موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ السَّابعُ والثَّلاثون: أَبُو عَلِي الفَارِسِيُّ (ت: 377 هـ)


أَبُو عَلِي الحَسَنُ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ الغَفَّارِ الفَارِسِيُّ، الفَسَوِيُّ، اللُّغَويُّ، المُقْرِئُ، إِمَامُ النَّحْوِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
مَوْلِدُه:
وُلِد سَنةَ ثمانٍ وثَمانينَ ومائَتَينِ.
مِن مَشَايِخِه:
أَخذ عَن الزَّجَّاجِ، وابنِ السَّرَّاجِ، ومَبْرَمَان، وعَلِيِّ بنِ الحُسَينِ بنِ مَعْدانَ.
ومِن تَلَامِذَتِه:
عُبَيْدُ اللهِ الأَزْهَرِيُّ، وأَبُو القَاسِمِ التَّنُوخِي، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الجَوْهَرِيُّ، وأَبُو الفَتْحِ بنُ جِنِّي، وعَلِي بن عِيسَى الرَّبَعِي.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ إِمَام وَقْتِه في عِلْمِ النَّحْو، ووَاحِدَ زَمَانِه في عِلْم العَرَبيَّة، وكان مُتَّهَمًا بالاعتزالِ، لكِنَّه صَدُوقٌ في نَفْسِه.
وهو فَارِسِيُّ الأَصْل وُلِد بفَسَا -من أعْمَال فَارِس-، قَدِم بَغْدَاد وسَكَنَها، وتَجَوَّل في كَثِير مِن البُلْدَانِ، ودَخَل الشَّامَ وأَقَام بِطَرَابْلُس ثم بحَلَب، فَأَقَام مُدَّةً عند سَيْف الدَّوْلة ثم عَاد إلى بَغْدَاد، فَصَحِب عَضُدَ الدَّوْلَةِ بن بُوَيْهِ -الشِّيعي-، وتَقَدَّم عنده، فَعَلَّمَه النَّحْوَ، وصَنَّف له كتابَ: ((الإيضاح)) في قواعد العَرَبيَّة، وكان عَضُدُ الدَّوْلَة يقول: (أنا غُلَامُ أبي عَلِي الفَسَوِي في النَّحْوِ).
وقد صَنَّف أبو عَلِي الفَارِسِي كُتُبًا عَجِيبةً حَسَنَةً لم يُسْبَقْ إلى مِثْلِها، واشتَهَر ذِكْرُه في الآفَاقِ، وعَلَت مَنْزِلَتُه في النَّحْوِ حتى قال كَثِيرٌ مِن تَلَامِذَتِه عنه: (إِنه أَعْلَمُ مِن المُبَرِّد).
عقيدتُه:
قال القِفْطي: ((كان مُتَّهَمًا بالاعتِزالِ)) [377] ينظر: ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقفطي (1/ 309). ، وقال الذَّهبيُّ: ((كَانَ فِيْهِ اعتزَالٌ)) [378] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (16/ 380). .
وقال ابنُ القَيِّمِ في الرَّدِّ على ابنِ جِنِّي تلميذِ أبي عليٍّ: ((والكلامُ عليه من وُجوهٍ: أحَدُها: أن تَعلَمَ أنَّ هذا الرَّجُلَ وشَيْخَه أبا عَلِيٍّ مِن كبارِ أهلِ البِدَعِ والاعتِزالِ المُنكِرينَ لكَلامِ اللهِ تعالى وتكليمِه، فلا يُكَلِّمُ أحدًا البتَّةَ، ولا يحاسِبُ عبادَه يومَ القيامةِ بنَفْسِه وكلامِه، وأنَّ القُرآنَ والكُتُبَ السَّماويَّةَ مخلوقٌ مِن بَعْضِ مخلوقاتِه، وليس له صِفةٌ تقومُ له؛ فلا عِلْمَ له عِنْدَهم ولا قُدْرةَ ولا حياةَ ولا إرادةَ ولا سَمْعَ ولا بَصَرَ! وأنَّه لا يَقدِرُ على خَلْقِ أفعالِ العِبادِ، وأنَّها واقِعةٌ منهم بغَيرِ اختيارِه ومشيئَتِه! وأنَّه شاء منهم خِلافَها، وشاؤُوا هم خِلافَ ما شاء، فغَلَبَت مشيئتُهم، وكان ما شاؤوه هم دون ما شاءَ هو، فيكونُ ما لا يشاءُ، ويشاءُ ما لا يكونُ! وهو خالِقٌ عند هذا الضَّالِّ المُضِلِّ وعالِمٌ مجازًا لا حقيقةً! والمجازُ يَصِحُّ نَفْيُه، فهو إذَن عِندَه لا خالِقٌ ولا عالمٌ إلَّا على وَجْهِ المجازِ!)) [379] ينظر: ((مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 340). .
وفي كُتُبِه ما يدُلُّ على ذلك؛ فمنها قَولُه الذي ينفي أن يكونَ اللهُ تعالى خالِقًا لأفعالِ العِبادِ، وذلك في إعرابِ قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد: 27] : قال: ((فقَولُه: وَرَهْبَانِيَّةً محمولٌ على فِعلٍ، كأنَّه قال: «وابتَدَعوا رهبانيَّةً ابتَدَعوها». ألا ترى أنَّ الرَّهبانيَّةَ لا يستقيمُ حَمْلُها على «جعَلْنا» مع وَصْفِها بقَولِه: ابتَدَعوها؛ لأنَّ ما يجعَلُه هو تعالى لا يَبْتَدِعونَه هم)) [380] ينظر: ((الإيضاح العضدي)) لأبي علي الفارسي (ص: 31). .
وقال أيضًا في تفسيرِ قَولِه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] : ((يريد: بل نِعْمتاه، وليس هذه النِّعَمِ بنِعمَتَينِ اثنَتَينِ، إنما يرادُ نِعَمُ الدُّنيا ونِعَمُ الآخِرةِ!)) [381] ينظر: ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/ 209). .
وتَتجلَّى اعتزاليَّتُه في رَدِّه على الزَّجَّاجِ في تفسيرِ قولِه تعالى: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ؛ قال الزَّجَّاجُ: (وقال قومٌ: معنى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ: أَرِني أمرًا عظيمًا لا يُرَى مِثْلُه في الدُّنيا ممَّا لا تَحتمِلُه بِنيةُ مُوسى، قالوا: فأعْلَمَه أنَّه لن يَرى ذلك الأمْرَ، وأنَّ معنى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ: تَجلَّى أمْرُ رَبِّه، وهذا خطأٌ لا يَعرِفُه أهلُ اللُّغةِ، ولا في الكلامِ دَليلٌ أنَّ مُوسى أرادَ أنْ يَرى أمرًا عظيمًا مِن أمْرِ اللهِ، وقد أراهُ اللهُ مِن الآياتِ في نفسِه ما لا غايةَ بَعْدَه؛ قدْ أراهُ عَصاهُ ثُعبانًا مُبينًا، وأراهُ يَدَه تَخرُجُ بَيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ، وكان آدَمَ، وفَرَق البحْرَ بعَصاهُ، فأراهُ مِن الآياتِ العِظامِ ما يُسْتغنى به عن أنْ يَطلُبَ أمرًا مِن أمرِ اللهِ عظيمًا، ولكنْ لَمَّا سَمِعَ كلامَ اللهِ قال: ربِّ أَرِني أنْظُرُ إليك، سَمِعتُ كلامَك فأنا أُحِبُّ أنْ أراكَ، فأعْلَمَه اللهُ جلَّ ثناؤُه أَنَّه لن يَراهُ) [382] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/374). .
قال أبو عَليٍّ الفارسيُّ: (أقولُ: إنَّ ما ذَهَب إليه مِن تَخطئةِ مَن قال: إنَّ معنى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ: تجلَّى أمرُ ربِّه للجبَلِ، وأنَّ ذلك لا يَعرِفُه أهلُ اللُّغةِ فاسدٌ، وفُشُوُّ هذا في اللُّغةِ وكَثرتُه واشتهارُه فيها أظْهَرُ وأوضَحُ مِن أنْ يَخفى على المبتدئينَ بالنَّظرِ في اللُّغةِ، فضلًا عن المتوسِّطينَ ومَن جاوَزَهم، وفي التَّنزيلِ مِن هذا ما لا يَكادُ يُضبَطُ كَثرةً. وما أرى هذا الَّذي قاله في هذا إلَّا تَحاملًا، ودافعُ هذا في اللُّغةِ كَدافعِ الضَّرُوراتِ وجاحدِ المحسوساتِ في غيرِ اللُّغةِ ... فأمَّا دَفْعُه أنْ يَسأَلَ مُوسى أمرًا عظيمًا لِما آتاهُ مِن الآياتِ العظيمةِ، فإنَّ ذلك لا يُنكَرُ لمُوسى أنْ يَطلُبَه، وإنْ كان اللهُ قد آتاهُ مِن الآياتِ آياتٍ باهرةً؛ لأنَّهم كانوا يَقترِحون عليه الآياتِ مع هذه الآياتِ التي أُوتِيها ويَسْألونه إيَّاها...) [383] ينظر: ((الإغفال)) لأبي علي الفارسي (2/276). .
وقال يُنكِرُ حُجِّيَّةَ أخبارِ الآحادِ: ((ومَن صاغ عِجْلًا أو نَجَرَه أو عَمِلَه بضَرْبٍ مِنَ الأعمالِ، لم يَستحِقَّ الغَضَبَ من اللهِ والوعيدَ عند المُسلِمين، فإذا كان كذلك عُلِمَ أنَّه على ما وَصْفنا من إرادةِ المفعولِ الثاني المحذوفِ في هذه الآيِ.
فإن قال قائِلٌ: فقد جاء في الحَديثِ: «يعذَّب المُصَوِّرُون يومَ القيامةِ» وفي بَعْضِ الحديثِ: «فيُقالُ لهم: أحْيُوا ما خَلَقْتُم » [384] أخرجه البخاري (5951)، ومسلم (2108)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. . قيل: «يُعَذَّبُ المصَوَّرون» يكونُ على مَن صَوَّر اللهَ تصويرَ الأجسامِ، وأمَّا الزِّيادةُ فمِن أخبارِ الآحادِ التي لا تُوجِبُ العِلْمَ، فلا يقدَحُ لذلك في الإجماعِ على ما ذكَرْنا))
[385] ينظر: ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (2/ 70). .
وقال أبو عَلِي الفَارِسِي: (ما أَعْلَم أنَّ لِي شِعْرًا؛ إلَّا ثلاثةَ أبْيَاتٍ في الشَّيْبِ، هي:
خَضَبْتُ الشَّيْبَ لَمَّا كَانَ عَيْبًا
وَخَضْبُ الشَّيْبِ أَوْلَى أَنْ يُعَابَا
وَلَمْ أَخْضِبْ مَخَافَةَ هَجْرِ خِلٍّ
وَلا عَيْبًا خَشِيتُ وَلا عِتَابَا
وَلَكِنَّ المشِيبَ بَدَا ذَمِيمًا
فَصَيَّرْتُ الخِضَابَ لَهُ عِقَابَا) [386] ينظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/81)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص: 109).
مُصَنَّفَاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((الحُجَّة)) في عِلَل القِرَاءات، وكتاب: ((الإِيضَاحِ))، وكتاب: ((التَّكْمِلَة))، وكتاب: ((التَّذكِرة)) -وهو كتابٌ عزيزٌ كبيرُ الفائدةِ، تَكَلَّم فيه عَلَى مَعَانِي آيَاتٍ مِنَ القُرآنِ والأحاديث، ومعاني أبياتٍ مِن أشعارِ العَرَب، ومسائِلَ في النَّحْو والتصريفِ-.
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ سَبعٍ وسَبعينَ وثلاثِ مِائة [387] يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (8/ 217)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 232)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (2/ 811)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/ 80)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (16/ 379)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 429)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 108)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (3/ 26)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 496)، ((الأعلام)) للزركلي (2/ 179). .

انظر أيضا: