موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: تَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ عنْدَ الأشاعِرةِ


التَّوْحيدُ عنْدَ الأشاعِرةِ يَشمَلُ ثَلاثةَ أمورٍ:
1- أنَّ اللهَ واحِدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له.
2- وأنَّه واحِدٌ في صِفاتِه لا شَبيهَ له.
3- وأنَّه واحِدٌ في أفْعالِه لا شَريكَ له [356] يُنظر: ((الرسالة القشيرية)) للقشيري (2/ 462)، ((الشامل في أصول الدين)) للجويني (ص: 345)، ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 59). .
قالَ الشَّهْرَسْتانيُّ: (قالَ أصْحابُنا: الواحِدُ هو الشَّيءُ الَّذي لا يَصِحُّ انْقِسامُه؛ إذْ لا تَقبَلُ ذاتُه القِسْمةَ بوَجْهٍ ولا تَقبَلُ الشَّرِكةَ بوَجْهٍ؛ فالباري تَعالى واحِدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحِدٌ في صِفاتِه لا شَبيهَ له، وواحِدٌ في أفْعالِه لا شَريكَ له) [357] ((نهاية الإقدام في علم الكَلام)) (ص: 56). ويُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 42). .
وقالَ ابنُ العَرَبيِّ: (صارَ واحِدًا في ذاتِه بعَدَمِ التَّجَزِّي، واحِدًا في صِفاتِه، واحِدًا في أفْعالِه ومَخْلوقاتِه، وكلُّ واحِدٍ مِن هذه الأوْجُهِ الثَّلاثةِ واجِبٌ في وَصْفِه؛ فلا قَسيمَ له في الذَّاتِ، ولا شَبيهَ له في الصِّفاتِ، ولا شَريكَ له في تَدْبيرِ المَصْنوعاتِ) [358] ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى)) (ص: 313). .
وقالَ الصَّفاقِسيُّ: (التَّوْحيدُ: أن تُثبِتَ ذاتًا مَوْصوفةً بالصِّفاتِ، مُنَزَّهةً عن النَّقائِصِ، مُخالِفةً للحَوادِثِ. قالَ بعضُ الحُكَماءِ: أُصولُ التَّوْحيدِ أرْبَعةٌ:
أوَّلُها: العِلمُ بوَحْدانيَّةِ اللهِ تَعالى.
والثَّاني: أن تَعلَمَ أنَّه مُنَزَّهٌ عن الكَيْفيَّةِ.
والثَّالِثُ: أن تَعلَمَ أنَّه مُتَعالٍ عن الكَمِّيَّةِ.
والرَّابِعُ: أن تَعلَمَ أنَّه مُتَعالٍ عن الأيْنِيَّةِ) [359] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 38). .
وقالَ الصَّفاقِسيُّ أيضًا: (التَّدَيُّنُ بالتَّوْحيدِ الَّذي هو: إثْباتُ ذاتٍ غَيْرِ مُشْبِهةٍ للذَّواتِ ولا مُعَطَّلةٍ عن الصِّفاتِ: مِمَّا لم يُخْتَلَفْ فيه في شَريعةٍ مِن الشَّرائِعِ، حتَّى لو ألَّفَ أبونا آدَمُ كِتابًا في عِلمِ الكَلامِ لكانَ يُقرَأُ ويُقَرَّرُ في زَمانِنا، ومِن قَبْلِنا كذلك) [360] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 164). .
وقالَ السَّنوسيُّ: (مَعْنى الأُلوهيَّةِ اسْتِغناءُ الإلهِ عن كُلِّ ما سِواه، وافْتِقارُ كُلِّ ما عَداه إليه، فمَعْنى لا إلهَ إلَّا اللهُ: لا مُسْتَغنيًا عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرًا إليه كلُّ ما عَداه إلَّا اللهُ تَعالى) [361] ((متن السنوسية)) (ص: 11). .
وقالَ السَّنوسيُّ أيضًا: (الكُتُبُ الإلَهيَّةُ أَطبَقَتْ على التَّوْحيدِ، فوَجَبَ أن يكونَ التَّوْحيدُ حَقًّا، قالَ ابنُ التَّلِمْسانيِّ: يَعْني بالتَّوْحيدِ اعْتِقادَ الوَحْدةِ للهِ تَعالى والإقْرارَ بِها) [362] ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) للحامدي (ص: 322). .
ونَجِدُ بعضَ الأشاعِرةِ قد يُبَيِّنُ مَعْنى لا إلهَ إلَّا اللهُ على المَعْنى الحَقِّ، ويُعرِّفُ التَّوْحيدَ كما يُعرِّفُه أهْلُ السُّنَّةِ، لكن لا يُؤكِّدونَ على هذا، ورُبَّما يَذكُرونَه عَرَضًا، وبعضُهم لا يَقْتَصِرُ على ذِكْرِ الصَّوابِ، كما في هذه النُّقولِ:
1- قالَ الصَّاويُّ: (مَعْنى "لا إلهَ إلَّا اللهُ" المُطابِقيُّ: لا مَعْبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، ومَعْناها الالْتِزاميُّ: لا مُسْتَغْنِيًا عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرًا إليه كلُّ ما عَداه إلَّا اللهُ) [363] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 289). .
وقالَ الصَّاويُّ مُعَرِّفًا التَّوْحيدَ الشَّرْعيَّ: (هو إفْرادُ المَعْبودِ بالعِبادةِ معَ اعْتِقادِ وَحْدتِه ذاتًا وصِفاتٍ وأفْعالًا، فقَوْلُنا: (إفْرادُ المَعْبودِ بالعِبادةِ) أي: عَدَمُ الشَّريكِ له فيها ظاهِرًا وباطِنًا.
وقَوْلُنا: (معَ اعْتِقادِ وَحْدتِه) أي: مَعْرِفةِ وَحْدتِه) [364] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 289). .
2- قالَ الباجوريُّ: (الجُمْلةُ الأُولى نَفَتِ الأُلوهيَّةَ عن غَيْرِه تَعالى وأَثبَتَتْها له تَعالى، وحَقيقةُ الأُلوهيَّةِ العِبادةُ بحَقٍّ، ويَلزَمُ مِنها اسْتِغناءُ الإلهِ عن كلِّ ما سِواه، وافْتِقارُ كلِّ ما عَداه إليه، فحَقيقةُ الإلهِ: المَعْبودُ بحَقٍّ، ويَلزَمُ مِنه أنَّه مُسْتَغْنٍ عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرٌ إليه كلُّ ما عَداه، فمَعْنى "لا إلهَ إلَّا اللهُ" الحَقيقيُّ: لا مَعْبودَ بحَقٍّ في الواقِعِ إلَّا اللهُ. ومَعْناها بطَريقِ اللُّزومِ: لا مُسْتَغْنِيًا عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرًا إليه كلُّ ما عَداه إلَّا اللهُ. فتَفْسيرُ الشَّيْخِ السَّنوسيِّ الَّذي ذَكَرَه في الصُّغْرى باللَّازِمِ لا بالحَقيقةِ، وإنَّما اخْتارَه لكَوْنِ اسْتِلزامِه للعَقائِدِ المُتَقدِّمةِ أَظهَرَ مِن اسْتِلزامِ المَعْنى الحَقيقيِّ لها، فإذا عَلِمْتَ ذلك فاعْلَمْ أنَّ الاسْتِغناءَ يَسْتَلْزِمُ وُجوبَ وُجودِه وقِدَمِه وبَقائِه، ومُخالَفتِه للحَوادِثِ، وقِيامِه بنَفْسِه وتَنْزيهِه عن النَّقائِصِ، ويَدخُلُ في ذلك السَّمْعُ والبَصَرُ والكَلامُ ولَوازِمُها، وهي كَوْنُه سَميعًا وبَصيرًا ومُتَكلِّمًا، بِناءً على القَوْلِ بالأحْوالِ؛ إذْ لو لم تَجِبْ له هذه الصِّفاتُ لكانَ مُحْتاجًا إلى المُحدِثِ أو المَحَلِّ أو مَن يَدفَعُ عنه النَّقائِصَ، فهذه إحْدى عَشْرةَ عَقيدةً مِن الواجِباتِ، وإذا وَجَبَتْ هذه الصِّفاتُ اسْتَحالَتْ أضْدادُها، فهذه إحْدى عَشْرةَ عَقيدةً مِن المُسْتَحيلاتِ، يَسْتَلْزِمُ أيضًا نَفْيَ وُجوبِ فِعلِ شيءٍ مِن المُمْكِناتِ أو تَرْكَه، وإلَّا لَزِمَ افْتِقارُه إلى فِعلِ ذلك الشَّيءِ أو تَرْكِه ليَتَكمَّلَ به، فهذه عَقيدةُ الجائِزِ، فجُملةُ ما اسْتَلْزَمَه الاسْتِغناءُ ثَلاثةٌ وعِشْرونَ عَقيدةً. وأمَّا الافْتِقارُ فيَسْتَلْزِمُ الحَياةَ والقُدْرةَ والإرادةَ والعِلمَ، ولَوازِمَها، وهي كَوْنُه حَيًّا وقادِرًا ومُريدًا وعالِمًا، بِناءً على القَوْلِ بالأحْوالِ، ويَسْتَلْزِمُ أيضًا الوَحْدانيَّةَ، فهذه تِسْعةٌ مِن العَقائِدِ الواجِباتِ، ومتى وَجَبَتْ هذه الصِّفاتُ اسْتَحالَتْ أضْدادُها، فهذه تِسْعةٌ مِن العَقائِدِ المُسْتَحيلاتِ، فجُملةُ ما اسْتَلْزَمَه الافْتِقارُ ثَماني عَشْرةَ عَقيدةً، فإذا ضُمَّتْ للثَّلاثةِ والعِشْرينِ السَّابِقةِ كانَ المَجْموعُ واحِدًا وأرْبَعينَ؛ الواجِبُ له تَعالى مِنها عِشْرونَ، والمُسْتَحيلُ عليه عِشْرونَ، والجائِزُ عليه واحِدٌ) [365] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 208، 209). .
وقالَ الباجوريُّ أيضًا: (هو إفْرادُ المَعْبودِ بالعِبادةِ معَ اعْتِقادِ وَحْدتِه والتَّصْديقِ بها ذاتًا وصِفاتٍ وأفْعالًا، فليس هناك ذاتٌ تُشبِهُ ذاتَه تَعالى، ولا تَقبَلُ ذاتُه الانْقِسامَ لا فِعْلًا ولا وَهْمًا ولا فَرضًا مُطابِقًا للواقِعِ، ولا تُشبِهُ صِفاتُه الصِّفاتِ، ولا تَعَدُّدَ فيها مِن جِنْسٍ واحِدٍ بأن يكونَ له تَعالى قُدْرتانِ مَثَلًا، ولا يَدخُلُ أفْعالَه الاشْتِراكُ؛ إذ لا فِعْلَ لغَيْرِه سُبْحانَه خَلْقًا، وإن نُسِبَ إلى غَيْرِه كَسْبًا) [366] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 38، 39). .
وللأسَفِ نَجِدُ عنْدَ بعضِ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ خَلَلًا في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، بلْ وَصَلَ الحالُ ببعضِ غُلاةِ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ أن ألَّفوا كُتُبًا في الدِّفاعِ عن الشِّرْكِ أو وَسائِلِ الشِّرْكِ، وفي الرَّدِّ على أهْلِ التَّوْحيدِ! ومِن ذلك كِتابُ: (إحْياءِ المَقْبورِ بأدِلَّةِ اسْتِحبابِ اتِّخاذِ المَساجِدِ والقِبابِ على القُبورِ) لأبي الفَيْضِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الصِّدِّيقِ الغماريِّ الأزْهَريِّ، وكِتابُ (إتْحاف الأذْكياءِ بجَوازِ التَّوَسُّلِ بالأنْبِياءِ والأَوْلِياءِ) لعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الغماريِّ، وكِتابُ (شَواهِد الحَقِّ في الاسْتِغاثةِ بسَيِّدِ الخَلْقِ) ليوسُفَ النَّبْهانيِّ، و(الدُّرَر السَّنيَّةِ في الرَّدِّ على الوَهَّابيَّةِ) لأَحْمَد زيني دَحْلان، وكِتابُ (مَفاهيمُ يَجِبُ أن تُصَحَّحَ) لمُحَمَّد عَلَويِّ المالِكيِّ [367] يُنظر في الرَّدِّ على شُبُهاتِ القُبوريِّينَ رسالة: ((كشف الشبهات)) لمُحَمَّد بن عَبْد الوَهَّاب، وكِتاب: ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) للآلوسي، وكِتاب: ((صيانة الإنسان عن وسوسة الشَّيْخ دحلان)) للسَّهْسَوَاني الهندي، وكِتاب: ((التوسل أنواعه وأحكامه)) للألباني، وكِتاب: ((هذه مفاهيمنا)) لصالح بن عبد العزيز آل الشَّيْخ، وغيرها. .
وقدْ تَقدَّمَ في البابِ الثَّالِثِ بعضُ النُّقولِ عن أئِمَّةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ ممَّا فيه مُخالَفةٌ صَريحةٌ لتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، ومِن ذلك الغُلُوُّ في الصَّالحينَ إلى حَدِّ اعْتِقادِ أنَّهم يَعلَمونَ الغَيْبَ، وأنَّهم يَسْتَجيبونَ لمَن دَعاهم بَعْدَ مَوْتِهم. واللهُ المُسْتعانُ!
وذَكَرَ الخادِميُّ نُقولًا عن بعضِ الأشاعِرةِ وغَيْرِهم، فقالَ: (عن الزَّيْلعيِّ: ويَجوزُ التَّوَسُّلُ إلى اللهِ تَعالى والاسْتِغاثةُ بالأنْبِياءِ والصَّالِحينَ بَعْدَ مَوْتِهم؛ لأنَّ المُعْجِزةَ والكَرامةَ لا تَنْقَطِعُ بمَوْتِهم، وعن الرَّمْليِّ أيضًا بعَدَمِ انْقِطاعِ الكَرامةِ بالمَوْتِ، وعن إمامِ الحَرَمَينِ: ولا يُنكِرُ الكَرامةَ ولو بَعْدَ المَوْتِ إلَّا رافِضيٌّ، وعن الأَجْهورِيِّ: الوَلِيُّ في الدُّنْيا كالسَّيْفِ في غِمْدِه، فإذا ماتَ تَجَرَّدَ مِنه، فيكونُ أَقْوى في التَّصرُّفِ، كَذا نُقِلَ عن نورِ الهِدايةِ لأبي علِيٍّ السِّنْجِيِّ) [368] ((بريقة محمودية)) (1/ 203). .
ونَجِدُ في كَلامِ بعضِ الأشاعِرةِ شُبُهاتٍ مُزَخْرَفةً، واعْتِراضاتٍ يَحسَبُها الجاهِلُ صَحيحةً، ففَتَنوا النَّاسَ بتَجْويزِ دُعاءِ غَيْرِ اللهِ سُبْحانَه، واتَّهَموا مَن لا يَسْتَغيثُ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يُعَظِّمُه التَّعْظيمَ الواجِبَ له، وتَأمَّلْ كَلامَ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكيِّ الأشْعَريِّ الَّذي أَبطَلَه ابنُ عَبْدِ الهادي بكَلامٍ نَفيسٍ؛ قالَ ابنُ عَبْدِ الهادي فيما نَقَلَه عن المُعتَرِضِ السُّبْكيِّ عَفا اللهُ عنَّا وعنه: (المَعْلومُ مِن الدِّينِ وسِيَرِ السَّلَفِ الصَّالِحينَ التَّبَرُّكُ ببعضِ المَوْتى مِن الصَّالِحينَ، فكيف بالأنْبِياءِ والمُرْسَلينَ؟ ومَن ادَّعى أنَّ قُبورَ الأنْبِياءِ وغَيْرِهم مِن أمْواتِ المُسلِمينَ سواءٌ فقدْ أتى أمْرًا عَظيمًا نَقطَعُ ببُطْلانِه وخَطَئِه فيه، وفيه حَطٌّ لرُتْبةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى دَرَجةِ مَن سِواه مِن المُؤمِنينَ؛ وذلك كُفْرٌ بيَقينٍ، فإنَّ مَن حَطَّ رُتْبةَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا يَجِبُ له فقدْ كَفَرَ، فإن قالَ: إنَّ هذا ليس بحَطٍّ، ولكنَّه مَنْعٌ مِن التَّعْظيمِ فَوْقَ ما يَجِبُ له. قُلْتُ: هذا جَهْلٌ وسوءُ أدَبٍ، ونحن نَقطَعُ بأنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسْتحِقُّ التَّعْظيمَ أَكثَرَ مِن هذا المِقْدارِ في حَياتِه وبَعْدَ مَوْتِه، ولا يَرْتابُ في ذلك مَن في قَلْبِه شيءٌ مِن الإيمانِ، هذا كلُّه كَلامُ المُعتَرِضِ. فانْظُرْ إلى ما تَضَمَّنَه مِن الغُلُوِّ والجَهْلِ والتَّكْفيرِ بمُجَرِّدِ الهَوى وقِلَّةِ العِلمِ، أفَلا يَسْتَحيي مَن هذا مَبلَغُ عِلمِه أن يَرْميَ أتْباعَ الرَّسولِ وحِزْبَه وأَوْلِياءَه برَأيِه الَّذي يَشهَدُ به عليه كَلامُه، لكنْ مَن يُرِدِ اللهُ فِتْنتَه فلن تَملِكَ له مِن اللهِ شَيئًا...، يُقالُ لِهذا المُعتَرِضِ وأشْباهِه مِن عُبَّادِ القُبورِ: أَتوجِبونَ كلَّ تَعْظيمٍ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو نَوْعًا خاصًّا مِن التَّعْظيمِ؟ فإن أَوجَبْتُم كلَّ تَعْظيمٍ لَزِمَكم أن توجِبوا السُّجودَ لقَبْرِه وتَقْبيلَه واسْتِلامَه والطَّوافَ به؛ لأنَّه مِن تَعْظيمِه، وقد أَنكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن عَظَّمَه بما لم يَأذَنْ به، كتَعْظيمِ مَن سَجَدَ له، وقالَ: ((لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النَّصارى عيسى بنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أنا عَبْدٌ، فقَوْلوا: عَبْدُ اللهِ ورَسولُه )) [369] أخرجه البخاريُّ (3445) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ومَعْلومٌ أنَّ مُطْريَه إنَّما قَصَدَ تَعْظيمَه، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن قالَ له: سَيِّدُنا وابنُ سَيِّدِنا، وخَيْرُنا وابنُ خَيْرِنا: ((عليكم بقَوْلِكم، ولا يَسْتَهْوِينَّكم الشَّيْطانُ)) [370] أخرجه مطولًا: أَحْمَد (12551)، وابنُ حِبَّان (6240) باخْتِلافٍ يسيرٍ، والنَّسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10078) واللَّفْظُ له من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه. صحَّحه ابنُ حِبَّان، والألبانيُّ في ((إصلاح المساجد)) (139)، والوادعيُّ على شرط مُسلِم في ((الصَّحيح المسنَد مما ليس في الصَّحيحين)) (132)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أَحْمَد)) (13529). ، فمَن عَظَّمَه بما لا يُحِبُّ فإنَّما أتى بضِدِّ التَّعْظيمِ، وهذا نَفْسُ ما حَرَّمَه الرَّسولُ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، ونَهى عنه وحَذَّرَ مِنه. وأيضًا فإنَّ الحَلِفَ به تَعْظيمٌ له، فقولوا: يَجِبُ على الحالِفِ أن يَحلِفَ به؛ لأنَّه تَعْظيمٌ له، وتَعْظيمُه واجِبٌ، وكذلك تَسْبيحُه وتَكْبيرُه والتَّوَكُّلُ عليه والذَّبْحُ باسْمِه، كلُّ هذا تَعْظيمٌ له...، وإن قُلْتُم: إنَّما نوجِبُ نَوْعًا خاصًّا مِن التَّعْظيمِ طُولِبْتُم بضابِطِ هذا النَّوْعِ وَحْدَه، والفَرْقِ بَيْنَه وبَيْنَ التَّعْظيمِ الَّذي لا يَجِبُ ولا يَجوزُ) [371] ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص: 333) باختِصارٍ. .
والمُطَّلِعُ على كُتُبِ الأشاعِرةِ يَجِدُ أن تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ غَيْرُ واضِحِ المَعالِمِ في كُتُبِهم، وأنَّ اهْتِمامَهم بتَقْريرِ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ أَكثَرُ مِنِ اهْتِمامِهم بتَقْريرِ تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، وقدْ بَحَثْنا في أَكثَرَ مِن خَمْسينَ كِتابًا مِن كُتُبِ التَّوْحيدِ والعَقائِدِ الَّتي ألَّفَها الأشاعِرةُ فلم نَجِدْ أَكثَرَهم يَذكُرونَ قَوْلَه تَعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] ، ولا قَوْلَه سُبْحانَه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] ، وغالِبُهم لم يَذكُروا فيها حَديثَ: ((مَن حَلَفَ بغَيْرِ اللهِ فقدْ أَشرَكَ )) [372] أخرجه أبو داود (3251) واللَّفْظُ له، والترمذيُّ (1535)، وأَحْمَد (6072) باخْتِلافٍ يسيرٍ من حديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما. صَحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صَحيحه)) (4358)، والحاكِمُ على شرط الشَّيْخين في ((المستدرك)) (7814)، وابن تَيْمِيَّةَ كما في ((المستدرك على مجموع الفَتاوى)) لابن قاسِم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). ، ولا حَديثَ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنْبِيائِهم مَساجِدَ )) [373] أخرجه البخاريُّ (1390)، ومُسلِم (529) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، وغالِبُهم لم يَذكُروا في كُتُبِهم الفَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ الأَكبَرِ والشِّرْكِ الأَصغَرٍ، وما أَقَلَّ مَن تَكلَّمَ مِنهم بتَوَسُّعٍ عن الإخْلاصِ والرِّياءِ كأبي حامِدٍ الغَزاليِّ!
ومِن أسْبابِ عَدَمِ وُضوحِ المَنهَجِ الأشْعَريِّ في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ [374] يُنظر: ((مَنهَج أهْل السُّنَّة والجَماعة ومَنهَج الاشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/154). :
أوَّلًا: عَرَّفَ كَثيرٌ مِن الأشاعِرةِ كَلِمةَ (إله) بأنَّه القادِرُ على الاخْتِراعِ
قالَ الشَّهْرَسْتانيُّ: (قالَ أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ إسْماعيلَ الأشْعَريُّ: إذا كانَ الخالِقُ على الحَقيقةِ هو الباريَ تَعالى لا يُشارِكُه في الخَلْقِ غَيْرُه، فأَخَصُّ وَصْفِه تَعالى هو: القُدْرةُ على الاخْتِراعِ، قالَ: وهذا هو تَفْسيرُ اسْمِه تَعالى: الله) [375] ((الملل والنحل)) (1/ 100). .
وقالَ عَبْدُ القاهِرِ الأسْفَرايِينيُّ: (اخْتَلَفَ أصْحابُنا في مَعْنى الإلهِ؛ فمِنهم مَن قالَ: إنَّه مُشْتَقٌّ مِن الإلَهيَّةِ، وهي قُدْرتُه على اخْتِراعِ الأعْيانِ، وهو اخْتِيارُ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ) [376] ((أصول الدين)) (ص: 123). .
وقالَ الفَخْرُ الرَّازيُّ: (الإلهُ هو القادِرُ على الاخْتِراعِ) [377] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (9/ 285). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/ 217). .
وقدْ أصابَ بعضُ الأشاعِرةِ في تَعْريفِ الإلهِ بأنَّه المُسْتَحِقُّ للعِبادةِ، لكنَّهم لا يُؤَكِّدونَ على هذا المَعْنى، قالَ الدُّسوقيُّ: (الحاصِلُ أنَّ الإلهَ إن أُخِذَ مِن أَلَهَ: إذا عُبِدَ، كانَ مَعْنى الإلهِ المَعْبودَ بحَقٍّ، وكانَ مَعْنى الكَلِمةِ المُشرَّفةِ المُطابِقيُّ: لا مُسْتَحِقًّا للمَعْبوديَّةِ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، وكانَ المَعْنى الثَّاني، وهو لا مُسْتَغْنِيًا عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرًا إليه كلُّ ما عَداه إلَّا اللهُ- تَفْسيرًا باللَّازِمِ، وإن أُخِذَ الإلهُ مِن لاهَ: إذا ارْتَفَعَ، كانَ مَعْنى الإلهِ المُرْتفِعَ عَظيمَ الشَّأْنِ، وكانَ مَعْنى الكَلِمةِ المُشرَّفةِ المُطابِقيُّ: لا سَيِّدَ مُرْتَفِعًا عَظيمَ الشَّأنِ إلَّا اللهُ، وكانَ المَعْنى الثَّاني، وهو لا مُسْتَغْنِيًا عن كلِّ ما سِواه ومُفْتَقِرًا إليه كلُّ ما عَداه-تَفْسيرًا باللَّازِمِ) [378] ((أصول الدين)) (ص: 123). .
قالَ سُلَيْمانُ بنُ عَبْدِ اللهِ آلُ الشَّيْخِ: (أمَّا عُبَّادُ القُبورِ فلم يَعرِفوا مَعْنى هذه الكَلِمةِ، ولا عَرَفوا الإلَهيَّةَ المَنْفيَّةَ عن غَيْرِ اللهِ الثَّابِتةَ له وَحْدَه لا شَريكَ له، بلْ لم يَعرِفوا مِن مَعْناها إلَّا ما أَقَرَّ به المُؤمِنُ والكافِرُ، واجْتَمَعَ عليه الخَلْقُ كلُّهم مِن أنَّ مَعْناها: لا قادِرَ على الاخْتِراعِ، أو أنَّ مَعْناها: الإلهُ، هو الغَنِيُّ عمَّا سِواه، الفَقيرُ إليه كلُّ ما عَداه، ونَحْوُ ذلك، فهذا حَقٌّ، وهو مِن لَوازِمِ الإلَهيَّةِ، ولكنْ ليس هو المُرادَ بمَعْنى: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ هذا القَدْرَ قد عَرَفَه الكُفَّارُ، وأقَرُّوا به، ولم يَدَّعوا في آلِهتِهم شَيئًا مِن ذلك، بلْ يُقِرُّونَ بفَقْرِهم وحاجتِهم إلى اللهِ، وإنَّما كانوا يَعْبُدونَهم على مَعْنى أنَّهم وَسائِطُ وشُفَعاءُ عنْدَ اللهِ في تَحْصيلِ المَطالِبِ ونَجاحِ المَآرِبِ، وإلَّا فقدْ سَلَّموا الخَلْقَ والمُلْكَ والرِّزْقَ والإحْياءَ والإماتةَ والأمْرَ كلَّه للهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، وقدْ عَرَفوا مَعْنى: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأَبَوا على النُّطْقِ والعَمَلِ بِها، فلم يَنفَعْهم تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ معَ الشِّرْكِ في الإلَهيَّةِ، كما قالَ تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ، وعُبَّادُ القُبورِ نَطَقوا بِها وجَهِلوا مَعْناها، وأَبَوا عن الإتْيانِ به، فصاروا كاليَهودِ الَّذين يَقولونَها ولا يَعرِفونَ مَعْناها، ولا يَعمَلونَ به، فتَجِدُ أحَدَهم يَقولُها وهو يُؤَلِّهُ غَيْرَ اللهِ بالحُبِّ والإجْلالِ والتَّعْظيمِ والخَوْفِ والرَّجاءِ والتَّوَكُّلِ والدُّعاءِ عنْدَ الكَرْبِ، ويَقصِدُه بأنْواعِ العِبادةِ الصَّادِرةِ عن تَألُّهِ قَلْبِه لغَيْرِ اللهِ ممَّا هو أَعظَمُ ممَّا يَفعَلُه المُشرِكونَ الأوَّلونَ؛ ولِهذا إذا تَوَجَّهَتْ على أحَدِهم اليَمينُ باللهِ تَعالى أَعْطاك ما شِئْتَ مِن الأيمانِ صادِقًا أو كاذِبًا، ولو قيلَ له: احْلِفْ بحَياةِ الشَّيْخِ فُلانٍ، أو بتُرْبتِه ونَحْوِ ذلك، لم يَحلِفْ إن كانَ كاذِبًا، وما ذاك إلَّا لأنَّ المَدْفونَ في التُّرابِ أَعظَمُ في قَلْبِه مِن رَبِّ الأرْبابِ...، وكَثيرٌ مِنهم يَرى أنَّ الاسْتِغاثةَ بإلَهِه الَّذي يَعبُدُه عنْدَ قَبْرِه أو غَيْرِه أَنفَعُ وأَنجَحُ مِن الاسْتِغاثةِ باللهِ في المَسجِدِ، ويُصَرِّحونَ بِذلك! والحِكاياتُ عنهم بِذلك فيها طولٌ، وهذا أمْرٌ ما بَلَغَ إليه شِرْكُ الأَوَّلينَ، وكلُّهم إذا أصابَتْهم الشَّدائِدُ أَخْلَصوا للمَدْفونينَ في التُّرابِ، وهَتَفَوا بأسْمائِهم، ودَعَوهم ليَكْشِفوا ضُرَّ المُصابِ في البَرِّ والبَحْرِ والسَّفَرِ والإيابِ، وهذا أمْرٌ ما فَعَلَه الأَوَّلونَ...، وكَثيرٌ مِنهم قد عَطَّلوا المَساجِدَ وعَمَّروا القُبورَ والمَشاهِدَ، فإذا قَصَدَ أحَدُهم القَبْرَ الَّذي يُعظِّمُه أخَذَ في دُعاءِ صاحِبِه باكِيًا خاشِعًا ذَليلًا خاضِعًا، بحيثُ لا يَحصُلُ له ذلك في الجُمُعةِ والجَماعاتِ وقِيامِ اللَّيْلِ وأدْبارَ الصَّلواتِ! فيَسأَلونَهم مَغْفِرةَ الذُّنوبِ، وتَفْريجَ الكُروبِ والنَّجاةَ مِن النَّارِ، وأن يَحُطُّوا عنهم الأوْزارَ، فكيف يَظُنُّ عاقِلٌ -فَضْلًا عن عالِمٍ- أنَّ التَّلَفُّظَ بـ: لا إلهَ إلَّا اللهُ معَ هذه الأمورِ يَنفَعُهم؟! وهُمْ إنَّما قالوها بألْسِنتِهم وخالَفوها باعْتِقادِهم وأعْمالِهم؟!... فإن قيلَ: قد تَبَيَّنَ مَعْنى الإلهِ والإلَهيَّةِ، فما الجَوابُ عن قَوْلِ مَن قالَ: بأنَّ مَعْنى الإلهِ القادِرُ على الاخْتِراعِ ونَحْوُ هذه العِبارةِ؟ قيلَ: الجَوابُ مِن وَجْهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ هذا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ لا يُعرَفُ أحَدٌ قالَه مِن العُلَماءِ، ولا مِن أئِمَّةِ اللُّغةِ.
الثَّاني: على تَقْديرِ تَسْليمِه، فهو تَفْسيرٌ باللَّازِمِ للإلهِ الحَقِّ؛ فإنَّ اللَّازِمَ له أن يكونَ خالِقًا قادِرًا على الاخْتِراعِ، ومتى لم يكُنْ كذلك فليس بإلهٍ حَقٍّ وإن سُمِّيَ إلَهًا، وليس مُرادُه أنَّ مَن عَرَفَ أنَّ الإلهَ هو القادِرُ على الاخْتِراعِ فقدْ دَخَلَ في الإسْلامِ، وأتى بتَحْقيقِ المَرامِ مِن مِفْتاحِ دارِ السَّلامِ، فإنَّ هذا لا يَقولُه أحَدٌ؛ لأنَّه يَسْتَلْزِمُ أن يكونَ كُفَّارُ العَربِ مُسلِمينَ، ولو قُدِّرَ أنَّ بعضَ المُتَأخِّرينَ أرادوا ذلك فهو مُخطِئٌ يُرَدُّ عليه بالدَّلائِلِ السَّمْعيَّةِ والعَقْلِيَّةِ) [379] ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 57 - 59). .
ثانيًا: الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ لم يُفرِدوا تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ بالتَّأليفِ لتَأكيدِه والحَثِّ عليه والتَّرْغيبِ فيه
معَ أنَّ الحاجةَ ماسَّةٌ إلى بَيانِه، والتَّحْذيرِ مِمَّا يُضادُّه، بلْ إنَّ كَثيرًا مِن غُلاةِ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ أَنكَروا التَّفْريقَ بَيْنَ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ كما تَقدَّمَ في البابِ الثَّالِثِ، وسَبَبُ هذا الإنْكارِ أنَّ الأشاعِرةَ قَرَّروا تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ، وظَنُّوا أنَّ مَن حَقَّقَه لا يُتَصَوَّرُ مِنه أن يُشرِكَ باللهِ!
وقدْ قالَ اللهُ تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] .
قالَ الشَّوْكانيُّ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ أي: وما يُصَدِّقُ ويُقِرُّ أَكثَرُ النَّاسِ باللهِ مِن كَوْنِه الخالِقَ الرَّزَّاقَ المُحْيِيَ المُميتَ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ باللهِ؛ يَعْبُدونَ معَه غَيْرَه كما كانَتْ تَفعَلُه الجاهِليَّةُ، فإنَّهم مُقِرُّونَ باللهِ سُبْحانَه وبأنَّه الخالِقُ لهم، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، لكنَّهم كانوا يُثبِتونَ له شُرَكاءَ فيَعْبُدونَهم ليُقَرِّبوهم إلى اللهِ، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، ومِثلُ هؤلاء الَّذين اتَّخَذوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دونِ اللهِ، المُعْتَقِدونَ في الأمْواتِ بأنَّهم يَقدِرونَ على ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ سُبْحانَه كما يَفعَلُه كَثيرٌ مِن عُبَّادِ القُبورِ) [380] ((تفسير الشوكاني)) (3/ 70). .
وعن عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قالَ في قَوْلِه تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ: (مِن إيمانِهم إذا قيلَ لهم: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ ومَن خَلَقَ الأرْضَ؟ ومَن خَلَقَ الجِبالَ؟ قالوا: اللهُ، وهُمْ مُشرِكونَ!) [381] رواه ابن جرير في تفسيره (13/ 373). .
وعن عامِرٍ الشَّعْبيِّ وعِكْرِمةَ في قَوْلِه تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قالا: (يَعلَمونَ أنَّه رَبُّهم، وأنَّه خَلَقَهم، وهُمْ مُشرِكونَ به) [382] رواه ابن جرير في تفسيره (13/ 373). .
وعن عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ زَيدٍ في قَوْلِه تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قالَ: (ليس أحَدٌ يَعبُدُ معَ اللهِ غَيْرَه إلَّا وهو مُؤمِنٌ باللهِ، ويَعرِفَ أنَّ اللهَ رَبُّه، وأنَّ اللهَ خالِقُه ورازِقُه، وهو يُشرِكُ به؛ أَلَا تَرى كيف قالَ إبْراهيمُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77] ؟! قد عَرَفَ أنَّهم يَعبُدونَ رَبَّ العالَمينَ معَ ما يَعبُدونَ، قالَ: فليس أحَدٌ يُشرِكُ به إلَّا وهو مُؤمِنٌ به، أَلَا تَرى كيف كانَتِ العَربُ تُلَبِّي تَقولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لا شَريكَ لك، إلَّا شَريكٌ هو لك، تَملِكُه وما مَلَك؟! المُشرِكونَ كانوا يَقولونَ هذا) [383] رواه ابن جرير في تفسيره (13/ 376). .
وقدْ تَقدَّمَ أنَّ بعضَ أعْلامِ الأشاعِرةِ أجازوا دُعاءَ غَيْرِ اللهِ، وألَّفَ بعضُهم كُتُبًا شَنيعةً في تَبْريرِ الشِّرْكِ أو الدِّفاعِ عن وَسائِلِ الشِّرْكِ أو الرَّدِّ على أهْلِ التَّوْحيدِ! وألَّفَ الفَخْرُ الرَّازيُّ -وهو أَعظَمُ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ- كِتابَ: (السِّرِّ المَكْتومِ في مُخاطَبةِ النُّجومِ)، وألَّفَ أيضًا كِتابَ (المَطالِب العالِية مِن العِلمِ الإلَهيِّ)، وفيه عَجائِبُ مِن عِلمِ السِّحْرِ والتَّنْجيمِ والطَّلاسِمِ والشِّرْكيَّاتِ، وتَقدَّمَ ذِكْرُ بعضِ النُّقولِ مِن هذا الكِتابِ في تَرْجمةِ الرَّازيِّ!
قالَ هاني حامِد: (صِفةُ الوَحْدانيَّةِ هي بحَقٍّ شِعارُ الإسْلامِ، وقدِ اهْتَمَّ بها المُتَكلِّمونَ اهْتِمامًا كَبيرًا، وذلك لمُواجَهةِ القائِلينَ بتَعَدُّدِ الآلِهةِ، ومِن شِدَّةِ حِرْصِ المُتَكلِّمينَ على إثْباتِ الوَحْدانيَّةِ لمَوْلانا تَعالى وتَقَدَّسَ أَثْبَتوا الوَحْدانيَّةَ له تَعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفْعالِ...، وقارِنْ رأيَ الأشاعِرةِ ومَن تابَعَهم برأيِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ومَدْرَستِه؛ حيثُ مِن رأيِهم القَوْلُ بوُجودِ نَوْعَينِ مِن التَّوْحيدِ: أ- تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ، ب- تَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ) [384] هامش كِتاب ((الإشارة في علم الكَلام)) للرازي (ص: 256). .
وقالَ سلامة القُضاعيُّ: (إذا بانَ أنَّه لا خالِقَ سِواه ثَبَتَ قَطْعًا أنَّه لا يَسْتحِقُّ العِبادةَ غَيْرُه؛ فإنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ -أيِ اسْتِحقاقَ العِبادةِ- مُتَلازِمانِ عُرْفًا وشَرْعًا، فالقَوْلُ بأحَدِهما قَوْلٌ بالآخَرِ، والإشْراكُ في أحَدِهما إشْراكٌ في الآخَرِ، فمَن اعْتَقَدَ أنَّه لا رَبَّ ولا خالِقَ إلَّا اللهُ، لم يَرَ مُسْتحِقًّا للعِبادةِ إلَّا هو، ومَن اعْتَقَدَ أنَّه لا يَسْتحِقُّ العِبادةَ غَيْرُه كانَ ذلك بِناءً مِنه على أنَّه لا رَبَّ إلَّا هو، ومَن أشْركَ معَ اللهِ غَيْرَه في العِبادةِ كانَ لا مَحالةَ قائِلًا برُبوبيَّةِ هذا الغَيْرِ، هذا ما لا يُعرَفُ في النَّاسِ سِواه، فإنَّ ما لا تُعْتقَدُ له رُبوبيَّةٌ اسْتَحالَ أن يُتَّخَذَ مَعْبودًا؛ ولِهذا تَجِدُ الأنْبِياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَن أَرسَلَهم جَلَّ جَلالُه يَكْتَفونَ في الدَّعْوةِ إلى التَّوْحيدِ بأحَدِهما ويَضَعونَ كلًّا مِنهما مَوضِعَ الآخَرِ، اكْتِفاءً بشِدَّةِ التَّلازُمِ بَيْنَهما في العُقولِ، وأنَّ القَوْلَ بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ هو إقْرارٌ بتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ وبالعَكْسِ) [385] ((فرقان القُرْآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان)) (ص: 87). .
وقالَ سلامة القضاعي أيضًا: (لا خَفاءَ على مَن تَدَبَّرَ كِتابَ اللهِ في أنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ مُتَلازِمانِ في نَظَرِ العَقْلِ والشَّرْعِ؛ فالقَوْلُ بأحَدِهما قَوْلٌ بالآخَرِ، وانْتِفاءُ أحَدِهما في اعْتِقادِ مَن اعْتَقَدَ الانْتِفاءَ قَوْلٌ مِنه بانْتِفاءِ الآخَرِ، والبَرْهَنةُ على أحَدِهما هو اسْتِدْلالٌ على الآخَرِ، والقَوْلُ بأنَّ المُرْسَلينَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ما جاؤوا بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّ النَّاسَ كانوا في غُنْيةٍ عن بَيانِه، وما جاؤوا إلَّا بَتْوحيدِ العِبادةِ احْتِجاجًا ببعضِ الآياتِ الَّتي لم يُحسِنوا فَهْمَها- قَوْلٌ بما تُكَذِّبُه نُصوصُ الكِتابِ العَزيزِ، ودَعْوى يَدْحَضُها العِلمُ بتاريخِ المُشرِكينَ قَديمِه وحَديثِه) [386] ((فرقان القُرْآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان)) (ص: 91). .
وقالَ أبو حامِدِ بنُ مَرْزوقٍ: (تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ مُتَلازِمانِ لا يَنفَكُّ أحَدُهما عن الآخَرِ في الوُجودِ وفي الاعْتِقادِ؛ فمَن اعْتَرَفَ بأنَّه لا رَبَّ إلَّا اللهُ كانَ مُعْتَرِفًا بأنَّه لا يَسْتحِقُّ العِبادةَ غَيْرُه، ومَن أَقَرَّ بأنَّه لا يَسْتحِقُّ العِبادةَ غَيْرُه كانَ مُذعِنًا بأنَّه لا رَبَّ سِواه، وهذا الثَّاني هو مَعْنى (لا إلهَ إلَّا اللهُ) في قُلوبِ جَميعِ المُسلِمينَ) [387] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 91). .
ثالثًا: حَمَلَ الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ الآياتِ الوارِدةَ في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ على أنَّها في تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ
بلْ وأَنكَروا على مَن فَرَّقَ بَيْنَ تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ وتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ كما تَقَدَّمَ، وأَنكَروا على مَن يَنْهى النَّاسَ عن دُعاءِ غَيْرِ اللهِ مِن الأنْبِياءِ والصَّالِحينَ، وأَنكَروا على مَن يَحكُمُ على مَن يَدْعو غَيْرَ اللهِ بأنَّه مُشرِكٌ، ويَكْفي في الرَّدِّ عليهم قَوْلُ الشَّوْكانيِّ: (مَن يَدْعو الأمْواتَ ويَهتِفُ بهم عنْدَ الشَّدائِدِ ويَطوفُ بقُبورِهم ويَطلُبُ مِنهم ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ؛ لا يَصدُرُ مِنه ذلك إلَّا عن اعْتِقادٍ كاعْتِقادِ أهْلِ الجاهِليَّةِ في أصْنامِهم، هذا إن أرادَ مِن المَيِّتِ الَّذي يَعْتقِدُه ما كانَ تَطلُبُه الجاهِليَّةُ مِن أصْنامِهم مِن تَقْريبِهم إلى اللهِ، فلا فَرْقَ بَيْنَ الأمْرَينِ، وإن أرادَ اسْتِغلالَ مَن يَدْعوه مِن الأمْواتِ بأن يُعْطِيَه ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فهذا أمْرٌ لم تَبلُغْ إليه الجاهِليَّةُ؛ فإنَّهم قالوا ما حَكاه اللهُ عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، ولم يَدَّعوا لأصْنامِهم أنَّهم يَسْتَقِلُّونَ بإيصالِهم إلى ما يَطلُبونَه دونَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهذا هو شِرْكُ الجاهِليَّةِ الَّذي بَعَثَ اللهُ لأجْلِه رُسُلَه، وأَنزَلَ فيه كُتُبَه، وقاتَلَتْهم الأنْبِياءُ عليه، وأمَّا الخَلْقُ والرِّزْقُ والمَوْتُ والحَياةُ ونَحْوُ ذلك فالجاهِليَّةُ يُقِرُّونَ في جاهِليَّتِهم وقَبْلَ بَعْثةِ الرُّسُلِ بأنَّ اللهَ سُبْحانَه هو المُسْتَقِلُّ بِذلك: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ... وبالجُمْلةِ فإخْلاصُ التَّوْحيدِ للهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَطْعُ عَلائِقِ الشِّرْكِ كائِنةً ما كانَت، لا تَحْتاجُ إلى أن تُنْقَلَ فيه أقْوالُ الرِّجالِ أو يُستَدَلَّ عليه بالأدِلَّةِ؛ فإنَّه الأمْرُ الَّذي بَعَثَ اللهُ لأجْلِه رُسلَه وأَنزَلَ فيه كُتُبَه، وفي هذا الإجْمالِ ما يُغْني عن التَّفْصيلِ، ومَن شَكَّ في هذا فعليه بالتَّفَكُّرِ في القُرْآنِ الكَريمِ؛ فإنَّه سيَجِدُه مِن أَعظَمِ مَقاصِدِه وأَكثَرِ مَوارِدِه) [388] ((الفتح الرباني من فَتاوى الإمام الشوكاني)) (1/ 186، 188). .
وقالَ الشَّوْكانيُّ أيضًا: (اعْلَمْ أنَّ الرَّزِيَّةَ كلَّ الرَّزِيَّةِ والبَلِيَّةَ كلَّ البَلِيَّةِ أمْرٌ غَيْرُ ما ذَكَرْناه مِن التَّوَسُّلِ المُجَرَّدِ، والتَّشَفُّعِ ممَّن له الشَّفاعةُ، وذلك ما صارَ يَعْتقِدُه كَثيرٌ مِن العَوامِّ، وبعضُ الخَواصِّ في أهْلِ القُبورِ، وفي المَعْروفينَ بالصَّلاحِ مِن الأحْياءِ مِن أنَّهم يَقدِرونَ على ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ جَلَّ جَلالُه، ويَفعلَونُ بِهم ما لا يَفعَلُه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، حتَّى نَطَقَتْ ألْسِنتُهم بما انْطَوَتْ عليه قُلوبُهم، فصاروا يَدْعونَهم تارةً معَ اللهِ تَعالى، وتارةً اسْتِقْلالًا، ويُصَرِّحونَ بأسْمائِهم، ويُعَظِّمونَهم تَعْظيمَ مَن يَملِكُ الضُّرَّ والنَّفْعَ، ويَخْضَعونَ لهم خُضوعًا زائِدًا على خُضوعِهم عنْدَ وُقوفِهم بَيْنَ يَدَي رَبِّهم في الصَّلاةِ والدُّعاءِ، وهذا إذا لم يكُنْ شِرْكًا فلا نَدْري ما هو الشِّرْكُ، وإذا لم يكُنْ كُفْرًا فليس في الدُّنْيا كُفْرٌ...، اعْلَمْ أنَّ اللهَ لم يَبعَثْ رُسُلَه، ويُنزِلْ كُتُبَه لتَعْريفِ خَلْقِه بأنَّه الخالِقُ لهم والرَّازِقُ، ونَحْوُ ذلك، فإنَّ هذا يُقِرُّ به كلُّ مُشرِكٍ قَبْلَ بَعْثةِ الرُّسُلِ...، بلْ بَعَثَ اللهُ رُسُلَه، وأَنزَلَ كُتُبَه لإخْلاصِ تَوْحيدِه، وإفْرادِه بالعِبادةِ. وإخْلاصُ التَّوْحيدِ لا يَتِمُّ إلَّا بأن يكونَ الدُّعاءُ كلُّه للهِ، والنِّداءُ والاسْتِغاثةُ والرَّجاءُ، واسْتِجْلابُ الخَيْرِ واسْتِدْفاعُ الشَّرِّ، له ومِنه لا لغَيْرِه ولا مِن غَيْرِه وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] ... وقدْ تَقَرَّرَ أنَّ شِرْكَ المُشرِكينَ الَّذين بَعَثَ اللهُ إليهم خاتَمَ رُسُلِه لم يكُنْ إلَّا باعْتِقادِهم أنَّ الأنْدادَ الَّتي اتَّخَذوها تَنْفَعُهم وتَضُرُّهم وتُقَرِّبُهم إلى اللهِ، وتَشفَعُ لهم عنْدَه، معَ اعْتِرافِهم بأنَّ اللهَ سُبْحانَه وتَعالى هو خالِقُها وخالِقُهم، ورازِقُها ورازِقُهم، ومُحييها ومُحييهم، ومُميتُها ومُميتُهم...، وإذا تَقَرَّرَ هذا فلا شَكَّ أنَّ مَن اعْتَقَدَ في مَيِّتٍ مِن الأمْواتِ، أو حَيٍّ مِن الأحْياءِ أنَّه يَضُرُّه أو يَنفَعُه، إمَّا اسْتِقْلالًا أو معَ اللهِ تَعالى، وناداه أو تَوَجَّهَ إليه أو اسْتَغاثَ به في أمْرٍ مِن الأمورِ الَّتي لا يَقدِرُ عليها المَخْلوقُ- فلم يُخلِصِ التَّوْحيدَ للهِ، ولا أفْرَدَه بالعِبادةِ؛ إذِ الدُّعاءُ بطَلَبِ وُصولِ الخَيْرِ إليه، ودَفْعِ الضُّرِّ عنه هو نَوْعٌ مِن أنْواعِ العِبادةِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ أن يكونَ هذا المَدْعوُّ مِن دونِ اللهِ أو معَه حَجَرًا أو شَجَرًا، أو مَلَكًا أو شَيْطانًا، كما كانَت تَفعَلُ ذلك الجاهِليَّةُ، وبَيْنَ أن يكونَ إنْسانًا مِن الأحْياءِ أو الأمْواتِ كما يَفعَلُه الآنَ كَثيرٌ مِن المُسلِمينَ. وكلُّ عالِمٍ يَعلَمُ هذا ويُقِرُّ به؛ فإنَّ العِلَّةَ واحِدةٌ، وعِبادةُ غَيْرِ اللهِ وتَشْريكُ غَيْرِه معَه تكونُ للحَيَوانِ كما تكونُ للجَمادِ، وللحَيِّ كما تكونُ للمَيِّتِ...، فمَن زَعَمَ أنَّ ثَمَّ فَرْقًا بَيْنَ مَن اعْتَقَدَ في وَثَنٍ مِن الأوْثانِ أنَّه يَضُرُّ ويَنفَعُ، وبَيْنَ مَن اعْتَقَدَ مِن مَيِّتٍ مِن بَني آدَمَ، أو حَيٍّ مِنهم أنَّه يَضُرُّ أو يَنفَعُ أو يَقدِرُ على أمْرٍ لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ- فقدْ غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا، وأَقَرَّ على نَفْسِه بجَهْلٍ كَبيرٍ؛ فإنَّ الشِّرْكَ هو دُعاءُ غَيْرِ اللهِ في الأشْياءِ الَّتي تَخْتَصُّ به، أو اعْتِقادُ القُدْرةِ لغَيْرِه فيما لا يَقدِرُ عليه سِواه، أو التَّقَرُّبُ إلى غَيْرِه بشيءٍ ممَّا لا يُتَقَرَّبُ به إلَّا إليه، ومُجَرَّدُ تَسْميةِ المُشرِكينَ لِما جَعَلوه شَريكًا بالصَّنَمِ والوَثَنِ والإلهِ ليس فيه زِيادةٌ على التَّسْميةِ بالوَلِيِّ والقَبْرِ والمَشهَدِ، كما يَفعَلُه كَثيرٌ مِن المُسلِمينَ، بلِ الحُكْمُ واحِدٌ إذا حَصَلَ لمَن يَعْتقِدُ في الوَلِيِّ والقَبْرِ ما كانَ يَحصُلُ لمَن كانَ يَعْتقِدُ في الصَّنَمِ والوَثَنِ؛ إذ ليس الشِّرْكُ هو بمُجَرَّدِ إطْلاقِ بعضِ الأسْماءِ على بعضِ المُسَمَّياتِ، بلِ الشِّرْكُ هو أن يَفعَلَ لغَيْرِ اللهِ شَيئًا يَخْتَصُّ به سُبْحانَه وتَعالى، سواءٌ أَطلَقَ على ذلك الغَيْرِ ما كانَ تُطلِقُه عليه الجاهِليَّةُ، أو أَطلَقَ عليه اسْمًا آخَرَ؛ فلا اعْتِبارَ بالاسْمِ قَطُّ، ومَن لم يَعرِفْ هذا فهو جاهِلٌ لا يَسْتحِقُّ أن يُخاطَبَ بما يُخاطَبُ به أهْلُ العِلمِ...، فإن قُلْتَ: إنَّ المُشرِكينَ كانوا لا يُقِرُّونَ بكَلِمةِ التَّوْحيدِ، وهؤلاء المُعْتَقِدونَ في الأمْواتِ يُقِرُّونَ بها! قُلْتُ: هؤلاء إنَّما قالوها بألْسِنتِهم وخالَفوها بأفْعالِهم، فإنَّ مَن اسْتَغاثَ بالأمْواتِ أو طَلَبَ مِنهم ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ سُبْحانَه، أو عَظَّمَهم، أو نَذَرَ عليهم بجُزْءٍ مِن مالِه، أو نَحَرَ لهم- فقد نَزَّلَهم مَنزِلةَ الآلِهةِ الَّتي كانَ المُشرِكونَ يَفعَلونَ لها هذه الأفْعالَ...، مَن تَكلَّمَ بكَلِمةِ التَّوْحيدِ وفَعَلَ أفْعالًا تُخالِفُ التَّوْحيدَ، كاعْتِقادِ هؤلاء المُعْتَقِدينَ في الأمْواتِ، فلا رَيْبَ أنَّه قد تَبَيَّنَ مِن حالِهم خِلافُ ما حَكَتْه ألْسِنتُهم مِن إقْرارِهم بالتَّوْحيدِ...، واعْلَمْ أنَّ مِن الشُّبَهِ الباطِلةِ الَّتي يورِدُها المُعْتَقِدونَ في الأمْواتِ أنَّهم ليسوا كالمُشرِكينَ مِن أهْلِ الجاهِليَّةِ؛ لأنَّهم إنَّما اعْتَقَدوا في الأوْلِياءِ والصَّالِحينَ، وأولئك اعْتَقَدوا في الأوْثانِ والشَّياطينِ، وهذه الشُّبْهةُ داحِضةٌ تُنادي على صاحِبِها بالجَهْلِ، فإنَّ اللهَ سُبْحانَه لم يَعذِرْ مَن اعْتَقَدَ في عيسى عليه السَّلامُ وهو نَبيٌّ مِن الأنْبِياءِ، بلْ خاطَبَ النَّصارى بتلك الخِطاباتِ القُرْآنيَّةِ، ومِنها: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 171] ، وقالَ لمَن كانَ يَعبُدُ المَلائِكةَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: 40، 41]، ولا شَكَّ أنَّ عيسى والمَلائِكةَ أَفضَلُ مِن هؤلاء الأوْلِياءِ والصَّالِحينَ الَّذين صارَ هؤلاء القُبورِيُّونَ يَعْتَقِدونَهم، ويَغلُونَ في شَأنِهم...، واعْلَمْ أنَّ ما حَرَّرْناه وقَرَّرْناه مِن أنَّ كَثيرًا ممَّا يَفعَلُه المُعْتَقِدونَ في الأمْواتِ يكونُ شِرْكًا، قد يَخْفى على كَثيرٍ مِن أهْلِ العِلمِ، وذلك لا لِكَوْنِه خَفِيًّا في نَفْسِه، بل لإطْباقِ الجُمْهورِ على هذا الأمْرِ، وكَوْنِه قد شابَ عليه الكَبيرُ، وشَبَّ عليه الصَّغيرُ، وهو يَرى ذلك ويَسمَعُه، ولا يَرى ولا يَسمَعُ مَن يُنكِرُه، بلْ رُبَّما يَسمَعُ مَن يُرَغِّبُ فيه، ويَندُبُ النَّاسَ إليه، ويَنْضَمُّ إلى ذلك ما يُظهِرُه الشَّيْطانُ للنَّاسِ مِن قَضاءِ حَوائِجِ مَنْ قَصَدَ بعضَ الأمْواتِ الَّذين لهم شُهْرةٌ، ولِلعامَّةِ فيهم اعْتِقادٌ) [389] ((الفتح الرباني من فَتاوى الإمام الشوكاني)) (1/ 318، 336 - 340، 345، 349 - 351، 354، 357). .
ومعَ وُضوحِ التَّوْحيدِ في كِتابِ اللهِ نَجِدُ أنَّ غُلاةَ الأشاعِرةِ جَوَّزوا الاسْتِغاثةَ بغَيْرِ اللهِ، ومِن ذلك ما نَقَلَه أبو حامِدِ بنُ مَرْزوقٍ عن الشَّيْخِ يوسُفَ الدِّجْويِّ الأشْعَريِّ، مُفْتي مَجَلَّةِ الأزْهَرِ أنَّه قالَ: (جاءَتْنا رَسائِلُ كَثيرةٌ يَسأَلُ مُرْسِلوها عن تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ وتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ ما مَعْناهما؟ وما الَّذي يَتَرَتَّبُ عليهما؟ ومَن ذا الَّذي فَرَّقَ بَيْنَهما؟ وما البُرْهانُ على صِحَّةِ ذلك أو بُطْلانِه؟ فنَقولُ وباللهِ التَّوْفيقُ: إنَّ صاحِبَ هذا الرَّأيِ هو ابنُ تَيْمِيَّةَ الَّذي شادَ بذِكْرِه، قالَ: إنَّ الرُّسُلَ لم يُبْعَثوا إلَّا لتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ وهو إفْرادُ اللهِ بالعِبادةِ، وأمَّا تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ وهو اعْتِقادُ أنَّ اللهَ رَبُّ العالَمينَ المُتَصَرِّفُ في أمورِهم، فلم يُخالِفْ فيه أحَدٌ مِن المُشرِكينَ والمُسلِمينَ، بدَليلِ قَوْلِه تَعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] ، ثُمَّ قالوا: إنَّ الَّذين يَتَوَسَّلونَ بالأنْبِياءِ والأَوْلِياءِ ويَتَشَفَّعونَ بِهم ويُنادونَهم عنْدَ الشَّدائِدِ هُمْ عابِدونَ لهم، قد كَفَروا باعْتِقادِهم الرُّبوبيَّةَ في تلك الأوْثانِ والمَلائِكةِ والمَسيحِ سواءً بسواءٍ، فإنَّهم لم يَكْفُروا باعْتِقادِهم الرُّبوبيَّةَ في تلك الأوْثانِ وما معَها، بل بتَرْكِهم تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ بعِبادتِها، وهذا يَنطَبِقُ على زُوَّارِ القُبورِ المُتَوَسِّلينَ بالأَوْلِياءِ المُنادينَ لهم، المُسْتَغيثينَ بِهم، الطَّالِبينَ مِنهم ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ تَعالى) [390] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (1/ 166). .
ونَقَلَ أبو حامِدِ بنُ مَرْزوقٍ أيضًا عن يوسُفَ الدِّجْويِّ أنَّه قالَ في تَجْويزِ الاسْتِغاثةِ بغَيْرِ اللهِ: (المُسْتَغيثُ لا يَعْتَقِدُ أنَّ المُسْتغاثَ به مِن الخَلْقِ مُسْتَقِلٌّ في أمْرٍ مِن الأمورِ غَيْرُ مُسْتَمِدٍّ مِن اللهِ تَعالى أو راجِعٍ إليه، وذلك شيءٌ مَفْروغٌ مِنه، ولا فَرْقَ في ذلك بَيْنَ الأحْياءِ والأمْواتِ؛ فإنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، ولا تَأثيرَ عنْدَنا لشيءٍ في شيءٍ بنَفْسِه، فهذا هو ما عليه جَماعةُ أهْلِ الحَقِّ) [391] ((براءة الأشْعَريين من عَقائِد المخالفين)) (2/ 220). .
ويَزعُمُ بعضُ الأشاعِرةِ أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ ابْتَدَعَ القَوْلَ بالمَنْعِ مِن التَّوَسُّلِ بالأنْبِياءِ والصَّالِحينَ، معَ أنَّه لا يَخْفى على مَن يَعرِفُ السُّنَّةَ النَّبَويَّةَ وما جاءَ عن الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم والتَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ أنَّهم لم يَكونوا يَتَوَسَّلونَ بذَواتِ الأنْبِياءِ والصَّالِحينَ.
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (التَّوَسُّلُ بالنَّبيِّ بمَعْنى الإقْسامِ على اللهِ بذاتِه والسُّؤالِ بذاتِه، فهذا هو الَّذي لم تكنِ الصَّحابةُ يَفعَلونَه في الاسْتِسْقاءِ ونَحْوِه، لا في حَياتِه ولا بَعْدَ مَماتِه، لا عنْدَ قَبْرِه ولا غَيْرِ قَبْرِه، ولا يُعرَفُ هذا في شيءٍ مِن الأدْعيةِ المَشْهورةِ بَيْنَهم، وإنَّما يُنقَلُ شيءٌ مِن ذلك في أحاديثَ ضَعيفةٍ مَرْفوعةٍ ومَوْقوفةٍ، أو عمَّن ليس قَوْلُه حُجَّةً، وهذا هو الَّذي قالَ أبو حَنيفةَ وأصْحابُه: إنَّه لا يَجوزُ، ونَهَوا عنه حيثُ قالوا: لا يُسأَلُ بمَخْلوقٍ، ولا يَقولُ أحَدٌ: أَسأَلُك بحَقِّ أنْبِيائِك، قالَ أبو الحُسَيْنِ القُدوريُّ في كِتابِه الكَبيرِ في الفِقْهِ المُسمَّى بشَرْحِ الكَرْخيِّ في بابِ الكَراهةِ: وقدْ ذَكَرَ هذا غَيْرُ واحِدٍ مِن أصْحابِ أبي حَنيفةَ. قالَ بِشْرُ بنُ الوَليدِ: حَدَّثَنا أبو يوسُفَ قالَ: قالَ أبو حَنيفةَ: لا يَنْبَغي لأحَدٍ أن يَدْعوَ اللهَ إلَّا به. وأَكرَهُ أن يَقولَ: بحَقِّ خَلْقِك. قالَ أبو يوسُفَ: وأَكرَهُ أن يَقولَ: بحَقِّ فُلانٍ أو بحَقِّ أنْبِيائِك ورُسُلِك، وبحَقِّ البَيْتِ الحَرامِ والمَشْعَرِ الحَرامِ. قالَ القُدوريُّ: المَسْألةُ بخَلْقِه لا تَجوزُ؛ لأنَّه لا حَقَّ للخَلْقِ على الخالِقِ، فلا تَجوزُ وِفاقًا...، وهذا التَّوَسُّلُ بالأنْبِياءِ -بمَعْنى السُّؤالِ بِهم- وهو الَّذي قالَ أبو حَنيفةَ وأصْحابُه وغَيْرُهم: إنَّه لا يَجوزُ، ليس في المَعْروفِ مِن مَذهَبِ مالِكٍ ما يُناقِضُ ذلك، فمَن نَقَلَ عن مَذهَبِ مالِكٍ: أنَّه جَوَّزَ التَّوَسُّلَ به بمَعْنى الإقْسامِ به أو السُّؤالِ به، فليس معَه في ذلك نَقْلٌ عن مالِكٍ وأصْحابِه، بلِ المَعْروفُ عن مالِكٍ أنَّه كَرِهَ للدَّاعي أن يَقولَ: يا سَيِّدي سَيِّدي، وقالَ: قُلْ كما قالَتِ الأنْبِياءُ: يا رَبِّ يا رَبِّ يا كَريمُ، فإذا كانَ مالِكٌ يَكرَهُ مِثلَ هذا الدُّعاءِ؛ إذ لم يكُنْ مَشْروعًا عنْدَه، فكيف يَجوزُ عنْدَه أن يُسأَلَ اللهُ بمَخْلوقٍ؛ نَبيًّا كانَ أو غَيْرَه، وهو يَعلَمُ أنَّ الصَّحابةَ لمَّا أَجْدَبوا عامَ الرَّمادةِ لم يَسأَلوا اللهَ بمَخْلوقٍ؛ لا نَبيٍّ ولا غَيْرِه، بلْ قالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذا أَجْدَبْنا نَتَوَسَّلُ إليك بنَبِيِّنا فتَسْقينا، وإنَّا نَتَوَسَّلُ إليك بعَمِّ نَبِيِّنا فاسْقِنا، فيُسْقَوْنَ...، لم يُنقَلْ عن أحَدٍ مِنهم أنَّه كانَ في حَياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَألَ اللهَ تَعالى بمَخْلوقٍ، لا به ولا بغَيْرِه، لا في الاسْتِسْقاءِ ولا غَيْرِه...، وكذلك ذَكَرَ الفُقَهاءُ مِن أصْحابِ الشَّافِعيِّ وأَحْمَدَ وغَيْرِهم أنَّه يُتَوَسَّلُ في الاسْتِسْقاءِ بدُعاءِ أهْلِ الخَيْرِ والصَّلاحِ، قالوا: وإن كانَ مِن أقارِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو أَفضَلُ، اقْتِداءً بعُمَرَ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِن أهْلِ العِلمِ: إنَّه يُسأَلُ اللهَ تَعالى في ذلك بنَبيٍّ ولا بغَيْرِ نَبيٍّ...، وأمَّا دُعاءُ الرَّسولِ وطَلَبُ الحَوائِجِ مِنه وطَلَبُ شَفاعتِه عنْدَ قَبْرِه أو بَعْدَ مَوْتِه، فهذا لم يَفعَلْه أحَدٌ مِن السَّلَفِ، ومَعْلومٌ أنَّه لو كانَ قَصْدُ الدُّعاءِ عنْدَ القَبْرِ مَشْروعًا لفَعَلَه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ، وكذلك السُّؤالُ به، فكيف بدُعائِه وسُؤالِه بَعْدَ مَوْتِه؟!) [392] ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 87، 125 – 128، 141) باختِصارٍ. .
وهذا الكاسانيُّ الحَنَفيُّ وهو قَبْلَ ابنِ تَيْمِيَّةَ بأَكثَرَ مِن قَرْنٍ يَقولُ ناقِلًا عن المَذهَبِ الحَنَفيِّ: (يُكرَهُ للرَّجُلِ أن يَقولَ في دُعائِه: أَسأَلُك بحَقِّ أنْبِيائِك ورُسُلِك، وبحَقِّ فُلانٍ؛ لأنَّه لا حَقَّ لأحَدٍ على اللهِ سُبْحانَه وتَعالى جَلَّ شَأنُه) [393] ((بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)) (5/ 126). . والكَراهةُ عنْدَ الحَنَفيَّةِ إذا أُطلِقَتْ فهي كَراهةُ تَحْريمٍ.
وقالَ أبو بَكْرٍ مُحَمَّد زكريَّا: (الحَقيقةُ الَّتي يَجِبُ التَّأكيدُ عليها هنا: أنَّه لم يَقَعْ في تاريخِ البَشَريَّةِ الشِّرْكُ باعْتِقادِ اسْتِقْلالِ أحَدٍ غَيْرِ اللهِ بالخَلْقِ والإيجادِ، إلَّا ما يُذكَرُ عن الفَلاسِفةَ الَّذين يَرَوْنَ: أنَّ المَوْجوداتِ قد وُجِدَتْ بطَريقِ السَّبَبيَّةِ الضَّروريَّةِ الحَتْميَّةِ مِن ذاتِ المَوْجوداتِ لا مِن خَلْقِ اللهِ وتَدْبيرِه، الَّذي ليس له عنْدَهم أيُّ عَلاقةٍ بالعالَمِ لا عِلمًا ولا إرادةً ولا قُدْرةً! أمَّا الشِّرْكُ الَّذي وَقَعَ فيه الجَماهيرُ مِن النَّاسِ قَديمًا وحَديثًا فهو شِرْكُ الطَّلَبِ مِن غَيْرِ اللهِ تَعالى ما لا يُطلَبُ إلَّا مِن اللهِ، لا على سَبيلِ أنَّ مَن يُطلَبُ مِنه العَطاءُ والرِّزْقُ مالِكٌ له على سَبيلِ الاسْتِقْلالِ والخَلْقِ، بل على سَبيلِ أنَّ مَن يُطلَبُ مِنه ذلك قَريبٌ مِن اللهِ جاهًا ومَنزِلةً) [394] ((الشرك في القديم والحَديث)) (1/ 133). .
رابعًا: اتَّفَقَ الأشاعِرةُ على أنَّ الأمْرَ بعِبادةِ اللهِ ليس أوَّلَ واجِبٍ على المُكَلَّفِ، وزَعَموا أنَّ أوَّلَ واجِبٍ على المُكَلَّفِ: المَعْرِفةُ، أو النَّظَرُ، أو القَصْدُ إلى النَّظَرِ المُؤَدِّي إلى إثْباتِ وُجودِ اللهِ تَعالى
واشْتَغَلوا تَصْنيفًا وتَدْريسًا في تَحْقيقِ ما زَعَموه أنَّه أوَّلُ واجِبٍ على المُكَلَّفِ، ولم يَهْتَمُّوا كَثيرًا بتَحْقيقِ التَّوْحيدِ، والتَّحْذيرِ مِن الشِّرْكِ ووَسائِلِه.
ولا يكادُ يَجِدُ الباحِثُ لهم تَصْنيفًا مُسْتَقِلًّا يُوَضِّحُ مَنهَجَهم في هذا التَّوْحيدِ. وهُمْ على مَراتِبَ:
المَرْتبةُ الأُولى: وهُمُ المُتَقَدِّمونَ، فإنَّه لا يُمكِنُ أن يُقالَ عنهم: إنَّهم خالَفوا في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ.
والأدِلَّةُ على هذا الأمْرِ إجْمالًا هي:
1- لم يُنقَلْ عن الأئِمَّةِ الأعْلامِ مِن أهْلِ السُّنَّةِ الرَّدُّ على الأشاعِرةِ في مَسائِلِ تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ؛ ممَّا يَدُلُّ على عَدَمِ وُجودِ مُخالَفةٍ مِنهم؛ إذ لو وُجِدَتْ لَما تَأخَّرَ الأئِمَّةُ في الرَّدِّ عليهم.
2- وُجودُ تَعْريفاتٍ لبعضِ عُلَماءِ الأشاعِرةِ للتَّوْحيدِ تُفيدُ دُخولَ تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ فيه صَراحةً.
3- إيرادُ الأئِمَّةِ لمُقَدِّماتٍ يُسَلِّمُ بها المُخالِفُ، خاصَّةً في مَسْألةِ كَلامِ اللهِ أنَّه غَيْرُ مَخْلوقٍ؛ حيثُ وَرَدَتِ الاسْتِعاذةُ بكَلِماتِ اللهِ -ومَعْلومٌ أنَّه لا يُسْتعاذُ بمَخْلوقٍ- فلا شَكَّ أنَّ الأشاعِرةَ يُسَلِّمونَ بِهذه الطَّريقةِ كما هو ظاهِرٌ مِن صَنيعِ البَيْهَقيِّ.
4- تَنْصيصُ بعضِ عُلَماءِ الأشاعِرةِ على أنْواعٍ مِن العِباداتِ؛ كالدُّعاءِ، والرَّجاءِ، والخَوْفِ، والخَشْيةِ، وبَيَّنوا أنَّها لا تكونُ إلَّا للهِ. وتَنْصيصُ بعضِهم على صُوَرِ اتِّخاذِ المُشرِكينَ للأصْنامِ شُفَعاءَ؛ ممَّا يَدُلُّ على فَهْمِهم للشِّرْكِ في الأُلوهيَّةِ.
5- إنْكارُ بعضِ عُلَماءِ الأشاعِرةِ ما وَقَعَ فيه النَّاسُ في أزْمِنتِهم مِن التَّعَلُّقِ بالخَلْقِ، والتَّبَرُّكِ بالحيطانِ والأعْمِدةِ، وتَعْظيمِ قُبورِ الأكابِرِ، وبَيانُهم أنَّ ذلك مِن الشِّرْكِ.
المَرْتَبةُ الثَّانيةُ: وهُمُ الَّذين أُثِرَ عنهم الوُقوعُ في بعضِ مَظاهِرِ الشِّرْكِ. وهؤلاء وإن لم يَنُصَّ الرَّازيُّ على أعْيانِهم في عَصْرِه، فإنَّه في عَصْرِ السُّبْكيِّ والهيتمي يُمكِنُ نِسْبةُ هذا الأمْرِ إلى الأشاعِرةِ؛ حيثُ إنَّهما دافَعا عن بعضِ الشِّرْكِ ووَسائِلِه الَّتي وَقَعَ فيها العَوامُّ، ويَظهَرُ هذا الأمْرُ بجَلاءٍ ووُضوحٍ في عَصْرِ دَحْلانَ، وقَبْلَه بقَليلٍ إلى يَوْمِنا هذا، حيثُ الشِّرْكُ الصَّريحُ. واللهُ المُسْتعانُ.
المَرْتَبةُ الثَّالِثةُ: وهُمُ الَّذين لم يُؤثَرْ عنهم الوُقوعُ في ذلك، لكن معَ بَقاءِ نِسْبتِهم إلى التَّصوُّفِ، فهؤلاء يُؤخَذُ عليهم سُكوتُهم عن بَيانِ الحَقِّ لأتْباعِهم، وانْتِسابُهم إلى التَّصوُّفِ.
ويَنْبَغي أن يُعلَمَ أنَّ أهْلَ المَرْتَبةِ الأُولى يُؤخَذُ عليهم كذلك طَريقةُ اسْتِدْلالِهم بالآياتِ الوارِدةِ لتَقْريرِ الأُلوهيَّةِ على أنَّها للرُّبوبيَّةِ...، وتَفْسيرُهم للإلهِ بأنَّه القادِرُ على الاخْتِراعِ مِن جِهةِ أنَّه مُخالِفٌ للحَقِّ، ولِما يُخْشى أن يكونَ فِعلُهم هذا سَبَبًا في جَهْلِ كَثيرٍ مِن المُتَأخِّرينَ لحَقيقةِ تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، ووُقوعِهم فيما يُناقِضُه [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/ 574)، ((تفسير القرطبي)) (9/ 333)، ((تفسير ابن كَثير)) (4/ 472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 420). .
وقالَ الرَّازِيُّ: (اتَّفَقَ المُتَكلِّمونَ على أنَّ أوَّلَ الواجِباتِ مَعْرِفةُ اللهِ تَعالى، أو النَّظَرُ في مَعْرِفةِ اللهِ، أو القَصْدُ إلى ذلك النَّظَرِ، على الاخْتِلافِ المَشْهورِ فيما بَيْنَهم) [396] ((تفسير الرازي)) (32/ 217). .
ومِن أقْوالِهم في: أوَّلُ واجِبٍ على المُكَلَّفِ النَّظَرُ:
1- قَوْلُ الباقِلَّانيِّ: (أوَّلُ ما فَرَضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ على جَميعِ العِبادِ النَّظَرُ في آياتِه، والاعْتِبارُ بمَقْدوراتِه، والاسْتِدْلالُ عليه بآثارِ قُدْرتِه وشَواهِدِ رُبوبيَّتِه؛ لأنَّه سُبْحانَه غَيْرُ مَعْلومٍ باضْطِرارٍ، ولا مُشاهَدٍ بالحَواسِّ، وإنَّما يُعلَمُ وُجودُه وكَوْنُه على ما تَقْتَضيه أفْعالُه بالأدِلَّةِ القاهِرةِ، والبَراهينِ الباهِرةِ) [397] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 21). .
2- قَوْلُ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ: (أوَّلُ ما يَجِبُ على العاقِلِ البالِغِ، باسْتِكْمالِ سِنِّ البُلوغِ أو الحُلُمِ شَرْعًا: القَصْدُ إلى النَّظَرِ الصَّحيحِ المُفْضي إلى العِلمِ بحَدَثِ العالَمِ، والنَّظَرُ في اصْطِلاحِ المُوَحِّدينَ، هو الفِكْرُ الَّذي يَطلُبُ به مَن قامَ به عِلمًا أو غَلَبةَ ظَنٍّ) [398] ((الإرشاد إلى قواطع الأدِلَّة في أصول الاعتقاد)) (ص: 24). .
وقالَ الباجوريُّ: (الأَصَحُّ أنَّ أوَّلَ واجِبٍ مَقْصِدًا: المَعْرِفةُ، وأوَّلَ واجِبٍ وَسيلةً قَريبةً: النَّظَرُ، ووَسيلةً بَعيدةً: القَصْدُ إلى النَّظَرِ، وبِهذا يُجمَعُ بَيْنَ الأقْوالِ الثَّلاثةِ) [399] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 83). .
والمَعْروفُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجْماعِ السَّلَفِ أنَّ أوَّلَ ما يَجِبُ على المُكَلَّفينَ هو عِبادةُ اللهِ تَعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، كما قالَ اللهُ تَعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، وقَوْلِه تَعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وفي حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بَعَثَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ قالَ له: ((إنَّك تَأتي قَوْمًا مِن أهْلِ الكِتابِ، فادْعُهم إلى شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ )) [400] رواه مطولًا البخاري (1395)، ومُسلِم (19) واللفظ له. .
قالَ أبو المُظَفَّرِ السَّمْعانيُّ: (أَنكَرْنا طَريقةَ أهْلِ الكَلامِ على ما أَسَّسوا فإنَّهم قالوا: أوَّلُ ما يَجِبُ على الإنْسانِ النَّظَرُ المُؤَدِّي إلى مَعْرِفةِ الباري، وهذا قَوْلٌ مُختَرَعٌ لم يَسبِقْهم إليه أحَدٌ مِن السَّلَفِ، وأئِمَّةِ الدِّينِ، ولو أنَّك تَدَبَّرْتَ جَميعَ أقْوالِهم وكُتُبِهم لم تَجِدْ هذا في شيءٍ مِنها، لا مَنْقولًا مِن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنه، وكذلك مِن التَّابِعينَ بَعْدَهم. وكيف يَجوزُ أن يَخْفى عليهم أوَّلُ الفَرائِضِ وهُمْ صُدورُ هذه الأُمَّةِ، والسُّفَراءُ بَيْنَنا وبَيْنَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ ولَئِنْ جازَ أن يَخْفى الفَرْضُ الأوَّلُ على الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، حتَّى لم يُبَيِّنوا لأحَدٍ مِن هذه الأُمَّةِ معَ شِدَّةِ اهْتِمامِهم بأمْرِ الدِّينِ، وكَمالِ عِنايتِهم حتَّى اسْتَخْرَجَه هؤلاء بلَطيفِ فِطْنتِهم في زَعْمِهم، فلَعلَّه خَفِيَ عليهم فَرائِضُ أُخَرُ! ولَئِنْ كانَ هذا جائِزًا فلقد ذَهَبَ الدِّينُ وانْدَرَسَ؛ لأنَّا إنَّما نَبْني أقْوالَنا على أقْوالِهم، فإذا ذَهَبَ الأصْلُ فكيف يُمكِنُ البِناءُ عليه؟! نَعوذُ باللهِ مِن قَوْلٍ يُؤَدِّي إلى هذه المَقالةِ الَّتي تُؤَدِّي إلى الانْسِلاخِ مِن الدِّينِ، وتَضْليلِ الأئِمَّةِ الماضِينَ! هذا وقدْ تَواتَرَتِ الأخْبارُ أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانَ يَدْعو الكُفَّارَ إلى الإسْلامِ والشَّهادتَينِ) [401] ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السنة الأصبهاني (2/ 120). .
ومِمَّا تَقدَّمَ يَتَبَيَّنُ مُسمَّى التَّوْحيدِ عنْدَ الأشاعِرةِ، فمِن المَعْلومِ عنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ: هو إفْرادُ اللهِ بالعِبادةِ، وهو حَقيقةُ دينِ الإسْلامِ، وتَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ يَتَضمَّنُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدَ الأسْماءِ والصِّفاتِ؛ فإنَّ مَن عَبَدَ اللهَ تَعالى وَحْدَه، وآمَنَ بأنَّه المُسْتحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه، دَلَّ ذلك على أنَّه مُؤمِنٌ برُبوبيَّتِه وبأسْمائِه وصِفاتِه؛ لأنَّه لم يَعبُدِ اللهَ وَحْدَه إلَّا لأنَّه يَعْتقِدُ بأنَّ اللهَ سُبْحانَه هو المُتَفرِّدُ بالخَلْقِ والرِّزْقِ والتَّدْبيرِ وغَيْرِ ذلك مِن خَصائِصِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّه سُبْحانَه له الأسْماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلا، الَّتي تَدُلُّ على أنَّه المُسْتحِقُّ للعِبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له [402] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 24)، ((منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر)) للملا القاري (ص: 47)، ((تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)) للصنعاني (ص: 47 - 50)، ((القَوْل السديد شرح كِتاب التوحيد)) للسعدي (ص: 19)، ((القَوْل المفيد على كِتاب التوحيد)) لابن عُثَيْمينَ (1/ 14 - 16)، ((تسهيل العَقيدة الإسلامية)) لابن حمادة الجبرين (ص: 53). .
 قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (وَقَعَ الغَلَطُ في مُسمَّى التَّوْحيدِ؛ فإنَّ عامَّةَ المُتَكلِّمينَ الَّذين يُقَرِّرونَ التَّوْحيدَ في كُتُبِ الكَلامِ والنَّظَرِ، غايتُهم أن يَجعَلوا التَّوْحيدَ ثَلاثةَ أنْواعٍ، فيَقولونَ: هو واحِدٌ في ذاتِه لا قَسيمَ له، وواحِدٌ في صِفاتِه لا شَبيهَ له، وواحِدٌ في أفْعالِه لا شَريكَ له، وأَشهَرُ الأنْواعِ الثَّلاثةِ عنْدَهم هو الثَّالِثُ وهو تَوْحيدُ الأفْعالِ، وهو أنَّ خالِقَ العالَمِ واحِدٌ، وهُمْ يَحْتَجَّونَ على ذلك بما يَذكُرونَه مِن دَلالةِ التَّمانُعِ وغَيْرِها، ويَظُنُّونَ أن هذا هو التَّوْحيدُ المَطْلوبُ، وأنَّ هذا هو مَعْنى قَوْلِنا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حتَّى قد يَجعَلونَ مَعْنى الإلَهيَّةِ القُدْرةَ على الاخْتِراعِ، ومَعْلومٌ أنَّ المُشرِكينَ مِن العَربِ الَّذين بُعِثَ إليهم مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلًا لم يَكونوا يُخالِفونَه في هذا، بلْ كانوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ حتَّى إنَّهم كانوا يُقِرُّونَ بالقَدَرِ أيضًا، وهُمْ معَ هذا مُشرِكونَ، فقدْ تَبَيَّنَ أنْ ليس في العالَمِ مَن يُنازِعُ في أصْلِ هذا الشِّرْكِ، ولكنْ غايةُ ما يُقالُ: إنَّ مِن النَّاسِ مَن جَعَلَ بعضَ المَوْجوداتِ خَلْقًا لغَيْرِ اللهِ كالقَدَريَّةِ وغَيْرِهم؛ لكنَّ هؤلاء يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالِقُ العِبادِ وخالِقُ قُدْرتِهم، وإن قالوا إنَّهم خَلَقوا أفْعالَهم، وكذلك أهْلُ الفَلْسَفةِ والطَّبْعِ والنُّجومِ الَّذين يَجعَلونَ بعضَ المَخْلوقاتِ مُبدِعةً لبعضِ الأمورِ هُمْ معَ الإقْرارِ بالصَّانِعِ يَجعَلونَ هذه الفاعِلاتِ مَصْنوعةً مَخْلوقةً لا يَقولونَ إنَّها غَنِيَّةٌ عن الخالِقِ مُشارِكةٌ له في الخَلْقِ، فأمَّا مَن أَنكَرَ الصَّانِعَ فذاك جاحِدٌ مُعطِّلٌ للصَّانِعِ كالقَوْل الَّذي أَظهَرَ فِرْعونُ، والكَلامُ الآنَ معَ المُشرِكينَ باللهِ المُقِرِّينَ بوُجودِه، فإنَّ هذا التَّوْحيدَ الَّذي قَرَّروه لا يُنازِعُهم فيه هؤلاء المُشرِكونَ، بل يُقِرُّونَ به معَ أنَّهم مُشرِكونَ كما ثَبَتَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ، وكما عُلِمَ بالاضْطِرارِ مِن دينِ الإسْلامِ، وكذلك النَّوعُ الثَّاني وهو قَوْلُهم: لا شَبيهَ له في صِفاتِه؛ فإنَّه ليس في الأُمَمِ مَن أَثبَتَ قَديمًا مُماثِلًا له في ذاتِه؛ سواءٌ قالَ إنَّه يُشارِكُه، أو قالَ: إنَّه لا فِعلَ له، بل مَن شَبَّهَ به شَيئًا مِن مَخْلوقاتِه فإنَّما يُشَبِّهُه به في بعضِ الأمورِ، وقدْ عُلِمَ بالعَقْلِ امْتِناعُ أن يكونَ له مِثلٌ في المَخْلوقاتِ يُشارِكُه فيما يَجِبُ أو يَجوزُ أو يَمْتنِعُ عليه؛ فإنَّ ذلك يَسْتَلْزِمُ الجَمْعَ بَيْنَ النَّقيضينِ كما تَقدَّمَ، وعُلِمَ أيضًا بالعَقْلِ أنَّ كلَّ مَوْجودَينِ قائِمَينِ بأنْفُسِهما فلا بُدَّ بَيْنَهما مِن قَدْرٍ مُشتَرَكٍ كاتِّفاقِهما في مُسمَّى الوُجودِ والقِيامِ بالنَّفْسِ والذَّاتِ ونَحْوِ ذلك، فإنَّ نَفْيَ ذلك يَقْتَضي التَّعْطيلَ المَحْضَ، وإنَّه لا بُدَّ مِن إثْباتِ خَصائِصِ الرُّبوبيَّةِ، وقدْ تَقدَّمَ الكَلامُ على ذلك...، وكذلك النَّوْعُ الثَّالِثُ، وهو قَوْلُهم: هو واحِدٌ لا قَسيمَ له في ذاتِه أو لا جُزْءَ له أو لا بعضَ له- لَفْظٌ مُجمَلٌ؛ فإنَّ اللهَ سُبْحانَه أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ...، لكنَّهم يُدرِجونَ في هذا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّه على عَرْشِه ومُباينتِه لخَلْقِه وامْتيازِه عنهم، ونَحْوِ ذلك مِن المَعاني المُسْتَلْزِمةِ لنَفْيِه وتَعْطيلِه، ويَجعَلونَ ذلك مِن التَّوْحيدِ، فقدْ تَبَيَّنَ أنَّ ما يُسمُّونَه تَوْحيدًا فيه ما هو حَقٌّ، وفيه ما هو باطِلٌ، ولو كانَ جَميعُه حَقًّا؛ فإنَّ المُشرِكينَ إذا أَقَرُّوا بذلك كلِّه لم يَخرُجوا مِن الشِّرْكِ الَّذي وَصَفَهم به في القُرْآنِ وقاتَلَهم عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بلْ لا بُدَّ أن يَعْتَرِفوا أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، وليس المُرادُ بالإلهِ هو القادِرَ على الاخْتِراعِ كما ظَنَّه مَن ظَنَّه مِن أئِمَّةِ المُتَكلِّمينَ، حيثُ ظَنُّوا أنَّ الإلَهيَّةَ هي القُدْرةُ على الاخْتِراعِ دونَ غَيْرِه، وأنَّ مَن أَقَرَّ بأنَّ اللهَ هو القادِرُ على الاخْتِراعِ دونَ غَيْرِه فقدْ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا هو! فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يُقِرُّونَ بِهذا وهُمْ مُشرِكونَ كما تَقدَّمَ بَيانُه، بلِ الإلهُ الحَقُّ هو الَّذي يَسْتحِقُّ بأن يُعبَدَ، فهو إلهٌ بمَعْنى مَألوهٍ؛ لا إلهٌ بمَعْنى آلِهٍ؛ والتَّوْحيدُ أن يَعبُدَ اللهَ وَحْدَه لا شَريكَ له، والإشْراكُ أن يَجعَلَ معَ اللهِ إلَهًا آخَرَ، وإذا تَبَيَّنَ أنَّ غايةَ ما يُقَرِّرُه هؤلاء النُّظَّارُ أهْلُ الإثْباتِ للقَدَرِ، المُنْتَسِبونَ إلى السَّنَّةِ، إنَّما هو تَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّ اللهَ رَبُّ كلِّ شيءٍ، ومعَ هذا فالمُشرِكونَ كانوا مُقِرِّينَ بذلك معَ أنَّهم مُشرِكونَ- فكذلك طوائِفُ مِن أهلِ التصَوُّفِ...) [403] ((مجموع الفَتاوى)) (3/ 97 - 101) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (لمَّا كانَ أبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ، وأبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ، وأبو العبَّاسِ القَلانِسيُّ ممَّن أخَذَ أصْلَ الكَلامِ في التَّوْحيدِ عن المُعْتَزِلةِ، وخالَفوهم في بعضٍ دونَ بعضٍ، يَقَعُ في كَلامِهم مِن هذا التَّوْحيدِ المُبْتَدَعِ المُخالِفِ للتَّوْحيدِ المُنزَلِ مِن عنْدِ اللهِ ما يَقَعُ -كانَ النَّاسُ يُنَبهِّونَ على ذلك، حتَّى ذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ قالَ: سَمِعْتُ عَدْنانَ بنَ عَبْدةَ النُّمَيْريَّ يَقولُ: سَمِعْتُ أبا عُمَرَ البسْطاميَّ يَقولُ: كانَ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ أوَّلًا يَنْتَحِلُ الاعْتِزالَ، ثُمَّ رَجَعَ فتَكلَّمَ عليهم، وإنَّما مَذهَبُه التَّعْطيلُ، إلَّا أنَّه رَجَعَ مِن التَّصْريحِ إلى التَّمْويهِ.
وقالَ الشَّيْخُ أبو نَصْرٍ السِّجْزيُّ في رِسالتِه إلى أهْلِ اليَمَنِ: ولقد حَكى لي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ المالِكيُّ المَغرِبيُّ -وكانَ فَقيهًا صالِحًا- عن الشَّيْخِ أبي سَعيدٍ البَرْقيِّ -وهو من شُيوخِ فُقَهاءِ المالِكيِّينَ ببَرْقةَ- عن أسْتاذِه خَلَفٍ المُعلِّمِ -وكانَ من فُقَهاءِ المالِكيِّينَ- أنَّه قالَ: الأشْعَريُّ أقامَ أرْبَعينَ سَنَةً على الاعْتِزالِ ثُمَّ أَظهَرَ التَّوْبةَ فرَجَعَ عن الفُروعِ وثَبَتَ على الأُصولِ، قالَ أبو نَصْرٍ: هذا كَلامُ خَبيرٍ بمَذهَبِ الأشْعَريِّ وعَوْرتِه؛ ولِهذا قالَ مُحَمَّدُ بنُ خُوَيْز مَنْدادَ، إمامُ المالِكيَّةِ في وَقْتِه في العِراقِ في الكَلامِ الَّذي ذَكَرَه عنه أبو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ، قالَ: أهْلُ البِدَعِ والأهْواءِ عنْدَ مالِكٍ وأصْحابِه الَّذين تُرَدُّ شَهادتُهم هُمْ أهْلُ الكَلامِ، قالَ: فكلُّ مُتَكلِّمٍ فهو عنْدَهم مِن أهْلِ الأهْواءِ والبِدَعِ عنْدَ مالِكٍ وأصْحابِه، وكلُّ مُتَكلِّمٍ فهو عنْدَهم مِن أهْلِ الأهْواءِ أشْعَريًّا كانَ أو غَيْرَ أشْعَريٍّ.
والمَعْنى الثَّالِثُ مِن مَعاني التَّوْحيدِ عنْدَ هؤلاء الأشْعَريَّةِ كالقاضي أبي بَكْرٍ وغَيْرِه، هو أنَّه سُبْحانَه لا شَريكَ له في المُلْكِ، بلْ هو رَبُّ كلِّ شيءٍ، وهذا مَعنًى صَحيحٌ، وهو حَقٌّ، وهو أَجوَدُ ما اعْتَصَموا به مِن الإسْلامِ في أُصولِهم؛ حيثُ اعْتَرَفوا فيه بأنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ ومُرَبِّيه ومُدَبِّرُه، والمُعْتَزِلةُ وغَيْرُهم يُخالِفونَ في ذلك؛ حيثُ يَجعَلونَ بعضَ المَخْلوقاتِ لم يَخلُقْها اللهُ ولم يُحدِثْها، لكنْ معَ هذا قد رَدُّوا قَوْلَهم ببِدَعٍ غَلَوا فيها، وأَنْكَروا ما خَلَقَه اللهُ مِن الأسْبابِ، وأَنْكَروا ما نَطَقَ به الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ اللهَ يَخلُقُ الأشْياءَ بعضَها ببعضٍ، وغَيْرِ ذلك ممَّا ليس هذا مَوضِعَه...
وأمَّا التَّوْحيدُ الَّذي ذَكَرَه اللهُ في كِتابِه وأَنزَلَ به كُتُبَه وبَعَثَ به رُسُلَه واتَّفَقَ عليه المُسلِمونَ مِن كلِّ مِلَّةٍ فهو كما قالَ الأئِمَّةُ: شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهو عِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، كما بَيَّنَ ذلك بقَوْلِه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] ، فأَخبَرَ أنَّ الإلهَ إلهٌ واحِدٌ، لا يَجوزُ أن يُتَّخَذَ إلهٌ غَيْرَه، فلا يَعبُدَ إلَّا إيَّاه ...، والشِّرْكُ الَّذي ذَكَرَه اللهُ في كِتابِه إنَّما هو عِبادةُ غَيْرِه مِن المَخْلوقاتِ؛ كعِبادةِ المَلائِكةِ، أو الكَواكِبِ، أو الشَّمْسِ، أو القَمَرِ، أو الأنْبِياءِ، أو تَماثيلِهم، أو قُبورِهم، أو غَيْرِهم مِن الآدَمِيِّينَ، ونَحْوِ ذلك ممَّا هو كَثيرٌ في هؤلاء الجَهْميَّةِ ونَحْوِهم ممَّن يَزعُمُ أنَّه مُحقِّقٌ في التَّوْحيدِ، وهو مِن أَعظَمِ النَّاسِ إشْراكًا، وقالَ تَعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38] ، وقالَ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 64 - 66] ، ... وقالَ تَعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ وعَطاءٌ وعِكْرِمةُ ومُجاهِدٌ: يَسأَلُهم مَن خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضِ؟ فيَقولونَ: اللهُ، وهُمْ معَ هذا يَعبُدونَ غَيْرَه، ويُشرِكونَ به، ويَقولونَ: له وَلَدٌ، وثالِثُ ثَلاثةٍ، فكانَ الكُفَّارُ يُقِرُّونَ بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ -وهو نِهايةُ ما يُثبِتُه هؤلاء المُتَكلِّمونَ إذا سَلِموا مِن البِدَعِ فيه- وكانوا معَ هذا مُشرِكينَ؛ لأنَّهم كانوا يَعبُدونَ غَيْرَ اللهِ، وقالَ تَعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وقالَ تَعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] . فبَيَّنَ سُبْحانَه أنَّه بِهذا التَّوْحيدِ بَعَثَ جَميعَ الرُّسُلِ، وأنَّه بَعَثَ إلى كلِّ أمَّةٍ رَسولًا به، وهذا هو الإسْلامُ الَّذي لا يَقبَلُ اللهُ مِن الأَوَّلينَ ولا مِن الآخِرينَ دينًا غَيْرَه...، والإلهُ هو المُسْتحِقُّ للعِبادةِ، فأمَّا مَن اعْتَقَدَ في اللهِ أنَّه رَبُّ كلِّ شيءٍ وخالِقُه، وهو معَ هذا يَعبُدُ غَيْرَه فإنَّه مُشرِكٌ برَبِّه، مُتَّخِذٌ مِن دونِه إلَهًا آخَرَ، فليسَتِ الإلَهيَّةُ هي الخَلْقَ أو القُدْرةَ على الخَلْقِ أو القِدَمَ كما يُفَسِّرُها هؤلاء المُبْتَدِعونَ في التَّوْحيدِ مِن أهْلِ الكَلامِ؛ إذِ المُشرِكونَ الَّذين شَهِدَ اللهُ ورَسولُه بأنَّهم مُشرِكونَ مِن العَربِ وغَيْرِهم لم يكونوا يَشُكُّونَ في أنَّ اللهَ خالِقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّه، فلو كانَ هذا هو الإلَهيَّةَ لكانوا قائِلينَ إنَّه لا إلهَ إلَّا هو، فهذا مَوضِعٌ عَظيمٌ جِدًّا يَنْبَغي مَعْرِفتُه لِما قد لَبَّسَ على طَوائِفَ مِن النَّاسِ أصْلَ الإسْلامِ، حتَّى صاروا يَدخُلونَ في أمورٍ عَظيمةٍ هي شِرْكٌ يُنافي الإسْلامَ، لا يَحسَبونَها شِرْكًا، وأَدخَلوا في التَّوْحيدِ والإسْلامِ أمورًا باطِلةً ظَنُّوها مِن التَّوْحيدِ وهي تُنافيه، وأَخرَجوا مِن الإسْلامِ والتَّوْحيدِ أمورًا عَظيمةً لم يَظُنُّوها مِن التَّوْحيدِ وهي أصْلُه، فأَكثَرُ هؤلاء المُتَكلِّمينَ لا يَجعَلونَ التَّوْحيدَ إلَّا ما يَتَعلَّقُ بالقَوْلِ والرَّأيِ واعْتِقادِ ذلك دونَ ما يَتَعلَّقُ بالعَمَلِ والإرادةِ واعْتِقادِ ذلك، بلِ التَّوْحيدُ الَّذي لا بُدَّ مِنه لا يكونُ إلَّا بتَوْحيدِ الإرادةِ والقَصْدِ، وهو تَوْحيدُ العِبادةِ، وهو تَحْقيقُ شَهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، أن يَقصِدَ اللهَ بالعِبادةِ، ويُريدَه بذلك دونَ ما سِواه، وهذا هو الإسْلامُ؛ فإنَّ الإسْلامَ يَتَضمَّنُ أَصْلَينِ: أحَدُهما: الاسْتِسْلامُ للهِ، والثَّاني: أن يكونَ ذلك له سالِمًا فلا يَشرَكُه أحَدٌ في الإسْلامِ له، وهذا هو الاسْتِسْلامُ للهِ دونَ ما سِواه) [404] ((الفَتاوى الكبرى)) (6/ 563 - 566). ويُنظر: ((التسعينية)) لابن تَيْمِيَّةَ (3/ 780 - 802). .

انظر أيضا: