موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الرَّابعُ: أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ (ت: 311 هـ)


أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ السَّرِيِّ الزَّجَّاج، البَغْدَادِيُّ، نَحْوِيُّ زَمَانِه.
مِن مَشَايِخِه:
المُبَرِّد، وثَعْلَب.
ومِن تَلَامِذَتِه:
أبُو عَلِي الفَارِسِي، وأبُو القَاسِم عبد الرَّحمن الزَّجَّاجِي -نُسِبَ إلى الزَّجَّاجُ؛ لِأَخْذِهِ عَنْهُ، وَهُوَ صَاحِبُ كتاب: ((الجُمَل)) فِي النَّحْوِ.
سَبَب تَسْمِيَتِه بالزَّجَّاج:
سُمِّي بذلك؛ لأنَّه كان في أَوَّلِ أَمْرِه يَخْرُط الزُّجَاج، ثم تَرَكَه واشْتَغَل بالأَدَب، فَنُسِبَ إليه.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاج مِن أَهْل الفَضْل والدِّين، فاضلًا دَيِّنًا، عالِمًا بالنَّحْوِ واللُّغَة، له المُصَنَّفَاتُ الحَسَنَةُ.
وقد وُلِد ومات في بَغْدَاد، وكان في أَوَّل أَمْرِه يَخْرُطُ الزُّجَاجَ، ثم أَحَبَّ عِلْمَ النَّحْو، فَذَهَب إِلى المُبَرِّد، فكان يُعْطِي المُبَرِّد كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، ثم اسْتَغْنَى الزَّجَّاج وكَثُرَ مَالُهُ، وَلَمْ يَقْطَعْ عن المُبَرِّدِ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ حتى مَاتَ المُبَرِّد.
وكان الزَّجَّاج مُؤَدِّبًا لِلقَاسِم بن عُبَيْد الله، فلما وَلِيَ الوَزارَة كان النَّاسُ يَأْتُونَه بِالرِّقَاع لِيُقَدِّمَها إلى الوَزِيرِ، فَحَصَل له بِسَبَب ذلك ما يَزِيد على أَرْبَعِينَ ألفَ دِينَارٍ.
وكان عَزِيزًا عَلَى المُعْتَضِد؛ له رِزْقٌ في الفُقَهَاء، ورِزقٌ في العُلَمَاءِ، ورِزقٌ في النُّدمَاءِ، نَحْو ثَلاثِ مِائة دِينَارٍ.
وكان لِلزَّجَّاج مَنْزِلَةٌ كَبِيرَة عِنْد المُبَرِّد:
فقد كان أصْحَابُ المُبَرِّدِ إذا اجْتَمَعوا واسْتَأْذَنوا، يَخُرُج الآذِن فيقول: (إن كان فيكم أبو إسْحَاقَ الزَّجَّاجُ، وإلا انْصَرِفُوا، فَحَضَرُوا مَرَّة ولم يَكُن الزَّجَّاجُ معهم، فقال لهم ذلك، فَانْصَرَفُوا، وثَبَت رَجُلٌ منهم يُقَال له: عُثْمَان، فقال للآذِن: قُل لأبي العَبَّاس -يعني المُبَرِّد-: انْصَرَف القَوْم كُلُّهُم إلَّا عُثُمَان فإنه لم يَنْصَرِفْ! فَعَاد إليه الآذِن وأخبره، فقال: قُل له: إن عُثْمَان إذا كان نَكِرَةً انْصَرَف، ونحن لا نَعْرِفُك؛ فَانْصَرِفْ رَاشِدًا!).
عَقيدتُه:
قال الخَطيبُ البَغْداديُّ: (كان مِن أهلِ الفَضْلِ والدِّينِ، حَسَنَ الاعتِقادِ، جَميلَ المذهَبِ) [262] ينظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/ 613). .
وقال أبو المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيُّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، وسِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، والزَّجَّاجِ، والمُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، وابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، وابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ: الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، وأبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ والبِدعةِ) [263] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
والمُطَّلعُ على كُتبِه يَجِدُ أنَّه في الغالبِ كان على اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ، إلَّا أنَّه تأوَّلَ بعضَ الصِّفاتِ، منها:
قولُه: (العليُّ هُوَ فعيلٌ فِي معنى فَاعلٍ، فاللهُ تعالَى عَالٍ على خَلقِه، وهوَ عَليٌّ عليْهِم بقُدرتِه، ولا يَجِبُ أنْ يُذهَبَ بالعُلوِّ ارتفاع مَكانٍ؛ إذ قد بَيَّنَّا أنَّ ذلك لا يجوزُ في صِفاتِه تَقدَّسَت، ولا يجوزُ أن يكونَ على أنْ يُتَصَوَّرَ بذِهنٍ أو يَتجلَّى لطَرْفٍ، تعالَى عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا) [264] ينظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 48). .
وقولُه أيضًا: (والمحبةُ على ضُروبٍ؛ فالمحبَّةُ مِن جِهةٍ: الملاذُّ في المَطْعَمِ والمَشْرَبِ والنِّساءِ، والمحبةُ مِن اللهِ لخَلقِه عفْوُه عنهم وإنعامُه عليهم برَحمتِه ومَغفرتِه وحُسنُ الثَّناءِ عليهم، ومحبَّةُ الإنسانِ للهِ ولرَسولِه طاعتُهُ لهما ورِضاهُ بما أمَرَ اللهُ به وأتى به رسولُه صلى الله عليه وسلم) [265] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/ 397). .
في حِينَ أنَّه وافَقَ مَذهبَ السَّلفِ في أكثرِ الصِّفاتِ والأخبارِ، منها قولُه: (قال بَعْضُهم: معنى يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] نِعْمَتُه مَقبوضةٌ عنَّا، وهذا القَولُ خَطَأٌ يَنقُضُه: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] فيكونُ المعنى: بل نِعْمَتاه مَبسوطتانِ! نِعَمُ اللهِ أكثَرُ مِن أنْ تُحصى!) [266] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/ 189). .
وقال أيضًا: (وقولُه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] : لا يَنْبغي أن يَدْعُوَه أحدٌ بما لم يَصِفْ نفْسَه به، أو لم يُسَمِّ به نَفْسَه؛ فيقولَ في الدُّعاءِ: يا اللهُ يَا رَحْمَنُ يَا جَوَادُ، ولا يَنْبغي أن يقولَ: يا سُبحانَ؛ لأنَّه لم يَصِفْ نفْسَه بهذه اللَّفظةِ، وتقولُ: يا رحيمُ، ولا يقولُ: يا رفيقُ، وتقولُ: يا قويُّ، ولا تقولُ: يا جَلْدُ) [267] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/ 392). .
وقال في تفسيرِ قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]: (نَضُرَت بنَعيمِ الجنَّةِ والنَّظَرِ إلى رَبِّها) [268] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 253).
وقال أيضًا: (اختَلَف النَّاسُ في ذِكْرِ الميزانِ في القيامةِ، وجاء في بَعْضِ التَّفسيرِ أنَّه مِيزانٌ له كِفَّتانِ، وأنَّ الميزانَ أُنزِلَ إلى الدُّنيا لِيَتعامَلَ النَّاسُ بالعَدْلِ، وتُوزَنُ به الأعمالُ، وقال بعضُهم: الميزانُ: العَدْلُ، وذهَبَ إلى قَولِك: هذا في وَزنِ هذا، وإنْ لم يكُنْ ممَّا يُوزَنُ، وتأويلُه أنَّه قد قام في النَّفْسِ مُساويًا لغَيرِه كما يقومُ الوَزْنُ في مَرآةِ العَينِ.
وقال بَعْضُهم: الميزانُ: الكِتابُ الذي فيه أعمالُ الخَلْقِ، وهذا كُلُّه في بابِ اللُّغةِ والاحتِجاجِ سائِغٌ، إلَّا أنَّ الأَولى من هذا أن يُتَّبَعَ ما جاء بالأسانيدِ الصِّحاحِ؛ فإنْ جاء في الخَبَرِ أنَّه مِيزانٌ له كِفَّتانِ مِن حيثُ يَنقُلُ أهلُ الثِّقةِ، فيَنْبغي أن يُقبَلَ ذلك) [269] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/ 319). .
وقال مُثبتًا القَدَرَ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]: أي كلُّ ما خلَقْنا فمَقدورٌ مَكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ قبْلَ وُقوعِه، ونُصِبَ "كُلَّ شَيْءٍ" بفِعلٍ مُضمَرٍ، المعنى: إنَّا خلَقْنا كلَّ شَيءٍ خلَقْناهُ بِقَدَرٍ. ويدُلُّ على هذا وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 52، 53] (مُسْتَطَرٌ): مَفعولٌ مِن السَّطرِ، المعنى: كلُّ صَغِيرٍ مِن الذُّنوبِ وكبيرٍ مُستطَرٌ مَكتوبٌ على فاعلِيه قبْلَ أن يَفعَلوه، ومَكتوبٌ لهم وعليهم إذا فَعَلوه لِيُجازَوْا على أفعالِهِم) [270] ينظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 92). .
مُصَنَّفَاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((مَعَانِي القُرآنِ))، وكتاب: ((إعْرَاب القُرآنِ))، وكتاب: ((النَّوَادِر))، وكتاب: ((العَرُوض))، وكتاب: ((الاشتِقَاق))، وكتاب: ((خلق الإنسان))، وكتاب: ((الأَمَالِي))، وكتاب: ((فَعَلْتُ وَأَفْعَلْتُ))، وكتاب: ((شَرْح أَبْيَات سِيبَوَيْه)).
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ إحْدَى عَشْرة وثلاث مِائة. وقيل: سَنةَ عَشْر وثلاث مِائة. وقيل: سَنةَ ستَّ عَشْرةَ وثلاثِ مِائة [271] يُنظَر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/ 307، 3/ 350، 1/ 397، 2/ 189، 5/ 25)، ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 111)، ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/ 613)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (1/ 51)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (1/ 194)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (1/ 49)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (7/ 232)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (5/ 228)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 7)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 59)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 411)، ((الأعلام)) للزركلي (1/ 40). .

انظر أيضا: