موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الثَّاني والأربعون: أبو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ (ت: 285 هـ)


أبو العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَزِيدَ بنِ عَبْدِ الأَكْبَرِ، الأَزْدِيُّ، البَصريُّ، النَّحْويُّ، الأَخْبَارِيُّ، شَيْخُ أهْلِ النَّحْوِ، وحَافِظُ عِلْم العَرَبِيَّةِ.
مَوْلِدُه:
وُلِد بالبَصرةِ سَنةَ عَشرٍ ومائَتَينِ. وقيل: سَنةَ سبعٍ ومائَتَينِ.
مِن مَشَايِخِه:
أبو عُثْمَانَ المَازِنِي، وأبو عُمَرَ الجَرْميُّ، وأبو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِي، والجاحظ، والتوزي.
ومِن تَلَامِذَتِه:
الزَّجاج، وابن السرَّاج، والأخفش الصغير، وأبو جعفر النحاس، وابن دُرُسْتُوَيْهِ، وأبو بَكْرٍ الخَرَائِطِيُّ، ونِفْطَوَيْه، وأبو سَهْلٍ القَطَّانُ، وإِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ، والصُّولِي، وأحمدُ بنُ مَرْوَانَ الدِّينَوَرِيُّ.
سَبَب تَسْمِيَتِه بالمُبَرِّد:
سُمِّيَ بِالمُبَرِّدِ؛ لأنَّه لَمَّا صَنَّف المَازِنِي كتابَه: ((الألف واللام)) سأل المُبَرِّدَ عن دقِيقِه وعَويصِه، فَأَجَابَه بأحْسَنِ جَوابٍ، فقال له المَازِنِي: (قُم فَأَنْتَ المُبَرِّد) "بكَسْر الرَّاء" أي: المُثْبِت لِلْحَقِّ؛ فَحَرَّفَه الكُوفِيُّون فَفَتَحُوا الرَّاءَ.
وقيل: إنَّ السَبَبَ في ذَلِك: أنَّ صَاحِبَ الشُّرْطَة طَلَب المُبَرِّد للمُنَادَمة والمُذَاكَرَة، فَكَرِه الذَّهابَ إليه، فدخل على أبي حَاتِمٍ سَهْلِ بنِ مُحَمَّدٍ السِّجِسْتَانِي، فجاء رَسُولُ الوَالِي يطلُبُه، فقال له أبو حَاتِمٍ: (ادْخُل في هذا -يعني غِلافَ مُزَمَّلَة [238] جَرَّةٌ خضراء يُبرَّد فيها الماء. فارِغًا- فدخل فيه، وغَطَّى أبو حَاتِم رأسَه، ثم خرج إلى الرَّسُول فقال: ليس هو عندي، فقال: أُخْبِرتُ أنَّه دخل إليك. قال: فَادْخُل الدَّارَ وفَتِّشها، فَدَخَل وطَاف في كلِّ مَوْضِع في الدَّار، ولم يَفْطِن لغِلَافِ المُزَمَّلَة، ثم خَرَج، فجعل أبو حَاتِمٍ يُصَفِّقُ ويُنادي على المُزَمَّلَة: المبرِّد المبرِّد! وتَسَامَع النَّاسُ بذلك، فَلَهَجُوا به).
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان أبو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ رحمه الله عالِمًا فاضلًا، إمامًا في اللُّغَة والعَرَبَيَّة، وَسِيمًا، فَصِيحًا، بَلِيغًا مُفَوَّهًا، حَسَن المُحَاضَرة، مَليِح الأخْبار، ثقةً فيما يرويه، كثيرَ النَّوادِرِ في ظَرْفٍ [239] الظَّرْفُ -وِزانُ فَلْسٍ-: البَراعةُ وذَكاءُ القَلْبِ. يُنظَر: ((المصباح المنير)) (2/ 384). ولَباقةٍ، بَحْرًا في العَرَبِيَّة وفُنُونِها؛ حتى كان النَّاس بالبَصْرَة يقولون: (مَا رأى المُبَرِّدُ مِثْلَ نَفْسِه!).
وكان لِكَثْرَة وعِظَم عِلْمِه باللُّغَة يُتَّهَم مِن البَعْض بالوَضْعِ والكَذِبِ فيها؛ قال المُفجَّع البَصْريُّ: (كان المُبَرِّد -لِعِظَم حِفْظِه اللُّغَةَ واتِّسَاعِه فيها- يُتَّهَم بالكَذِب والوَضْع في اللُّغَة، فَتَوَاضَعْنَا على مَسْأَلَةٍ نَسْأَلُه عنها لا أَصْلَ لها؛ لنَنْظُر ماذا يُجِيبُ، وكُنَّا قَبْل ذلك تَمَارَيْنَا في عَرُوضِ بَيْتِ الشَّاعِرِ:
أبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بَعْضِ
فقال البعضُ: هو مِن البْحَر الفُلَانِي. وقال آخَرون: مِن البَحْر الفُلَانِي، وتردَّد على أَفْوَاهِنا مِن تَقْطِيعِه: (قِ بَعْضَنَا)، ثم ذهبنا إلى المُبَرِّد فقلت له: أيَّدَك اللهُ تعالى، ما القِبَعْضُ عند العَرَب؟
فقال: هو القُطْن، وفي ذلك يقولُ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ سَنَامَها
حُشِيَ القِبَعْضَا
فَقُلْتُ لأصْحَابِي: تَرَوْن الجَوَاب والشَّاهِد؛ فإن كان صَحِيحًا فهو عَجَب، وإن كان مُخْتَلَقًا على البَدِيهَة فهو أعْجَب!).
ما كان مِن المُنَافَرَة بيْن المُبرِّد وثَعْلَب:
كَانَ بيْنه وبيْن ثَعْلَب مِن المُنَاوَءَة مَا لَا خَفَاء به، وقد قال بعض الشُّعَراء في ذلك:
كَفَى حَزَنًا أنَّا جَمِيعًا بِبَلْدَةٍ
ويَجْمَعُنَا فِي أَرْض بَرْشَهْرَ مشْهدُ
وكُلٌّ لكلٍّ مُخْلِصُ الوُدِّ وامِقٌ
ولكنَّنا فِي جَانِبٍ عَنهُ نُفْرَدُ
نَرُوحُ ونَغْدُو لَا تَزَاوُرَ بَيْننَا
وَلَيْسَ بَمَضْرُوبٍ لنا عَنهُ مَوْعِدُ
فَأبْدَانُنا فِي بَلْدَةٍ والْتِقَاؤنا
عَسِيرٌ كأنَّا ثَعْلَبٌ والمُبَرِّدُ
وَقَالَ بَعضُهم يفضِّل المُبَرِّد على ثَعْلَب:
رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَزِيدَ يَسْمُو
إِلى الخَيْرَاتِ فِي جاهٍ وَقَدْرِ
جَلِيسُ خَلَائِفٍ وغذيُّ مُلكٍ
وَأعْلَمُ مَن رَأَيْتُ بِكُلِّ أَمْرِ
ويَنْثُرُ إِنْ أجالَ الفِكْرَ دُرًّا
ويَنْثُرُ لُؤْلؤًا مِن غَيرِ فِكْرِ
وَكَانَ الشِّعْرُ قَدْ أُودِي فَأَحْيَا
أَبُو العَبَّاس دَاثِرَ كُلِّ شِعْرِ
وَقَالُوا ثَعْلبٌ رَجُلٌ عَلِيمٌ
وَأَيْنَ النَّجْمُ مِن شَمْسٍ وبَدْرِ
وَقَالُوا ثَعْلَبٌ يُفْتِي ويُملي
وَأَيْنَ الثُّعلُبانُ مِن الهِزَبْرِ
وَهَذَا فِي مَقَالِك مُسْتَحِيلٌ
تُشَبِّهُ جَدْوَلًا وَشلًا بِبَحْرِ!
عَقيدتُه:
قال أبو المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيُّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، وسِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، والزَّجَّاجِ، والمُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، وابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، وابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ: الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، وأبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ والبِدعةِ) [240] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
وفي كَلامِ المُبَرِّدِ ما يدُلُّ على أنَّه كان على اعتِقادِ أهلِ السُّنَّةِ، فمِن ذلك قَولُه: (وكُلُّ صِفاتِ اللهِ أعلى الصِّفاتِ وأجَلُّها، فما استُعمِلَ في المَخلوقين على تلك الألفاظِ وإن خالَفَت في الحُكمِ فحَسَنٌ جميلٌ، كقولك: فلانٌ عالمٌ، وفلانٌ قادِرٌ، وفلانٌ رحيمٌ، وفلانٌ وَدودٌ، إلَّا ما وصَفْنا قَبْلُ من ذِكْرِ التكَبُّرِ؛ فإنَّك إذا قلت: فلانٌ جبَّارٌ أو متكبِّرٌ، كان عليه عيبًا ونقصًا، وذلك لمخالَفةِ هاتَينِ الصِّفتَينِ الحقَّ، وبُعْدِهما من الصَّوابِ؛ لأنَّهما للمُبدِئِ المُعيدِ الخالِقِ البارِئِ، ولا يَليقُ ذلك بمن تَكْسِرُه الجَوْعةُ، وتُطْغيه الشِّبْعةُ، وتُنقِصُه اللَّحْظةُ، وهو في كُلِّ أُمورِه مُدَبَّرٌ) [241] ينظر: ((الكامل في اللغة والأدب)) للمبرد (1/ 283). .
مُصَنَّفَاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((الكامل)) في اللُّغة والأدب، كتاب: ((المقتَضَب)) في النَّحْو، كتاب: ((مَعَاني القُرْآن))، كتاب: ((الرَّوْضَة))، كتاب: ((المَقْصُور والممدود))، كتاب: ((الاشْتِقَاق))، كتاب: ((القوافي))، كتاب: ((إِعْرَاب القُرْآن))، كتاب: ((نَسَبُ عَدْنان وقَحْطان))، كتاب: ((الرَّد على سِيبَوَيْه))، كتاب: ((شرح شَوَاهِد الكتاب))، كتاب: ((ضَرُورَة الشِّعْر))، كتاب: ((العرُوض))، كتاب: ((مَا اتَّفَق لَفظُه واخْتلف مَعْناه))، كتاب: ((طَبَقَات النُّحَاة البَصرِيين)).
وكان المُبَرِّدُ كَثِيرَ الأَمَالِي حَسَن النَّوَادِر، وممَّا أمْلَاه: (أنَّ أبا جَعْفَرٍ المَنْصُورَ وَلَّى رَجُلًا على العُمْيَان والأَيْتَام والقَوَاعِد مِن النِّسَاء اللَّوَاتِي لا أَزْوَاجَ لَهُن، فَدَخَل على هذا المُتَوَلِّي بَعْضُ المُتَخَلِّفِين ومعه وَلَدُه، فقال له: إنْ رأيت -أصْلَحَك الله- أن تُثْبِت اسْمِي مع القَوَاعِد، فقال له المُتَوَلِّي: القَوَاعِدُ نِسَاءٌ؛ فَكَيْف أُثْبِتُك فِيهِنَّ؟! فَقَال: ففي العُمْيَانِ! فقال: أمَّا هذا فنعمْ؛ فإن اللهَ تعالى يقولُ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فقال: وتُثْبِت وَلَدِي في الأَيْتَام! فقال: وهذا أفْعَلُه أيضًا؛ فإنَّه مَن تكنْ أنت أباه فهو يتيمٌ. فَانْصَرَف عنه وقد أثْبَتَه في العُمْيَان، وأَثْبَت وَلَدَه في الأَيْتَامِ).
وَفَاتُه:
تُوفِّي ببغداد سَنةَ خمسٍ وثَمانينَ ومائَتَينِ. وقيل: سَنةَ ستٍّ وثَمانينَ ومائَتَينِ [242] يُنظَر: ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 101)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتنوخي (ص 53)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (4/ 603)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 164)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (6/ 2678)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (3/ 241)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (4/ 313)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (13/ 576)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (5/ 141)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 680)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 286)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 269)، ((الأعلام)) للزركلي (7/ 144). .

انظر أيضا: