موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ عنْدَ الأشاعِرةِ


يُطلِقُ الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ على تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ: تَوْحيدَ الذَّاتِ والأفْعالِ، ومُرادُهم بتَوْحيدِ الذَّاتِ نَفْيُ تَرَكُّبِ الذَّاتِ مِن أجْزاءٍ، ونَفْيُ تَعَدُّدِها بحيثُ يكونُ هناك إلهٌ ثانٍ فأَكثَرُ، ومُرادُهم بتَوْحيدِ الأفْعالِ نَفْيُ تَأثيرِ أيِّ شيءٍ غَيْرِ اللهِ في إيجادِ فِعلٍ مِن الأفْعالِ [336] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 42)، ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) لابن العربي (ص: 313)، ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) للرازي (3/ 258)، ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 215)، ((إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد)) للسنباوي (ص: 25)، ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 63). .
قالَ الباجوريُّ: (مَبحَثُ الوَحْدانيَّةِ أَشرَفُ مَباحِثِ هذا الفَنِّ؛ ولِذلك سُمِّيَ باسمِ مُشتَقٍّ مِنها فقيلَ: عِلمُ التَّوْحيدِ...، والمُرادُ مِنها هنا: وَحْدةُ الذَّاتِ والصِّفاتِ، بمَعْنى عَدَمِ النَّظيرِ فيهما...، ووَحْدةُ الأفْعالِ بمَعْنى أنَّه لا تَأثيرَ لغَيْرِه في فِعلٍ مِن الأفْعالِ) [337] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 114). .
وقالَ السَّنوسيُّ: (أَوجُهُ الوَحْدانيَّةِ ثَلاثةٌ: وَحْدانيَّةُ الذَّاتِ، ووَحْدانيَّةُ الصِّفاتِ، ووَحْدانيَّةُ الأفْعالِ، وكلُّها واجِبةٌ لمَوْلانا جَلَّ وعَزَّ وَحْدَه؛ فوَحْدانيَّةُ الذَّاتِ تَنْفي التَّرْكيبَ في ذاتِه تَعالى، ووُجودَ ذاتٍ أخرى تُماثِلُ الذَّاتَ العَلِيَّةَ، وبالجُمْلةِ فوَحْدانيَّةُ الذَّاتِ تَنْفي التَّعَدُّدَ في حَقيقتِها مُتَّصِلًا كانَ أو مُنْفَصِلًا، ووَحْدانيَّةُ الصِّفاتِ تَنْفي التَّعَدُّدَ في حَقيقةِ كلِّ واحِدةٍ مِنها مُتَّصِلًا أيضًا كانَ أو مُنفَصِلًا، فعِلمُ مَوْلانا جَلَّ وعَزَّ ليس له ثانٍ يُماثِلُه لا مُتَّصِلًا، أي قائِمًا بالذَّاتِ العَلِيَّةِ، ولا مُنفَصِلًا، أي قائِمًا بذاتٍ أخرى؛ بلْ هو تَعالى يَعلَمُ المَعْلوماتِ الَّتي لا نِهايةَ لها بعِلمٍ واحِدٍ لا عَدَدَ له ولا ثانيَ له أصْلًا، وقِسْ على هذا سائِرَ صِفاتِ مَوْلانا جَلَّ وعَزَّ، ووَحْدانيَّةُ الأفْعالِ تَنْفي أن يكونَ ثَمَّ اخْتِراعٌ لكلِّ ما سِوى مَوْلانا جَلَّ وعَزَّ في فِعلٍ مِن الأفْعالِ، بل جَميعُ الكائِناتِ حادِثةٌ قد عَمَّها العَجْزُ الضَّروريُّ الدَّائِمُ عن إيجادِ أثَرٍ ما، ومَوْلانا جَلَّ وعَزَّ هو المُنفَرِدُ باخْتِراعِها وَحْدَه بلا واسِطةٍ، وما يُنسَبُ مِنها إلى غَيْرِه عَزَّ وَجَلَّ على وَجْهٍ يَظهَرُ مِنه التَّأثيرُ فهو مُؤَوَّلٌ) [338] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 134). .
وقالَ الدُّسوقيُّ: (الوَحْدانيَّةُ تَشْتَمِلُ على ثَلاثةِ أَوجُهٍ: وَحْدانيَّةُ الذَّاتِ، ووَحْدانيَّةُ الصِّفاتِ، ووَحْدانيَّةُ الأفْعالِ، وكلٌّ مِن الوَجْهَينِ الأوَّلَينِ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَينِ: فوَحْدانيَّةُ الذَّاتِ تَنْفي التَّرْكيبَ في ذاتِه تَعالى، وتَنْفي التَّعَدُّدَ؛ بأن يكونَ ثَمَّ ذاتٌ أخرى قَديمةٌ لها مِن صِفاتِ الأُلوهيَّةِ ما لِذاتِ مَوْلانا، ووَحْدانيَّةُ الصِّفاتِ تَنْفي اتِّصافَ الذَّاتِ العَلِيَّةِ بقُدْرتَينِ وإرادتَينِ إلى آخِرِ الصِّفاتِ السَّبْعِ، وتَنْفي وُجودَ صِفةٍ تُشبِهُ صِفتَه في ذاتٍ غيرِ ذاتِه حادِثةٍ) [339] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 162). .
والمُلاحَظُ أنَّ الأشاعِرةَ يَهْتَمُّونَ بإثْباتِ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ أَكثَرَ مِن اهْتِمامِهم بتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، ثُمَّ نَجِدُ أنَّهم لا يُقَرِّرونَ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ بوُضوحٍ كأهْلِ السُّنَّةِ الَّذين يَقولونَ: هو إفْرادُ اللهِ بالخَلْقِ والمُلْكِ والتَّدْبيرِ [340] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 25 - 29)، ((القَوْل السديد شرح كِتاب التوحيد)) للسعدي (ص: 19)، ((القَوْل المفيد على كِتاب التوحيد)) لابن عُثَيْمينَ (1/ 12)، ((تسهيل العَقيدة الإسلامية)) لابن جبرين (ص: 41 - 43). .
قالَ ابنُ أبي العِزِّ: (كَثيرٌ مِن أهْلِ النَّظَرِ يَزعُمونَ أنَّ دَليلَ التَّمانُعِ هو مَعْنى قَوْلِه تَعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ؛ لاعْتِقادِهم أنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ الَّذي قَرَّروه هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ الَّذي بَيَّنَه القُرْآنُ، ودَعَتْ إليه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ، وليس الأمْرُ كذلك، بلِ التَّوْحيدُ الَّذي دَعَتْ إليه الرُّسُلُ ونَزَلَتْ به الكُتُبُ هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ المُتَضَمِّنُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ، وهو عِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ المُشرِكينَ مِن العَربِ كانوا يُقِرُّونَ بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّ خالِقَ السَّمَواتِ والأرْضِ واحِدٌ، كما أَخبَرَ تَعالى عنهم بقَوْلِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84-85] ، ومِثلُ هذا كَثيرٌ في القُرْآنِ. ولم يَكونوا يَعْتَقِدونَ في الأصْنامِ أنَّها مُشارِكةٌ للهِ في خَلْقِ العالَمِ، بلْ كانَ حالُهم فيها كحالِ أمْثالِهم مِن مُشرِكي الأُمَمِ مِن الهِنْدِ والتُّرْكِ والبَرْبَرِ وغَيْرِهم؛ تارةً يَعْتَقِدونَ أنَّ هذه تَماثيلُ قَوْمٍ صالِحينَ مِن الأنْبياءِ والصَّالِحينَ، ويَتَّخِذونَهم شُفَعاءَ، ويَتَوَسَّلونَ بِهم إلى اللهِ، وهذا كانَ أصْلَ شِرْكِ العَربِ...، ومِن أسْبابِ الشِّرْكِ عِبادةُ الكَواكِبِ، واتِّخاذُ الأصْنامِ بحَسَبِ ما يُظَنُّ أنَّه مُناسِبٌ للكَواكِبِ مِن طِباعِها. وشِرْكُ قَوْمِ إبْراهيمَ عليه السَّلامُ كانَ -فيما يُقالُ- مِن هذا البابِ. وكذلك الشِّرْكُ بالمَلائِكةِ والجِنِّ، واتِّخاذُ الأصْنامِ لهم. وهؤلاء كانوا مُقِرِّينَ بالصَّانِعِ، وأنَّه ليس لِلعالَمِ صانِعانِ، ولكنِ اتَّخَذوا هؤلاء شُفَعاءَ، كما أَخبَرَ عنهم تَعالى بقَوْلِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وقالَ تَعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] . وكذلك كانَ حالُ الأُمَمِ السَّالِفةِ المُشرِكةِ الَّتي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ، كما حَكى اللهُ تَعالى في قِصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ عن تِسْعةِ الرَّهْطِ الَّذين تَقاسَموا باللهِ، أي: تَحالَفوا باللهِ، لنُبَيِّتَنَّه وأهْلَه، فهؤلاء المُفسِدونَ المُشرِكونَ تحَالَفوا باللهِ عنْدَ قَتْل نَبيِّهم وأهْلِه، وهذا يُبَيِّنُ أنَّهم كانوا مُؤمِنينَ باللهِ إيمانَ المُشرِكينَ؛ فعُلِمَ أنَّ التَّوْحيدَ المَطْلوبَ هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ الَّذي يَتَضَمَّنُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ) [341] ((شرح الطحاوية)) (1/ 28 - 32). .
وقالَ المَقْريزيُّ: (لا رَيْبَ أنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ لم يُنكِرْه المُشرِكونَ، بلْ أَقَرُّوا بأنَّه سُبْحانَه وَحْدَه خالِقُهم، وخالِقُ السَّمَواتِ والأرْضِ، والقائِمُ بمَصالِحِ العالَمِ كلِّه، وإنَّما أَنْكَروا تَوْحيدَ الإلَهيَّةِ والمَحَبَّةِ، كما قد حَكى اللهُ تَعالى عنهم في قَوْلِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، فلمَّا سَوَّوا غَيْرَه به في هذا التَّوْحيدِ كانوا مُشرِكينَ، كما قالَ تَعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] .
وقدْ عَلَّمَ اللهُ سُبْحانَه وتَعالى عِبادَه كَيْفيَّةَ مُبايَنةِ الشِّرْكِ في تَوْحيدِ الإلَهيَّةِ، وأنَّه تَعالى حَقيقٌ بإفْرادِه وَلِيًّا وحَكَمًا ورَبًّا، فقالَ تَعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14] ، وقالَ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام: 114] ، وقالَ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام: 164] ، فلا وَلِيَّ ولا حَكَمَ ولا رَبَّ إلَّا اللهُ، الَّذي مَن عَدَلَ به غَيْرَه فقدْ أَشرَكَ في أُلوهِيَّتِه ولو وَحَّدَ رُبوبِيَّتَه، فتَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الَّذي اجْتَمَعَتْ فيه الخَلائِقُ مُؤمِنُها وكافِرُها، وتَوْحيدُ الإلَهيَّةِ مَفرَقُ الطُّرُقِ بَيْنَ المُؤمِنينَ والمُشرِكينَ، ولِهذا كانَتْ كَلِمةُ الإسْلامِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو قالَ: لا رَبَّ إلَّا اللهُ، أَجْزاه عنْدَ المُحَقِّقينَ، فتَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ هو المَطْلوبُ مِن العِبادِ) [342] ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 7 - 9). ويُنظر: ((رسائل المَقريزي)) (ص: 86). .
وقالَ مَلْكاويٌّ: (جَعَلَ المُتَكلِّمونَ هَدَفَهم الأوَّلَ إثْباتَ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، والاسْتِدْلالَ على وُجودِ اللهِ، مُعْتَمِدينَ في ذلك على دَليلِ التَّمانُعِ، رَغْمَ أنَّ هذا الدَّليلَ قد وَرَدَ في القُرْآنِ للدَّلالةِ على وَحْدانيَّةِ اللهِ...، ومِن مُمَيِّزاتِ طَريقةِ المُتَكلِّمينَ بُعْدُها عن تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ والأسْماءِ والصِّفاتِ؛ لاكْتِفائِهم بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ولأنَّ بعضَ طَوائِفِهم يُفَسِّرُ التَّوْحيدَ بِما يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الصِّفاتِ، فجَعَلوا وُجودَ اللهِ وُجودًا مُطلَقًا لا يوصَفُ بوَحْدةٍ ولا كَثْرةٍ، وإثْباتُ الصِّفاتِ تَعَدُّدٌ وكَثْرةٌ، وهُمْ يُدرِجونَ في تَوْحيدِهم نَفْيَ عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِه ومُبايَنتِه لهم وعِلمِه وقُدْرتِه وسائِرِ صِفاتِه؛ لأنَّ إثْباتَ ذلك مُناقِضٌ لاعْتِقادِهم بأنَّ اللهَ لا صِفةَ له) [343] ((عَقيدة التوحيد في القُرْآن الكَريم)) (ص: 311، 314). .
ومعَ وُضوحِ الفَرْقِ بَيْنَ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ والأُلوهيَّةِ نَجِدُ بعضَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ يُنكِرُ الفَرْقَ بَيْنَهما، ويَزعُمُ بعضُهم أنَّ التَّفْريقَ بَيْنَهما قد أَحدَثَه ابنُ تَيْمِيَّةَ!
قالَ أبو حامِدِ بنُ مَرْزوقٍ الأشْعَريُّ: (تَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ وتَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ الَّذي اخْتَرَعَه ابنُ تَيْمِيَّةَ) [344] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 89). .
وقالَ أبو حامِدِ بنُ مَرْزوقٍ: (لم يَقُلْ أيُّ صَحابيٍّ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ تَعالى عليه وسلَّم ورَضِيَ عنهم: إنَّ التَّوْحيدَ يَنْقَسِمُ إلى تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، وإنَّ مَن لم يَعرِفْ تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ لا يُعتَدُّ بمَعرِفتِه لتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ هذا يَعرِفُه المُشرِكونَ، وإنِّي أتَحَدَّى كلَّ مَن له إلْمامٌ بالعِلمِ أن يَنقُلَ لنا هذا التَّقْسيمَ المُخْتَرَعَ عنهم ولو برِوايةٍ واهِيةٍ) [345] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 96). .
وقالَ أيضًا عن ابنِ تَيْمِيَّةَ: (قَسَّمَ التَّوْحيدَ إلى قِسْمَينِ وثَلاثةٍ؛ تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ، أو هما معَ تَوْحيدِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، ولم يَقُلِ اللهُ هذا في كِتابِه العَزيزِ ولا رَسولُه صلَّى اللهُ تَعالى عليه وسلَّمَ ولا السَّلَفُ) [346] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 115). .
ولكن مسمَّى الأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ مَعْروفٌ قَبْلَ ابنِ تَيْمِيَّةَ بمِئاتِ السِّنينَ سواءٌ سَمَّوه أقْسامًا أم لا.
قالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ (ت 310ه)، وهو قَبْلَ ابنِ تَيْمِيَّةَ بأَكثَرَ مِن أرْبَعِمِئةِ سَنَةٍ: (القَوْلُ في تَأويلِ قَوْلِه تَعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [مُحَمَّد: 19] يَقولُ تَعالى ذِكْرُه لنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فاعْلَمْ يا مُحَمَّدُ أنَّه لا مَعْبودَ تَنْبَغي أو تَصلُحُ له الأُلوهةُ، ويَجوزُ لك ولِلخَلْقِ عِبادتُه، إلَّا اللهُ الَّذي هو خالِقُ الخَلْقِ، ومالِكُ كلِّ شيءٍ، يَدينُ له بالرُّبوبيَّةِ كُلُّ ما دونَه) [347] ((تفسير ابن جرير)) (21/ 208). .
وقالَ ابنُ حِبَّانَ المُتَوفَّى سَنَةَ 354 هِجْريَّةً، وهو قَبْلَ ابنِ تَيْمِيَّةَ بنَحْوِ أرْبَعةِ قُرونٍ: (الحَمْدُ للهِ المُتَفَرِّدِ بوَحْدانيَّةِ الأُلوهيَّةِ، المُتَعَزِّزِ بعَظَمةِ الرُّبوبيَّةِ) [348] ((روضة العُقَلاء ونزهة الفضلاء)) (ص: 14). .
أمَّا قَوْلُ ابنِ مَرْزوقٍ: (لم يَقُلْ أيُّ صَحابيٍّ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ تَعالى عليه وسلَّمَ ورَضِيَ عنهم: إنَّ التَّوْحيدَ يَنْقَسِمُ إلى تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، وإنَّ مَن لم يَعرِفْ تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ لا يُعتَدُّ بمَعرِفتِه لتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ هذا يَعرِفُه المُشرِكونَ، وإني أتَحَدَّى كلَّ مَن له إلْمامٌ بالعِلمِ أن يَنقُلَ لنا هذا التَّقْسيمَ المُخْتَرَعَ عنهم ولو برِوايةٍ واهِيةٍ...، لم يأتِ في سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ تَعالى عليه وسلَّمَ الواسِعةِ الَّتي هي بَيانٌ لكِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن صِحاحٍ وسُنَنٍ ومَسانيدَ ومَعاجِمَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ تَعالى عليه وسلَّمَ كانَ يَقولُ لأصْحابِه ويُعَلِّمُهم أنَّ التَّوْحيدَ يَنْقَسِمُ إلى تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، وإنَّ مَن لم يَعرِفْ تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ لا يُعتَدُّ بمَعرِفتِه لتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ هذا يَعرِفُه المُشرِكونَ) [349] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 97). ، فهذا اسْتِدْلالٌ عَجيبٌ! وهو كمَن يَسْتَدِلُّ على إنْكارِ شُروطِ الصَّلاةِ بأنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَقُلْ لأصْحابِه: إنَّ شُروطَ الصَّلاةِ كَذا وكَذا، ومَعْلومٌ أنَّ الفُقَهاءَ ذَكَروا شُروطَ الصَّلاةِ مِن القُرْآنِ والسُّنَّةِ، أو كمَن يَسْتَدِلُّ على إنْكارِ تَقْسيمِ النِّفاقِ إلى نِفاقٍ أَكبَرَ وأَصغَرَ بكَوْنِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصْحابِه لم يُصَرِّحوا بِهذا التَّقْسيمِ، فكما أنَّ شُروطَ الصَّلاةِ دَلَّت عليها الأدِلَّةُ الشَّرْعيَّةُ ولا إنْكارَ على مَن ذَكَرَها مِن الفُقَهاءِ، وكما أنَّ تَقْسيمَ النِّفاقِ إلى نِفاقٍ أَكبَرَ وأَصغَرَ دَلَّت عليه الأدِلَّةُ الشَّرْعيَّةُ؛ فكذلك تَقْسيمُ التَّوْحيدِ لا وَجْهَ لإنْكارِه معَ ثُبوتِ الأدِلَّةِ عليه.
قالَ بَكْر أبو زَيدٍ في رَدِّه على مُنكِري تَقْسيمِ التَّوْحيدِ إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ، وهي تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ، وتَوْحيدُ الأسْماءِ والصِّفاتِ: (هذا التَّقْسيمُ الاسْتِقْرائيُّ لَدى مُتَقَدِّمي عُلَماءِ السَّلَفِ: أشارَ إليه ابنُ مَنْدَه، وابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ، وغَيْرُهما، وقَرَّرَه شَيْخا الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ وابنُ القَيِّمِ، وقَرَّرَه الزَّبيديُّ في تاجِ العَروسِ، وشَيْخُنا الشِّنْقيطيُّ في أضْواءِ البَيانِ، وآخَرونَ، رَحِمَ اللهُ الجَميعَ، وهو اسْتِقْراءٌ تامٌّ لنُصوصِ الشَّرْعِ، وهو مُطَّرِدٌ لَدى أهْلِ كلِّ فَنٍّ، كما في اسْتِقْراءِ النُّحاةِ كَلامَ العَربِ إلى (اسْمٍ، وفِعْلِ، وحَرْفٍ)، والعَربُ لم تَفُهْ بِهذا، ولم يَعْتِبْ على النُّحاةِ في ذلك عاتِبٌ) [350] ((التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير)) (ص: 20). ويُنظر رسالة: ((القَوْل السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد)) لعبد الرزاق البدر. .
والأمْرُ واضِحٌ لكلِّ مُنصِفٍ، ولا عِبْرةَ لمَن جَهِلَ وأَنكَرَ وتَعَسَّفَ؛ ولِهذا نَجِدُ بعضَ عُلَماءِ الأشاعِرةِ يَذكُرونَ الفَرْقَ بَيْنَ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، أو يَذكُرونَهما مِن غَيْرِ إنْكارٍ للفَرْقِ بَيْنَهما، ومِن ذلك:
قَوْلُ الجُرْجانيِّ وهو مِن الأشاعِرةِ: (التَّوْحيدُ: ثَلاثةُ أشْياءَ: مَعْرِفةُ اللهِ تَعالى بالرُّبوبيَّةِ، والإقْرارُ بالوَحْدانيَّةِ، ونَفْيُ الأنْدادِ عنه جُمْلةً) [351] ((التعريفات)) (ص: 69). .
وقالَ مُرْتَضى الزَّبيديُّ الأشْعَريُّ الماتُريديُّ: (التَّوْحيدُ تَوْحيدانِ: تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتَوْحيدُ الإلاهيَّةِ، فصاحِبُ تَوْحيدِ الرَّبانيَّةِ يَشهَدُ قَيُّوميَّةَ الرَّبِّ فوقَ عَرْشِه، يُدَبِّرُ أمْرَ عِبادِه وَحْدَه، فلا خالِقَ ولا رازِقَ ولا مُعْطِيَ ولا مانِعَ ولا مُحْيِيَ ولا مُمِيتَ ولا مُدَبِّرَ لأمْرِ المَمْلَكةِ ظاهِرًا وباطِنًا غَيْرُه، فما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكُنْ، ولا تَتَحرَّكُ ذَرَّةٌ إلَّا بإذْنِه، ولا يَجوزُ حادِثٌ إلَّا بمَشيئتِه، ولا تَسقُطُ وَرَقةٌ إلَّا بعِلمِه، ولا يَعزُبُ عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّمَواتِ ولا في الأرْضِ ولا أَصغَرُ مِن ذلك ولا أَكبَرُ إلَّا وقدْ أحْصاها عِلمُه، وأحاطَتْ بِها قُدْرتُه، ونَفَذَتْ فيها مَشيئتُه، واقْتَضَتْها حِكْمتُه. وأمَّا تَوْحيدُ الإلاهيَّةِ فهو أن يَجمَعَ هِمَّتَه وقَلْبَه وعَزْمَه وإرادتَه وحَرَكاتِه على أداءِ حَقِّه، والقِيامِ بعُبوديَّتِه) [352] ((تاج العروس)) (9/ 276). .
ومعَ تَرْكيزِ الأشاعِرةِ على تَقْريرِ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ نَجِدُ أنَّ بعضَهم يُثبِتُ للأنْبِياءِ أو الأَوْلِياءِ اسْتِجابتَهم لمَن دَعاهم بَعْدَ مَوْتِهم، ويَعُدُّونَ ذلك مِن كَراماتِهم، بلْ إنَّ مِن الأشاعِرةِ مَن أَثبَتَ للكَواكِبِ تَأثيرًا وتَدْبيرًا للكَوْنِ، وكلُّ هذا يُخالِفُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ؛ ومِن ذلك:
1- قَوْلُ الرَّازيِّ: (الفَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ في بَيانِ كَيْفيَّةِ الانْتِفاعِ بزِيارةِ المَوْتى والقُبورِ، سَألَني بعضُ أكابِرِ المُلوكِ عن هذه المَسْألةِ، وهو المَلِكُ مُحَمَّدُ بنُ سامِ بنِ الحُسَيْنِ الغُوريُّ، وكانَ رَجُلًا حَسَنَ السِّيرةِ، مَرْضِيَّ الطَّريقةِ، شَديدَ المَيْلِ إلى العُلَماءِ، قَوِيَّ الرَّغْبةِ في مُجالَسةِ أهْلِ الدِّينِ والعَقْلِ، فكَتَبْتُ له فيه رِسالةً، وأنا أَذكُرُ هاهنا مُلَخَّصَ ذلك الكَلامِ...، إنَّ الإنْسانَ إذا ذَهَبَ إلى قَبْرِ إنْسانٍ قَوِيِّ النَّفْسِ كامِلِ الجَوْهَرِ شَديدِ التَّأثيرِ، ووَقَفَ هناك ساعةً، وتَأثَّرَتْ نَفْسُه مِن تلك التُّرْبةِ؛ حَصَلَ لنَفْسِ هذا الزَّائِرِ تَعَلُّقٌ بتلك التُّرْبةِ، وقدْ عَرَفْتَ أنَّ لنَفْسِ ذلك المَيِّتِ تَعَلُّقًا بتلك التُّرْبةِ أيضًا، فحينَئذٍ يَحصُلُ لنَفْسِ هذا الزَّائِرِ الحَيِّ، ولنَفْسِ ذلك الإنْسانِ المَيِّتِ مُلاقاةٌ، بسَبَبِ اجْتِماعِهما على تلك التُّرْبةِ...!) [353] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (7/ 275). .
وقالَ أيضًا: (الطِّلَسْمُ عِبارةٌ عن تَمْزيجِ الأسْبابِ السَّماويَّةِ الفَعَّالةِ بالأسْبابِ المُنْفَعِلةِ الأرْضيَّةِ، لإحْداثِ أمْرٍ مُخالِفٍ للعادةِ، أو لمَنْعِ حُدوثِ أمْرٍ يُوافِقُ العادةَ، وإذا كانَ كذلك فهذا العِلمُ إنَّما يَتِمُّ بمَعْرِفةِ الأسْبابِ الفَعَّالةِ السَّماويَّةِ، ومَعْرِفةِ الأسْبابِ القابِلةِ الأرْضيَّةِ، فمَن عَرَفَ هذَينِ النَّوْعَينِ، وقَدَرَ على الجَمْعِ بَيْنَهما، وَصَلَ إلى غَرَضِه) [354] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (8/ 167). .
2- قَوْلُ سَلامةَ العَزَّاميِّ الصُّوفيِّ: (التَّوَسُّلُ والتَّشَفُّعُ والاسْتِغاثةُ بالنَّبِيِّينَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، والصَّالِحينَ رَضِيَ الله عنهم، بَعْدَ وَفاتهِم، معَ اعْتِقادِ أنَّهم مَفاتيحُ الرَّحْمةِ وأسْبابُ الخَيْرِ، والفاتِحُ لها بِهم هو اللهُ وَحْدَه- ليس شِرْكًا ولا كُفْرًا، ولا حَرامًا ولا مَكْروهًا، بلْ هو سَبيلُ المُؤمِنينَ، وطَريقُ عِبادِ اللهِ المَرْضيِّينَ!) [355] ((فرقان القُرْآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان)) (ص: 21). .
ولبعضِ المُتَأخِّرينَ مِن الصُّوفيَّةِ الأشاعِرةِ أو المُتَأثِّرينَ بالأشاعِرةِ كُتُبٌ تُناقِضُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ، ومِن ذلك كِتابُ: (إتْحاف الأذْكياء بجَوازِ التَّوَسُّلِ بالأنْبِياء والأَوْلِياء) لعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الغماريِّ، وكِتابُ (شَواهِد الحَقِّ في الاسْتِغاثةِ بسَيِّدِ الخَلْقِ) ليوسُفَ النَّبْهانيِّ.

انظر أيضا: