موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الثَّالث والأربعون: أَبُو الفَتْحِ عُثْمَانُ بنُ جِنِّي (ت: 392 هـ)


أَبُو الفَتْحِ عُثْمَانُ بنُ جِنِّي المَوْصِلِي، البَغْداديُّ، النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، إِمَامُ العَرَبِيَّةِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الفَائِقَة في النَّحْو واللُّغَة.
مَوْلِدُه:
وُلِد قَبْل سَنةَ ثلاثينَ وثلاثِ مِائة.
مِن مَشَايِخِه:
أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ، وأبو الفَرَجِ الأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ الأَغَانِي.
ومِن تَلَامِذَتِه:
 الثَّمَانِينِي، وعبد السَّلامِ البَصْريُّ، وَأَبُو الحَسَن السِّمْسِمي، وأبو غالب بن بشران النحوي.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان ابنُ جِنِّي مِن أَحْذَق أَهْلِ الأَدَب، ومِن أعْلَمِهم بالنَّحْوِ والتَّصْرِيف، وعِلْمُه بالتَّصْرِيف أَقْوَى وأَكْمَلُ مِن عِلْمِه بالنَّحْوِ، ولم يَتَكَلَّم أَحَدٌ في التَّصْرِيفِ أَدَقَّ كَلَامًا منه، وكان إمامًا في عِلْم العَرَبِيَّة.
وكان أَبُوه جِنِّي عَبْدًا رُومِيًّا مَمْلُوكًا لِسُلَيْمَانَ بنِ فَهْدٍ المَوْصِلِيُّ.
سَبَبُ اشْتِغَالِه بعِلْم التَّصْرِيفِ:
سَبَبُ ذلك أَنَّه كَانَ يقْرَأ النَّحْوَ بِجَامِع المَوْصِل، فَمَرَّ به أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ، فَسَألهُ عَن مَسْألةٍ فِي التَّصْرِيفِ، فَقَصَّر فِيهَا، فقال له أبو عَليٍّ: (زَبَّبْتَ قَبْل أَنْ تُحَصْرِمَ)؛ فَلَزِمَهُ مِن يَوْمئِذٍ مُدَّة أَرْبَعِينَ سَنَة، واعْتَنَى بالتَّصْرِيف، ولَمَّا مَاتَ أَبُو عَلِي تَصَدَّرَ ابْنُ جِنِّي مَكَانَه بِبَغْدَاد [414] ينظر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص: 245)، ((الشعور بالعور)) للصفدي (ص: 163). .
عَقِيدَتُه:
كان ابنُ جِنِّي مُعتَزِليًّا، ذكَرَ ذلك أهلُ العِلمِ وبان في مؤلَّفاتِه أُصولُ الاعتِزالِ ومَسائِلُه، وقد قال ابنُ القَيِّمِ في الردِّ عليه في مسألةِ المجازِ: ((والكلامُ عليه من وُجوهٍ: أحَدُها: أن تَعلَمَ أنَّ هذا الرَّجُلَ وشَيْخَه أبا عَلِيٍّ مِن كبارِ أهلِ البِدَعِ والاعتِزالِ المُنكِرينَ لكَلامِ اللهِ تعالى وتكليمِه، فلا يُكَلِّمُ أحدًا البتَّةَ، ولا يحاسِبُ عبادَه يومَ القيامةِ بنَفْسِه وكلامِه، وأنَّ القُرآنَ والكُتُبَ السَّماويَّةَ مخلوقٌ مِن بَعْضِ مخلوقاتِه، وليس له صِفةٌ تقومُ له؛ فلا عِلْمَ له عِنْدَهم ولا قُدْرةَ ولا حياةَ ولا إرادةَ ولا سَمْعَ ولا بَصَرَ! وأنَّه لا يَقدِرُ على خَلْقِ أفعالِ العِبادِ، وأنَّها واقِعةٌ منهم بغَيرِ اختيارِه ومشيئَتِه! وأنَّه شاء منهم خِلافَها، وشاؤُوا هم خِلافَ ما شاء، فغَلَبَت مشيئتُهم، وكان ما شاؤوه هم دون ما شاءَ هو، فيكونُ ما لا يشاءُ، ويشاءُ ما لا يكونُ! وهو خالِقٌ عند هذا الضَّالِّ المُضِلِّ وعالِمٌ مجازًا لا حقيقةً! والمجازُ يَصِحُّ نَفْيُه، فهو إذَن عِندَه لا خالِقٌ ولا عالمٌ إلَّا على وَجْهِ المجازِ!)) [415] ينظر: ((مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 340). .
ومِن أقوالِه: قَولُه في مسألةِ المجازِ: ((وكذلك أفعالُ القديمِ سُبحانَه؛ نحوُ: «خَلَقَ اللهُ السَّماءَ والأرضَ»، وما كان مِثْلَه. ألا ترى أنه -عزَّ اسمُه- لم يكُنْ منه بذلك خَلْقُ أفعالِنا، ولو كان حقيقةً لا مجازًا لكان خالِقًا للكُفرِ والعُدوانِ وغَيرِهما من أفعالِنا -عزَّ وعلا- وكذلك: «عَلِمَ اللهُ قِيَامَ زيدٍ» مجازٌ أيضًا؛ لأنَّه ليست الحالُ التي عَلِمَ عليها قيامَ زَيدٍ هي الحالَ التي عَلِمَ عليها قُعودَ عَمرٍو، ولَسْنا نُثبِتُ له سُبحانه عِلمًا؛ لأنَّه عالِمٌ بنَفْسِه)) [416] ينظر: ((الخصائص)) لابن جني (2/ 451). .
وقد ذكر في القِراءاتِ في قَولِه تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ [الأعراف: 156] قراءةَ الحَسَنِ وأبي عَمرٍو: «مَنْ أَسَاءَ»، وهي قراءةٌ شاذَّةٌ. ثم عقَّب عليها ابنُ جنِّي فقال: ((هذه القِراءةُ أشَدُّ إفصاحًا بالعَدْلِ مِنَ القِراءةِ الفاشيةِ التي هي: "مَن أشاء"؛ لأنَّ العذابَ  في القِراءةِ الشَّاذةِ مَذكورٌ عِلَّةُ الاستِحقاقِ له، وهو الإساءةُ، والقِراءةُ الفاشيةُ لا يُتناوَلُ مِن ظاهِرِها عِلَّةُ إصابةِ العذابِ له، وأنَّ ذلك لشَيءٍ يرجِعُ إلى الإنسانِ، وإنْ كُنَّا قد أحَطْنا عِلمًا بأنَّ اللهَ تعالى لا يَظلِمُ عِبادَه، وأنَّه لا يُعَذِّبُ أحدًا منهم إلَّا بما جناه واجتَرَمه على نَفْسِه، إلَّا أنَّا لم نعلَمْ ذلك من هذه الآيةِ، بل من أماكِنَ غَيرِها. وظاهِرُ قَولِه تعالى: مَنْ أَشَاءُ بالشِّينِ مُعجَمةً رُبَّما أوهَمَ مِن يَضْعُفُ نظرُه من المخالِفينَ أنَّه يُعَذِّبُ من يشاءُ مِن عبادِه، أساء أو لم يُسِئْ، نعوذُ باللهِ مِن اعتِقادِ ما هذه سَبيلُه، وهو حَسْبُنا ووَلِيُّنا)) [417] ينظر: ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) لابن جني (1/ 261). .
ومنه قَولُه: ((وكذلك قَولُ اللهِ تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] ، ونِعْمُ اللهِ تعالى أكثَرُ مِن أن تُحصى)) [418] ينظر: ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) لابن جني (2/ 279). .
وكان لابن جِنِّي شِعْرٌ حَسَن:
فمِن شِعْرِه في العَتْبِ عَلَى صَدِيقٍ له -وقد كان ابنُ جِنِّي أَعْوَر-:
صُدُودُكَ عَنِّي وَلَا ذَنْبَ لِي
يَدُلُّ عَلَى نِيَّةٍ فَاسِدَهْ
فَقَدْ -وَحَيَاتِكَ- مِمَّا بَكَيْتُ
خَشِيتُ عَلَى عَيْنِيَ الوَاحِدَهْ
وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ لَا أَرَاكَ
لَمَا كَانَ فِي تَرْكِهَا فَائِدَهْ
وأشار ابنُ جِنِّي إلى نَسَبِه بأَبْيَاتٍ قال فِيها:
فإنْ أُصبِحْ بلا نَسَبٍ
فَعِلْمي في الوَرى نَسَبي
على أنِّي أَؤُولُ إلى
قُرومٍ سادةٍ نُجُبِ
قياصرةٍ إذا نَطَقوا
أرَمَّ [419] أَرَمَّ: أي: سَكَت.  الدَّهرُ في الخُطَبِ
أُولَاكَ دَعَا النَّبِيُّ لَهُم
كَفَى شَرَفًا دُعَاءُ نَبِي
مُصَنَّفَاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((الخصَائِص))، وكتاب: ((سِرُّ الصِّنَاعَةِ))، وكتاب: ((اللُّمَع))، وكتاب: ((التَّصريف))، وكتاب: ((التَّلقين فِي النَّحْوِ))، وكتاب: ((التَّعَاقبُ))، وكتاب: ((الْمَقْصُور وَالمَمْدُود))، وكتاب: ((مَا يُذكَّرُ وَيُؤنَّثُ))، وكتاب: ((إِعرَابُ الحمَاسَة))، وكتاب: ((المُحْتَسَبُ فِي شَواذِّ القِرَاءَات))، وكتاب: ((شرح ديوان المتنبِّي)).
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ اثنتينِ وتسعينَ وثلاثِ مِائة [420] يُنظَر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 244)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (4/ 1585)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (2/ 335)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (3/ 246)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (17/ 17)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (19/ 311)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 194)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 132)، ((الأعلام)) للزركلي (4/ 204)، ((ابن جِنِّي النَّحْوي)) لفاضل صالح السامرائي (ص 53-60). .

انظر أيضا: