موسوعة الفرق

تمهيدٌ: مَفهومُ الولاءِ والبراءِ في نَظَرِ الخَوارِجِ


إنَّ الحُبَّ في اللهِ والبُغضَ في اللهِ، والوَلايةَ لأولياءِ اللهِ والبَراءةَ من أعداءِ اللهِ: هذه مبادِئُ إسلاميَّةٌ مُقَرَّرةٌ، وعلى أساسِها يتحَدَّدُ مَوقِفُ المُسلِمِ من غيرِه توَلِّيًا أو تَبَرِّيًا، والخَوارِجُ بصفةٍ عامَّةٍ يلتَزِمون بهذا المبدأِ، ولكِنَّهم ينحَرِفون في تطبيقِه على مُخالِفيهم من المُسلِمين، فيتبرَّؤون منهم، ولا يتوَلَّون إلَّا أنفُسَهم، ولكِنَّهم حمَّلوا هذا الأصلَ كثيرًا من المُخالَفاتِ والأخطاءِ الجَسيمةِ.
وقَبلَ بيانِ رأيِ الخَوارِجِ في مُخالِفيهم ومَوقِفِهم منهم يحسُنُ ذِكرُ مَفهومِ الولايةِ والبراءةِ في نَظَرِ الخَوارِجِ بصفةٍ عامَّةٍ، والإباضيَّةِ بصِفةٍ خاصَّةٍ؛ حيثُ عُنِيَت مصادِرُ هؤلاء ببيانِ حقيقتِها وأهميَّتِها ووجوبِها والشَّرائطِ المُوجبةِ لها والأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ على ذلك كُلِّه.
قال المُبَرِّدُ: (الخَوارِجُ في جميعِ أصنافِها تبْرَأُ من الكاذِبِ ومِن ذي المَعصيةِ الظَّاهرةِ) [718] ((الكامل)) (2/106). ومعروفٌ أنَّ الخَوارِجَ يعتَبِرون كُلَّ مَن سواهم من أصحابِ المعاصي الظَّاهِرةِ.
والوَلايةُ والبراءةُ عِندَ الإباضيَّةِ تأتي في الأهميَّةِ بَعدَ التَّوحيدِ؛ فمَن لم يُوالِ أو يعادِ فإنَّه لا دينَ له؛ إذ إنَّ صاحِبَ الدِّينِ لا بُدَّ أن يكونَ على أحَدِ أمرَينِ: إمَّا مواليًا لأولياءِ اللهِ، فهو مُؤمِنٌ، أو مُبغِضًا لهم فهو غيرُ مُؤمِنٍ.
وقد عَرَّف الجيطاليُّ الوَلايةَ بقَولِه: (الوَلايةُ في الشَّريعةِ: إيجابُ التَّرحُّمِ والاستغفارِ للمُسلِمين) [719] ((قواعد الإسلام)) (ص: 45). .
واستشهد الجيطاليُّ على تفسيرِه للوَلايةِ والبراءةِ ووُجوبِهما من القرآنِ بقولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] .
ومن السُّنَّةِ بقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لابنِ مسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((يا ابنَ مَسعودٍ أيُّ عُرى الإسلامِ أوثَقُ؟ قال: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: الوَلايةُ في اللهِ والبُغضُ في اللهِ)) [720] أخرجه الطيالسي (376)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4479)، والبيهقي (21600) باختلافٍ يسيرٍ. ضعَّف إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/199)، وذكر البيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (2/291) أنَّ فيه عقيلًا الجَعْديَّ: غيرُ معروفٍ، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/95): فيه عقيلُ بنُ الجعدِ، قال البُخاريُّ: مُنكَرُ الحديثِ، وذكر ابنُ حَجَر في ((لسان الميزان)) (5/459) أنَّ فيه عقيلًا الجَعْديَّ، قال ابنُ حِبَّان: مُنكَرُ الحديثِ، يروي عن الثِّقاتِ ما لا يُشبِهُ حديثَ الأثباتِ؛ فبطَل الاحتجاجُ بما روى ولو وافق فيه الثِّقاتِ. [721] ((قواعد الإسلام)) (ص: 45). .
وعَرَّفها النَّفوسيُّ الإباضيُّ بقولِه:
فإنْ قِيلَ ما معنى الوَلايةِ قُلْ له
دُعاؤُك بالغُفرانِ والحُبِّ بالضمنِ [722] ((متن النونية)) (ص: 11). .
واستَشهَد الإباضيَّةُ على وُجوبِها [723] يُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (ص: 86 - 87). بقولِ اللهِ تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] .
وبقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحَبَّ للهِ وأبغَضَ للهِ، وأعطى لله ومَنَع لله؛ فقد استكمَلَ الإيمانَ )) [724] أخرجه أبو داود (4681)، والطبراني (8/159) (7613) واللَّفظُ لهما، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9021) من حديثِ أبي أمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4681)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4681)، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (2/416): لا أعلم به بأسًا. .
وبما رُوِي عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (مَن رأينا منه خيرًا وظَنَنَّا فيه خيرًا، قُلْنا فيه خيرًا وتوَلَّيناه، ومَن رأينا منه شَرًّا وظَنَنَّا فيه شَرًّا، قُلْنا فيه شَرًّا وتبَرَّأْنا منه) [725] أخرجه الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ في ((المسند)) (700) وأسانيدُه لا تثبُتُ. .
والوَلايةُ في اللهِ والبراءةُ في اللهِ كذلك تتمَثَّلُ فيها حقيقةُ الإيمانِ.
قال الجيطاليُّ: (وكذلك عِندَ أصحابِنا -رَحِمَهم اللهُ- الوَلايةُ في اللهِ والبُغضُ في اللهِ هي حقيقةُ الإيمانِ، فمَن لم يَدِنْ بها فلا دِينَ له ولا وَلايةَ له عِندَهم) [726] يُنظر: ((قواعد الإسلام)) (ص: 45). ، ومِن ثُمَّ كانت الوَلايةُ والبراءةُ من أوجَبِ الواجباتِ بَعدَ التَّوحيدِ.
وتجِبُ معرفةُ الوَلايةِ والبراءةِ عِندَهم عِندَ بُلوغِ الشَّخصِ سِنَّ التَّكليفِ، فحينَئذٍ لا عُذْرَ لِمن يجهَلُها، وتكونُ في حَقِّه (فريضةً مُضَيَّقةً مَن لم يعتَقِدْ فَرضيَّتَها فهو مُشرِكٌ) [727] ((قواعد الإسلام)) للجيطالي (ص: 45). ويجِبُ على المكَلَّفِ القيامُ بولايتَينِ: وَلايةُ جُملةٍ، وهي باتِّفاقِ الأمَّةِ، ووَلايةُ أشخاصٍ، وهذه فيها خلافٌ عِندَهم، وفي هذا قال الجيطاليُّ: (ليس بَينَ الأمَّةِ اختلافٌ في وَلايةِ الجُملةِ، وإنَّما الاختلافُ بَينَهم في وَلايةِ الأشخاصِ) [728] ((قواعد الإسلام)) (ص: 45). .
وفي ذلك يُقَرِّرُ قُطبُ الأئمَّةِ أنَّ وَلايةَ الجملةِ وبَراءتَها فَرضٌ على كُلِّ مُسلِمٍ بنَصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، ولا يوجَدُ خِلافٌ إلَّا في وَلايةِ الأشخاصِ وبراءتِها هل هي واجبةٌ أم غيرُ واجبةٍ؟ ثُمَّ يرجِّحُ أنَّها واجبةٌ، بخِلافِ غَيرِهم؛ فإنَّه لم يوجِبْها، ويوضِّحُ هذا بقولِه: (وَلايةُ الجملةِ وبراءتُها فريضتانِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ على كُلِّ مُكَلَّفٍ عِندَ بلوغِه إن قامت عليه الحُجَّةُ)، ثُمَّ قال: (وأمَّا وَلايةُ الأشخاصِ وبراءتُها فواجِبتانِ قياسًا عليهما، ولورودِ أحاديثَ في حبِّ الإخوانِ في اللهِ ومَدْحِ حُبِّهم في القرآنِ) [729] ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (ص: 84). .
وقَسَّم الإباضيَّةُ الوَلايةَ إلى أقسامٍ:
1- وَلايةُ الجملةِ: ويُمَثِّلون لها بالأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ، وأصحابِ الكَهْفِ، وأصحابِ الأخدودِ، وأمثالِهم.
2- وَلايةُ الأفرادِ: وهذه تنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: مُسَمًّى كآدَمَ، وغيرُ مُسَمًّى كمُؤمِنِ آلِ فِرعَوَن، وأمثالِهما.
3- وَلايةُ الذُّكورِ: وهم نوعانِ: الأنبياءُ والأولياءُ.
4- وَلايةُ الإناثِ: وهي نوعان: مُسَمَّياتٌ كمَريمَ بنتِ عِمرانَ، وغيرُ مُسَمَّياتٍ كامرأةِ فِرعَونَ، وأمثالِهما.
وهذه الأقسامُ هي التي وردت في القرآنِ للأولياءِ الموصوفين بالعِصمةِ والاصطِفاءِ، كما قال الجيطاليُّ.
5- وَلايةُ البَيضةِ: أي: وَلايةُ الإمامِ العادِلِ الذي لم يَظهَرْ منه ما يُخِلُّ بإسلامِه في أقوالِه وأفعالِه.
6- وَلايةُ الخارِجِ من الشِّرْكِ إلى الإسلامِ: وتكونُ عِندَما يدخُلُ المُشرِكُ في الإسلامِ ويَترُكُ اقترافَ المعاصي.
7- وَلايةُ الخارِجِ من مَذهَبِ مُخالِفيهم إلى مَذهَبِ أهلِ الوِفاقِ (أي: الإباضيَّةِ): وهذا لا يخلو إمَّا أن يكونَ من المُتدَيِّنين سابقًا أو من غيرِ المُتدَيِّنين، فإذا كان من غيرِ المُتدَيِّنين فيكفي لولايتِه توبتُه ورجوعُه إلى المُسلِمين، وأمَّا إن كان من المُتدَيِّنين فهو مُطالَبٌ بتحقيقِ شُروطٍ لإثباتِ وَلايتِه، قال الجيطاليُّ: (فالمُتدَيِّنُ تكونُ ولايتُه حتَّى يرجِعَ من مقالتِه إلى مقالةِ المُسلِمين قَصدًا، وأيضًا يُعَدِّدُ أخطاءَه ويتوبُ منها ويعتَرِفُ فيها بالخطَأِ واحِدةً بَعدَ أُخرى) [730] ((قواعد الإسلام)) (ص: 51). .
وكأنَّ هذه الشُّروطَ وُضِعَت للمُتَدَيِّنِ حتَّى لا يرجِعَ إلى تدَيُّنِه القديمِ على مَذهَبِ مُخالِفيهم الذي تاب منه ودخل في المَذهَبِ الإباضيِّ مُعتَرِفًا بخَطَئِه فيما سَلَف.
وليست الوَلايةُ في اللهِ لأيِّ إنسانٍ اتَّفَق، بل لا بُدَّ فيها من شروطٍ دينيَّةٍ دقيقةٍ إذا توفَّرَت في شَخصٍ ما حَقَّ له الوَلايةُ، وفي هذا قال السَّالِميُّ:
ثمَّ الوَلايةُ توحيدًا تكونُ
وأُخرى طاعةً إنْ شَرْطُها حَصَلَا
كذا البَراءةُ والشَّرطُ الذي وجَبَت
به الوَلايةُ أنْ تُلفِيه مُمتَثِلَا [731] ((غايَة المراد)) (ص: 11).
قال الخليليُّ في شرحِ ذلك: (يعني أنَّ الوَلايةَ تنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: منها ما يكونُ مقرونًا بتوحيدِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه مِمَّا يندَرِجُ في الاعتقادِ، ومنها ما يكونُ من ضِمنِ الطَّاعاتِ؛ لأنَّه مِمَّا يندَرِجُ في الأعمالِ، وكذلك البراءةُ؛ فوَلايةُ الجملةِ وبراءةُ الجُملةِ داخِلتانِ في الاعتقادِ المفروضِ على العبادِ، وكذلك وَلايةُ الحقيقةِ وبراءةُ الحقيقةِ؛ لأنَّهما لا تَجِبانِ إلَّا بنَصٍّ قَطعيٍّ، فتركُهما إنكارٌ للنَّصِّ وإعراضٌ عنه؛ ولذلك يَكفُرُ كُفرَ شِركٍ مَن أنكَر وَلايةَ الجُملةِ وبراءتَها، أو وَلايةَ الحقيقةِ وبراءتَها. وذلك بخِلافِ وَلايةِ الظَّاهِرِ وبراءتِه؛ فمن أنكرهما فهو فاسِقٌ، وكُفْرُه كفرُ نِعمةٍ لا يُخرِجُه من مِلَّةِ الإسلامِ، والإتيانُ بهما من الطَّاعاتِ العَمَليَّةِ، وتَرْكُهما من المعاصي، وقد سبَق أنَّ الوَلايةَ مَشروطةٌ بامتثالِ من تتوَلَّاه أمرَ اللهِ تعالى فِعلًا وتَركًا، وهو معنى قولِ المُصَنِّفِ رَحِمه اللهُ: "والشَّرطُ الذي وجبَت به الوَلايةُ أنْ تُلفِيه مُمْتَثِلَا") [732] ((شرح غايَة المراد)) (ص: 225- 226). .
ومِن شُروطِ الإباضيَّةِ التي يشتَرِطونَها فيمن يكونُ أهلًا للوَلايةِ:
1- أن يُظهِرَ حِليةً وحالةً تَرْضاها العَينُ.
2- أن يُنقَلَ عنه الوَفاءُ في الدِّينِ قَولًا وعَمَلًا.
3- سُكونُ القَلبِ إلى ما تؤدِّي إليه الحواسُّ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استَفْتِ قَلْبَك )) [733] لفظه: ((يا وابِصةُ استَفْتِ قَلْبَك ، واستَفْتِ نَفْسَك "ثلاثَ مَرَّاتٍ"، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النَّفسُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ، وتردَّد في الصَّدرِ، وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك). أخرجه أحمد (18006) واللَّفظُ له، والدارمي (2533)، وأبو يعلى (1586)، من حديثِ وابصةَ بنِ مَعبدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. حسَّنه النووي في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/284)، وحسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحَسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/23). .

انظر أيضا: