موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: الوَسائِلُ المُعينةُ على دَفعِ الذُّلِّ واجتنابِه


1- الإيمانُ باللَّهِ والمداومةُ على العَمَلِ الصَّالحِ:
قال اللهُ تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يُخبرُ تعالى أنَّ لمن أحسَن العَمَلَ في الدُّنيا بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ أبدَله الحُسنى في الدَّارِ الآخرةِ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي: قَتامٌ وسَوادٌ في عَرَصاتِ المحشَرِ، كما يعتري وجوهَ الكَفَرةِ الفَجَرةِ من القَترةِ والغَبرةِ، وَلَا ذِلَّةٌ أي: هوانٌ وصَغارٌ، أي: لا يحصُلُ لهم إهانةٌ في الباطنِ ولا في الظَّاهِرِ، بل هم كما قال تعالى في حَقِّهم: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] أي: نضرةً في وُجوهِهم، وسُرورًا في قُلوبِهم) [3504] ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 262، 263). .
2- الاعتزازُ باللَّهِ، والتَّمسُّكُ بدينِه، وتطبيقُ شريعتِه:
قال أميرُ المُؤمِنين عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (إنَّا كُنَّا أذَلَّ قَومٍ فأعَزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فمهما نطلُبِ العِزَّةَ بغيرِ ما أعزَّنا اللهُ به، أذلَّنا اللَّهُ) [3505] رواه الحاكم (207). صحَّحه على شرط الشيخين: الحاكم، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/117). .
وقال الحَسَنُ بنُ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: علَّمني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَلِماتٍ أقولُهنَّ في قنوتِ الوِترِ، وفيه: ((إنَّه لا يَذِلُّ من واليتَ، تبارَكْتَ ربَّنا وتعاليتَ)) [3506] رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (1745). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (4800) وقال: (على شرطِ الشَّيخينِ)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/630)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (2/294). .
قال بَدرُ الدِّينِ العَينيُّ: (قولُه: "مَن واليتَ" فاعِلُ "لا يَذِلُّ"، أي: مَن واليتَه، بمعنى: لا يَذِلُّ مَن كُنتَ له وليًّا حافظًا وناصِرًا) [3507] ((شرح سنن أبي داود)) (5/336). .
قال قتادةُ: (قولُه: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] ، كان هذا الحيُّ من العَرَبِ أذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وأشقاه عَيشًا، وأبيَنَه ضلالةً، وأعراه جُلودًا، وأجوَعَه بُطونًا، مكعومين [3508] مكعومٌ: من كَعَم البعيرَ: إذا شدَّ فاه في هياجِه لئلَّا يَعَضَّ أو يأكُلَ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 522). على رأسِ حَجَرٍ بَيْنَ الأسَدَينِ: فارِسَ والرُّومِ، لا واللَّهِ ما في بلادِهم يومَئذٍ من شيءٍ يُحسَدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات رَدِي في النَّارِ، يُؤكَلون ولا يأكُلون، واللَّهِ ما نعلَمُ قبيلًا يومَئذٍ مِن حاضِرِ الأرضِ كانوا فيها أصغَرَ حَظًّا، وأدقَّ فيها شأنًا منهم، حتى جاء اللهُ عزَّ وجَلَّ بالإسلامِ، فوَرَّثكم به الكتابَ، وأحَلَّ لكم به دارَ الِجهادِ، ووضَعَ لكم به من الرِّزقِ، وجعَلَكم به مُلوكًا على رقابِ النَّاسِ، وبالإسلامِ أعطى اللهُ ما رأيتُم؛ فاشكُروا نِعَمَه، فإنَّ رَبَّكم مُنعِمٌ يحِبُّ الشَّاكِرين، وإنَّ أهلَ الشُّكرِ في مزيدِ اللَّهِ، فتعالى ربُّنا وتبارَك) [3509] ((جامع البيان)) للطبري (5/659). .
3- الدُّعاءُ بارتفاعِ الذُّلِّ وحُصولِ العِزِّ.
4- موالاةُ اللهِ ورسولِه وصالحِ المُؤمِنين:
قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المُنافِقون: 8] .
فالعِزَّةُ للهِ سُبحانَه ولرسولِه وللمُؤمِنين، ومَن والاهم وسار على هداهم ينتفي عنه ذُلُّ الدُّنيا والآخرةِ، ويحصُلُ له عِزُّ الدُّنيا والآخرةِ.
5- طاعةُ اللهِ ورَسولِه:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النَّساء: 59] .
 (لو أطاعوا الرَّسولَ لَما أصابهم ما لحِقَهم من الذُّلِّ والهوانِ بالفَشَلِ والهزيمةِ في الحَربِ تارةً، والقتلِ والأسْرِ تارةً أُخرى، وبالعَجزِ المُبينِ عن أن يَقِفوا في سبيلِ دَعوتِه، ويمنعوا انتشارَها في أقطارِ المعمورةِ، ويحولوا دونَ دخولِ النَّاسِ في دينِ اللهِ أفواجًا، وما كان عنادُهم ولا مجادلتُهم عن يقينٍ يعتَقِدونه، ولا شُبَهٍ لم يُجْلَ الشَّكُّ عنها، ولكِنْ تكبُّرًا وعتُوًّا؛ مخافةَ أن تَزولَ عنهم مناصِبُ توارثوها، ومظاهِرُ تخيَّلوا أنَّ العِزَّ والمجدَ في المحافظةِ عليها) [3510] ((الأدب النبوي)) لمحمد الخولي (1/291). .
6- مخالفةُ هوى النَّفسِ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (من قَهَر هواه عزَّ وساد) [3511] ((غذاء الألباب)) للسفاريني (2/458). . وقال ابنُ القيِّمِ: (من كانت بدايتُه مخالفةَ هواه وطاعةَ داعي رُشدِه، كانت نهايتُه العِزَّ والشَّرَفَ والغنى، والجاهَ عِندَ اللهِ وعندَ النَّاسِ. قال أبو عليٍّ الدَّقَّاقُ: من مَلَك شهوتَه في حالِ شَبيبتِه أعَزَّه اللهُ تعالى في حالِ كُهولتِه) [3512] ((روضة المحبين)) (1/483). .
7- القناعةُ والزُّهدُ في الدُّنيا:
وهما من أسبابِ حُصولِ الخيرِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فالحِرصُ على الدُّنيا والطَّمعُ فيها والتَّكالُبُ عليها يجعَلُ الإنسانَ يَذِلُّ في سبيلِ ذلك، ولا يبالي أخَذَها من حلالٍ أو حرامٍ، بعِزَّةٍ أو بذُلِّ نَفسٍ.
8- الاعتصامُ بحَبلِ اللَّهِ، ونبذُ الخلافاتِ:
قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
وعن أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المُؤمِنَ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ، يشُدُّ بعضُه بعضًا، وشَبَّك أصابِعَه)) [3513] رواه البخاري (481) واللفظ له، ومسلم (2585). . ففي الاتِّحادِ عِزَّةٌ وقُوَّةٌ، وفي التَّفرُّقِ ذُلٌّ وضَعفٌ.
9- الأخذُ بالأسبابِ المادِّيَّةِ والمعنويَّةِ للعِزِّ والقُوَّةِ:
قال اللهُ تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] .
10- التَّحوُّلُ عن مواطِنِ الذُّلِّ (والإسلامُ يَدَعُ المُؤمِنَ مُستقِرًّا في المكانِ الذي يُنبِتُ العِزَّ ويَهَبُ الحُرِّيَّةَ الكامِلةَ، ويجِبُ على المُؤمِنِ أن يوفِّرَ هذه المعانيَ في بيئتِه، فإن استحال عليه ذلك فليتحوَّلْ عن دارِ الهوانِ وليَنشُدِ الكرامةَ في أي مكانٍ. وفى ذلك يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] ) [3514] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 183). .
قولُه: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ (الاستفهامُ يرادُ به التَّوبيخُ على شيءٍ معلومٍ؛ ولهذا حَسُن في جوابِه قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، وهو اعتذارٌ من تقصيرِهم الذي وُبِّخوا عليه بالاستِضعافِ، أي: إنَّنا لم نستَطِعْ أن نكونَ في شيءٍ يُعتَدُّ به من أمرِ دينِنا لاستضعافِ الكُفَّارِ لنا، فردَّ الملائكةُ هنا العُذرَ عليهم وقالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، وتُحَرِّروا أنفُسَكم من رِقِّ الذُّلِّ الذي لا يليقُ بالمُؤمِنِ، ولا هو من شأنِه؟ أي: إنَّ استضعافَ القومِ لكم لم يكُنْ هو المانِعَ لكم من الإقامةِ معهم في دارِهم، بل كنتُم قادرين على الخروجِ منها مهاجِرين إلى حيثُ تكونون في حرِّيَّةٍ من أمرِ دينِكم ولم تفعَلوا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) [3515] ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (5/ 290). .
- وأنشد أبو عُبَيدٍ عن الأصمَعيِّ:
إذا كنتَ في دارٍ يُهينُك أهلُها
ولم تَكُ مكبولًا بها فتَحوَّلِ [3516] ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 146).
- وقال أبو دُلَفٍ:
وإذا الدِّيارُ تنكَّرَت عن حالِها
فدَعِ المُقامَ وأسرِعِ التَّحويلا
ليس المقامُ عليك فرضًا واجبًا
في موطِنٍ يَذَرُ العزيزَ ذليلَا [3517] ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب (2/ 642).
- وقال آخَرُ:
إنَّ المُقامَ على الهوانِ مَذَلَّةٌ
والعَجزَ آفةُ حيلةِ المحتالِ [3518] ((الدر الفريد وبيت القصيد)) للمستعصمي (4/ 459).
- وقال مالِكُ بنُ الرَّيبِ:
فإن تُنصِفونا آلَ مَروانَ نقتَرِبْ
إليكم وإلَّا فأْذَنوا ببعادِ
وفي الأرضِ عن دارِ المذلَّةِ مَذهَبٌ
وكلُّ بلادٍ أوطَنَت كبِلادي [3519] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 341).
- وقال أبو عثمانَ العَروضيُّ في مَهموزتِه:
إنَّ الفتى كُلَّ الفتى من رأى
هوانَه أقبَحَ ما قد رأى
اهرُبْ عن الذُّلِّ وعَجِّل فما
أقرَبَه من كُلِّ مَن أبطأَ [3520] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/243).
- وقال ابنُ حازمٍ، أو ابنُ بسَّامٍ:
لا يَلبَثِ الحُرُّ في مكانٍ
يُنسَبُ فيه إلى هوانِ [3521] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/243).
- وقال ابنُ عبدِ البَرِّ حينَ رحَل من إشبيليَّةَ:
إذا هان حُرٌّ عِندَ قومٍ أتاهم
ولم ينأَ عنهم كان أعمى وأجهَلَا [3522] ((بهجة المجالس)) (1/243).

انظر أيضا: