موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (174 - 176)

ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

شِقَاقٍ: أي: عداوةٍ واختلاف، ومباينةٍ ومباعدة، وأصل (شقَّ) يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيْءِ، ومنه الشِّقاقُ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى انصِداع الجماعَة وتفَرُّقها [1550] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 64، 376)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 292)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170-171)، ((المفردات)) للراغب (ص: 460)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96، 101). .

المعنى الإجمالي:

أخبَر تعالى عن اليهود الذين يُخْفُونَ نبوَّةَ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ التي قد ثبَتَت عندهم في التَّوراة، ويُخْفُونَ كذلك بعضًا من أحكام الله فيها، ويغيِّرونها؛ يبتغون نَيْلَ شيءٍ من الأموال والمناصب وغيرها من عَرَض الدُّنيا- أخبَر أنَّ جزاءَهم أنْ يأكلوا في بطونهم نارًا مقابلَ ما أكَلوه من الحرام عن طريق كِتمان العِلم الذي في كُتبِهم، ولا يكلِّمهم سبحانه وتعالى يوم القيامة كلامَ رضًا، ولا يُطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يُثْني عليهم، ولهم فوق هذا كلِّه عذابٌ موجِع.
أولئك الكاتِمون للعِلم قد استبدلوا -بفِعلِهم هذا- بطريقِ الهداية طريقَ الغواية، واستبدلوا بنَيْلِ مغفرة الله تعالى استحقاقَ عذابِه، ثم تعجَّب سبحانه وتعالى مِن جُرأتِهم على هذا الفعل وهم يعلَمون أنَّ عاقبتَه النَّارُ، وكيف حبَسوا أنفسهم على ارتكابه وهو يوصلهم إلى العذابِ الشديد.
واستحقَّ أولئك العذابَ على ما كتَموه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أنزَل كتابه عليهم بالحقِّ، فيجبُ ألا يُكتَم، بل الواجب بيان ما فيه؛ لذلك كان الإخفاءُ مخالفًا لمراد الله من إنزال الكتاب.
ثم أخبَر تعالى أنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض، وكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياء- لَفِي جانبٍ بعيدٍ عن الحقِّ.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174).
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: إنَّ اليهود الَّذين كتَموا أمر نبوَّةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ الثابتةِ في توراتهم، وكتَموا بعض أحكام الله تعالى فيها، وبدَّلوها- كتحريمهم ما أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ- يبتغون بهذا الكتمانِ نَيْلَ عَرَضٍ من حُطام الدُّنيا الفاني؛ من الأموال، والرِّئاسات، وغيرها [1551] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/64)، ((تفسير القرطبي)) (2/234)، ((تفسير ابن كثير)) (1/483)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/122-123). وممَّن قال من السَّلَف: إنَّ المقصود بهذه الآية هم اليهود: السُّدِّيُّ، وعِكرمة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/64). .
أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.
أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا [1552] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (2/234-235)، ((تفسير ابن كثير)) (1/483-484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 82)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/261). .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لا يُكلِّمهم الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بكلامِ إكرامٍ ورضًا يسُرُّهم؛ لأنَّه غاضبٌ عليهم، ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يثني عليهم خيرًا؛ لأنَّ قلوبَهم وأعمالَهم دَنِسة، لا تستحقُّ المدحَ والثناء، ولهم مع ذلك كلِّه عذابٌ موجِعٌ، فجمَع الله تعالى لهم بين الألَمِ النَّفسانيِّ والجُسماني [1553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/67)، ((تفسير ابن كثير)) (1/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 82)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/261، 262، 265). .
ولَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى جزاءهم، أتبَعه بترجمةِ حالهم [1554] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/353). ، فقال:
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175).
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ.
أي: إنَّ أولئك الَّذين وصَفهم الله تعالى بكتمانِ العلم، قد استبدلوا- بفِعلهم هذا- بطريقِ الهُدى الذي يقودُهم إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ ونعيمِ الآخرة؛ استبدلوه به طُرُقَ الهَوَى التي أضلَّتهم عن الصِّراط المستقيم، وبفِعلهم هذا قد استبدَلوا أيضًا بنَيْلِ مغفرةِ الله تعالى استحقاقَ عذابِه [1555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/67)، ((تفسير ابن كثير)) (1/484)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/265-266). .
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
أي: تعجَّب [1556] (ما) في هذه الآية تعجبية على قول جمهور المفسِّرين، ورجَّح ذلك ابن جرير في ((تفسيره)) (3/70)، ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/242). اللهُ سبحانه وتعالى من أولئك القوم الَّذين كتموا وحيَ الله تعالى، كيف حبَسوا أنفسَهم ووطَّنوها على ارتكاب هذا العمل المودِي بهم إلى عذابٍ شديد، وكيف تجرَّؤُوا على هذا الصَّنيع وهم يعلَمون سوء عاقبته [1557] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/71)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/260)، ((تفسير ابن عطية)) (1/242)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/208)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/266-268). ؟!
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم، فقال [1558] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/354). :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: إنَّهم استحقُّوا العذابَ على كتمانهم؛ بسبب أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل كتابَه عليهم بالحقِّ، فحقُّه ألَّا يُكتَم، بل يبيَّن ما يحويه، وكتمانُهم شيئًا من الكتاب كتمانٌ للحقِّ، وذلك مخالِفٌ لمراد الله تعالى؛ لأنَّ ما يُكتَم مِن الحق يخلُفُه الباطلُ، فحقَّ عليهم العذابُ [1559] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 82)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/126)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/271). .
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
أي: إنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض؛ فكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياءَ- قد فارَقوا الحقَّ، وجانَبوا طريقَ الصواب [1560] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/73)، ((تفسير ابن كثير)) (1/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 82). .

الفوائد التربويَّة:

1- وجوب نشْر العِلم؛ لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...، ويتأكَّدُ وجوب نشْره إذا دعتِ الحاجةُ إليه بالسؤالِ عنه؛ إما بلسان الحال، وإما بلسان المَقال [1561] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/262). .
2- إقامة العَدل في الجَزاء؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فجعَل عقوبتَهم من النَّارِ بقَدْرِ ما أكَلوه من الحرام [1562] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/263). .
3- أنَّ الاختلافَ ليس رحمة، بل إنه شِقاقٌ وبلاءٌ، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [1563] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/272). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- إطلاق المسبَّب على السبب؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فإنَّهم لا يأكلون النَّار، ولكن يأكلونَ المالَ، وهو سببٌ للنار [1564] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/263). .
2- في قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ إثباتُ صفة التعجُّب لله تبارك وتعالى [1565] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/270). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) تفسير قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون [الصافات: 12] ، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 606، 607)، ((إبطال التأويلات)) لأبي يعلى الفراء (ص: 245)، ((الحجة)) لقوام السنة الأصبهاني (2/457)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/181، 6/123و124)، ((شرح الواسطية)) للهراس (ص: 202). .
3- إثبات العِلل والأسباب؛ لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ، والباء للسببيَّة، وقد ذكَر بعض أهلُ العلم أنَّ في القرآن أكثرَ من مئة موضعٍ، كلُّها تُفيدُ إثبات العِلَّة؛ خلافًا للجَبْريَّة الَّذين يقولون: (إنَّ فِعْلَ الله عزَّ وجلَّ ليس لحِكمةٍ، بل لمجرَّد المشيئة)؛ تعالى اللهُ عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا [1566] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/272). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: فيه تأكيدُ الأكْل وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول؛ فإنَّ فِي بُطُونِهِمْ متعلِّق بـ يَأْكُلُونَ، وذكَر بطونهم تنبيهًا على شَرَهِهم، وتَقبيحًا لتضييع أعظم النِّعم لأجْل المطعوم، وللتنبيه على مذهبهم، بأنَّهم باعوا آخرتَهم بحَظِّهم من المطعَم الذي لا خطرَ له [1567] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/121-122)، ((تفسير القاسمي)) (1/478). .
2- في قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
- (ما) تعجبيَّة، أو استفهاميَّة صحِبَها معنى التعجُّب؛ فهو تعجُّبٌ من حالهم في الْتباسِهم بموجبات النارِ من غير مبالاةٍ منهم. أو: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم [1568] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/216-217)، ((تفسير البيضاوي)) (1/120)، ((تفسير أبي حيان)) (2/124). ؟!
- وفيه: تنزيلُ غيرِ الواقع منزلةَ الواقع؛ لشدَّة استحضار السامع إيَّاه بما وُصِف به من الصِّفات الماضية؛ إذ شأن التعجُّب أن يكون ناشئًا عن مشاهدة صبرهم على العذاب، وهذا الصَّبر غيرُ حاصلٍ في وقتِ نزول هذه الآية [1569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/125). .
3- في قوله: ذَلِكَ بأنَّ اللهَ نزَّلَ الكتابَ بالحقِّ جِيء باسم الإشارة لرَبْط الكلام اللَّاحِق بالسَّابق، على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصلُ بين الشيء وما ارتبَط به من حُكمٍ أو عِلَّةٍ، أو نحوهما [1570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/126). .
4- قوله: فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ فيه الإظهار في موضع الإضمار؛ حيث قال: فِي الكِتَابِ، ولم يقل: (فيه)، وفائدته: أن يكون التذييلُ مستقلًّا بنفسه؛ لجريانه مجرَى المَثَل [1571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/127). .