موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: مَوقِفُ الخَوارِجِ من الخُلَفاءِ الرَّاشِدين رَضيَ اللهُ عنهم


فَرَّقَ الخَوارِجُ في تعامُلِهم مع الخُلَفاءِ الرَّاشدين بَينَ الشَّيخَينِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، وبَينَ عُثمانَ وعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنهما.
فلا يَعتَرِفُ الخَوارِجُ بالإمامةِ الكامِلةِ لأحَدٍ من الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم إلَّا بإمامةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما إمامةً شَرعيَّةً لا شَكَّ في صِحَّتِها ولا ريبَ في شرعيَّتِها، وأنَّها كانت برِضا المُؤمِنين ورَغبتِهم، وقد سارا على الطَّريقِ المستقيمِ الذي أمَر اللهُ به لم يُغَيِّرا ولم يُبَدِّلا حتَّى توفَّاهما اللهُ على ما يُرضي اللهَ من العَمَلِ الصَّالحِ والنُّصحِ للرَّعيَّةِ، وهذا حَقٌّ، فلقد كانا رَضيَ اللهُ عنهما كذلك لا يَشُكُّ في ذلك إلَّا هالِكٌ، ولقد كان مَوقِفُ الخَوارِجِ إزاءَهما مُوَفَّقًا.
ثمَّ بَعدَ وفاتِهما انتخَبَت الأمَّةُ خليفَتَينِ آخَرينِ هلك فيهما الخَوارِجُ وخَرَجوا عن الحَقِّ والصَّوابِ في تقديرِهم لهما، ولم يُوَفَّقوا في القولِ فيهما، وأكثَروا من الافتراءاتِ الكاذِبةِ عليهما، ووصَفوهما بما كرَّمَهما اللهُ عنه، وقد بلغ بعضُهم في بُغضِهما إلى المغالاةِ التي قد تؤدِّي إلى الكُفْرِ الصَّريحِ؛ قال الأشعَريُّ: (الخَوارِجُ بأسْرِها يُثبِتون إمامةَ أبي بكرٍ وعُمَرَ، ويُنكِرون إمامةَ عُثمانَ رضوانُ اللهِ عليهم في وقتِ الأحداثِ التي نُقِم عليه من أجلِها، ويقولون بإمامةِ عَليٍّ قَبلَ أن يُحَكِّمَ، ويُنكِرون إمامتَه لَمَّـا أجاب إلى التَّحكيمِ) [734] ((المقالات)) (1/204).
أمَّا فيما يتعلَّقُ بمَوقِفِهم من عُثمانَ -رَضيَ اللهُ عنه- فهو مَوقِفٌ في غايةِ الخطَأِ والبُعدِ عن الحَقِّ، وهذا ليس افتراءً عليهم، بل هو منقولٌ مِن كُتُبِهم، ومن أهمِّها كتابُ (كَشْفُ الغُمَّة الجامِعُ لأخبارِ الأُمَّة)؛ فإنَّ قارئَه يَشعُرُ أنَّ مُؤَلِّفَه خَصمٌ عنيدٌ لا يتورَّعُ عن اتِّهامِ خَصمِه وإقامةِ الحُجَّةِ عليه بأيِّ قولٍ كان، ومنها قولُه: (بلَغَنا أنَّه -يعني ابنَ مسعودٍ- ذَكَره -أي ذَكَر عُثمانَ- حديثًا، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقومٍ وفيهم عُثمانُ وعبدُ اللهِ، وكانوا يتذاكَرون الدَّجَّالَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فيكم من هو أشَدُّ على أمَّتي من الدَّجَّالِ وأعظَمُ فِتنةً. فقال ابنُ مسعودٍ: أفُلانٌ يا رسولَ اللهِ؟ قال: أفُلانٌ؟ قال: لا، حتَّى استكمَلَهم، ولم يَبْقَ إلَّا هو وعُثمانُ، وفي كُلِّهم قال النَّبيُّ: لا، قال ابنُ مسعودٍ لعُثمانَ: أمَّا هذا فهذا آخِرُ أيَّامي من أيَّامِ الدُّنيا وأوَّلُ يومٍ من أيَّامِ الآخِرةِ، وأنت صاحِبُها يا عُثمانُ)) [735] ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 268). . فهذه روايتُه عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ -رَضيَ اللهُ عنه- المُفتراةُ التي تُكَذِّبُها شهادةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُثمانَ بالجنَّةِ، ويُكَذِّبُها حُبُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له وتاريخُه المُشرِقُ في نُصرةِ الإسلامِ وأهلِه.
أمَّا روايتُه عن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها في شأنِ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، فقال فيها: (قالت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها: ما رأيتُ شيخًا أقَرَّ على نفسِه بمِثلِ ما أقرَّ عُثمانُ) وخرجت بمُصحَفٍ كان معها وقالت: (أشهَدُ باللهِ بأنَّ عُثمانَ كَفَر بما في هذا المُصحَفِ). فهل تَشهَدُ عليه بالكُفْرِ المستوجِبِ للنَّارِ في مقابلةِ شَهادةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له بالجنَّةِ وثنائِه عليه في كثيرٍ من المناسَباتِ؟!
ثمَّ نقل أيضًا قولًا للمِقْدادِ بنِ الأسودِ رَضيَ اللهُ عنه يحذِّرُ فيه الصَّحابةَ من توليةِ عُثمانَ؛ لأنَّه لم يَشهَدْ بيعةَ الرِّضوانِ، وفَرَّ يومَ أحُدٍ، فقال: (أقبل المِقدادُ بنُ الأسوَدِ الكِنْديُّ فناشدهم اللهَ وقال: لا تُوَلُّوا أمْرَكم رجُلًا لم يَشهَدْ بيعةَ الرِّضوانِ، وفَرَّ يومَ أحُدٍ). فهل يُعقَلُ أن يَقِفَ صحابيٌّ جليلٌ من صحابيٍّ مِثلِه هذا المَوقِفَ، وهو يَعرِفُ قَدْرَه ومَنزِلتَه بَينَ المُسلِمين؟! وهل يُعَيِّرُه بعَدَمِ حُضورِه بَيعةَ الرِّضوانِ وقد بايَعَ بَيعةً غبَطه عليها جميعُ المُسلِمين؛ فقد بايع عنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيثُ ضرب بيمينِه على شِمالِه، وقال: ((هذه لعُثمانَ)) [736] أخرجه البخاري (3699) ولفظُه: (يا ابنَ عُمَرَ، إنِّي سائِلُك عن شيءٍ فحَدِّثْني، هل تعلَمُ أنَّ عثمانَ فَرَّ يومَ أحُدٍ؟ قال: نعم. فقال: تعلَمُ أنَّه تغيَّب عن بدرٍ ولم يَشهَدْ؟ قال: نعم. قال: تعلَمُ أنَّه تغيَّبَ عن بيعةِ الرِّضوانِ فلم يشهَدْها؟ قال: نعم. قال: اللهُ أكبَرُ. قال ابنُ عُمَرَ: تعالَ أُبَيِّنْ لك، أمَّا فِرارُه يومَ أحُدٍ فأشهَدُ أنَّ اللهَ عفا عنه وغَفَر له، وأمَّا تغيُّبُه عن بدرٍ فإنَّه كانت تحته بنتُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مريضةً، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ لك أجرَ رَجُلٍ ممَّن شَهِد بدرًا وسَهْمَه. وأمَّا تغَيُّبُه عن بيعةِ الرِّضوانِ، فلو كان أحدٌ أعَزَّ ببَطنِ مكَّةَ من عُثمانَ لبعَثَه مكانَه، فبعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُثمانَ، وكانت بيعةُ الرِّضوانِ بَعدَ ما ذهب عثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه اليُمنى: هذه يدُ عُثمانَ. فضرب بها على يَدِه، فقال: هذه لعُثمانَ. فقال له ابنُ عُمَرَ: اذهَبْ بها الآنَ معك!). ؟! وقد كان غيابُ عُثمانَ في أنبَلِ وأشرَفِ مُهِمَّةٍ، وهي الوَساطةُ للصُّلحِ بَينَ الرَّسولِ وقُرَيشٍ، وأمَّا فِرارُه يومَ أحُدٍ فما كان ليُعَيِّرَه بما عفا اللهُ عنه وهو يتلوه في كُلِّ حينٍ.
ثمَّ يَلمِزُه المُؤَلِّفُ باللَّقَبِ الذي سمَّاه به خُصومُه: نَعْثَل، ويضيفُ هذا اللَّقَبَ إلى المُسلِمين عمومًا، وهو اللَّقَبُ الذي كان يَكرَهُه عُثمانُ ويتبَرَّأُ منه، فقال المؤلِّفُ: (ولقَّبه المُسلِمون نَعثَلًا حين أحدَث الأحداثَ).
وقد افترى عليه فزعم أنَّه عطَّل الحُدودَ واستعمَلَ السُّفَهاءَ من قرابتِه وحَرَق كِتابَ اللهِ، وولَّى الوليدَ بنَ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ -وهو مِن أفسَدِ أهلِ زَمانِه- على الكوفةِ، وارتقى المِنبَرَ في موضِعِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى أن قال: (وتجبَّر وتكَبَّرَ، فقيل: إنَّه كان يمُرُّ بخُيَلائِه وجنودِه على بيتِ عائِشةَ أمِّ المُؤمِنين رَضيَ اللهُ عنها فتُخرِجُ قميصَ رَسولِ اللهِ، فتقولُ: يا عُثمانُ، هذه بُرُدُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم تَبْلُ، وسُنَّتُه قد بَلِيَت، فيقول لها: اسكُتي يا حُمَيراءُ، وإلَّا سلَّطْتُ عليكِ من لا يَرحَمُك)!
وقال عن عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّه (في مَنزِلةِ البراءةِ عِندَ المُسلِمين) [737] يُنظر لمزيد تفصيل: ((كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة)) للإزكوي (ص: 265 – 304). ، وذكَر مَوقِفَ الأمَّةِ تجاهَ قَتْلِه، وأنَّهم انقَسَموا فيه إلى ثلاثِ فِرَقٍ: فِرقةٌ قتَلَتْه، وفِرقةٌ وقَفَت عنه، وفِرقةٌ طالَبَت بدَمِه. ثُمَّ بَيَّنَ مَوقِفَ هذه الفِرَقِ بقَولِه المُفترى: (فالفِرقةُ القاتِلةُ له فعَليُّ بنُ أبي طالبٍ وأصحابُه من أهلِ المدينةِ والمُهاجِرون والأنصارُ). وهذا كلامٌ ظاهِرُ الافتراءِ؛ إذ إنَّ القاتِلين له هم أهلُ الأهواءِ الذين جاؤوا من مِصرَ والعِراقِ واجتَمَعوا في المدينةِ وغَلَبوا أهلَها على أمرِهم وأخافوهم خوفًا شديدًا، وكانت لهم السَّيطرةُ الفِعليَّةُ فيها حتَّى تولَّى الإمامُ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه.
وذكَر أيضًا أنَّ الفِرقةَ الواقِفةَ في شأنِ عُثمانَ هم سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، ومحمَّدُ بنُ مَسْلَمةَ، وأسامةُ بنُ زَيدٍ. والفِرقةُ الطَّالبةُ بدَمِه هم طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ، والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، ومعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ. وبعد هذا البيانِ للأشخاصِ سَمَّى كُلَّ فِرقةٍ باسمٍ مُختَلَقٍ يناسِبُ مُيولَ الخَوارِجِ تجاهَ عُثمانَ فقال: (سُمِّيَت الفِرقةُ الأُولى -وهي القاتِلةُ- أهلَ الاستقامةِ، والفِرقةُ الواقِفةُ الشُّكَّاكَ، والفِرقةُ الطَّالِبةُ بدَمِه العُثمانَيَّةَ) [738] يُنظر: ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 26 – 27). ويُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) للورجلاني (ص: 27- 28). .
وقد جاء في كتابِ عبدِ اللهِ بنِ إباضٍ ذِكْرُ تُهَمٍ كثيرةٍ لعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، ثُمَّ قال بَعْدَها: (فلو أرَدْنا أن نخبِرَك بكثيرٍ من مظالِمِ عُثمانَ لم نُحْصِها إلَّا ما شاء اللهُ، وكُلُّ ما عدَدْتُ لك بعَمَلِ عُثمانَ يَكفُرُ الرَّجُلُ أن يَعمَلَ ببَعضِ هذا، وكان من عَمَلِ عُثمانَ أنَّه لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ، وخالَف سُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخليفتَينِ الصَّالِحينِ أبي بكرٍ وعُمَرَ) [739] يُنظر: ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 289 – 295)، ((الدليل لأهل العقول)) للورجلاني (ص: 27 - 28). . فهل يُتَصَوَّرُ أن يَترُكَ عُثمانُ الحُكمَ بما أنزل اللهُ؟! ولماذا لم يُبَيِّنِ ابنُ إباضٍ بأيِّ قانونٍ حَكَم إن كان ما زعَمَه صحيحًا؟!
والواقِعُ أنَّ مَوقِفَ الخَوارِجِ من عُثمانَ مَوقِفٌ خاطِئٌ؛ فعُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه كان من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلامِ الذين مدَحَهم اللهُ في كتابِه، وأثنى عليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومن الذين جاهَدوا مع رسولِ اللهِ في غَزَواتِه لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، وكان على غايةٍ من الكَرَمِ والإحسانِ، وقد زوَّجه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بابنَتَيه، وأهمُّ مِن هذا كُلِّه فقد شَهِد له الرَّسولُ بالجنَّةِ وبَشَّره بها وهو حَيٌّ يمشي على الأرضِ، وله مناقِبُ عديدةٌ مشهورةٌ، ولا يقَعُ فيه بالذَّمِّ أو التَّنقيصِ إلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَه، وهو أشهَرُ من أن يُمدَحَ.
وأمَّا مَوقِفُ الخَوارِجِ من عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه فهم قد اعترفوا بأنَّه خليفةٌ شَرعيٌّ إلى أن حَكَّم، فلمَّا قَبِلَ التَّحكيمَ خَرَج عن الصِّراطِ المستقيمِ في نَظَرِهم، ولم يَعُدْ خليفةً للمُسلِمين، ولا سَمْعَ ولا طاعةَ له على أحَدٍ؛ لأنَّه حَكَّم البَشَرَ في كتابِ اللهِ، فكَفَر كما زعَموا!
وكما كان عُثمانُ في مَنزِلةِ البراءةِ عِندَهم كان عليٌّ مِثلَه أيضًا في مَنزِلةِ البراءةِ، كما ذَكَر صاحِبُ كتابِ (كَشْف الغُمَّة) تحتَ عُنوان: (فَصلٌ مِن كتابِ (الكفاية) قولَه: (فإنْ قال: ما تقولون في عَليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ قُلْنا له: إنَّ عَلِيًّا مع المُسلِمين في مَنزِلةِ البراءةِ). ثُمَّ ذَكَر الأسبابَ التي توجِبُ البراءةَ منه، وهي تركُه حَربَ مُعاويةَ، والتَّحكيمُ، وقتالُه أهلَ النَّهْرَوانِ.
وزَعَم أنَّ عَلِيًّا رَضيَ اللهُ عنه كان يضَعُ الأحاديثَ لمَصلحتِه، وذلك حين أورد المحاورةَ الآتيةَ بَينَ عَليٍّ وابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وما نَتَج عنها فقال: (ثمَّ إنَّ عَليًّا نَدِم على قَتلِ أهلِ النَّهْرَوانِ، وقال لابنِ عبَّاسٍ: ما صنَعْنا؟ قتَلْنا خيارَنا وقرَّاءَنا، وأظهَرَ للنَّاسِ النَّدامةَ، فأتَوه وقالوا: كأنَّهم يحاجُّونه: أمَرْتَنا بقَتْلِهم ثُمَّ تندَمُ؟ فإنَّك مقتولٌ، ففَزِع من هذا فأخذ في تسكينِ أصحابِه بالكَذِبِ، فقال: لولا أن تنظُروا لأُحَدِّثَكم بما جعل لكم من المَخرَجِ على لسانِ نبيِّه؛ إذ قال: ((سيَخرُجُ مِن بَعدي قومٌ صِعابٌ شَبابُهم قُصارى شأنهم، يَمرُقون من الدِّينِ كمُروقِ السَّهمِ من الرَّميَّةِ)) [740] لم نَقِفْ عليه فيما لدينا من كُتُبٍ مُسنَدةٍ. ؛ فالمؤلِّفُ يَزعُمُ أنَّ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه وضَع هذا الحديثَ إرضاءً للعامَّةِ.
وما جرَّأه على هذا الافتراءِ إلَّا سوءُ مُعتَقَدِه، وعَدَمُ مَعرفتِه بقَدْرِ الصَّحابةِ ووَرَعِهم، فيظُنُّ أنَّهم يتقوَّلون على رسولِ اللهِ لمصلحتِهم الشَّخصيَّةِ، وحاشاهم من ذلك.
ولكِنْ ثَمَّ إمامٌ آخَرُ مِن أئمَّتِهم -هو العيزابيُّ الإباضيُّ- يأتي بحديثِ المُروقِ، فلا يتجاسَرُ على نسبتِه إلى عليٍّ بأنَّه وضَعه، ويرى أنَّ الحديثَ ثابتٌ، ولكِنَّه يَرُدُّ معناه إلى الصُّفْريَّةِ، وأنَّهم هم المَعْنيُّونَ به [741] يُنظر: ((وفاء الضمانة)) (3/23). .
وقال الوَرْجَلانيُّ: (وأمَّا عليٌّ فقد حَكَم بأنَّ من حَكمَ فهو كافِرٌ، ثُمَّ رجع على عَقِبَيه وقال: مَن لم يَرْضَ بالحكومةِ كافِرٌ، فقاتَلَ مَن رَضِيَ الحكومةَ وقَتَله، وقاتَلَ من أنكَرَ الحكومةَ وقَتَله، وقَتَل أربعةَ آلافِ أوَّابٍ من أصحابِه، واعتَذَر، فقال: إخوانُنا بَغَوا علينا فقاتَلْناهم؛ فقد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ فيمن قَتَل مُؤمِنًا واحِدًا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إلى قَولِه: عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] ، فحَرَمه اللهُ مِن سُوِء بَختِه الحَرَمينِ، وعوَّضه دارَ الفِتنةِ العِراقَينِ، فسَلِمَ أهلُ الشِّرْكِ من بأسِه، وتوَرَّط في أهلِ الإسلامِ بنَفسِه) [742] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 28). !
وقد اشتَهَر عن الخَوارِجِ تكفيرُهم لعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وأنَّهم مُجمِعون على كُفرِه هو وعُثمانَ، وطَلحةَ والزُّبَيرِ وعائشةَ، ومُعاويةَ وعَمرِو بنِ العاصِ وأهلِ التَّحكيمِ [743] يُنظر: ((رسالة الدبسي)) للدبسي (ص: 13). ويُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/204)، ((التنبيه والرد)) للملطي (ص: 53)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 73)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/115). !
بل لقد بلغت الجُرأةُ بحَفصِ بنِ أبي المِقدامِ زَعيمِ الحفصيَّةِ من الإباضيَّةِ أن يُحَرِّفَ آياتِ القرآنِ بما يتَّفِقُ مع بُغضِهم لعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه وما يُلصِقونه به من تُهَمٍ، فزعم في قولِ اللهِ تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام: 71] أنَّ الحيرانَ هو عَليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأنَّ الأصحابَ الذين يَدْعون إلى الهدى هم أهلُ النَّهْرَوانِ! وقد قال بقولِ نافِعٍ في زَعمِه أنَّ الآيةَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة: 204] ، والآيةَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207] أنَّهما نزَلَتا في عَليٍّ وابنِ مُلْجَمٍ [744] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/183- 184)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 104). !
ومع هذا فثَمَّةَ فَريقٌ من الخَوارِجِ اعتَدَلوا في حَقِّ الإمامِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ فقد بَيَّنَ المَغربيُّ الإباضيُّ أنَّ الصُّفْريَّةَ من الخَوارِجِ هم الذين يَحكُمون بشِرْكِه؛ لقَتْلِه أهلَ النَّهرِ بخِلافِ الإباضيَّةِ [745] ((وفاء الضمانة بأداء الأمانة)) (3/22). .
وقد أورد علي يحيى مَعمَر فصلًا طويلًا بَيَّنَ فيه اعتقادَ الإباضيَّةِ في الصَّحابةِ بأنَّهم يَقدُرونَهم حقَّ قَدْرِهم، ويَترَضَّون عنهم، ويَرَونَ السُّكوتَ عمَّا جرى بَينَهم، وأنَّهم لا يُبغِضون عَليًّا ولا يُنقِصونه قَدْرَه، ومن هذه النُّقولِ ما قاله عن أبي إسحاقَ أَطَّفَيِّشَ في رَدِّه على محمَّدِ بنِ عَقيلٍ العَلَويِّ، أنَّه قال له: (أمَّا ما زَعَمْتَ مِن شَتمِ أهلِ الاستقامةِ -يعني الإباضيَّةَ- لأبي الحَسَنِ عليٍّ وأبنائِه، فمَحضُ اختِلاقٍ) [746] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 283). .
ثمَّ قال: (ولم يكُنْ يومًا من الأصحابِ شَتمٌ له أو طَعنٌ، اللَّهُمَّ إلَّا مِن بُغضِ الغُلاةِ، وهم أفذاذٌ لا يخلو منهم وَسَطٌ ولا شعْبٌ) [747] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 286). .
وقال عن الثَّعاريتيِّ أنَّه كان يقولُ: (وكيف يجوزُ لِمن يُؤمِنُ بالحَيِّ الذي لا ينامُ أن يُكَفِّرَ صِهرَ نبيِّه عليه السَّلامُ الذي لم يَسجُدْ قَطُّ للأصنامِ) [748] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 289). ؟
وقد وردَت عن الإباضيَّةِ أقوالٌ كثيرةٌ في مَدحِ الصَّحابةِ عُمومًا، وأنَّهم لا يختَلِفون في موالاتِهم، ولكنَّهم يَرَون أنَّه (لا غُبارَ على من صَرَّح بخَطَأِ المُخطِئِ منهم بدونِ الشَّتمِ والثَّلبِ بَعدَ التَّثبُّتِ من ذلك والتَّبيُّنِ، وإن أمسَكَ لعُمومِ الأحاديثِ الواردةِ فيهم وتَرَك الأمرَ إلى اللهِ فهو مُحسِنٌ) [749] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 283). كما قاله أبو إسحاقَ أَطَّفَيِّشُ.
ولعلَّ كَلِمةَ أبي إسحاقَ هذه تصلُحُ عُذرًا عن الإباضيَّةِ بأنَّ المُبغِضين لعَليٍّ منهم إنَّما هم الغُلاةُ منهم، وأمَّا أكثَريَّتُهم فتقولُ بموالاتِه، ويكونُ اعتبارُ المُبغِضين له شواذَّ.
أمَّا الشَّخصيَّةُ الهامَّةُ في الخَوارِجِ فهو نافِعُ بن الأزرَقِ، فإنَّه لم يختَلِفْ عن بقيَّةِ الخَوارِجِ في غُلُوِّه في بُغضِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ حيثُ زعم أنَّ اللهَ تعالى أنزل فيه آيةً تُتْلى إلى يومِ القيامةِ تَصِفُه بأقبَحِ الصِّفاتِ من نفاقٍ وعداوةٍ للإسلامِ، حينَ زَعَم أنَّ اللهَ تعالى أنزل في شأنِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204] ، وفي المقابِلِ أشقى خَلقِ اللهِ يَصِفُه بأنَّ اللهَ أنزل فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207] [750] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/170)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/120). ، وهذا لا يَشُكُّ مُسلِمٌ أنَّه مَحْضُ افتراءٍ على اللهِ لا يُصَدِّقُه عاقِلٌ!
لكِنَّهم كانوا في غايةِ البُغضِ لعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، كما قال عِمرانُ بنُ حِطَّانَ -مُفتِيهم وشاعِرُهم الأكبَرُ- في ابنِ مُلْجَمٍ:
يا ضَربةً مِن تَقيٍّ ما أراد بها
إلَّا ليبلُغَ من ذي العَرْشِ رِضوانَا
إنِّي لأذكُرُه يومًا فأحْسَبُه
أوفى البريَّةِ عِندَ اللهِ مِيزانَا
ومِثلُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ في عداوتِه وشِدَّةِ بُغضِه لعَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه: صالحُ بنُ مُسَرَّحٍ؛ فقد جاء في كتابِه قَولُه مُبَيِّنًا رأيَه في عُثمانَ وعَليٍّ معًا رَضيَ اللهُ عنهما: (وَلِيَ المُسلِمين مِن بَعدِه -يعني بَعدَ عُمَرَ- عُثمانُ، فاستأثَرَ بالفَيءِ، وعَطَّل الحدودَ، وجار في الحُكمِ، واستذَلَّ المُؤمِنَ وعَزَّز المجرِمَ، فثار إليه المُسلِمون فقَتَلوه، فبرئ اللهُ منه ورسولُه وصالحُ المُؤمِنين، ووَلِيَ أمرَ النَّاسِ مِن بَعدِه عَليُّ بنُ أبي طالبٍ فلم يَنشَبْ أن حكَّمَ في أمرِ اللهِ الرِّجالَ، وشَكَّ في أهلِ الضَّلالِ، وركَنَ وادَّهَن، فنَحن من عَليٍّ وأشياعِه بُراءٌ) [751] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/217). !
وما قيلَ فيه مِن ذَمٍّ فإنَّها مزاعِمُ مُفتراةٌ عليه، وهي مَحْضُ أكاذيبَ مُختَلقةٌ لا ينبغي لعاقِلٍ أن يُصَدِّقَها أو يهتَمَّ برَدِّها، فما الظَّنُّ بابنِ عَمِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصِهْرِه، ومَن تَرَبَّى على يَدَيه وفي بيتِ النُّبُوَّةِ، ومن شَهِد مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَشاهِدَه، واشتَهَر فيها بأنَّه الشُّجاعُ المِقْدامُ؟!
لقد أسلم رَضيَ اللهُ عنه مُبكِّرًا فلم تلحَقْه تلك الاعتقاداتُ الجاهليَّةُ، وقد زَوَّجه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابنَتَه فاطِمةَ أمَّ الحَسَنِ والحُسَينِ رَضيَ اللهُ عنهما، وبَشَّره رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ، وما نُسِب إليه من رِضاه بقَتلِ عُثمانَ، أو ادِّهانِه في تحكيمِ كِتابِ اللهِ، فهذا كَذِبٌ مَحضٌ وافتراءٌ من حاقِدٍ جاهِلٍ، وهو بَريءٌ من هذه الأكاذيبِ، ولو رجع هؤلاء لعُقولِهم وحكَّموها لكانت رادِعةً لهم عن تنقُّصِه، زاجِرةً لهم عن شَتمِه، فضلًا عن رجوعِهم إلى النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ.

انظر أيضا: