موسوعة الفرق

الفَصْلُ الرَّابِعُ: تَطوُّرُ مَذهَبِ الأشاعِرةِ


يَتَّفِقُ الباحِثونُ مِن الأشاعِرةِ وغَيْرِهم على أنَّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ تَطَوَّرَ بَعْدَ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ بواسِطةِ كَثيرٍ مِن أئِمَّةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ؛ كأبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ يَعْقوبَ بنِ مُجاهِدٍ الطَّائيِّ، والقاضي أبي بَكْرِ بنِ الباقِلَّانيِّ، والأُسْتاذِ ابنِ فورَكٍ، والأسْتاذِ أبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، وعَبْدِ القاهِرِ البَغْداديِّ، وأبي القاسِمِ القُشَيْريِّ، وأبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، وأبي حامِدٍ الغَزاليِّ، والفَخْرِ الرَّازيِّ، وأبي الحَسَنِ الآمِدِيِّ، والإيجيِّ. وهذا التطَوُّرُ في المذهَبِ الأشعَريِّ كان للأسَفِ مِن حَسَنٍ إلى سَيِّئٍ ثمَّ إلى أسوأَ، والنَّاظِرُ في كُتُبِ الأشاعِرةِ يَجِدُ تَعَدُّدَ الأقْوالِ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ، واخْتِلافَ الأشاعِرةِ في مَسائِلَ عَديدةٍ، ويَعتَبِرُ الأشاعِرةُ تَعَدُّدَ أقْوالِ أئِمَّتِهم واخْتِلافَهم اجْتِهادًا داخِلَ المَذهَبِ.
وهذه بعضُ الأمْثِلةِ على تَعَدُّدِ أقْوالِ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ، واخْتِلافِهم في بعضِ المَسائِلِ، مَنْقولةً مِن أَشهَرِ كُتُبِهم:
1- قالَ الآمِدِيُّ: (ممَّا اخْتُلِفَ فيه قالَ بعضُهم: لا يَجوزُ أن يكونَ للهِ صِفةٌ زائِدةٌ على ما أثْبَتْناه...، ومِن الأصْحابِ مَن زادَ على هذا، وأَثبَتَ العِلمَ بوُجودِ صِفاتٍ زائِدةٍ على ما أَثْبَتْناه، وذلك مِثلُ البَقاءِ والوَجْهِ والعَيْنَينِ واليَدَينِ) [294] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 135) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
2- قالَ الإيجيُّ: (اخْتُلِفَ في أوَّلِ واجِبٍ على المُكَلَّفِ أنَّه ماذا؟ فالأَكثَرُ ومِنهم الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ على أنَّه مَعْرِفةُ اللهِ تَعالى؛ إذْ هو أصْلُ المَعارِفِ والعَقائِدِ الدِّينيَّةِ، وعليه يَتَفرَّعُ وُجوبُ كلِّ واجِبٍ مِن الواجِباتِ الشَّرْعيَّةِ، وقيلَ: هو النَّظَرُ فيها، أي: في مَعْرِفةِ اللهِ سُبْحانَه؛ لأنَّه واجِبٌ اتِّفاقًا، وهو قَبْلَها، وهذا مَذهَبُ جُمْهورِ المُعْتَزِلةِ والأسْتاذِ أبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، وقيلَ: هو أوَّلُ جُزْءٍ مِن النَّظَرِ؛ لأنَّ وُجوبَ الكلِّ يَسْتلزِمُ وُجوبَ أجْزائِه، فأوَّلُ جُزْءٍ مِن النَّظَرِ واجِبٌ، وهو مُتَقدِّمٌ على النَّظَرِ المُتَقدِّمِ على المَعْرِفةِ، وقالَ القاضي واخْتارَه ابنُ فورَكٍ وإمامُ الحَرَمَينِ: إنَّه القَصْدُ إلى النَّظَرِ) [295] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (1/ 165، 166). .
وقالَ أيضًا: (لمَّا وُصِفَ تَعالى بالاسْتِواءِ في قَوْلِه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] اخْتَلَفَ الأصْحابُ فيه، فقالَ الأَكثَرونَ: هو الاسْتيلاءُ، ويَعودُ إلى القُدْرةِ، وذَهَبَ الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ في أحَدِ قَوْلَيه إلى أنَّه صِفةٌ زائِدةٌ، ولم يُقِمْ دَليلًا عليه، ولا يَجوزُ التَّعْويلُ على الظَّواهِرِ معَ قِيامِ الاحْتِمالِ) [296] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (3/ 144) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقالَ الإيجيُّ أيضًا: (أَثبَتَ الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ في أحَدِ قَوْلَيه، وأبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ، والسَّلَفُ، الوَجْهَ للهِ صِفةً ثُبوتِيَّةً زائِدةً، وقالَ في قَوْلٍ آخَرَ ووافَقَه القاضي: إنَّه الوُجودُ) [297] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (3/ 152) بتَصَرُّفٍ. .
وقالَ أيضًا: (قالَ اللهُ تَعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، فأَثبَتَ الشَّيْخُ صِفتَينِ ثُبوتيَّتَينِ زائِدتَينِ على الذَّاتِ وسائِرِ الصِّفاتِ، لكنْ لا بمَعْنى الجارِحتَينِ، وعليه السَّلَفُ، وإليه مَيْلُ القاضي في بعضِ كُتُبِه، وقالَ الأَكثَرُ: إنَّهما مَجازٌ عن القُدْرةِ؛ فإنَّه شائِعٌ، وخَلَقْتُه بيَدَيَّ، أي: بقُدْرةٍ كامِلةٍ، ولم يُرِدْ بقُدْرتَينِ، وتَخْصيصُ خَلْقِ آدَمَ بِذلك معَ أنَّ الكلَّ مَخْلوقٌ بقُدْرتِه تَعالى تَشْريفٌ وتَكْريمٌ له) [298] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (3/ 152). .
3- قالَ الصَّاويُّ: (اعْلَمْ أنَّ وُجوبَ صِفاتِ المَعاني ذاتيٌّ لها، مِثلُ وُجوبِ الذَّاتِ، وليسَتْ مُمْكِنةً في نَفْسِها واجِبةً بوُجوبِ الذَّاتِ، خِلافًا لسَعْدِ الدِّينِ، تَبَعًا لِلفَخْرِ، وتَبِعَه أيضًا جَماعةٌ كالبَيْضاويِّ، وشَنَّعَ عليه ابنُ التِّلِمْسانيِّ فقالَ: وصَرَّحَ أي: الفَخْرُ -والعِياذُ باللهِ- بكَلِمةٍ لم يُسبَقْ إليها، فقالَ: هي مُمْكِنةٌ باعْتِبارِ ذاتِها، واجِبةٌ بوُجوبِ ذاتِه جَلَّ وعَلا، وضاهى قَوْلَ الفَلاسِفةِ: العالَمُ مُمْكِنٌ باعْتِبارِ ذاتِه، واجِبٌ بوُجوبِ مُقتَضيه، ونَعوذُ باللهِ مِن زَلَّةِ عالِمٍ! وبَناها على اعْتِقادِ صِحَّةِ شُبْهةِ الفَلاسِفةِ: بأنَّ الافْتِقارَ بمَعْنى مُطلَقِ التَّوَقُّفِ يوجِبُ الإمْكانَ، وأنَّ كلَّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إلى جُزئِه، وجُزؤُه غَيْرُه، والمُفْتَقِرُ للغَيْرِ لا يكونُ إلَّا مُمكِنًا، وتَوَهُّمُ التَّرْكيبِ باعْتِبارِ الصِّفاتِ، وادَّعَوا بأنَّ الإمْكانَ لا يُنافي القِدَمَ، وهي عَقيدةٌ باطِلةٌ تَهدِمُ كَثيرًا مِن مَسائِلِ أهْلِ السُّنَّةِ) [299] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 195، 196). ويُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/ 127)، ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 234، 235). .
4- قالَ الفَخْرُ الرَّازيُّ: (مَذهَبُ شَيْخِنا أبي الحَسَنِ -رَحِمَه اللهُ تَعالى- والأَكثَرينَ مِن أصْحابِه أنَّ البَقاءَ صِفةٌ زائِدةٌ على الذَّاتِ، شاهِدًا كانَ أو غائِبًا، ومَذهَبُ القاضي وإمامِ الحَرَمَينِ والأَكثَرينَ مِن المُعْتَزِلةِ: أنَّ الباقيَ باقٍ لنَفْسِه شاهِدًا كانَ أو غائِبًا، ومَذهَبُ الكَعْبيُّ ومُتَّبِعيه إثْباتُه شاهِدًا ونَفْيُه غائِبًا، وهو اخْتِيارُ الإمامِ والِدي رَحِمَه اللهُ تَعالى) [300] ((الإشارة في علم الكَلام)) (ص: 245). وفي هامِشِ الكِتابِ قال محقِّقُه هاني مُحَمَّد حامز: (اخْتَلَف الأشاعِرةُ في صِفةِ البقاءِ: هل هي صِفةٌ زائِدةٌ على الذَّاتِ، أو نَفْسيَّةٌ، أو سَلْبيَّةٌ؟ فالشَّيْخ الأشْعَريُّ رحمه الله تعالى يرى أنَّ البقاءَ صِفةٌ زائِدةٌ على الذَّاتِ، وهو ما أجمعت عليه كُتُبُ عِلْمِ الكَلامِ خاصَّةً لدى المُتَأخِّرينَ، ولكِنَّ الشَّهْرَستانيَّ يقولُ: (إنَّ للأشْعَريِّ في البقاءِ اخْتِلافَ رأيٍ) بمعنى أنَّه تارةً يرى أنَّ البقاءَ صِفةٌ نَفْسيَّةٌ، وتارةً يرى أنَّه صِفةٌ زائِدةٌ على الذَّاتِ. وترَتَّب على ذلك أنْ قال الأشْعَريُّ بعَدَمِ بقاءِ العَرَضِ زمانَينِ، وذلك لأنَّ البقاءَ معنًى وُجوديٌّ، والعَرَضُ مَعنًى قائِمٌ بالجَوهَرِ، فلو بَقِيَ العَرَضُ زمانينِ لكان باقيًا ببقاءٍ، وللَزِمَ قيامُ المعنى بالمعنى وهو محالٌ، ومن ثُمَّ فقد ذهب الأشْعَريُّ إلى أنَّ العَرَضَ ينعَدِمُ في الزَّمانِ الثَّاني بذاتِه، وينعَدِمُ الجَوهَرُ بإمساكِ الأعراضِ عنه. وبَعْدَ الأشْعَريِّ انقَسَم أتْباعُه إلى قِسْمَينِ: قِسمٌ يقولُ برأيِ الأشْعَريِّ مِن أنَّ العَرَضَ لا يبقى زمانينِ، ولكِنَّهم رَفَضوا قَوْلَ شَيْخِهم في كونِ البقاءِ صِفةً وُجوديَّةً زائِدةً. وقِسمٌ يقولُ -وعلى رأسِهم الرَّازيُّ وسائِرُ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ- إنَّ الأعراضَ باقيةٌ ما عدا الأصواتَ. وذهب جمهورُ الاشاعِرةِ إلى أنَّ البقاءَ صِفةٌ نَفْسيَّةٌ للباري تعالى وليست زائِدةً على ذاتِه تعالى، وبرز هذا بوُضوحٍ عند الباقِلَّانيِّ وإمامِ الحرَمَينِ والرَّازي والآمِدِيِّ وغَيرِهم، بينما ذهب مُتَأخِّرو الأشاعِرةِ إلى اعتبارِ البَقاءِ صِفةً سَلْبيَّةً، بمعنى أنَّها تنفي عن الباري تعالى معنًى لا يَليقُ بذاتِه تعالى). .
فما أَكثَرَ التَّكَلُّفَ والتَّنَطُّعَ في كَلامِ المُتَكلِّمينَ! ودينُ اللهِ لا يَحْتاجُ إلى الفَلْسَفةِ وكَثْرةِ الآراءِ واخْتِلافِ الأهْواءِ، ولا حاجةَ للمُسلِمِ بأن يَشغَلَ نَفْسَه بمَتاهاتِ عُلَماءِ الكَلامِ المُخْتلِفينَ، ولو أنَّهم اكْتَفَوا بما في القُرْآنِ مِن الإيمانِ بأسْماءِ اللهِ الحُسْنى، وأنَّه ليس كمِثلِه شيءٌ، وأنَّه الأوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهِرُ والباطِنُ، وأنَّه الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ، وأنَّه الحَيُّ القَيُّومُ، وأنَّه على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وأنَّه بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، وأنَّه أَحكَمُ الحاكِمينَ، وأنَّه رَبُّ العالَمينَ، وأنَّ النَّاسَ لا يُحيطونَ به عِلمًا؛ لَسَلِموا مِن هذه التَّطْويلاتِ والاخْتِلافاتِ، ولكنْ هكذا عِلمُ الكَلامِ الَّذي حَذَّرَ مِنه عُلَماءُ الإسْلامِ. واللهُ المُسْتعانُ.
وقدِ ازْدادَ تَطوُّرُ المَذهَبِ الأشْعَريِّ معَ مُرورِ الزَّمَنِ حتَّى صارَتِ العَقيدةُ الأشْعَريَّةُ عنْدَ المُتَأخِّرينَ عَقيدةً فَلْسَفيَّةً قُبوريَّةً، مُخالِفةً للعَقيدةِ الصَّحيحةِ الَّتي كانَ عليها النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصْحابُه كما سيَأتي بَيانُه.
ومِن أَبرَزِ مَظاهِرِ التَّطوُّرِ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ ما يَلي [301] يُنظر: ((مَنهَج الأشاعِرة في العَقيدة)) للحوالي (ص: 21 - 212)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) لعبد الرحمن المحمود (1/ 437) إلى (2/ 696). :
1- القُرْبُ مِن الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ
لا يَخْفى على النَّاظِرِ في الكُتُبِ المُعْتمَدةِ عنْدَ الأشاعِرةِ أنَّهم يَتَّفِقونَ معَ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ في بعضِ المَسائِلِ والأُصولِ [302] يُنظرُ مثلًا: ((الإشارة في علم الكَلام)) للفخر الرازي (ص: 126، 245)، ((شرح المواقف)) للجرجاني مع حاشيتي السيالكوتي والفناري (1/ 276)، (2/ 127)، (6/ 17، 93، 176)، (8/ 106، 147)، ((شرح المقاصد في علم الكَلام)) للتفتازاني (2/ 236). ، ومِن ذلك اتِّفاقُهم على تَقْديمِ العَقْلِ على النَّقْلِ، معَ أنَّه لا تَعارُضَ أصْلًا بَيْنَ العَقْلِ الصَّريحِ والنَّقْلِ الصَّحيحِ.
وقدْ ذَكَرَ السَّنوسيُّ الأشْعَريُّ أنَّ مِن أُصولِ الكُفْرِ التَّمَسُّكَ في أُصولِ العَقائِدِ بمُجَرَّدِ ظَواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن غَيْرِ عَرْضِها على البَراهينِ العَقْلِيَّةِ والقَواطِعِ الشَّرْعيَّةِ؛ لِلجَهْلِ بأدِلَّةِ العُقولِ، وعَدَمِ الارْتِباطِ بأساليبِ العَربِ [303] يُنظر: ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 217). .
وفي مَسْألةِ الإيمانِ وافَقَ الأشاعِرةُ الجَهْميَّةَ في جَعْلِ الإيمانِ مُجَرَّدَ التَّصْديقِ بالقَلْبِ، وجَعَلوا الكُفْرَ مُجَرَّدَ التَّكْذيبِ، فعِنْدَهم أنَّ السُّجودَ للصَّنَمِ وسَبَّ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإهانةَ المُصْحَفِ ليس كُفْرًا بذاتِه، وإنَّما هو دَليلٌ على الكُفْرِ الَّذي هو انْتِفاءُ التَّصْديقِ مِن قَلْبِ فاعِلِه [304] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (2/ 282). !
قالَ الآمِدِيُّ: (الإيمانُ في اللَّغةِ عِبارةٌ عن التَّصْديقِ، وفي عُرْفِ اسْتِعمالِ أهْلِ الحَقِّ مِن المُتَكلِّمينَ: عِبارةٌ عن التَّصْديقِ باللهِ وصِفاتِه وما جاءَتْ به أنْبياؤُه ورِسالاتُه...، وليس الإيمانُ هو الإقْرارَ باللِّسانِ فقط كما زَعَمَتِ الكَرَّاميَّةُ، ولا إقامةَ العِباداتِ والتَّمَسُّكَ بالطَّاعاتِ كما زَعَمَتِ الخارِجيَّةُ؛ فإنَّا نَعلَمُ مِن حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنْدَ إظْهارِ الدَّعْوةِ أنَّه لم يَكْتَفِ مِن النَّاسِ بمُجَرَّدِ الإقْرارِ باللِّسانِ ولا العَمَلِ بالأرْكانِ معَ تَكْذيبِ الجَنانِ، بلْ كانَ يُسمَّى مَن كانَتْ حالُه كذلك كاذِبًا ومُنافِقًا ...، وبِهذا يَتَبيَّنُ أيضًا فَسادُ قَوْلِ الحَشَويَّةِ [305] قال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: (علامةُ أهلِ البِدَعِ الوقيعةُ في أهلِ الأثرِ، وعلامةُ الزَّنادقةِ تسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ حَشَويَّةً، يريدونَ إبطالَ الآثارِ، وعلامةُ الجَهميَّةِ تَسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ مُشَبِّهةً، وعلامةُ الرَّافضةِ تَسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ ناصِبةً). رواه اللَّالَكائيُّ في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (321)، والصابوني في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص: 304). : إنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ بالجَنانِ، والإقْرارُ باللِّسانِ، والعَمَلُ بالأرْكانِ) [306] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 309 - 311) باختِصارٍ. .
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كَثيرٌ مِن مُتَأخِّري أصْحابِ الأشْعَريِّ خَرَجوا عن قَوْلِه إلى قَوْلِ المُعْتَزِلةِ أو الجَهْميَّةِ أو الفَلاسِفةِ) [307] ((شرح العَقيدة الأصفهانية)) (ص: 127). .
والحَقُّ أنَّ الأشاعِرةَ -معَ قُرْبِهم مِن الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ وتَأثُّرِهم بالفَلاسِفةِ- أَقرَبُ المُتَكلِّمينَ إلى مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (الأشْعَريَّةُ الأَغلَبُ عليهم أنَّهم مُرْجِئةٌ في بابِ الأسْماءِ والأحْكامِ، جَبْريَّةٌ في بابِ القَدَرِ، وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهْميَّةً مَحْضةً، بل فيهم نَوْعٌ مِن التَّجَهُّمِ، وهُمْ في الجُمْلةِ أَقرَبُ المُتَكلِّمينَ إلى مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ) [308] ((مجموع الفَتاوى)) (6/ 55) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسير. .
2- تَأثيرُ الفَلْسَفةِ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ
النَّاظِرُ في كُتُبِ الأشاعِرةِ يَعجَبُ مِن كَثْرةِ النَّقْلِ عن الفَلاسِفةِ، وشَرْحِ مَذاهِبِهم، وذِكْرِ أقْوالِهم، معَ المُوافَقةِ لها أحْيانًا.
قالَ الشَّهْرَسْتانيُّ: (وافَقْنا الفَلاسِفةَ على أنَّ جِسْمًا ما أو قُوَّةً في جِسْمٍ لا يَصلُحُ أن يكونَ مُبدِعًا لجِسْمٍ) [309] ((نهاية الإقدام في علم الكَلام)) (ص: 37). .
وقالَ أيضًا: (غَلا إمامُ الحَرَمَينِ حيثُ أَثبَتَ لِلقُدْرةِ الحادِثةِ أثَرًا هو الوُجودُ، غَيْرَ أنَّه لم يُثبِتْ للعَبْدِ اسْتِقلالًا بالوُجودِ ما لم يَسْتنِدْ إلى سَبَبٍ آخَرَ، ثُمَّ تَتَسَلْسَلُ الأسْبابُ في سِلْسِلةِ التَّرَقِّي إلى الباري سُبْحانَه، وهو الخالِقُ المُبدِعُ المُسْتقِلُّ بإبْداعِه مِن غَيْرِ احْتِياجٍ إلى سَبَبٍ، وإنَّما سَلَكَ في مَسلَكِ الفَلاسِفةِ حيثُ قالوا بتَسَلْسُلِ الأسْبابِ، وتَأثيرِ الوَسائِطِ الأَعْلى في القَوابِلِ الأَدْنى) [310] ((نهاية الإقدام في علم الكَلام)) (ص: 49). .
وقالَ الرَّازِيُّ: (مَدارُ هذه الشُّبْهةِ على أنَّ كلَّ مَوْجودَينِ في الشَّاهِدِ فلا بُدَّ أن يكونَ أحَدُهما مُحايِثًا للآخَرِ أو مُبايِنًا عنه بالجِهةِ، وهذه الطَّريقةُ مَمْنوعةٌ، وبَيانُه مِن وُجوهٍ:
 الأوَّلُ: أنَّ جُمْهورَ الفَلاسِفةِ يُثْبِتونَ مَوْجوداتٍ غَيْرَ مُحايِثةٍ لِهذا العالَمِ الجِسْمانيِّ، ولا مُبايِنةٍ عنه بالجِهةِ، وذلك لأنَّهم يُثْبِتونَ العُقولَ والنُّفوسَ الفَلَكيَّةَ، والنُّفوسَ النَّاطِقةَ، ويُثْبِتونَ الهَيولى، ويَزعُمونَ أنَّ هذه الأشْياءَ مَوْجوداتٌ غَيْرُ مُتَحيِّزةٍ ولا حالَّةٍ في المُتَحيِّزِ، ولا يَصدُقُ عليها أنَّها مُحايِثةٌ لِهذا العالَمِ، ولا مُبايِنةٌ عنه بالجِهةِ، وما لم تُبْطِلوا هذا المَذهَبَ بالدَّليلِ لا يَصِحُّ القَوْلُ بأنَّ كلَّ مَوْجودَينِ في الشَّاهِدِ، فإمَّا أن يكونَ أحَدُهما مُحايِثًا للآخَرِ أو مُبايِنًا عنه) [311] ((أساس التقديس في علم الكَلام)) (ص: 56). ويُنظر تعليق ابن تَيْمِيَّةَ على كَلام الرازي: ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) لابن تَيْمِيَّةَ (4/ 249 - 350). .
وقالَ الآمِدِيُّ مُبَيِّنًا مُوافَقةَ مَذهَبِ الأشاعِرةِ لمَذهَبِ الفَلاسِفةِ الَّذين يُسَمِّيهم الحُكَماءَ في إنْكارِهم حِكْمةَ اللهِ في خَلْقِه وأفْعالِه: (مَذهَبُ أهْلِ الحَقِّ أنَّ الباريَ تَعالى خَلَقَ العالَمَ وأَبدَعَه لا لِغايةٍ يَسْتنِدُ الإبْداعُ إليها، ولا لِحِكْمةٍ يَتَوَقَّفُ الخَلْقُ عليها، بلْ كلُّ ما أَبدَعَه مِن خَيْرٍ وشَرٍّ ونَفْعٍ وضُرٍّ لم يكُنْ لِغَرَضٍ قادَه إليه، ولا لمَقْصودٍ أَوجَبَ الفِعلَ عليه، بلِ الخَلْقُ وأنْ لا خَلْقَ له جائِزانِ، وهُما بالنِّسْبةِ إليه سِيَّانِ، ووافَقَهم على ذلك طَوائِفُ الإلَهيِّينَ، وجَهابِذةُ الحُكَماءِ المُتَقدِّمينَ) [312] ((غاية المرام في علم الكَلام)) (ص: 224). .
وقالَ التَّفْتازانيُّ: (لمَّا نُقِلَتِ الفَلْسَفةُ الى العَربيَّةِ وخاضَ فيها الإسْلاميُّونَ حاوَلوا الرَّدَّ على الفَلاسِفةِ فيما خالَفوا فيه الشَّريعةَ، فخَلَطوا بالكَلامِ كَثيرًا مِن الفَلْسَفةِ؛ ليَتَحَقَّقوا مَقاصِدَها فيَتَمَكَّنوا مِن إبْطالِها، وهَلُمَّ جَرًّا إلى أن أَدرَجوا فيه مُعظَمَ الطَّبيعيَّاتِ والإلَهيَّاتِ، وخاضوا فى الرِّياضيَّاتِ حتَّى كادَ لا يَتَميَّزُ عن الفَلْسَفةِ، لولا اشْتِمالُه على السَّمْعيَّاتِ، وهذا هو كَلامُ المُتَأخِّرينَ) [313] ((شرح العَقائِد النسفية)) (ص: 12). .
وقدْ تَنَبَّهَ بعضُ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ لكَثْرةِ ضَرَرِ كَلامِ الفَلاسِفةِ، فحَذَّرَ مِن الكُتُبِ الَّتي تَنقُلُ كَلامَهم، جاءَ في (شَرْحِ السَّنوسيِّ على أُمِّ البَراهينِ معَ حاشِيةِ الدُّسوقيِّ)، وهي مِن الكُتُبِ المُعْتمَدةِ عنْدَ الأشاعِرةِ: (ولْيَحْذَرِ المُبْتَدي جُهْدَه أن يَأخُذَ أُصولَ دينِه مِن الكُتُبِ الَّتي حُشِيَتْ بكَلامِ الفَلاسِفةِ، وأُولِعَ مُؤَلِّفوها بنَقْلِ هَوَسِهم، وما هو كُفْرٌ صُراحٌ مِن عَقائِدِهم الَّتي سَتَروا نَجاستَها بما يَنْبَهِمُ على كَثيرٍ مِن اصْطِلاحاتِهم وعِبارتِهم الَّتي أَكثَرُها أسْماءٌ بِلا مُسَمَّياتٍ، وذلك ككُتُبِ الإمامِ الفَخْرِ في عِلمِ الكَلامِ، وطَوالعِ البَيْضاويِّ، ومَن حَذا حَذْوَهما في ذلك، وقَلَّ أن يُفلِحَ مَن أُولِعَ بصُحْبةِ كَلامِ الفَلاسِفةِ أو يكونَ له نورُ إيمانٍ في قَلْبِه أو لِسانِه، وكيف يُفلِحُ مَن والى مَن حادَّ اللهَ ورَسولَه، وخَرَقَ حِجابَ الهَيْبةِ، ونَبَذَ الشَّريعةَ وَراءَ ظَهْرِه، وقالَ في حَقِّ مَوْلانا جَلَّ وعَزَّ وفي حَقِّ رُسُلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ما سَوَّلَتْ له نَفْسُه الحَمْقاءُ، ودَعاه إليه وَهْمُه المُخْتَلُّ؟! ولقد خُذِلَ بعضُ النَّاسِ فتَراه يُشَرِّفُ كَلامَ الفَلاسِفةِ المَلْعونينَ، ويُشَرِّفُ الكُتُبَ الَّتي تَعَرَّضَتْ لنَقْلِ كَثيرٍ مِن حَماقاتِهم!)، قالَ في الحاشِيةِ: (قَوْلُه: وذلك) أي: وما ذُكِرَ مِن الكُتُبِ الَّتي حُشِيَتْ بكَلامِ الفَلاسِفةِ. (قَوْلُه: ككُتُبِ الإمامِ الفَخْرِ الرَّازِيِّ في عِلمِ الكَلامِ، وطَوالِعِ البَيْضاويِّ، ومَن حَذا حَذْوَهما) أي: ومَن سَلَكَ مَسلَكَهما كالأُرْمَويِّ والعَلَّامةِ السَّعْدِ والعَضُدِ وابنِ عَرَفةَ، قالَ البُرْهانُ اللَّقَّانيُّ في "هِدايةِ المُريدِ": إنَّ كَلامَ الأوائِلِ كانَ مَقْصورًا على الذَّاتِ والصِّفاتِ والنُّبُوَّاتِ والسَّمْعيَّاتِ، فلمَّا حَدَثَتْ طَوائِفُ المُبْتَدِعةِ كَثُرَ جِدالُهم معَ عُلَماءِ الإسْلامِ، وأَوْرَدوا شُبَهًا على ما قَرَّرَه الأوائِلُ، وخَلَطوا تلك الشُّبَهَ بكَثيرٍ مِن قَواعِدِ الفَلاسِفةِ ليَسْتُروا ضَلالَهم، فتَصَدَّى المُتَأخِّرونَ كالفَخْرِ ومَن ذُكِرَ معَه لدَفْعِ تلك الشُّبَهِ، وهَدْمِ تلك القَواعِدِ، فاضْطُرُّوا لإدْراجِها في كُتُبِهم لأجْلِ أن يَتَمَكَّنوا مِن الرَّدِّ عليهم ببَيانِ المَقْصودِ مِنها، وإيضاحِ مَفاسِدِها، فظَهَرَ أنَّهم مَعْذورونَ في إدْراجِها في كُتُبِهم، ولا لَوْمَ عليهم في ذلك، ولا يَصِحُّ تَوْجيهُ الذَّمِّ إليهم، وتَحْذيرُ بعضِ المُتَأخِّرينَ عن تَعاطي كُتُبِهم، إنَّما هو للقاصِرينَ الَّذين لا يَصِلونَ لفَهْمِها اهـ) [314] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 70 - 72). ويُنظر أمثِلةٌ أُخرى فيها النَّقْلُ عن الفلاسِفةِ الَّذين يُسَمُّونَهم الحُكَماءَ: ((نهاية الإقدام في علم الكَلام)) للشهرستاني (ص: 37، 184)، ((أساس التقديس في علم الكَلام)) للرازي (ص: 16)، ((غاية المرام في علم الكَلام)) للآمدي (ص: 203، 51). .
3- دُخولُ المَذهَبِ الأشْعَريِّ في الغُلُوِّ في الأَوْلِياءِ وتَجْويزِ التَّوَسُّلِ بالصَّالِحينَ
النَّاظِرُ في كُتُبِ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ يَجِدُ أنَّ بعضَهم قد غَلا في الأَوْلياءِ غُلُوًّا عَظيمًا، حتَّى جَوَّزوا الاسْتِغاثةَ بِهم، والتَّوَسُّلَ بدُعائِهم.
قالَ الباجوريُّ: (اعْتَقِدْ ثُبوتَ الكَرامةِ للأَوْلياءِ بمَعْنى جَوازِها ووُقوعِها لهم في الحَياةِ وبَعْدَ المَوْتِ كما ذَهَبَ إليه جُمْهورُ أهْلِ السُّنَّةِ، وليس في مَذهَبٍ مِن المَذاهِبِ الأرْبَعةِ قَوْلٌ بنَفْيِها بَعْدَ المَوْتِ، بلْ ظُهورُها حينَئذٍ أَوْلى؛ لأنَّ النَّفْسَ حينَئذٍ صافِيةٌ مِن الأكْدارِ؛ ولِذا قيلَ: مَن لم تَظهَرْ كَرامتُه بَعْدَ مَوْتِه كما كانَتْ في حَياتِه فليس بصادِقٍ، وقالَ الشَّعْرانيُّ: ذَكَرَ لي بعضُ المَشايِخِ أنَّ اللهَ تَعالى يوكِلُ بقَبْرِ الوَلِيِّ مَلَكًا يَقْضي الحَوائِجَ، وتارةً يَخرُجُ الوَلِيُّ مِن قَبْرِه ويَقْضيها بنَفْسِه!) [315] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 252). .
وقالَ سَلامةُ العَزَّاميُّ الصُّوفيُّ: (التَّوَسُّلُ والتَّشَفُّعُ والاسْتِغاثةُ بالنَّبِيِّينَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، والصَّالِحينَ رَضِيَ الله عنهم، بَعْدَ وَفاتِهم، معَ اعْتِقادِ أنَّهم مَفاتيحُ الرَّحْمةِ وأسْبابُ الخَيْرِ، والفاتِحُ لها بِهم هو اللهُ وَحْدَه- ليس شِرْكًا ولا كُفْرًا، ولا حَرامًا ولا مَكْروهًا، بل هو سَبيلُ المُؤمِنينَ، وطَريقُ عِبادِ اللهِ المَرْضيِّينَ) [316] ((فرقان القُرْآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان)) (ص: 21). .
وجاءَ في الفَتاوى الحَديثيَّةِ لابن حجر الهيتمي الأشْعَريِّ: (سُئِلَ نَفَعَ اللهُ بعُلومِه ورَضِيَ عنه: هلْ يُمكِنُ الآنَ الاجْتِماعُ بالنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في اليَقَظةِ والتَّلَقِّي مِنه؟ فأجابَ بقَوْلِه: نَعمْ يُمكِنُ ذلك؛ فقدْ صَرَّحَ بأنَّ ذلك مِن كَراماتِ الأَوْلياءِ: الغَزاليُّ والبارِزيُّ والتَّاجُ السُّبْكيُّ والعَفيفُ اليافِعيُّ مِن الشَّافِعيَّةِ، والقُرْطُبيُّ وابنُ أبي جَمْرةَ مِن المالِكيَّةِ، وقدْ حَكى عن بعضِ الأَوْلياءِ أنَّه حَضَرَ مَجلِسَ فَقيهٍ، فرَوى ذلك الفَقيهُ حَديثًا، فقالَ له الوَلِيُّ: هذا الحَديثُ باطِلٌ، قالَ: ومِن أين لك هذا؟ قالَ: هذا النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واقِفٌ على رأسِك يَقولُ: إنِّي لم أَقُلْ هذا الحَديثَ، وكُشِفَ للفَقيهِ فرآه!) [317] ((الفَتاوى الحَديثية)) (ص: 211). .
والحِكاياتُ في كُتُبِ الأشاعِرةِ الصُّوفيَّةِ المُتَأخِّرينَ كَثيرةٌ جِدًّا، ومَن نَظَرَ في كِتابِ (الطَّبَقاتِ الكُبْرى) للشَّعْرانيِّ الأشْعَريِّ يَجِدُ مِن ذلك أخْبارًا يَذكُرُها بِلا إسْنادٍ، أو يَرْويها عن مَجاهيلَ، ويَجزِمُ العاقِلُ السَّوِيُّ ببُطْلانِ أَكثَرِها، ويَسْتَحيي مِن ذِكْرِ بعضِها، ومِن ذلك:
قَوْلُ الشَّعْرانيُّ في تَرْجمةِ رَجُلٍ مِن الصُّوفيَّةِ يُسمَّى وُحَيشًا: (كانَ رَضِيَ اللهُ عنه مِن أعْيانِ المَجاذيبِ أرْبابِ الأحْوالِ، وكانَ يَأتي مِصْرَ، والمَحَلَّةَ، وغَيْرَهما مِن البِلادِ، وله كَراماتٌ وخَوارِقُ، واجْتَمَعْتُ به...، وأَخبَرَني الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الطنيخيُّ رَحِمَه اللهُ تَعالى، قالَ: كانَ الشَّيْخُ وُحَيْشٌ رَضِيَ اللهُ عنه يُقيمُ عنْدَنا في المَحَلَّةِ في خانِ بَناتِ الخَطا، وكانَ كلُّ مَن خَرَجَ يَقولُ له: قِفْ حتَّى أَشفَعَ فيك عنْدَ اللهِ قَبْلَ أن تَخرُجَ، فيَشفَعُ فيه، وكانَ يُحبَسُ بعضُهم اليَوْمَ واليَوْمَينِ، ولا يُمكِنُه أن يَخرُجَ حتَّى يُجابَ في شَفاعتِه، وقالَ يَوْمًا لبَناتِ الخَطا: اخْرُجوا فإنَّ الخانَ رائِحٌ يُطبَّقُ عليكم، فما سَمِعَ مِنهنَّ إلَّا واحِدةٌ فخَرَجَتْ، ووَقَعَ على الباقي فمِتْنَ كلُّهنَّ، وكانَ إذا رأى شَيْخَ بَلَدٍ أو غَيْرَه يُنزِلُه مِن على الحِمارةِ، ويَقولُ له: أَمسِكْ رأسَها لي حتَّى أَفعَلَ فيها! فإن أبى شَيْخُ البَلَدِ تَسَمَّرَ في الأرْضِ لا يَسْتَطيعُ يَمْشي خُطْوةً، وإن سَمَحَ حَصَلَ له خَجَلٌ عَظيمٌ، والنَّاسُ يَمُرُّونَ عليه، وكانَ له أحْوالٌ غَريبةٌ، وقدْ أَخبَرْتُ عنه سَيِّدي مُحَمَّدَ بنَ عنانٍ رَضِيَ اللهُ عنه فقالَ: هؤلاء يُحيلونَ للنَّاسِ هذه الأفْعالَ، وليس لها حَقيقةٌ) [318] ((الطبقات الكبرى)) (2/ 129). وقد مدح مؤَلِّفُه أبا الحَسَنِ الأشْعَريَّ في آخِرِ كِتابِه فقال: (كان أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ إمامًا زاهِدًا وَرِعًا عالِمًا مُواظِبًا على السُّنَّةِ، مُقَدَّمًا على أقرانِه مِنَ المتَكَلِّمينَ رَضِيَ الله عنه، ومكَثَ عِشرينَ سَنةً يُصَلِّي الصُّبحَ بوُضوءِ العِشاءِ) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 164). .        
ولبعضِ المُتَأخِّرينَ مِن الصُّوفيَّةِ الأشاعِرةِ أو المُتَأثِّرينَ بالأشاعِرةِ كُتُبٌ شَنيعةٌ في الدِّفاعِ عن الشِّرْكِ أو وَسائِلِ الشِّرْكِ، وفي الرَّدِّ على المُوَحِّدينَ، ومِن ذلك كِتابُ: (إحْياء المَقْبورِ بأدِلَّةِ اسْتِحْبابِ اتِّخاذِ المَساجِدِ والقِبابِ على القُبورِ) لأبي الفَيْضِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الصِّدِّيقِ الغُماريِّ الأزْهَريِّ، وكِتابُ (إتْحافِ الأذْكياءِ بجَوازِ التَّوَسُّلِ بالأنْبِياءِ والأَوْلياءِ) لعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ الغُماريِّ، وكِتابُ (شَواهِد الحَقِّ في الاسْتِغاثةِ بسَيِّدِ الخَلْقِ) ليوسُفَ النَّبْهانيِّ، وكِتابُ (مَفاهيم يَجِبُ أن تُصَحَّحَ) لمُحَمَّد علَويِّ المالِكيِّ، ويُنظَرُ في الرَّدِّ على شُبُهاتِ القُبوريِّينَ كِتابُ: (غاية الأماني في الرَّدِّ على النَّبْهاني) للآلوسيِّ، وكِتابُ: (هذه مَفاهيمُنا) لصالِحِ بنِ عَبْدِ العَزيزِ آلِ الشَّيْخِ.
4- تَكْفيرُ بعضِ الأشاعِرةِ لأهْلِ السُّنَّةِ ولِلمُخالِفينَ للمَذهَبِ الأشْعَريِّ
قالَ الجُرْجانيُّ: (اعْلَمْ أنَّ عَدَمَ تَكْفيرِ أهْلِ القِبْلةِ مُوافِقٌ لكَلامِ الشَّيْخِ الأشْعَريِّ والفُقَهاءِ، لكنَّا إذا فَتَّشْنا عَقائِدَ الإسْلاميِّينَ وَجَدْنا فيها ما يوجِبُ الكُفْرَ قَطْعًا) [319] ((المواقف للإيجي مع شرح الجرجاني)) (3/ 572). .
بل ذَهَبَ بعضُ الأشاعِرةِ إلى عَدَمِ صِحَّةِ إيمانِ العامِّيِّ المُقلِّدِ!
قالَ الدُّسوقيُّ: (قد أَنكَرَ القَوْلَ بعَدَمِ إيمانِ المُقلِّدِ بعضُهم، وهذا خِلافُ ما صَحَّحَه في شَرْحِ الكُبْرى مِن كُفْرِه، وادُّعِيَ الإجْماعُ عليه، وقدْ عَلِمْتَ ما هو المُعْتمَدُ مِن تلك الأقْوالِ. واعْلَمْ أنَّ الخِلافَ في المُقلِّدِ في كُفْرِه وعَدَمِ كُفرِه إنَّما هو بالنِّسْبةِ لنَجاتِه وعَدَمِها في الآخِرةِ؛ لأنَّه في الدُّنْيا لا قائِلَ بأنَّه يُعامَلُ مُعامَلةَ الكافِرِ، بلْ يُعامَلُ مُعامَلةَ المُسلِمينَ فيها اتِّفاقًا، قالَ الشَّاويُّ: وهذا الخِلافُ الَّذي في المُقلِّدِ بعَكْسِ الخِلافِ الَّذي في المُعْتَزِلةِ في أنَّهم كُفَّارٌ أو مُؤمِنونَ عُصاةٌ، فإنَّه بالنَّظَرِ لحالِ الدُّنْيا أي: هلْ تَجْري عليهم أحْكامُ الكُفَّارِ في الدُّنْيا أم لا؟ وأمَّا في الآخِرةِ فلا خِلافَ أنَّهم يُخَلَّدونَ في النَّارِ، وتَأمَّلْه) [320] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 56). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 218). .
وقالَ أيضًا: (والحاصِلُ أنَّ مَن اخْتَرَمَتْهُ المَنِيَّةُ قَبْلَ أن يَنظُرَ أو عَجَزَ عن النَّظَرِ لبَلادةٍ، فهو مُؤمِنٌ، وإن تَمَكَّنَ مِن النَّظَرِ بأن وَسِعَ الزَّمَنُ النَّظَرَ ولم يَنظُرْ ولم يُختَرَمْ، فهو مُؤمِنٌ عاصٍ عنْدَ الأُسْتاذِ، وكافِرٌ عنْدَ ابنِ العَرَبيِّ) [321] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 62). ويُنظَرُ في الرَّدِّ على من لا يقولُ بصِحَّةِ إيمانِ المقَلِّدِ: ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 70 - 75)، ((صيانة صَحيح مُسلِم)) لابن الصلاح (ص: 143)، ((فتح الباري)) لابن حَجَر (1/ 71)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 267 - 270)، ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (10/ 409). .
وقدْ شَنَّعَ عليهم العُلَماءُ بِذلك؛ فقالَ الهَرَويُّ فيما نَقَلَه عنه ابنُ تَيْمِيَّةَ: (وأَبطَلوا التَّقْليدَ، فكَفَّروا آباءَهم وأمَّهاتِهم وأزْواجَهم وعَوامَّ المُسلِمينَ، وأَوجَبوا النَّظَرَ في الكَلامِ...، فكَفَّروا السَّلَفَ!) [322] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (4/ 414). .
وقالَ أبو العبَّاسِ القُرْطُبيُّ: (لو لم يكُنْ في الكَلامِ شيءٌ يُذَمُّ به إلَّا مَسْألَتانِ هُما مِن مَبادِئِه لكانَ حَقيقًا بالذَّمِّ، وجَديرًا بالتَّرْكِ: إحْداهما: قَوْلُ طائِفةٍ مِنهم: إنَّ أوَّلَ الواجِباتِ الشَّكُّ في اللهِ تَعالى! والثَّانيةُ: قَوْلُ جَماعةٍ مِنهم: إنَّ مَن لم يَعرِفِ اللهَ تَعالى بالطُّرُقِ الَّتي طَرَقوها، والأبْحاثِ الَّتي حَرَّروها، فلا يَصِحُّ إيمانُه، وهو كافِرٌ، فيَلزَمُهم على هذا تَكْفيرُ أَكثَرِ المُسلِمينَ مِن السَّلَفِ الماضينَ، وأئِمَّةِ المُسلِمينَ، وأنَّ مَن يَبدَأُ بتَكْفيرِه أباه وأسْلافَه وجيرانَه) [323] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كِتاب مُسلِم)) (6/ 693). .
وإنَّ مِن أَغرَبِ ما في المَذهَبِ الأشْعَريِّ إنْكارَ كَوْنِ الأسْبابِ العاديَّةِ تُؤَثِّرُ في مُسَبَّباتِها، فيُنكِرونَ مَثَلًا أنَّ الأكْلَ مُشبِعٌ، وأنَّ الماءَ مُرْوٍ، وأنَّ النَّارَ مُحرِقةٌ بطَبْعِها، فخالَفوا العُقَلاءَ في تَأثيرِ الأسْبابِ [324] قال ابنُ تَيْمِيَّةَ: (جُمهورُ أهْلِ السُّنَّةِ يقولونَ: إنَّ العَبْدَ فاعِلٌ لفِعْلِه حقيقةً، وإنَّ له قُدرةً حقيقيَّةً واستطاعةً حقيقيَّةً، ولا يُنكِرون تأثيرَ الأسبابِ الطبيعيَّةِ، بل يُقِرُّون بما دَلَّ عليه الشَّرعُ والعَقْلُ مِن أنَّ اللهَ يُنبِتُ النَّباتَ بالماءِ، ولا يقولون: إنَّ القُوى والطَّبائِعَ الموجودةَ في المخلوقاتِ لا تأثيرَ لها، بل يُقِرُّونَ أنَّ لها تأثيرًا لَفظًا ومعنًى، يقولونَ: هذا التأثيرُ هو تأثيرُ الأسبابِ في مُسَبَّباتِها، واللهُ تعالى خالِقُ السَّبَبِ والمُسَبَّبِ، ومع أنَّه خالِقُ السَّبَبِ فلا بُدَّ له من سَبَبٍ آخَرَ يُشارِكُه، ولا بُدَّ له مِن مُعارِضٍ يمانِعُه، فلا يَتِمُّ أثَرُه مع خَلْقِ اللهِ له إلَّا بأن يخلُقَ اللهُ السَّبَبَ الآخَرَ، ويُزيلَ الموانِعَ) يُنظر: ((منهاج السنة النبوية (3/ 12) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. ، ولم يَكْتَفوا بإنْكارِ أثَرِها، بلْ كَفَّرَ بعضُ الأشاعِرةِ مَن خالَفَهم في هذه المَسْألةِ!
قالَ السَّنوسيُّ الأشْعَريُّ: (قالَ ابنُ دِهاقٍ في شَرْحِ الإرْشادِ حينَ تَعرَّضَ لأصْنافِ الشِّرْكِ: ...، الثَّاني: ما أُضيفَ مِن أفْعالِ بعضٍ إلى بعضٍ، مِن أنَّ النَّارَ تُحرِقُ، والطَّعامَ يُشبِعُ، والثَّوْبَ يَستُرُ، إلى غَيْرِ ذلك مِن رَبْطِ المُعْتاداتِ حتَّى ظَنُّوها واجِبةً، وتلك ضَلالةٌ تَبِعَ الفَيْلسوفيَّ فيها كَثيرٌ مِن عامَّةِ المُسلِمينَ. قُلْتُ: بلْ وكَثيرٌ مِن المُتَفَقِّهينَ المُشْتَغِلينَ بما لا يَعْنيهم مِن العُلومِ، وعن مَراشِدِهم عَمينَ، قالَ: وهُمْ فيها على اعْتِقاداتٍ، فمَن قالَ بطَبْعِها تَفعَلُ فلا خِلافَ في كُفْرِه، ومَن قالَ: بقُوَّةٍ جَعَلَها اللهُ فيها كانَ مُبْتَدِعًا، وقدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ في كُفْرِه. قُلْتُ: وهذا القِسْمُ هو اعْتِقادُ أَكثَرِ عامَّةِ المُتَفقِّهةِ في زَمانِنا، ومَن في مَعْناهم مِن جَهَلةِ المُقلِّدينَ، قالَ: ومَن قالَ: إنَّ الأكْلَ دَليلٌ عَقْليٌّ على الشِّبَعِ دونَ أن يكونَ مُعْتادًا، كانَ جاهِلًا بمَعْنى الدَّلالةِ العَقْلِيَّةِ، ومَن عَلِمَ أنَّ اللهَ سُبْحانَه وتَعالى رَبَطَ بعضَ أفْعالِه ببعضٍ، وكلَّما فَعَلَ هذا فَعَلَ هذا باخْتِيارِه، وإذا شاءَ خَرَقَ هذه العادةَ فَعَلَ، فهذا هو المُؤمِنُ الَّذي سَلِمَ مِن هذه الآفةِ بفَضْلِ اللهِ سُبْحانَه وتَعالى) [325] ((حواشٍ على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 183). ويُنظر: ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 40). .
5- ارْتِباطُ المَذهَبَينِ الفِقْهيَّينِ الشَّافِعيِّ والمالِكيِّ بالمَذهَبِ الأشْعَريِّ
كانَ قُدَماءُ فُقَهاءِ الشَّافِعيَّةِ والمالِكيَّةِ على مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، ولمَّا ظَهَرَ المَذهَبُ الأشْعَريُّ صَرَّحَ بعضُ قُدَماءِ الشَّافِعيَّة والمالِكيَّةِ بالتَّحْذيرِ مِنه.
قالَ مُحَمَّدُ بنُ خُوَيْز مَنْدادَ المِصْرِيُّ المالِكيُّ (ت 390هـ) تَقْريبًا: (أهْلُ الأهْواءِ عنْدَ مالِكٍ وسائِرِ أصْحابِنا هُمْ أهْلُ الكَلامِ، فكلُّ مُتَكلِّمٍ فهو مِن أهْلِ الأهْواءِ والبِدَعِ، أشْعَريًّا كانَ أو غَيْرَ أشْعَريٍّ، ولا تُقبَلُ له شَهادةٌ في الإسْلامِ، ويُهجَرُ ويُؤدَّبُ على بِدْعتِه، فإن تَمادى عليها اسْتُتيبَ مِنها) [326] ((جامع بيان العِلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 942). وقد طَعَن فيه بَعْضُ المالِكيَّةِ المتأثِّرينَ بالأشاعِرةِ، كأبي الوَليدِ الباجيِّ، والقاضي عِياضٍ. يُنظر: ((جمهرة تراجم الفقهاء المالكية)) لقاسِم بن سعد (2/ 1006). .
وقدْ نَقَلَ هذا أبو عُمَرَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ المالِكيُّ (ت 463هـ)، ثُمَّ قالَ مُؤَيِّدًا لكَلامِ ابن خُوَيز مَنْدادَ: (ليس في الاعْتِقادِ كلِّه في صِفاتِ اللهِ وأسْمائِه إلَّا ما جاءَ مَنْصوصًا في كِتابِ اللهِ، أو صَحَّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أَجمَعَتْ عليه الأُمَّةُ، وما جاءَ مِن أخْبارِ الآحادِ في ذلك كلِّه أو نَحْوِه يُسلَّمُ له، ولا يُناظَرُ فيه) [327] ((جامع بيان العِلم وفضله)) (2/ 942). .
وممَّن كانَ يَتَبَرَّأُ مِن الأشْعَريَّةِ أبو حامِدٍ الأسْفَرايِينيِّ (ت 406هـ)، إمامُ الشَّافِعيَّةِ في زَمانِه، فنَقَلَ ابنُ تَيْمِيَّةَ عن أبي الحَسَنِ الكَرجيِّ الشَّافِعيِّ قَوْلَه: (وكانَ الشَّيْخُ أبو حامِدٍ الأسْفَرايِينيُّ شَديدَ الإنْكارِ على الباقِلَّانيِّ وأصْحابِ الكَلامِ، قالَ: ولم يَزَلِ الأئِمَّةُ الشَّافِعيَّةُ يَأنَفونَ ويَسْتَنْكِفونَ أن يُنسَبوا إلى الأشْعَريِّ، ويَتَبَرَّؤونَ ممَّا بَنى الأشْعَريُّ مَذهَبَه عليه، ويَنهَون أصْحابَهم وأحْبابَهم عن الحَوْمِ حَوالَيه، على ما سَمِعْتُ عِدَّةً مِن المَشايِخِ والأئِمَّةِ -مِنهم الحافِظُ المُؤتَمنُ بنُ أَحْمَدَ بنِ علِيٍّ السَّاجيُّ- يَقولونَ: سَمِعْنا جَماعةً مِن المَشايِخِ الثِّقاتِ قالوا: كانَ الشَّيْخُ أبو حامِدٍ أَحْمَدُ بنُ أبي طاهِرٍ الإسْفَرايينيُّ إمامَ الأئِمَّةِ، الَّذي طَبَقَ الأرْضَ عِلمًا وأصْحابًا إذا سَعى إلى الجُمُعةِ مِن قَطْعيَّةِ الكَرْجِ إلى جامِعِ المَنْصورِ يَدخُلُ الرِّباطَ المَعْروفَ بالزَّوْزيِّ المُحاذيَ للجامِعِ، ويُقبِلُ على مَن حَضَرَ، ويَقولُ: اشْهَدوا علَيَّ بأنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، كما قالَه الإمامُ ابنُ حَنْبَلٍ، لا كما يَقولُه الباقِلَّانيُّ، وتَكَرَّرَ ذلك مِنه جُمُعاتٍ، فقيلَ له في ذلك، فقالَ: حتَّى يَنْتَشِرَ في النَّاسِ وفي أهْلِ الصَّلاحِ، ويَشيعَ الخَبَرُ في أهْلِ البِلادِ: أنِّي بَريءٌ ممَّا هُمْ عليه -يَعْني الأشْعَريَّةَ- وبَرِيءٌ مِن مَذهَبِ أبي بَكْرِ بنِ الباقِلَّانيِّ؛ فإنَّ جَماعةً مِن المُتَفَقِّهةِ الغُرَباءِ يَدخُلونَ على الباقِلَّانيِّ خُفْيةً، ويَقْرَؤونَ عليه، فيُفْتَنونَ بمَذهَبِه، فإذا رَجَعوا إلى بِلادِهم أَظهَروا بِدْعتَهم لا مَحالةَ، فيَظُنُّ ظانٌّ أنَّهم مِنِّي تَعلَّموه قَبْلُ، وأنا ما قُلْتُه، وأنا بَريءٌ مِن مَذهَبِ الباقِلَّانيِّ وعَقيدتِه. قالَ الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ الكَرْجيُّ: وسَمِعْتُ شَيْخي الإمامَ أبا مَنْصورٍ الفَقيهَ الأصْبَهانيَّ يَقولُ: سَمِعْتُ شَيْخَنا الإمامَ أبا بَكْرٍ الزَّاذقانيَّ يَقولُ: كُنْتُ في دَرْسِ الشَّيْخِ أبي حامِدٍ الأسْفَرايِينيِّ، وكانَ يَنْهى أصْحابَه عن الكَلامِ، وعن الدُّخولِ على الباقِلَّانيِّ، فبَلَغَه أنَّ نَفَرًا مِن أصْحابِه يَدخُلونَ عليه خُفْيةً لقِراءةِ الكَلامِ، فظَنَّ أنِّي معَهم ومِنهم، وذَكَرَ قِصَّةً قالَ في آخِرِها: إنَّ الشَّيْخَ أبا حامِدٍ قالَ لي: يا بُنَيَّ، قد بَلَغَني أنَّك تَدخُلُ على هذا الرَّجُلِ -يَعْني الباقِلَّانيَّ- فإيَّاك وإيَّاه؛ فإنَّه مُبْتَدِعٌ يَدْعو النَّاسَ إلى الضَّلالةِ، وإلَّا فلا تَحضُرْ مَجلِسي، فقُلْتُ: أنا عائِذٌ باللهِ ممَّا قيلَ، وتائِبٌ إليه، واشْهَدوا علَيَّ أنِّي لا أَدخُلُ إليه. قالَ الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ: وسَمِعْتُ الفَقيهَ الإمامَ أبا مَنْصورٍ سَعْدَ بنَ علِيٍّ العجليَّ يَقولُ: سَمِعْتُ عِدَّةً مِن المَشايخِ والأئِمَّةِ ببَغْدادَ -أظُنُّ الشَّيْخَ أبا إسْحاقَ الشِّيرازيَّ أحَدَهم- قالوا: كانَ أبو بَكْرٍ الباقِلَّانيُّ يَخرُجُ إلى الحَمَّامِ مُتَبَرْقِعًا، خَوْفًا مِن الشَّيْخِ أبي حامِدٍ الأسْفَرايِينيِّ. قالَ أبو الحَسَنِ: ومَعْروفٌ شِدَّةُ الشَّيْخِ أبي حامِدٍ على أهْلِ الكَلامِ، حتَّى مَيَّزَ أُصولَ فِقْهِ الشَّافِعيِّ مِن أُصولِ الأشْعَريِّ، وعَلَّقَه عنه أبو بَكْرٍ الزَّاذَقانيُّ، وهو عِنْدي، وبه اقْتَدى الشَّيْخُ أبو إسْحاقَ الشِّيرازيُّ في كِتابَيه اللُّمَعِ والتَّبْصِرةِ، حتَّى لو وافَقَ قَوْلُ الأشْعَريِّ وَجْهًا لأصْحابِنا مَيَّزَه، وقالَ: هو قَوْلُ بعضِ أصْحابِنا، وبه قالَتِ الأشْعَريَّةُ [328] يُنظر على سبيل المثال: ((التبصرة في أصول الفقه)) (ص: 22، 27، 67، 99)، ((اللمع في أصول الفقه)) (ص: 10، 13، 24، 71) كلاهما للشيرازي. ، ولم يَعُدَّهم مِن أصْحابِ الشَّافِعيِّ، اسْتَنْكَفوا مِنهم ومِن مَذهَبِهم في أُصولِ الفِقْهِ، فَضْلًا عن أُصولِ الدِّينِ). قُلْتُ: هذا المَنْقولُ عن الشَّيْخِ أبي حامِدٍ وأمْثالِه مِن أئِمَّةِ أصْحابِ الشَّافِعيِّ، أصْحابِ الوُجوهِ، مَعْروفٌ في كُتُبِهم المُصَنَّفةِ في أُصولِ الفِقْهِ وغَيْرِها. وقدْ ذَكَرَ ذلك الشَّيْخُ أبو حامِدٍ، والقاضي أبو الطَّيِّبِ، وأبو إسْحاقَ الشِّيرازيُّ، وغَيْرُ واحِدٍ بَيَّنوا مُخالَفةَ الشَّافِعيِّ وغَيْرِه مِن الأئِمَّةِ لقَوْلِ ابن كُلَّابٍ والأشْعَريِّ في مَسْألةِ الكَلامِ الَّتي امْتازَ بِها ابنُ كُلَّابٍ والأشْعَريُّ عن غَيْرِهما) [329] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (2/ 96 - 98). .
فهذا بعضُ كَلامِ أئِمَّةِ الشَّافِعيَّةِ والمالِكيَّةِ المُتَقَدِّمينَ في ذَمِّ مَذهَبِ الأشاعِرةِ، ثُمَّ لمَّا انْتَشَرَ المَذهَبُ الأشْعَريُّ، ودَعا إليه أعْلامٌ مَشْهورونَ مِن أئِمَّةِ المَذهَبِ المالِكيِّ والشَّافِعيِّ صارَ أَغلَبُ فُقَهاءِ الشَّافِعيَّةِ والمالِكيَّةِ المُتَأخِّرينَ أشاعِرةً [330] يُنظر: ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَريِّ)) لابن عَساكِر (ص: 140، 255)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (14/ 29)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (3/ 365 - 367، 373 - 377)، ((شجرة النور الزكية في طبقات المالكية)) لابن مخلوف (1/ 118، 138). ، وصاروا يَعْتَقِدونَ أنَّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ هو مَذهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ.
قالَ أبو إسْحاقَ الشِّيرازيُّ (ت 476هـ) الفَقيهُ الشَّافِعيُّ المَشْهورُ: (مَن كانَ في الفُروعِ على مَذهَبِ الشَّافِعيِّ، وفي الأُصولِ على اعْتِقادِ الأشْعَريِّ، فهو مَعْلَمُ الطَّريقِ، وهو على الحَقِّ المُبينِ) [331] ((الإشارة إلى مَذهَب أهْل الحق)) (ص: 405). وقد اخْتَلَف الباحثون في عَقيدةِ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ: هل كان أشْعَريًّا أو لا؟ فهذا النَّقْلُ من كِتابِه يَدُلُّ على أنَّه أشْعَريٌّ، وتوجَدُ نُقولٌ عنه أُخْرى تدُلُّ على أنَّه ليس أشْعَريًّا. فاللهُ أعلَمُ. يُنظر: مقدمة محقق كِتاب ((النكت في المَسائِل المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة للشيرازي)) (ص: 31 - 33). .
وقالَ القاضي عِياضٌ المالِكيُّ (ت 544هـ) في تَرْجمةِ ابنِ الباقِلَّانيِّ: (أبو بَكْرِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الطَّيِّبِ بنِ مُحَمَّدٍ القاضي، المَعْروفُ بابنِ الباقِلَّانيِّ، المُلَقَّبُ بشَيْخِ السُّنَّةِ، ولِسانِ الأُمَّةِ، المُتَكلِّمُ على مَذهَبِ المُثْبِتةِ وأهْلِ الحَديثِ، وطَريقةِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ) [332] ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) (7/ 44). .
ففُتِنَ كَثيرٌ مِن العُلَماءِ وطُلَّابِ العِلمِ بالمَذهَبِ الأشْعَريِّ لفَضْلِ الإمامِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ وأعْلامِه الَّذين طَوَّروا المَذهَبَ الأشْعَريَّ، وصاروا مِن الدُّعاةِ إليه أو مِن المُتَأثِّرينَ به، ولهم جُهودٌ عَظيمةٌ جِدًّا في الرَّدِّ على كَثيرٍ مِن أهْلِ البِدَعِ والأهْواءِ، ولهم أثَرٌ كَبيرٌ لا يُنكَرُ في مُخْتلِفِ العُلومِ النَّافِعةِ؛ مِن التَّفْسيرِ، والحَديثِ، والقِراءاتِ، والفِقْهِ، وأُصولِ الفِقْهِ، والنَّحْوِ، وغَيْرِ ذلك، فلم يُميِّزْ كَثيرٌ مِن النَّاسِ بَيْنَ العُلومِ النَّافِعةِ الَّتي نَقَلَها هؤلاء العُلَماءُ الأجِلَّاءُ، وبَيْنَ البِدَعِ الَّتي وافَقوا فيها أهْلَ الكَلامِ أو تَأثَّروا فيها بالفَلاسِفةِ والمُعْتَزِلةِ [333] تقَدَّمَ التَّنْبيهُ على أنَّ بَعْضَ العُلَماءِ الأجِلَّاءِ المنسوبينَ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ ليسوا أشاعِرةً، وبَعْضُهم هو على طَريقةِ مُتَقَدِّمي الأشاعِرةِ دون مُتَأخِّريهم، وبَعْضُهم لا يُوافِقون المَذهَبَ الأشْعَريَّ في جَميعِ أُصولِه ومَسائِلِه، وإنَّما في بَعْضِ المَسائِلِ، ويخالِفون مُتَأخِّري الأشاعِرةِ في كَثيرٍ من المَسائِلِ. ، لا سِيَّما وكَثيرٌ مِن النَّاسِ لم يَطَّلِعْ على كُتُبِ العَقائِدِ الَّتي ألَّفَها عُلَماءُ أهْلِ السُّنَّةِ، وبَيَّنوا فيها عَقيدةَ السَّلَفِ أصْحابِ الحَديثِ؛ العَقيدةَ الصَّحيحةَ المُوافِقةَ لكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه، وما كانَ عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحْسانٍ، وبعضُهم له اطِّلاعٌ عليها، لكن تَقَرَّرَ عنْدَه أنَّ طَريقةَ السَّلَفِ أَسلَمُ، وطَريقةَ الخَلَفِ أَحكَمُ وأَعلَمُ؛ فعَظُمَتِ الفِتْنةُ، وانْتَشَرَتِ البِدْعةُ.
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ عن أبي ذَرٍّ الهَرَويِّ (ت 434هـ) الَّذي أَدخَلَ مَذهَبَ الأشْعَريِّ إلى مَكَّةَ، وهو أحَدُ أَشهَرِ رُواةِ صَحيحِ البُخاريِّ: (أبو ذَرٍّ فيه مِن العِلمِ والدِّينِ والمَعْرِفةِ بالحَديثِ والسُّنَّةِ، وانْتِصابِه لرِوايةِ البُخاريِّ عن شُيوخِه الثَّلاثةِ، وغَيْرِ ذلك مِن المَحاسِنِ والفَضائِلِ ما هو مَعْروفٌ به، وكانَ قد قَدِمَ إلى بَغْدادَ مِن هَراةَ، فأخَذَ طَريقةَ ابنِ الباقِلَّانيِّ، وحَمَلَها إلى الحَرَمِ، وأهْلُ المَغرِبِ كانوا يَحُجُّونَ، فيَجْتَمِعونَ به ويَأخُذونَ عنه الحَديثَ وهذه الطَّريقةَ، ويَدُلُّهم على أصْلِها، فيَرحَلُ مِنهم مَن يَرحَلُ إلى المَشرِقِ، كما رَحَلَ أبو الوَليدِ الباجيُّ فأخَذَ طَريقةَ أبي جَعْفَرٍ السِّمْنانيِّ الحَنَفيِّ صاحِبِ القاضي أبي بَكْرٍ، ورَحَلَ بعْدَه القاضي أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ فأخَذَ طَريقةَ أبي المَعالي في الإرْشادِ، ثُمَّ إنَّه ما مِن هؤلاء إلَّا مَن له في الإسْلامِ مَساعٍ مَشْكورةٌ، وحَسَناتٌ مَبْرورةٌ، وله في الرَّدِّ على كَثيرٍ مِن أهْلِ الإلْحادِ والبِدَعِ، والانْتِصارِ لكَثيرٍ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والدِّينِ ما لا يَخْفى على مَن عَرَفَ أحْوالَهم، وتَكلَّمَ فيهم بعِلمٍ وصِدْقٍ وعَدْلٍ وإنْصافٍ، لكن لمَّا الْتَبَسَ عليهم هذا الأصْلُ المَأخوذُ ابْتِداءً عن المُعْتَزِلةِ، وهُمْ فُضَلاءُ عُقَلاءُ احْتاجوا إلى طَرْدِه والْتِزامِ لَوازِمِه، فلَزِمَهم بسَبَبِ ذلك مِن الأقْوالِ ما أَنكَرَه المُسلِمونَ مِن أهْلِ العِلمِ والدِّينِ، وصارَ النَّاسُ بسَبَبِ ذلك: مِنهم مَن يُعَظِّمُهم لِما لهم مِن المَحاسِنِ والفَضائِلِ، ومِنهم مَن يَذُمُّهم لِما وَقَعَ في كَلامِهم مِن البِدَعِ والباطِلِ، وخِيارُ الأمورِ أوْساطُها. وهذا ليس مَخْصوصًا بهؤلاء، بل مِثلُ هذا وَقَعَ لطَوائِفَ مِن أهْلِ العِلمِ والدِّينِ، واللهُ تَعالى يَتَقبَّلُ مِن جَميعِ عِبادِه المُؤْمِنينَ الحَسَناتِ، ويَتَجاوَزُ لهم عن السَّيِّئاتِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] . ولا رَيْبَ أنَّ مَن اجْتَهَدَ في طَلَبِ الحَقِّ والدِّينِ مِن جِهةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَخطَأَ في بعضِ ذلك، فاللهُ يَغفِرُ له خَطَأَه؛ تَحْقيقًا للدُّعاءِ الَّذي اسْتَجابَه اللهُ لنَبيِّه وللمُؤمِنينَ حيثُ قالوا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] . ومَن اتَّبَعَ ظَنَّه وهواه فأخَذَ يُشنِّعُ على مَن خالَفَه بما وَقَعَ فيه مِن خَطَأٍ ظَنَّه صَوابًا بَعْدَ اجْتِهادِه، وهو مِن البِدَعِ المُخالِفةِ للسُّنَّةِ، فإنَّه يَلزَمُه نَظيرُ ذلك أو أَعظَمُ أو أَصغَرُ فيمَن يُعظِّمُه هو مِن أصْحابِه، فقَلَّ مَن يَسلَمُ مِن مِثلِ ذلك في المُتَأخِّرينَ؛ لكَثْرةِ الاشْتِباهِ والاضْطِرابِ، وبُعْدِ النَّاسِ عن نورِ النُّبُوَّةِ وشَمْسِ الرِّسالةِ الَّذي به يَحصُلُ الهُدى والصَّوابُ، ويَزولُ به عن القُلوبِ الشَّكُّ والارْتيابُ؛ ولِهذا تَجِدُ كَثيرًا مِن المُتَأخِّرينَ مِن عُلَماءِ الطَّوائِفِ يَتَناقَضونَ في مِثلِ هذه الأُصولِ ولَوازِمِها، فيَقولونَ القَوْلَ المُوافِقَ للسُّنَّةِ، ويَنْفونَ ما هو مِن لَوازِمِه غَيْرَ ظانِّينَ أنَّه مِن لَوازِمِه، ويَقولونَ ما يُنافيه غَيْرَ ظانِّينَ أنَّه يُنافيه، ويَقولونَ بمَلْزوماتِ القَوْلِ المُنافي ما أَثبَتوه مِن السُّنَّةِ...، وكَثيرٌ مِمَّن تَكلَّمَ بالألْفاظِ المُجْمَلةِ المُبْتَدَعةِ؛ كلَفْظِ الجِسْمِ، والجَوْهَرِ، والعَرَضِ، وحُلولِ الحَوادِثِ، ونَحْوِ ذلك، كانوا يَظُنُّونَ أنَّهم يَنصُرونَ الإسْلامَ بِهذه الطَّريقةِ، وأنَّهم بِذلك يُثبِتونَ مَعْرِفةَ اللهِ وتَصْديقَ رَسولِه، فوَقَعَ مِنهم مِن الخَطَأِ والضَّلالِ ما أَوجَبَ ذلك، وهذه حالُ أهْلِ البِدَعِ كالخَوارِجِ وأمْثالِهم؛ فإنَّ البِدْعةَ لا تكونُ حَقًّا مَحْضًا مُوافِقًا للسُّنَّةِ؛ إذْ لو كانَتْ كذلك لم تكنْ باطِلًا، ولا تكونُ باطِلًا مَحْضًا لا حَقَّ فيها؛ إذْ لو كانَت كذلك لم تَخْفَ على النَّاسِ، ولكن تَشْتَمِلُ على حَقٍّ وباطِلٍ، فيكونُ صاحِبُها قد لَبَسَ الحَقَّ بالباطِلِ إمَّا مُخطِئًا غالِطًا، وإمَّا مُتَعَمِّدًا لنِفاقٍ فيه وإلْحادٍ) [334] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (2/ 101 - 104). .
ثُمَّ في عَصْرِنا الحاضِرِ اهْتَمَّ كَثيرٌ مِن طُلَّابِ العِلمِ بالحَديثِ النَّبَويِّ والعَقيدةِ الصَّحيحةِ الَّتي كانَ عليها السَّلَفُ الصَّالِحُ، وتَمسَّكَ بِها -بتَوْفيقِ اللهِ وفَضْلِه- كَثيرٌ مِن العُلَماءِ وطُلَّابِ العِلمِ حتَّى مِن المُنْتَسِبينَ إلى المَذهَبِ الشَّافِعيِّ والمالِكيِّ والحَنَفيِّ، وهي العَقيدةُ المُوافِقةُ للفِطْرةِ، الخالِيةُ مِن تَكَلُّفاتِ أهْلِ البِدَعِ؛ قالَ ابنُ الوَزيرِ اليَمانيُّ: (المُسلِمُ بالفِطْرةِ يُنكِرُ هذه البِدَعَ، وبالرُّسوخِ في عِلمِ الحَديثِ يَعلَمُ بالضَّرورةِ حُدوثَها، وأنَّ عَصْرَ النُّبُوَّةِ والصَّحابةِ بَريءٌ مِنها، مِثلَما يَعلَمُ أنَّ المُعْتَزِلةَ أبْرياءُ مِن مَذهَبِ الأشْعَريَّةِ، وأنَّ الأشْعَريَّةَ أبْرياءُ مِن مَذهَبِ المُعْتَزِلةِ) [335] ((إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المَذهَب الحق)) (ص: 130). .

انظر أيضا: