ ببَقاءٍ هو نَفْسُها) [617] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/ 440). .
وقالَ الآمِدِيُّ أيضًا: (البَقاءُ ليس زائِدًا على مَعْنى اسْتِمْرارِ الوُجودِ، فمَعْنى قَوْلِنا: إنَّ الشَّيءَ باقٍ أنَّه مُسْتمِرُّ الوُجودِ، وإنَّه ليس بباقٍ أنَّه غَيْرُ مُسْتمِرِّ الوُجودِ، وذلك لا يَزيدُ على نَفْسِ الوُجودِ فيما يَعرِضُ مِن الأحْوالِ المُعَدَّدةِ، والمُدَدِ المُسَرْمَدةِ، ثُمَّ ولو كانَ البَقاءُ صِفةً زائِدةً على نَفْسِ الوُجودِ؛ فإمَّا أن يكونَ مَوْجودًا أو مَعْدومًا، فإن كانَ مَعْدومًا فلا صِفةَ، وإن كانَ مَوْجودًا لَزِمَ أن يكونَ له بَقاءٌ، وإلَّا فلا يكونُ مُسْتمِرًّا، وذلك في صِفاتِ الباري تَعالى مُحالٌ، وإن كانَ له بَقاءٌ فالكَلامُ في ذلك البَقاءِ كالكَلامِ في الأوَّلِ، وهَلُمَّ جَرًّا، وذلك يُفْضي إلى ما لا نِهايةَ له، وهو مُحالٌ، ثُمَّ يَلزَمُ مِنه أن يكونَ البَقاءُ قائِمًا بالبَقاءِ، وذلك مُمْتنِعٌ؛ إذ ليس قِيامُ أحَدِهما بالآخَرِ بأَوْلى مِن العَكْسِ؛ لاشْتِراكِهما في الحَقيقةِ، واتِّحادِهما في الماهِيَّةِ، وهذا الَّذي ذَكَرْناه مِمَّا لا يُفَرَّقُ فيه بَيْنَ مَوْجودٍ ومَوْجودٍ، لا شاهِدًا ولا غائِبًا، فإذًا ليس البَقاءُ صِفةً زائِدةً على نَفْسِ الباقي) [618] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 136) بتصرُّفٍ. .
7- قالَ الإيجيُّ: (البَقاءُ أَثبَتَه الشَّيْخُ صِفةً زائِدةً على الوُجودِ، إذ الوُجودُ مُتَحَقِّقٌ دونَه كما في أوَّلِ الحُدوثِ، وأُجيبَ عنه بأنَّه مَنْقوضٌ بالحُدوثِ؛ فإنَّه غَيْرُ الوُجودِ لتَحَقُّقِ الوُجودِ بَعْدَ الحُدوثِ، فلو دَلَّ ذلك على كَوْنِه زائِدًا لَكانَ الحُدوثُ زائِدًا، ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، ونَفاه القاضي أبو بَكْرٍ، والإمامانِ؛ إمامُ الحَرَمَينِ، والإمامُ الرَّازيُّ، وقالوا: البَقاءُ هو نَفْسُ الوُجودِ في الزَّمانِ الثَّاني) [619] ((جامع المَسائِل لابن تَيْمِيَّةَ)) (3/ 207). .
8- قالَ التَّفْتازانيُّ: (مِن الصِّفاتِ المُخْتلَفِ فيها البَقاءُ، أَثبَتَه الشَّيْخُ الأشْعَريُّ وأشْياعُه مِن أهْلِ السُّنَّةِ؛ لأنَّ الواجِبَ باقٍ بالضَّرورةِ، فلا بُدَّ أن يَقومَ به مَعنًى هو البَقاءُ كما في العالِمِ والقادِرِ؛ لأنَّ البَقاءَ ليس مِن السُّلوبِ والإضافاتِ، وهو ظاهِرٌ، وليس أيضًا عِبارةً عن الوُجودِ، بلْ زائِدًا عليه؛ لأنَّ الشَّيءَ قد يوجَدُ ولا يَبْقى كالأعْراضِ، سيَّما السَّيَّالةِ، وذَهَبَ الأَكثَرونَ إلى أنَّه ليس صِفةً زائِدةً على الوُجودِ لوُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ المَعْقولَ مِنه اسْتِمْرارُ الوُجودِ، ولا مَعْنى لِذلك سِوى الوُجودِ مِن حيثُ انْتِسابُه إلى الزَّمانِ الثَّاني بَعْدَ الزَّمانِ الأوَّلِ.
وثانيها: أنَّ الواجِبَ لو كانَ باقِيًا بالبَقاءِ الَّذي ليس نَفْسَ ذاتِه لَما كانَ واجِبَ الوُجودِ لِذاتِه؛ لأنَّ ما هو مَوْجودٌ لِذاتِه فهو باقٍ لِذاتِه ضَرورةَ أنَّ ما بالذَّاتِ لا يَزولُ أبَدًا، وإذا فُسِّرَ البَقاءُ بصِفةٍ بها الوُجودُ في الزَّمانِ الثَّاني كانَ لُزومُ المُحالِ أَظهَرَ؛ لأنَّه يَؤولُ إلى أنَّ الواجِبَ مَوْجودٌ في الزَّمانِ الثَّاني لأمْرٍ سِوى ذاتِه، واعْتَرَضَ صاحِبُ الصَّحائِفِ بأنَّ اللَّازِمَ ليس إلَّا افتقارَ صِفةٍ إلى صِفةٍ أخرى نَشَأَتْ مِن الذَّاتِ، ولا امْتِناعَ فيه، كالإرادةِ يَتَوَقَّفُ على العِلمِ، والعِلمِ على الحَياةِ، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ الوُجودَ ليس مِن الذَّاتِ، ولو سُلِّمَ فافْتِقارُه إلى أمْرٍ سِوى الذَّاتِ يُنافي الوُجوبَ بالذَّاتِ.
وثالِثُها: أنَّ الذَّاتَ لو كان باقِيًا بالبَقاءِ لا بنَفْسِه، فإن افْتَقَرَ صِفةُ البَقاءِ إلى الذَّاتِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لتَوَقُّفِ ثُبوتِ كلٍّ في الزَّمانِ الثَّاني على الآخَرِ، وإن افْتَقَرَ الذَّاتُ إلى البَقاءِ معَ اسْتِغْنائِه عنه كانَ الواجِبُ هو البَقاءَ لا الذَّاتَ، وإن لم يَفْتَقِرْ أحَدُهما إلى الآخَرِ بلِ اتَّفَقَ تَحَقُّقُهما معًا كما ذَكَرَه صاحِبُ المَواقِفِ لَزِمَ تَعَدُّدُ الواجِبِ؛ لأنَّ كلًّا مِن الذَّاتِ والبَقاءِ يكونُ مُسْتَغْنِيًا عمَّا سِواه؛ إذ لو افْتَقَرَ البَقاءُ إلى شيءٍ لافْتَقَرَ إلى الذَّاتِ ضَرورةَ افْتِقارِ الكلِّ إليه، والمُسْتَغْني عن جَميعِ ما سِواه واجِبٌ قَطْعًا، هذا معَ أنَّ ما فُرِضَ مِن عَدَمِ افْتِقارِ البَقاءِ إلى الذَّاتِ مُحالٌ؛ لأنَّ افْتِقارَ الصِّفاتِ إلى الذَّاتِ ضَروريٌّ.
ورابِعُها: أنَّ البَقاءَ لو كانَ صِفةً أزَلِيَّةً زائِدةً على الذَّاتِ قائِمةً به كانَتْ باقِيةً بالضَّرورةِ، وحينَئذٍ فإن كانَ لها بَقاءٌ يُنقَلُ الكَلامُ إليه ويَتَسَلْسَلُ، وأيضًا يَلزَمُ قِيامَ المَعْنى بالمَعْنى، وهو باطِلٌ عنْدَكم، وإن لم يكنْ له بَقاءٌ كانَ كعالِمٍ بِلا عِلمٍ، وقدْ بَيَّنَ بُطْلانَه، فإن قيلَ: هو باقٍ بالبَقاءِ إلَّا أنَّ بَقاءَ نَفْسِه لا زائِدَ عليه ليَتَسَلْسَلَ، قُلْنا: فحينَئذٍ يَجوزُ أن يكونَ الباري تَعالى باقِيًا ببَقاءٍ هو نَفْسُه، عالِمًا بعِلمٍ هو نَفْسُه، فلا يُثبِتُ زِيادةَ صِفةِ البَقاءِ على ما هو رأيُ الشَّيْخِ، ولا زِيادةَ العِلمِ والقُدْرةِ وغَيْرِهما على ما هو رأيُ أهْلِ الحَقِّ) [620] ((شرح المقاصد في علم الكَلام)) (2/ 106). .
9- قالَ الصَّفاقُسِيُّ: (ممَّا هو واجِبٌ له تَعالى: البَقاءُ، وتقدَّمَ أنَّه صِفةٌ سَلْبيَّةٌ...، ومَعْنى البَقاءِ في حَقِّه تَعالى: نَفْيُ الآخِريَّةِ، ونَفْيُ العَدَمِ اللَّاحِقِ، كما أنَّ مَعْنى القِدَمِ: نَفْيُ الأوَّليَّةِ، ونَفْيُ العَدَمِ السَّابِقِ؛ قالَ اللهُ تَعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3] ؛ فـالأوَّلُ: القَديمُ مِن غَيْرِ بِدايةٍ، والآخِرُ: الباقي مِن غَيْرِ نِهايةٍ...، وكما يَجِبُ له تَعالى الوُجودُ والقِدَمُ كَذا يَجِبُ له بَقاءٌ لا يَشوبُه -أي: لا يُخالِطُه- عَدَمٌ، بلْ لا نِهايةَ له، لِما عَرَفْتَ مِن أنَّ كلَّ مَن ثَبَتَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه، وبُرهانُ وُجوبِ البَقاءِ لمَوْلانا جَلَّ وعَلا أنَّه تَعالى لو لم يَجِبْ له البَقاءُ لكانَ يَقبَلُ الوُجودَ والعَدَمَ، وكلُّ مَن يَقبَلُ الوُجودَ والعَدَمَ وُجودُه جائِزٌ لا واجِبٌ، وكلُّ مَن وُجودُه جائِزٌ فهو حادِثٌ فيَفْتَقِرُ إلى مَن يُرَجِّحُ وُجودَه على عَدَمِه، فلو لم يكنْ تَعالى باقِيًا لكانَ حادِثًا، وقدْ سَبَقَ قَريبًا اسْتِحالةُ الحُدوثِ عليه تَعالى، ووُجوبُ القِدَمِ له جَلَّ وعَلا، فيَلزَمُ أن يكونَ باقِيًا لوُجوبِ قِدَمِه؛ إذ كلُّ مَن ثَبَتَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه، ووَجَبَ بَقاؤُه) [621] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 59) باختصارٍ وتصَرُّفٍ. .
10- قالَ السَّنوسيُّ: (المُخْتارُ في البَقاءِ أنَّه عِبارةٌ عن سَلْبِ العَدَمِ اللَّاحِقِ للوُجودِ، والدَّليلُ على وُجوبِ هذه الصِّفةِ له جَلَّ وعَلا أنَّه لو قُدِّرَ لُحوقُ العَدَمِ له -تَعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا- لَكانَتْ ذاتُه العَلِيَّةُ تَقبَلُ الوُجودَ والعَدَمَ لفَرْضِ اتِّصافِه بِهما، ولا تَتَّصِفُ ذاتُه بصِفةٍ حتَّى تَقبَلَها، لكنَّ قَبولَه جَلَّ وعَلا للعَدَمِ مُحالٌ، إذ لو قَبِلَه لَكانَ هو والوُجودُ بالنِّسْبةِ إلى ذاتِه سِيَّانِ؛ إذًا القَبولُ للذَّاتِ نَفْسيٌّ لا يَخْتلِفُ، فيَلزَمُ افْتِقارُ وُجودِه إلى موجِدٍ يُرَجِّحُه على العَدَمِ الجائِزِ فيكونُ حادِثًا، كيف وقدْ ثَبَتَ بالبُرْهانِ القَطْعيِّ وُجوبُ قِدَمِه. فبانَ لك بِهذا البُرْهانِ أنَّ وُجوبَ القِدَمِ يَسْتَلْزِمُ أبَدًا وُجوبَ البَقاءِ، وأنَّ تَجْويزَ العَدَمِ اللَّاحِقِ يوجِبُ العَدَمَ السَّابِقَ، فخَرَجَ لك بِهذا البُرْهانِ قاعِدةٌ كُلِّيَّةٌ، وهي أنَّ كلَّ ما ثَبَتَ قِدَمُه اسْتَحالَ عَدَمُه؛ لأنَّ القِدَمَ لا يكونُ أبَدًا إلَّا واجِبًا للقَديمِ، وهذا البُرْهانُ الَّذي ذَكَرْنا لوُجوبِ البَقاءِ مُخْتَصَرٌ، وهو معَ اخْتِصارِه قَطْعيٌّ لا شُبْهةَ في شيءٍ مِن مُقَدِّماتِه، والدَّليلُ المَشْهورُ بَيْنَ المُتَكلِّمينَ فيه طولٌ وتَقْسيمٌ لم يُجمَعْ على بُطْلانِ جَميعِ أقْسامِه، وذلك أنَّهم يَقولونَ: لو طَرَأَ العَدَمُ على القَديمِ لوَجَبَ أن يكونَ مُقْتَضٍ؛ إذ طُرُوُّ أمْرٍ لنَفْسِه بغَيرِ مُقْتَضٍ لا سِيَّما إن كانَ مَرْجوحًا كهذا مُحالٌ ضَرورةً، والمُقْتَضي إمَّا بالاخْتِيارِ أوَّلًا، والمُقْتَضي المُخْتارُ لا يَفعَلُ العَدَمَ إذ ليس بفِعْلٍ، وغَيْرُ المُخْتارِ إمَّا عَدَمُ شَرْطٍ أو طَرَيانُ ضِدٍّ. باطِلٌ أن يكونَ عَدَمَ شَرْطٍ؛ لأنَّ ذلك الشَّرْطَ أن يكونَ قَديمًا نَقَلْنا الكَلامَ إلى عَدَمِه ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وإن كانَ حادِثًا لَزِمَ وُجودُ القَديمِ في الأزَلِ بدونِ شَرْطِه وهو مُحالٌ، وباطِلٌ أن يكونَ طَرَيانَ ضِدٍّ؛ لأنَّه إن طَرَأَ قَبْلَ انْعِدامِ القَديمِ لَزِمَ اجْتِماعُ الضِّدَّينِ، وإن طَرَأَ بَعْدَ انْعِدامِه فقدِ انْعَدَمَ القَديمُ بغَيْرِ مُقْتَضٍ لاسْتِحالةِ تَأخُّرِ المُقْتَضي عن أثَرِه، وأيضًا يَلزَمُ في الضِّدِّ تَرْجيحُ المَرْجوحِ، ولا أَقَلَّ مِن التَّساوي؛ إذ دَفْعُ القَديمِ السَّابِقِ وُجودُه لطريانِ ضِدٍّ أَوْلى مِن العَكْسِ، وأيضًا فالضِّدُّ إن قامَ بالقَديمِ لَزِمَ اجْتِماعُ الضِّدَّينِ وإلَّا بَطَلَ اقْتِضاؤُه لعَدَمِ الاخْتِصاصِ، واعْلَمْ أنَّ بمِثلِ هذا البُرْهانِ اسْتَدَلَّ أئِمَّةُ السُّنَّةِ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهم على اسْتِحالةِ بَقاءِ الأعْراضِ، قالوا: بل بنَفْسِ وُجودِها تَنْعدِمُ، فلا بَقاءَ لها أصْلًا، وسَواءٌ ما شُوهِدَ فيه ذلك؛ كالحَرَكاتِ والأصْواتِ، أو لا كالألْوانِ والاعْتِقاداتِ، قالوا: لأنَّها لو بَقِيَتْ لاسْتَحالَ عَدَمُها لِما ذُكِرَ في التَّقْسيمِ، فألْزَموا مِثلَ ذلك في الجَواهِرِ معَ أنَّها تَبْقى ويَصِحُّ عَدَمُها، فأجابوا بأنَّ شَرْطَ بَقائِها إمْدادُها بالأعْراضِ، فإذا أرادَ اللهُ إعْدامَها قَطَعَ عنها خَلْقَ الأعْراضِ، ومَذهَبُ القاضي أنَّ الإعْدامَ يَصِحُّ أن يكونَ مُتَعلِّقًا للقُدْرةِ، وألَزَمَ صِحَّةَ إضافةِ العَدَمِ السَّابِقِ إلى المُؤَثِّرِ، فإنَّ مَعْقولَ العَدَمِ لا يَخْتلِفُ، وفَرَّقَ بأنَّ السَّابِقَ مُسْتمِرٌّ، والمُسْتمِرُّ يَسْتَغْني عن المُرَجِّحِ، واللَّاحِقُ طارِئٌ، ومُقْتضاه تَرْجيحُ طَرَفِ المَمكِنِ، وتَرْجيحُ طَرَفِ المُمكِنِ لا يَسْتَغْني عن المُؤثِّرِ، فلأجْلِ هذا تَرَدَّدَ في بَقاءِ الأعْراضِ، وجَزَمَ الفَخْرُ في المَعالِمِ بصِحَّةِ بَقائِها، وقُدَماءُ الأشْعَريَّةِ لمَّا اعْتَقَدوا أنَّ الباقيَ باقٍ ببَقاءٍ، وأنَّ الجَواهِرَ إنَّما صَحَّ بَقاؤُها لقِيامِ البَقاءِ بِها قالوا: لو بَقِيَتِ الأعْراضُ لَزِمَ قِيامُ المَعْنى بالمَعْنى، وهو مُحالٌ) [622] ((حواشٍ على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 151 - 154). .
وأهْلُ السُّنَّةِ عافاهم اللهُ مِن هذا الهَذَيانِ والتَّنَطُّعِ والتَّكَلُّفِ الَّذي عافى اللهُ مِنه الصَّحابةَ والتَّابِعينَ وأتْباعَهم؛ فهُمْ يُثبِتونَ للهِ سُبْحانَه صِفةَ البَقاءِ كما دَلَّ على ذلك القُرْآنُ الكَريمُ، وكما هو مَعْلومٌ في فِطْرةِ المُسلِمينَ، قالَ اللهُ تَعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، وقالَ سُبْحانَه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] .
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (النِّزاعُ في هذه المَسْألةِ إذا حُقِّقَ لم يَرجِعْ إلى مَعنًى مُحَصَّلٍ يَسْتَوْجِبُ النِّزاعَ) [623] ((الاستقامة)) (1/ 182). .
نُقولاتِ أهْلِ السُّنَّةِ في صِفةِ البَقاءِ للهِ تَعالى:
1- قالَ قوَّامُ السُّنَّةِ الأصْبَهانيُّ: (مَعْنى الباقي: الدَّائِمُ المَوْصوفُ بالبَقاءِ الَّذي لا يَسْتَوْلي عليه الفَناءُ، وليستْ صِفةُ بَقائِه ودَوامِه كبَقاءِ الجَنَّةِ والنَّارِ ودَوامِهما، وذلك أنَّ بَقاءَه أبَديٌّ أزَلِيٌّ، وبَقاءُ الجَنَّةِ والنَّارِ أبَديٌّ غَيْرُ أزَلِيٍّ، فالأزَلِيُّ ما لم يَزَلْ، والأبَديُّ ما لا يَزالُ، والجَنَّةُ والنَّارُ كائِنتانِ بَعْدَ أن لم تَكونا، قالَ بعضُ العُلَماءِ في قَوْلِه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الحديد: 3] : الأوَّلُ الَّذي لا قَبْلَ له، والآخِرُ الَّذي لا بَعْدَ له، فقَبْلُ وبَعْدُ نِهايتانِ، واللهُ تَعالى هو الأوَّلُ قَبْلَ كلِّ شيءٍ، والآخِرُ بَعْدَ كلِّ شيءٍ) [624] ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 140). .
2- قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (القَديم: هلْ هو قَديمٌ بقِدَمٍ أم لا؟ فمَذهَبُ ابنِ كُلَّابٍ، والأشْعَريِّ -في أحَدِ قَوْلَيه- وطائِفةٍ مِن الصِّفاتيَّةِ: أنَّه قَديمٌ بقِدَمٍ، ومَذهَبُ الأشْعَريِّ -في القَوْلِ الآخَرِ- والقاضي أبي بَكْرٍ، والقاضي أبي يَعْلى، وأبي علِيِّ بنِ أبي موسى، وأبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، وغَيْرِهم: ليس كذلك، وهُمْ مُتَنازِعونَ في البَقاءِ؛ فقَوْلُ الأشْعَريِّ وطائِفةٍ معَه: أنَّه باقٍ ببَقاءٍ، وهو قَوْلُ الشَّريفِ، وأبي علِيِّ بنِ أبي موسى، وطائِفةٍ. وقَوْلُ القاضي أبي بَكْرٍ، وطائِفةٍ كالقاضي أبي يَعْلى نَفْيُ ذلك. وحَقيقةُ الأمْرِ: أنَّ النِّزاعَ في هذه المَسْألةِ اعْتِباريٌّ لَفْظيٌّ، وهو مُتَعلِّقٌ بمَسائِلِ الصِّفاتِ: هلْ هي زائِدةٌ على الذَّاتِ أم لا؟ وحَقيقةُ الأمْرِ: أنَّ الذَّاتَ إن أُريدَ بها الذَّاتُ المَوْجودةُ بالخارِجِ فتلك مُسْتَلْزِمةٌ لصِفاتِها، يَمْتنِعُ وُجودُها بدونِ تلك الصِّفاتِ، وإذا قُدِّرَ عَدَمُ اللَّازِمِ لَزِمَ عَدَمُ المَلْزومِ، فلا يُمكِنُ فَرْضُ الذَّاتِ المَوْجودةِ في الخارِجِ مُنْفكَّةً عن لَوازِمِها حتَّى يُقالَ: هي زائِدةٌ أو ليسَتْ زائِدةً، لكنْ يُقَدَّرُ ذلك تَقْديرًا في الذِّهْنِ، وهو القِسْمُ الثَّاني، فإذا أُريدَ بالذَّاتِ ما يُقَدَّرُ في النَّفْسِ مُجَرَّدًا عن الصِّفاتِ فلا رَيْبَ أنَّ الصِّفاتِ زائِدةٌ على هذه الذَّاتِ المُقدَّرةِ في النَّفْسِ، ومَن قالَ مِن مُتَكلِّمةِ أهْلِ السُّنَّةِ: إنَّ الصِّفاتِ زائِدةٌ على الذَّاتِ، فتَحْقيقُ قَوْلِه أنَّها زائِدةٌ على ما أَثبَتَه المُنازِعونَ مِن الذَّاتِ، فإنَّهم أَثبَتوا ذاتًا مُجَرَّدةً عن الصِّفاتِ، ونحن نُثبِتُ صِفاتِها زائِدةً على ما أَثبَتوه هُمْ، لا أنَّا نَجعَلُ في الخارِجِ ذاتًا قائِمةً بنَفْسِها، ونَجعَلُ الصِّفاتِ زائِدةً عليها، فإنَّ الحَيَّ الَّذي يَمْتنِعُ ألَّا يكونَ إلَّا حَيًّا، كيف تكونُ له ذاتٌ مُجَرَّدةٌ عن الحَياةِ؟! وكذلك ما لا يكونُ إلَّا عَليمًا قَديرًا، كيف تكونُ ذاتُه مُجَرَّدةً عن العِلمِ والقُدْرةِ؟! والَّذين فَرَّقوا بَيْنَ الصِّفاتِ النَّفْسيَّةِ والمَعْنويَّةِ قالوا: القِيامُ بالنَّفْسِ والقِدَمُ -ونَحْوُ ذلك مِن الصِّفاتِ النَّفْسيَّةِ- بخِلافِ العِلمِ والقُدْرةِ، فإنَّهم نَظَروا إلى ما لا يُمكِنُ تَقْديرُ الذَّاتِ في الذِّهْنِ بدونِ تَقْديرِه، فجَعَلوه مِن النَّفْسيَّةِ، وما يُمكِنُ تَقْديرُها بدونِه فجَعَلوه مَعْنويًّا، ولا رَيْبَ أنَّه لا يُعقَلُ مَوْجودٌ قائِمٌ بنَفْسِه ليس قائِمًا بنَفْسِه، بخِلافِ ما يُقَدَّرُ أنَّه عالِمٌ؛ فإنَّه يُمكِنُ ذاتُه بدونِ العِلمِ، وهذا التَّقْديرُ عادَ إلى ما قَدَّروه في أنْفُسِهم، وإلَّا ففي نَفْسِ الأمْرِ جَميعُ صِفاتِ الرَّبِّ اللَّازِمةِ له هي صِفاتٌ نَفْسيَّةٌ ذاتِيَّةٌ، فهو عالِمٌ بنَفْسِه وذاتِه، وهو عالِمٌ بالعِلمِ، وهو قادِرٌ بنَفْسِه وذاتِه، وهو قادِرٌ بالقُدْرةِ، فله عِلمٌ لازِمٌ لنَفْسِه، وقُدْرةٌ لازِمةٌ لنَفْسِه، وليس ذلك خارِجًا عن مُسمَّى اسْمِ نَفْسِه، وعلى كلِّ تَقْديرٍ فالاسْتِدْلالُ على حُدوثِ الأجْسامِ بِهذه الحُجَّةِ في غايةِ الضَّعْفِ، كما اعْتَرَفوا هُمْ به؛ فإنَّ ما ذَكَروه يوجِبُ ألَّا يكونَ في الوُجودِ شيءٌ قَديمٌ، سَواءٌ قُدِّرَ أنَّه جِسْمٌ أو غَيْرُ جِسْمٍ، فإنَّه يُقالُ: لو كانَ الرَّبُّ -رَبُّ العالَمينَ- قَديمًا لكانَ قِدَمُه إمَّا أن يكونَ عَيْنَ كَوْنِه رَبًّا، وإمَّا زائِدًا على ذلك، والأمْرانِ باطِلانِ، فبَطَلَ كَوْنُه قَديمًا؛ أمَّا الأوَّلُ: فلِأنَّه لو كانَ كذلك لكانَ العِلمُ بكَوْنِه رَبًّا أو واجِبَ الوُجودِ أو نَحْوَ ذلك عِلمًا بكَوْنِه قَديمًا، وهذا باطِلٌ. وأمَّا الثَّاني: فلِأنَّ ذلك الزائِدَ إن كانَ قَديمًا يَلزَمُ أن يكونَ قِدَمُه زائِدًا عليه، ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وإن كانَ حادِثًا كانَ للقَديمِ أوَّلٌ، فما كانَ جَوابًا عن مَواضِعِ الإجْماعِ كانَ جَوابًا في مَورِدِ النِّزاعِ، وإن كانَ العِلمُ بكَوْنِه رَبَّ العالَمينَ يَسْتَلْزِمُ العِلمَ بقِدَمِه، لكنْ ليس العِلمُ بنَفْسِ الرُّبوبيَّةِ هو العِلمَ بنَفْسِ القِدَمِ، بلْ قد يَقومُ العِلمُ الأوَّلُ بالنَّفْسِ معَ ذُهولِها عن الثَّاني، وقدْ يَشُكُّ الشَّاكُّ في قِدَمِه، معَ العِلمِ بأنَّه رَبُّه، ويَخطُرُ له أنَّ لِلرَّبِّ رَبًّا حتَّى يَتَبيَّنَ له فَسادُ ذلك) [625] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (3/ 20 - 22). .
3- قالَ مُحَمَّدُ بنُ إبْراهيمَ الوَزيرُ مُبَيِّنًا الواجِبَ على المُسلِمينَ: (إثْباتُ كلِّ كَمالٍ للهِ جَلَّ جَلالُه، ونَفْيُ كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ عنه سُبْحانَه، وتَخْصيصُه دونَ خَلْقِه بوُجوبِ الوُجودِ، والقِدَمِ، والبَقاءِ، وعَدَمِ التَّشْبيهِ والتَّشْريكِ، والنِّدِّ والكُفءِ، والضِّدِّ) [626] ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسِم)) (5/ 75). .
4- قالَ مُحَمَّدُ بنُ إبْراهيمَ آلُ الشَّيْخِ: (البَقاءُ مِن صِفاتِ اللهِ) [627] ((فَتاوى ورسائل مُحَمَّد بن إبراهيم آل الشَّيْخ)) (1/ 207). .

انظر أيضا: