موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسِعًا: الوسائِلُ المُعينةُ على الصَّبرِ


قال الغَزاليُّ: (اعلَمْ أنَّ الذي أنزَل الدَّاءَ أنزَل الدَّواءَ، ووعَدَ الشِّفاءَ، فالصَّبرُ وإن كان شاقًّا أو مُمتَنِعًا فتَحصيلُه مُمكِنٌ بمَعجونِ العِلمِ والعَمَلِ؛ فالعِلمُ والعَمَل هما الأخلاطُ التي مِنها تُرَكَّبُ الأدويةُ لأمراضِ القُلوبِ كُلِّها، ولكِن يحتاجُ كُلُّ مَرَضٍ إلى عِلمٍ آخَرَ وعَمَلٍ آخَرَ، وكما أنَّ أقسامَ الصَّبرِ مُختَلفةٌ فأقسامُ العِلَلِ المانِعةِ مِنه مُختَلفةٌ، وإذا اختَلفت العِللُ اختَلف العِلاجُ؛ إذ مَعنى العِلاجِ مُضادَّةُ العِلَّةِ وقمعُها) [5603] ((إحياء علوم الدين)) (4/ 75). .
أ- الوسائِلُ المُعينةُ على الصَّبرِ عنِ المَعصيةِ والصَّبرِ على الطَّاعةِ [5604] ملخَّص من كتاب ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 275). :
1- مِمَّا يُعينُ على الصَّبرِ عنِ المَعصيةِ عِلمُ العَبدِ بقُبحِها ورَذالتِها ودَناءَتِها، وأنَّ اللهَ إنَّما حَرَّمَها ونَهى عنها صيانةً وحِمايةً عنِ الدَّنايا والرَّذائِلِ، كما يحمي الوالِدُ الشَّفيقُ وَلَدَه عَمَّا يضُرُّه.
2- الحَياءُ مِنَ اللهِ سُبحانَه؛ فإنَّ العَبدَ متى عَلِم بنَظَرِه إليه ومَقامِه عليه وأنَّه بمَرأًى مِنه ومَسمَعٍ، وكان حَييًّا، استحيا مِن رَبِّه أن يتَعَرَّضَ لمساخِطِه بتَركِ طاعَتِه أو ارتِكابِ مَعاصيه.
3- مُراعاةُ نِعَمِه عَليك وإحسانِه إليك؛ فإنَّ الذُّنوبَ تُزيلُ النِّعَمَ ولا بُدَّ، فما أذنَبَ عَبدٌ ذَنبًا إلَّا زالت عنه نِعَمُه مِنَ اللهِ بحَسبِ ذلك الذَّنبِ، ومَن أطاعَه وشَكرَه زادَه مِن نِعَمِه وآلائِه.
4- خَوفُ اللهِ وخَشيةُ عِقابه، ورَجاءُ ثَوابِه ومَغفِرَتِه، وهذا إنَّما يَثبُتُ بتَصديقِه في وعدِه ووعيدِه، والإيمانِ به وبكِتابِه وبرَسولِه.
5- محبَّةُ اللهِ، وهي أقوى الأسبابِ في الصَّبرِ عن مُخالفتِه ومَعاصيه؛ فإنَّ المُحِبَّ لمَن يُحِبُّ مُطيعٌ، وكُلَّما قَوِيَ داعي المَحَبَّةِ في القَلبِ كانت استِجابَتُه للطَّاعةِ بحَسَبِه.
6- شَرَفُ النَّفسِ وزَكاؤُها وفضلُها وأنَفَتُها وحَميَّتُها أن تَختارَ الأسبابَ التي تَحُطُّها وتَضَعُ مِن قَدْرِها وتُخَفِّضُ مَنزِلتَها وتُحَقِّرُها وتُسَوِّي بَينَها وبَينَ السِّفلةِ.
7- قوَّةُ العِلمِ بسوءِ عاقِبةِ المَعصيةِ وقُبحِ أثَرِها والضَّرَرِ النَّاشِئِ مِنها؛ مِن سَوادِ الوجهِ، وظُلمةِ القَلبِ وضيقِه، وغَمِّه وحُزنِه، وألمِه وانحِصارِه، وشِدَّةِ قَلقِه واضطِرابِه، وتَمَزُّقِ شَملِه، وضَعفِه عن مُقاومةِ عَدوِّه، وتَعَرِّيه من زينتِه، والحَيرةِ في أمرِه، وتَخَلِّي وليِّه وناصِره عنه، وتَولِّي عَدوِّه المُبينِ له، وقوَّةِ العِلمِ بحُسنِ عاقِبةِ الطَّاعةِ وأثَرِها الطَّيِّبِ على النَّفسِ.
8- قِصَرُ الأمَلِ، وعِلمُه بسُرعةِ انتِقاله، وأنَّه كمُسافِرٍ دَخل قَريةً وهو مُزمِعٌ على الخُروجِ مِنها، أو كراكِبٍ قال [5605] أي: نام في الظَّهيرةِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 264). في ظِلِّ شَجَرةٍ ثُمَّ سارَ وتَركها، فهو لعِلمِه بقِلَّةِ مُقامِه وسُرعةِ انتِقالِه حَريصٌ على تَركِ ما يَثقُلُه حَملُه ويضُرُّه ولا ينفعُه، حَريصٌ على الانتِقالِ بخَيرِ ما بحَضرَتِه، فليسَ للعَبدِ أنفعُ مِن قِصَرِ الأمَلِ ولا أضَرُّ مِنَ التَّسويفِ وطولِ الأمَلِ.
9- مُجانَبةُ الفُضولِ في مَطعَمِه ومَشرَبِه ومَلبَسِه ومَنامِه واجتِماعِه بالنَّاسِ.
10- ثَباتُ شَجَرةِ الإيمانِ في القَلبِ، فصَبرُ العَبدِ عنِ المَعاصي إنَّما هو بحَسبِ قوَّةِ إيمانِه، فكُلَّما كان إيمانُه أقوى كان صَبرُه أتَمَّ، وإذا ضَعُف الإيمانُ ضَعُف الصَّبرُ، وكُلَّما قَويَ داعي الإيمانِ في القَلبِ كانت استِجابَتُه للطَّاعةِ بحَسَبِه، وهذا السَّبَبُ جامِعٌ للأسبابِ كُلِّها.
قال ابنُ القَيِّمِ: (والصَّبرُ على الطَّاعةِ ينشَأُ مِن مَعرِفةِ هذه الأسبابِ، ومِن مَعرِفةِ ما تَجلبُه الطَّاعةُ مِنَ العَواقِبِ الحَميدةِ والآثارِ الجَميلةِ، ومِن أقوى أسبابِها: الإيمانُ والمَحَبَّةُ، فكُلَّما قَويَ داعي الإيمانِ والمَحَبَّةِ في القَلبِ كانت استِجابَتُه للطَّاعةِ بحَسَبِه) [5606] ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 275). .
ب – الوسائِلُ المُعينةُ على الصَّبرِ على البَلاءِ:
1- أن يعلمَ أنَّ اللهَ قد ارتَضاها له واختارَها وقَسَمَها، وأنَّ العُبوديَّةَ تَقتَضي رِضاه بما رَضيَ له به سَيِّدُه ومَولاه.
2- أن يعلمَ أنَّ هذه المُصيبةَ هي دَواءٌ نافِعٌ ساقَه إليه الطَّبيبُ العَليمُ بمَصلحَتِه الرَّحيمُ به؛ فليصبِرْ على تَجَرُّعِه ولا يتَقَيَّأْه بتَسَخُّطِه وشَكواه فيذهَبَ نَفعُه باطِلًا.
3- أن يعلمَ أنَّ في عُقبى هذا الدَّواءِ مِنَ الشِّفاءِ والعافيةِ والصِّحَّةِ وزَوالِ الألمِ ما لم تَحصُلْ بدونِه، فإذا طالعَت نَفسُه كراهةَ هذا الدَّاءِ ومَرارَتَه فلينظُرْ إلى عاقِبَتِه وحُسنِ تَأثيرِه؛ قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] ، وقال اللهُ تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19] .
 4- أن يعلمَ أنَّ اللهَ يُرَبِّي عَبدَه على السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والنِّعمةِ والبَلاءِ، فيستَخرِجُ مِن عُبوديَّتِه في جَميعِ الأحوالِ؛ فإنَّ العَبدَ على الحَقيقةِ مَن قامَ بعُبوديَّةِ اللهِ على اختِلافِ الأحوالِ، وأمَّا عَبدُ السَّرَّاءِ والعافيةِ الذي يعبُدُ اللهَ على حَرفٍ، فإن أصابَه خَيرٌ اطمَأنَّ به، وإن أصابَته فِتنةٌ انقَلبَ على وجهِه، فليس مِن عَبيدِه الذين اختارَهم لعُبوديَّتِه، فلا رَيبَ أنَّ الإيمانَ الذي يَثبُتُ على مَحَلِّ الابتِلاءِ والعافيةِ هو الإيمانُ النَّافِعُ وقتَ الحاجةِ، وأمَّا إيمانُ العافيةِ فلا يكادُ يصحَبُ العَبدَ ويُبلِّغُه مَنازِلَ المُؤمِنينَ، وإنَّما يصحَبُه إيمانٌ يَثبُتُ على البَلاءِ والعافيةِ؛ فالابتِلاءُ كِيرُ العَبدِ ومحَكُّ إيمانِه [5607] من رقم 1 إلى 4 ملخص من كتاب ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 276). .
5- أن يعلمَ أنَّ ما أصابَه مُقدَّرٌ مِنَ اللهِ:
قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22 - 23] .
6- أن يتَذَكَّرَ أعظَمَ المَصائِبِ التي حَلَّت بالأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، وهي مَوتُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قال الشَّاعِرُ:
اصبِرْ لكُلِّ مُصيبةٍ وتَجَلَّدِ
واعلَمْ بأنَّ المَرءَ غَيرُ مُخَلَّدِ
وإذا ذَكَرتَ مُصيبةً تَسلو [5608] في بعض المصادر (تشجى). يُنظَر: ((أحسن ما سمعت)) للثعالبي (ص: 102)، ((الدر الفريد وبيت القصيد)) للمستعصمي (3/ 402). بها
فاذكُرْ مُصابَك بالنَّبيِّ محمَّدِ [5609] ((المجالسة وجواهر العلم)) للدينوري (7/ 328). ويُنظَر: ((شعب الإيمان)) للبيهقي (12/ 425). .
7- أن يتجنَّبَ الجزَعَ فهو لا ينفَعُه، بل يزيدُ من مُصابِه:
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ الجَزَعَ يُشمِتُ عَدوَّه، ويسوءُ صَديقَه، ويُغضِبُ رَبَّه، ويَسُرُّ شَيطانَه، ويُحبِطُ أجرَه، ويُضعِفُ نَفسَه، وإذا صَبرَ واحتَسَبَ أنضى [5610] أنضى: أي: أتعَبَ وأهزَلَ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 929). شَيطانَه، ورَدَّه خاسِئًا، وأرضى رَبَّه، وسَرَّ صَديقَه، وساءَ عَدوُّه، وحَمَلَ عن إخوانِه، وعَزَّاهم هو قَبلَ أن يُعزُّوه؛ فهذا هو الثَّباتُ والكَمالُ الأعظَمُ، لا لطمُ الخُدودِ، وشَقُّ الجُيوبِ، والدُّعاءُ بالوَيلِ والثُّبورِ، والسَّخَطُ على المَقدورِ) [5611] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/173). .
8- أن يتَسَلَّى المُصابُ بمَن هم أشَدُّ مِنه مُصيبةً:
قال ابنُ القَيِّمِ: (ومِن عِلاجِه أن يُطفِئَ نارَ مُصيبَتِه ببَردِ التَّأسِّي بأهلِ المَصائِبِ، وليَعلَمْ أنَّه في كُلِّ وادٍ بَنو سَعدٍ [5612] يُضرَبُ مَثَلًا لاستواءِ القومِ في الشَّرِّ والمكروهِ، ومثلُه قولُهم: أينما أوجَّهْ ألقَ سَعدًا. والمثَلُ للأضبطِ بنِ قُرَيعٍ السَّعديِّ وكان سيِّدَ قومِه، فرأى منهم تنقُّصًا له وتهاونًا به، فرحل عنهم ونزل بآخرين، فرآهم يفعلون بأشرافهِم فِعلَ قومِه به، فقصَد آخرين فرآهم على مِثلِ حالِهم، فقال: (أينما أُوَجَّهْ ألْقَ سَعدًا!) ورحل إلى قومِه. يُنظَر: ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/61). ، ولينظُرْ يَمنةً فهل يرى إلَّا مِحنةً؟! ثُمَّ ليَعطِفْ يَسرةً فهل يرى إلَّا حَسرةً؟! وأنَّه لو فتَّشَ العالمَ لم يرَ فيهم إلَّا مُبتَلًى إمَّا بفواتِ مَحبوبٍ أو حُصولِ مَكروهٍ، وأنَّ شُرورَ الدُّنيا أحلامُ نومٍ أو كظِلٍّ زائِلٍ؛ إن أضحَكت قَليلًا أبكت كثيرًا، وإن سَرَّت يومًا ساءَت دَهرًا، وإن مَتَّعَت قَليلًا خيرةً إلَّا مَلأَتْها عَبرةً، ولا سَرَّته بيومِ سُرورٍ إلَّا خَبَّأت له يومَ شُرورٍ) [5613] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/173). .
9- أن يتَسَلَّى المُصابُ بأنَّه للهِ، وأنَّ مَصيرَه إليه:
قال ابنُ القَيِّمِ: (إذا تَحَقَّقَ العَبدُ بأنَّه للهِ وأنَّ مَصيرَه إليه تَسَلَّى عن مُصيبَتِه، وهذه الكَلِمةُ مِن أبلغِ عِلاجِ المُصابِ وأنفعِه له في عاجِلتِه وآجِلتِه؛ فإنَّها تَتَضَمَّنُ أصلينِ عَظيمَينِ إذا تَحَقَّقَ العَبدُ بمَعرِفتِهما تَسَلَّى عن مُصيبَتِه: أحَدُهما: أنَّ العَبدَ وأهلَه ومالَه مِلكٌ للهِ عَزَّ وجَل حَقيقةً... الثَّاني: أنَّ مَصيرَ العَبدِ ومَرجِعَه إلى اللهِ مَولاه الحَقِّ، ولا بُدَّ أن يُخلِّفَ الدُّنيا وراءَ ظَهرِه، ويجيءَ رَبَّه فرَدًا كما خَلقَه أوَّلَ مَرَّةٍ بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عَشيرةٍ، ولكِنْ بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، فإذا كانت هذه بدايةَ العَبدِ وما خُوِّله ونِهايتَه، فكيف يفرَحُ بمَوجودٍ أو يأسى على مَفقودٍ؟!) [5614] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/173) بتصرف. .
10- أن يعلمَ أنَّ ابتِلاءَ اللهِ له هو امتِحانٌ لصَبرِه:
يقولُ ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ في ذلك: (إنَّ الذي ابتَلاه بها أحكَمُ الحاكِمينَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ، وإنَّه سُبحانَه لم يُرسِلْ إليه البَلاءَ ليُهلِكَه به ولا ليُعَذِّبَه به ولا ليجتاحَه، وإنَّما افتَقدَه به ليمتَحِنَ صَبرَه ورِضاه عنه وإيمانَه، وليسمَعَ تَضَرُّعَه وابتِهالَه، وليراه طَريحًا ببابِه لائِذًا بجَنابِه، مَكسورَ القَلبِ بَينَ يدَيه رافِعًا قِصَصَ الشَّكوى إليه) [5615] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/173). .
11- أن يعلمَ أنَّ مَرارةَ الدُّنيا هي حَلاوةُ الآخِرةِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ مَرارةَ الدُّنيا هي بعَينِها حَلاوةُ الآخِرةِ، يَقلِبُها اللهُ سُبحانَه كذلك، وحَلاوةُ الدُّنيا بعَينِها مَرارةُ الآخِرةِ، ولأن ينتَقِلَ مِن مَرارةٍ مُنقَطِعةٍ إلى حَلاوةٍ دائِمةٍ خَيرٌ له مِن عَكسِ ذلك؛ فإن خَفيَ عَليك هذا فانظُرْ إلى قَولِ الصَّادِقِ المَصدوقِ: "حُفَّت الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهَواتِ" [5616] رواه مسلم (2822) واللَّفظُ له من حديثِ أنس بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. . وفي هذا المَقامِ تَفاوتَت عُقولُ الخَلائِقِ، وظَهَرَت حَقائِقُ الرِّجالِ، فأكثَرُهم آثَرَ الحَلاوةَ المُنقَطِعةَ على الحَلاوةِ الدَّائِمةِ التي لا تَزولُ، ولم يحتَمِلْ مَرارةَ ساعةٍ لحَلاوةِ الأبَدِ، ولا ذُلَّ ساعةٍ لعِزِّ الأبَدِ، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبَدِ؛ فإنَّ الحاضِرَ عِندَه شَهادةٌ، والمُنتَظَرَ غَيبٌ، والإيمانَ ضَعيفٌ، وسُلطانَ الشَّهوةِ حاكمٌ، فتَولَّدَ مِن ذلك إيثارُ العاجِلةِ ورَفضُ الآخِرةِ) [5617] ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/173). .
12- التَّفكُّرُ في ثَوابِ المُصيبةِ التي نَزَلت واليقينُ بحُسنِ الجَزاءِ.
قال السَّمَرقَنديُّ: (ينبغي للعاقِلِ أن يتَفكَّرَ في ثَوابِ المُصيبةِ فتَسهُلَ عليه المُصيبةُ؛ فإنَّ ثَوابَ المُصيبةِ إذا استَقبَله يومَ القيامةِ يودُّ أن يكونَ جَميعُ أقارِبِه وجَميعُ أولادِه ماتوا قَبلَه لينالَ الأجرَ وثَوابَ المُصيبةِ.
وقد وعَدَ اللهُ تعالى في المُصيبةِ ثَوابًا عَظيمًا إذا صَبَرَ واحتَسَبَ) [5618] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 260). .
وعنِ الحَسَنِ البَصريِّ أنَّ رَجُلًا جَزِع على ولَدِه، وشَكا ذلك إليه، فقال الحَسَنُ: كان ابنُك يغيبُ عنك؟ قال: نَعم، كانت غَيبَتُه أكثَرَ مِن حُضورِه، قال: فاترُكه غائِبًا؛ فإنَّه لم يغِبْ عنك غيبةً الأجرُ لك فيها أعظَمُ مِن هذه، فقال: يا أبا سَعيدٍ، هَوَّنتَ عنِّي وجدي على ابني [5619] ((الأذكار)) للنووي (ص: 152). .
13- أن يذكُرَ المُصابُ نِعَمَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عليه.
(جاءَ رَجُلٌ إلى يونُسَ بنِ عبيدٍ فشَكا إليه ضِيقًا مِن حالِه ومَعاشِه، واغتِمامًا بذلك، فقال: (أيسُرُّك ببَصَرِك مِئةَ ألفٍ؟ قال: لا. قال: فبسَمعِك؟ قال: لا. قال: فبلسانِك؟ قال: لا. قال: فبعَقلِك؟ قال: لا... في خِلالٍ. وذَكَّرَه نِعَمَ اللهِ عليه، ثُمَّ قال يونُسُ: أرى لك مئينَ أُلوفًا وأنت تَشكو الحاجةَ؟!) [5620] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (6/292). .
ولمَّا قُطِعَت رِجلُ عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ وماتَ أحَدُ أبنائِه قال: (اللَّهمَّ كان لي بنون سَبعةٌ، فأخَذتَ واحِدًا وأبقَيتَ لي سِتَّةً، وكان لي أطرافٌ أربَعةٌ، فأخَذتَ واحِدًا وأبقَيتَ ثَلاثةً، ولئِن ابتَلَيتَ لقد عافَيتَ، ولئِن أخَذتَ لقد أبقَيتَ) [5621] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/430). .
ج- الوسائِلُ المُعينةُ على الصَّبرِ على ما يُصيبُ المَرءَ بغَيرِ اختيارِه مِنَ المَصائِبِ بفِعلِ النَّاسِ في مالِه أو عِرضِه أو نَفسِه:
1- أن يشهَدَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خالقُ أفعالِ العِبادِ، حَرَكاتِهم وسَكناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، فلا يتَحَرَّكُ في العالمِ العُلويِّ والسُّفليِّ ذَرَّةٌ إلَّا بإذنِه ومَشيئَتِه، فالعِبادُ آلةٌ، فانظُر إلى الذي سَلَّطَهم عَليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بك، تَستَرِحْ مِنَ الهَمِّ والغَمِّ.
2- أن يشهَدَ ذُنوبَه، وأنَّ اللهَ إنَّما سَلَّطَهم عليه بذَنبِه، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .
3- أن يشهَدَ العَبدُ حُسنَ الثَّوابِ الذي وعَدَه اللهُ لمَن عَفا وصَبَرَ، كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] .
4- أن يشهَدَ أنَّه إذا عَفا وأحسَنَ أورَثَه ذلك مِن سَلامةِ القَلبِ لإخوانِه، ونَقائِه مِنَ الغِشِّ والغِلِّ وطَلبِ الانتِقامِ وإرادةِ الشَّرِّ، وحَصَل له مِن حَلاوةِ العَفو ما يزيدُ لذَّتَه ومَنفعَتَه عاجِلًا وآجِلًا.
5- أن يعلمَ أنَّه ما انتَقَمَ أحَدٌ قَطُّ لنَفسِه إلَّا أورَثَه ذلك ذُلًّا يجِدُه في نَفسِه، فإذا عَفا أعَزَّه اللهُ تعالى، وهذا مِمَّا أخبَرَ به الصَّادِقُ المَصدوقُ؛ حَيثُ يقولُ: ((وما زادَ اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا)) [5622] رواه مسلم (2588) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
6- أن يشهَدَ أنَّ الجَزاءَ مَن جَنَّسَ العَمَلِ، وأنَّه نَفسَه ظالمٌ مُذنِبٌ، وأنَّ مَن عَفا عنِ النَّاسِ عَفا اللهُ عنه، ومَن غَفرَ لهم غَفرَ اللهُ له.
7- أن يعلمَ أنَّه إذا اشتَغَلت نَفسُه بالانتِقامِ وطَلبِ المُقابَلةِ ضاعَ عليه زَمانُه، وتَفرَّقَ عليه قَلبُه، وفاتَه مِن مَصالحِه ما لا يُمكِنُ استِدراكُه.
8- إن أوذيَ على ما فعَله للهِ، أو على ما أمَرَ به مِن طاعَتِه ونَهى عنه مِن مَعصيتِه، وجَبَ عليه الصَّبرُ، ولم يكُنْ له الانتِقامُ؛ فإنَّه قد أوذيَ في اللهِ، فأجرُه على اللهِ.
9- أن يشهَدَ مَعيَّةَ اللهِ مَعَه إذا صَبَرَ، ومُحبَّةَ اللهِ له إذا صَبَرَ ورِضاه. ومَن كان اللهُ مَعَه دَفعَ عنه أنواعَ الأذى والمضرَّاتِ ما لا يدفعُه عنه أحَدٌ مِن خَلقِه؛ قال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، وقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] .
10- أن يشهَدَ أنَّ صَبرَه حُكمٌ مِنه على نَفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتى كانت النَّفسُ مَقهورةً مَعَه مَغلوبةً، لم تَطمَعْ في استِرقاقِه وأسْرِه وإلقائِه في المَهالكِ، ومتى كان مُطيعًا لها سامِعًا مِنها مَقهورًا مَعَها، لم تَزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تَتَدارَكه رَحمةٌ مِن رَبِّه.
11- أن يعلمَ أنَّه إن صَبَرَ فاللهُ ناصِرُه ولا بُدَّ، فاللهُ وكيلُ مَن صَبَرَ، وأحال ظالِمَه على اللهِ، ومَن انتَصَرَ لنَفسِه وكَلَه اللهُ إلى نَفسِه، فكان هو النَّاصِرَ لها.
12- أنَّ صَبرَه على مَن آذاه واحتِمالَه له يوجِبُ رُجوعَ خَصمِه عن ظُلمِه، وندامتَه واعتِذارَه، ولومَ النَّاسِ له، فيعودُ بَعدَ إيذائِه له مُستَحييًا مِنه نادِمًا على ما فعَله، بَل يصيرُ مواليًا له [5623] ملخص من كتاب ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/168-174). .
13- أن يتَأسَّى بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ قال السَّمَرقَنديُّ: (الواجِبُ على العَبدِ أن يصبرَ على ما يُصيبُه مِنَ الشِّدَّةِ، ويعلمَ أنَّ ما دَفعَ اللهُ عنه مِنَ البَلاءِ أكثَرُ مِمَّا أصابَه، ويحمَدَ اللهَ تعالى على ذلك.
وينبَغي للعَبدِ أن يقتَديَ بنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وينظُرَ إلى صَبرِه على أذى المُشرِكينَ...
وكان أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شِدَّةٍ مِن أذى الكُفَّارِ ومِنَ الجوعِ، فصَبَروا على ذلك حتَّى فرَّجَ اللهُ عنهم، وكُلُّ مَن صَبرَ فرَّجَ اللهُ عنه؛ فإنَّ الفرَجَ مَعَ الصَّبرِ، وإنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا. وكان الصَّالحونَ رَحِمَهم اللهُ يفرَحونَ بالشِّدَّةِ؛ لِما يرجونَ مِن ثَوابِها) [5624] يُنظَر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 249، 254). .
وقال السُّيوطيُّ: (ما كان كبيرٌ في عَصرٍ قَطُّ إلَّا كان له عَدوٌّ مِنَ السِّفلةِ؛ إذ الأشرافُ لم تَزَلْ تُبتَلى بالأطرافِ) [5625] يُنظَر: ((فهرس الفهارس)) لعبد الحي الكتاني (1/ 542). .
14- الاستِعانةُ باللهِ تعالى وكثرةُ دُعائِه:
 قال اللهُ تعالى حِكايةً عن يعقوبَ عليه السَّلامُ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] ، المَعنى: أنَّ إقدامَ يعقوبَ عليه السَّلامُ على الصَّبرِ لا يُمكِنُ إلَّا بمَعونةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ الدَّواعيَ النَّفسانيَّةَ تَدعوه إلى إظهارِ الجَزِع، وهي قَويَّةٌ، والدَّواعيَ الرُّوحانيَّةَ تَدعوه إلى الصَّبرِ والرِّضا، فكأنَّه وقَعَت المُحارَبةُ بَينَ الصِّنفينِ، فما لم تَحصُلْ إعانةُ اللهِ تعالى لم تَحصُلِ الغَلبةُ، فقَولُه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يُجري مَجرى قَولِه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتِحة: 5] ، وقَولُه: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يُجري مَجرى قَولِه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] [5626] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (18/432). .
ولمَّا هَدَّدَ فِرعَونُ موسى عليه السَّلامُ وقَومَه قال موسى عليه السَّلامُ لقَومِه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا؛ لذا يقتَرِنُ الصَّبرُ بالتَّوكُّلِ، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وقَولِه: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.
ولما هَدَّدَ فِرعَونُ السَّحَرةَ حينَ آمَنوا قالوا: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، ثُمَّ دَعَوا اللهَ تعالى قائِلينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 125-126] .

انظر أيضا: