موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: أقسامُ التَّنازُعِ والاختِلافِ


ينقَسِمُ التَّنازُعُ إلى قِسمَينِ:
القسمُ الأوَّلُ: تَنازُعٌ في أُمورِ الدُّنيا
قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكِنِّي أخشى عليكم أن تُبسَطَ الدُّنيا عليكم كما بُسِطَت على مَن كان قَبلَكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتْهم!)) [133] أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961) واللفظ له، من حديثِ عَمرِو بنِ عَوفٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (المُنافسةُ في الشَّيءِ: المُشاحَّةُ عليه والتَّنازُعُ فيه. وفي هذا الحَديثِ تَحذيرٌ مِن فِتنةِ الدُّنيا؛ فإنَّ مَن طَلبَ مِنها فوقَ الحاجةِ لم يجِدْ لمُرادِه مَرَدًّا، ومَن قَنِعَ بالبَلاغِ بَلغَ المَنزِلَ سَليمًا مِنَ الشَّرِّ، فما الدُّنيا إلَّا كما قيل:
إنَّ السَّلامةَ مِن سَلمى وجارَتِها
ألَّا تَمُرَّ على حالٍ بواديها) [134] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (2/ 105). .
والقِسمُ الثَّاني: التَّنازُعُ في الدِّينِ
وينقَسِمُ الاختِلافُ مِن حَيثُ المَدحُ والذَّمُّ إلى قِسمَينِ:
اختِلافٌ مَذمومٌ: وهو ما كان سَبَبُه اتِّباعَ الهَوى والتَّعَصُّبَ والبَغيَ، وأدَّى إلى التَّفرُّقِ والعَداوةِ والبَغضاءِ.
واختِلافٌ مَحمودٌ: وهو ما كان دافِعُه نُصرةَ الحَقِّ والإنصافَ ولم يُؤَدِّ إلى التَّفرُّقِ ولا العَداوةِ ولا فسادِ ذاتِ البَينِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السَّلَفَ كانوا يختَلفونَ في المَسائِلِ الفرعيَّةِ، مَعَ بَقاءِ الأُلفةِ والعِصمةِ، وصَلاحِ ذاتِ البَينِ) [135] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تَيميَّةَ (6/92). .
وقال يونُسُ الصَّدَفيُّ: (ما رَأيتُ أعقَلَ مِنَ الشَّافِعيِّ؛ ناظرتُه يومًا في مَسألةٍ، ثُمَّ افتَرَقْنا، ولقِيَني فأخَذَ بيدي، ثُمَّ قال: يا أبا موسى، ألا يستَقيمُ أن نَكونَ إخوانًا وإن لم نَتَّفِقْ في مَسألةٍ؟!) [136] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/16). .
وينقَسِمُ الاختِلافُ مِن جِهةٍ أُخرى إلى اختِلافِ تَنَوُّعٍ، واختِلافِ تَضادٍّ.
واختِلافُ التَّنَوُّعِ على وُجوهٍ: مِنه: ما يكونُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ القَولينِ أوِ الفِعلينِ حَقًّا مَشروعًا، كما في القِراءاتِ التي اختَلف فيها الصَّحابةُ، حتَّى زَجرهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: ((كِلاكما مُحسِنٌ)) [137]  أخرجه البخاري (2410). .
ومِثلُه اختِلافُ الأنواعِ في صِفةِ الأذانِ، والإقامةِ، والاستِفتاحِ، والتَّشهُّداتِ، وصَلاةِ الخَوفِ، وتَكبيراتِ العيدِ، وتَكبيراتِ الجِنازةِ، إلى غَيرِ ذلك مِمَّا قد شُرعَ جَميعُه، وإن كان قد يُقالُ: إنَّ بَعضَ أنواعِه أفضَلُ.
ثُمَّ نَجِدُ لكثيرٍ مِنَ الأُمَّةِ في ذلك مِنَ الاختِلافِ ما أوجَبَ اقتِتالَ طَوائِفَ مِنهم على شَفعِ الإقامةِ وإيتارِها، ونَحوِ ذلك! وهذا عَينُ المُحَرَّمِ، ومَن لم يبلُغْ هذا المَبلغَ فتَجِدُ كثيرًا مِنهم في قَلبِه مِنَ الهَوى لأحَدِ هذه الأنواعِ والإعراضِ عنِ الآخَرِ أوِ النَّهيِ عنه ما دَخَل به فيما نَهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
ومِنه: ما يكونُ كُلٌّ مِنَ القَولينِ هو في مَعنى قَولِ الآخَرِ، لكِنِ العِبارَتانِ مُختَلفتانِ، كما قد يختَلفُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ في ألفاظِ الحُدودِ وصِيَغِ الأدِلَّةِ، والتَّعبيرِ عنِ المُسَمَّياتِ، وتَقسيمِ الأحكامِ، وغَيرِ ذلك، ثُمَّ الجَهلُ أو الظُّلمُ يحمِلُ على حَمدِ إحدى المَقالتَينِ وذَمِّ الأُخرى.
ومِنه ما يكونُ المَعنَيانِ غَيرينِ، لكِن لا يتَنافيانِ؛ فهذا قَولٌ صَحيحٌ، وهذا قَولٌ صَحيحٌ، وإن لم يكُنْ مَعنى أحَدِهما هو مَعنى الآخَرِ، وهذا كثيرٌ في المُنازَعاتِ جِدًّا.
ومِنه ما يكونُ طَريقَتانِ مَشروعَتينِ، ورَجُلٌ أو قَومٌ قد سَلكوا هذه الطَّريقَ، وآخَرونَ قد سَلكوا الأُخرى، وكلاهما حَسَنٌ في الدِّينِ. ثُمَّ الجَهلُ أوِ الظُّلمُ يحمِلُ على ذَمِّ إحداهما أو تَفضيلِها بلا قَصدٍ صالحٍ، أو بلا عِلمٍ، أو بلا نيَّةٍ وبلا عِلمٍ.
وأمَّا اختِلافُ التَّضادِّ فهو: القَولانِ المُتَنافيانِ إمَّا في الأُصولِ وإمَّا في الفُروعِ، فهذا الخَطبُ فيه أشَدُّ؛ لأنَّ القَولينِ يتَنافيانِ؛ لكِن نَجدُ كثيرًا مِن هؤلاء قد يكونُ القَولُ الباطِلُ الذي مَعَ مُنازِعِه فيه حَقٌّ ما، أو مَعَه دَليلٌ يقتَضي حَقًّا ما، فيَرُدُّ الحَقَّ في الأصلِ هذا كُلِّه، حتَّى يبقى هذا مُبطِلًا في البَعضِ، كما كان الأوَّلُ مُبطِلًا في الأصلِ.
وهذا القِسمُ المُسَمَّى اختِلافَ التَّنَوُّعِ: كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُختَلفين مُصيبٌ فيه بلا تَرَدُّدٍ، لكِنَّ الذَّمَّ واقِعٌ على مَن بَغى على الآخَرِ فيه، وقد دَلَّ القُرآنُ على حَمدِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الطَّائِفتَينِ في مِثلِ ذلك إذا لم يحصُلْ بَغيٌ، كما في قَولِه: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر: 5] .
وقد كانوا اختَلفوا في قَطعِ الأشجارِ، فقَطَعَ قَومٌ وترك آخَرونَ.
وكما في قَوله: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 78-79] ، فخَصَّ سُليمانَ بالفهمِ، وأثنى عليهما بالعِلمِ والحُكمِ.
وكما في إقرارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ بَني قُرَيظةَ لمَن صَلى العَصرَ في وقتِها، ولمَن أخَّرَها إلى أن وصل إلى بَني قُرَيظةَ [138] ينظر ما أخرجه البخاري (946) ومسلم (1770). .
وكما في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا حَكمَ الحاكِمُ فاجتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فله أجرانِ، وإذا حَكمَ فاجتَهَدَ ثُمَّ أخطَأَ فله أجرٌ)) [139] أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716). . ونَظائِرُه كثيرةٌ.
وإذا جَعَلتَ هذا قِسمًا آخَرَ صارَ الاختِلافُ ثَلاثةَ أقسامٍ.
والاختِلافُ على ما ذَكرَه اللهُ في القُرآنِ قِسمانِ:
أحَدُهما: يذُمُّ الطَّائِفتَينِ جَميعًا، كما في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] ، وكذلك قَولُه: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19] ، وقَولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105] ، وقَولُه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] [الأنعام: 159] .
وكذلك وصَف اختِلافَ النَّصارى بقَولِه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14] . ووصَف اختِلافَ اليهودِ بقَولِه: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] ، وقال: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] ... وهذا الاختِلافُ المَذمومُ مِنَ الطَّرَفينِ يكونُ سَبَبُه تارةً فسادَ النِّيَّةِ؛ لِما في النُّفوسِ مِنَ البَغيِ والحَسَدِ وإرادةِ العُلوِّ في الأرضِ ونَحوِ ذلك؛ فيُحبُّ لذلك ذَمَّ قَولِ غَيرِه أو فِعلِه، أو غَلبَتَه ليتَمَيَّزَ عليه، أو يُحِبُّ قَولَ مَن يوافِقُه في نَسَبٍ أو مَذهَبٍ أو بَلدٍ أو صَداقةٍ، ونَحوِ ذلك؛ لِما في قيامِ قَولِه مِن حُصولِ الشَّرَفِ والرِّئاسةِ، وما أكثَرَ هذا مِن بَني آدَمَ! وهذا ظُلمٌ.
ويكونُ سَبَبُه -تارةً- جَهلَ المُختَلفينِ بحَقيقةِ الأمرِ الذي يتَنازَعانِ فيه، أوِ الجَهلَ بالدَّليلِ الذي يُرشِدُ به أحَدُهما الآخَرَ، أو جَهْلَ أحَدِهما بما مَعَ الآخَرِ مِنَ الحَقِّ في الحُكمِ، أو في الدَّليل، وإن كان عالِمًا بما مَعَ نَفسِه مِنَ الحَقِّ حُكمًا ودَليلًا.....
القِسمُ الثَّاني مِنَ الاختِلافِ المَذكورِ في كِتابِ اللهِ: هو ما حَمِدَ فيه إحدى الطَّائِفتَينِ، وهمُ المُؤمِنونَ، وذَمَّ فيه الأُخرى، كما في قَولِه تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253] ؛ فقَولُه: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ حَمدٌ لإحدى الطَّائِفتَينِ -وهمُ المُؤمِنونَ- وذَمٌّ للأخرى.
وأكثَرُ الاختِلافِ الذي يَؤولُ إلى الأهواءِ بَينَ الأُمَّةِ مِنَ القِسمِ الأوَّلِ، وكذلك آلَ إلى سَفكِ الدِّماءِ، واستِباحةِ الأموالِ، والعَداوةِ والبَغضاءِ؛ لأنَّ إحدى الطَّائِفتَينِ لا تَعتَرِفُ للأُخرى بما مَعَها مِنَ الحَقِّ ولا تُنصِفُها، بَل تَزيدُ على ما مَعَ نَفسِها مِنَ الحَقِّ زياداتٍ مِنَ الباطِلِ، والأُخرى كذلك!
وكذلك جَعَل اللهُ مَصدَرَه البَغيَ في قَولِه: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] ؛ لأنَّ البَغيَ: مُجاوزةُ الحَدِّ.
وذَكرَ هذا في غَيرِ مَوضِعٍ مِنَ القُرآنِ؛ ليكونَ عِبرةً لهذه الأُمَّةِ [140] يُنظَر: ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) لابن تَيميَّةَ (1/146، 154). .

انظر أيضا: