موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: مَوقِفُ الخَوارِجِ من أهلِ الذِّمَّةِ


من غَريبِ أمرِ الخَوارِجِ أنَّ تلك الشِّدَّةِ التي اتَّصَفوا بها وتلك الاستهانةَ المتناهيةَ بسَفكِ الدِّماءِ، إنَّما كانت على من يخالِفُهم ممَّن قال: إنَّه مُسلِمٌ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فكانوا يُقاتلِون المُسلِمين ليَنشُروا الإسلامَ بزَعْمِهم! وفي مقابلِ ذلك جاءت معاملتُهم لأهلِ الذِّمَّةِ على النَّقيضِ من معاملتِهم للمُسلِمين، بكُلِّ لينٍ ومسامحةٍ، عدا النَّجَداتِ فقد خالفوا عامَّةَ الخَوارِجِ فساوَوا بَينَ أهلِ الذِّمَّةِ وبَينَ مُخالِفيهم من المُسلِمين في إهدارِ دِمائِهم.
والشَّواهِدُ على حُسنِ تعامُلِ عامَّةِ الخَوارِجِ مع الكُفَّارِ الأصليِّينَ كثيرةٌ في كتُبِ الفِرَقِ والمؤَرِّخين، ومن ذلك قِصَّةُ زاذانَ فَرُّوخ الذي جاء ذِكْرُه في كتابِ أحَدِ عُمَّالِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه حينما خرج الخِرِّيتُ بنُ راشِدٍ عن طاعةِ عَليٍّ، وأعلن الحربَ عليه، ففي أثناءِ سيرِهم وجَدوا هذا الرَّجُلَ فعَرَضوا له يسألونَه: أمُسلِمٌ أنت أم كافِرٌ؟ فقال: بل أنا مُسلِمٌ، فسألوه عن عليٍّ، فأجابهم بالحَقِّ، فقالوا له: كفَرْتَ يا عَدُوَّ اللهِ، ثُمَّ حمَلوا عليه فقَطَّعوه قِطَعًا وأشلاءً مُتناثِرةً، ثُمَّ أضاف الطَّبَريُّ قائِلًا: (ووجَدوا معه رجلًا من أهلِ الذِّمَّةِ، فقالوا: ما أنت؟ قال: رجُلٌ من أهلِ الذِّمَّةِ، قالوا: أمَّا هذا فلا سبيلَ عليه) [837] ((تاريخ الرسل والملوك)) (5/117). !
وحينَ بَلَغ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه هذا المَوقِفُ الخاطِئُ منهم أجاب عن كتابِ عامِلِه بجوابٍ جاء فيه: (أمَّا بَعدُ، فقد فَهِمتُ ما ذكَرْتَ من العصابةِ التي مرَّت بك فقتَلَتِ البَرَّ المُسلِمَ وأَمِنَ عِندَهم المُخالِفُ الكافِرُ، وإنَّ أولئك قومٌ استهواهم الشَّيطانُ فضَلُّوا، وكانوا كالذين حَسِبوا ألَّا تكونَ فِتنةٌ فَعَمُوا وصَمُوا؛ فأسمِعْ بِهِم وأبصِرْ يومَ تُخبَرُ أعمالُهم) [838] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/117). .
بل إنَّهم كانوا إذا وَجَدوا غيرَ مُسلِمٍ يتواصَون به خيرًا، كما حدث في أثناءِ خُروجِهم إلى النَّهْرَوانِ؛ فقد (لَقُوا مُسلِمًا ونَصرانيًّا فقَتَلوا المُسلِمَ، وأوصَوا بالنَّصْرانيِّ خيرًا، وقالوا: احفَظوا ذِمَّةَ نبيِّكم) [839] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/390). !!
وقد استراب مِن مَوقِفِهم هذا حتَّى من لا يَدينُ بالإسلامِ من النَّصارى وغيرِهم؛ فقد حدَث أثناءَ سَيرِهم إلى النَّهْرَوانِ أنْ مَرُّوا بنَخلٍ فساموا رجُلًا نصرانيًّا جنى نخلَتِه فوهَبَها لهم، ولكِنَّهم استَعْفَوا عن أكلِها بالمجَّانِ، وقالوا: ما كُنَّا نأخُذُها إلَّا بثَمَنٍ، فتعَجَّبَ النَّصرانيُّ وقال لهم: (ما أعجَبَ هذا! أتقتُلون مِثلَ عَبدِ اللهِ بنِ خَبَّابٍ ولا تَقبَلون منِّي جَنى نخلةٍ إلَّا بثَمَنٍ؟!) [840] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/391).
وذكَر ابنُ الأثيرِ من أعاجيبِهم أنَّهم ساروا (حتى نزلوا تحتَ نَخلٍ مواقيرَ فسَقَطَت منه رُطَبةٌ فأخَذَها أحَدُهم فتركَها في فيه، فقال آخَرُ: أخذْتَها بغيرِ حِلِّها وبغيرِ ثمَنٍ؟ فألقاها، ثُمَّ مَرَّ بهم خِنزيرٌ لأهلِ الذِّمَّةِ، فضَرَبه أحَدُهم بسَيفِه، فقالوا: هذا فسادٌ في الأرضِ، فلَقِيَ صاحِبَ الخِنزيرِ فأرضاه) [841] ((الكامل)) (3/342). !
وقد حدَث هذا وعبدُ اللهِ بنُ خَبَّابٍ يَنظُرُ إليهم، فلمَّا شاهد فِعْلَهم ظَنَّ أنَّ وراءَه دِينًا وعقلًا؛ فطَمِع في العَفوِ عنه وإطلاقِه من قبضتِهم؛ لأنَّهم اعتَبَروا قَتْلَ الخنزيرِ من الفسادِ في الأرضِ، فما الظَّنُّ بقَتلِ ابنِ صاحِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! ولكِنَّهم كانوا على عَكسِ ما رأى منهم وأَمَلَ؛ فقد ذَبحوه ولم يَندَموا على قَتلِه كما نَدِموا على قَتلِ الخِنزيرِ! وكان الأَولى بهم أن يَندَموا على قَتلِ النَّفسِ المحَرَّمةِ، ولكِنَّه الجَهلُ واتِّباعُ الهوى!
وقد كان الاتِّصافُ باليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ من الأمورِ المُنجِيةِ مِن قَتْلِهم! فمن قال: إنَّه يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو على أيِّ دينٍ كان، أمِنَ عِندَهم، غيرَ مُدَّعي الإسلامِ؛ فمِمَّا يُذكَرُ مِن حِيَلِ النَّاسِ في النَّجاةِ من قَبضتِهم ما رواه الأصمعيُّ عن عيسى بنِ عُمَرَ أنَّ ابنَ عِرباضٍ كان يمشي فاستقبَلَتْه الخَوارِجُ يَجُزُّون النَّاسَ بسُيوفِهم، فقال لهم: هل خَرَج إليكم في اليهودِ شَيءٌ؟ قالوا: لا، قال: فامضوا راشِدين، فمَضَوا وتَرَكوه [842] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/464). !
ووَصَف المُبَرِّدُ بَعضَ تلك المواقفِ الخاطِئةِ بما حكاه عن واصِلِ بنِ عَطاءٍ حينَما كان هو ورِفقتُه سائِرين فاجتازوا بالخَوارِجِ؛ قال المُبَرِّدُ: (حُدِّثتُ أنَّ واصِلَ بنَ عَطاءٍ أبا حُذَيفةَ أقبل في رِفقةٍ فأحسُّوا الخَوارِجَ، فقال واصِلٌ لأهلِ الرِّفقةِ: إنَّ هذا ليس من شأنِكم، فاعتَزِلوا ودعوني وإيَّاهم، وكانوا قد أشرَفوا على العَطَبِ، فقالوا: شأنُك، فخَرَج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابُك؟ قال: مُشرِكون مُستَجيرون لِيَسمَعوا كلامَ اللهِ ويَعرِفوا حُدودَه، فقالوا: قد أجَرْناكم، قال: فامْضوا مصاحِبينَ، فإنَّكم إخوانُنا، قال: ليس ذلك لكم، قال اللهُ تبارك وتعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ [التوبة: 6] فأبلِغونا مأمَنَنا، فنَظَر بَعضُهم إلى بعضٍ، ثُمَّ قالوا: ذلك لكم، وصاروا بأجمَعِهم حتَّى بَلَّغوهم المأمَنَ) [843] يُنظر: ((الكامل)) (2/106). ويُنظر: ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص: 122). !

انظر أيضا: