موسوعة الفرق

المَبحَثُ الرَّابعُ: اعتِقادُ أنَّ الإمامَ يُحَرِّمُ ما يشاءُ ويُحِلُّ ما يشاءُ


مِن أُصولِ التَّوحيدِ الإيمانُ بأنَّ اللهَ سُبحانَه هو المُشرِّعُ وَحدَه، يُحِلُّ ما يشاءُ ويُحرِّمُ ما يشاءُ، لا شَريكَ له في ذلك، ورُسُلُ اللهِ يُبَلِّغونَ شَرعَ اللهِ لعِبادِه، ومَن ادَّعى أنَّ له إمامًا يحِلُّ ما يشاءُ ويُحرِّمُ ما يشاءُ، فقد أشرَك مَعَ اللهِ غَيره، وهو داخِلٌ في قَولِه سُبحانَه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى: 21] .
ومِن مَرويَّاتِ الشِّيعةِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى (خَلقَ مُحَمَّدًا وعَليًّا وفاطِمةَ فمَكثوا ألفَ دَهرٍ، ثُمَّ خَلقَ جَميعَ الأشياءِ فأشهَدَهم خَلْقَها، وأجرى طاعتَهم عليها، وفوَّضَ أُمورَها إليهم؛ فهم يحِلُّونَ ما يشاؤونَ، ويُحَرِّمونَ ما يشاؤونَ) [1340] يُنظر ((الكافي)) للكليني (1/441). !
وقد شَرَحَ المَجلِسيُّ بَعضَ فِقراتِ هذا النَّصِّ، فقال: ("وأجرى طاعتَهم عليها" أي: أوجَبَ وألزَمَ على جَميعِ الأشياءِ طاعَتَهم حتَّى الجَماداتِ مِنَ السَّماويَّاتِ والأرضيَّاتِ، كشَقِّ القَمَرِ وإقبالِ الشَّجَرِ وتَسبيحِ الحَصى وأمثالِها مِمَّا لا يُحصى، "وفوَّضَ أُمورَها إليهم" مِنَ التَّحليلِ والتَّحريمِ والعَطاءِ والمَنعِ) [1341] ((بحار الأنوار)) (25/ 341). ، ثُمَّ بَيْنَ أنَّ ظاهرَ هذا النَّصِّ يدُلُّ على تَفويضِ أحكامِ التَّحليلِ والتَّحريمِ إليهم.
وعن أبي جَعفرٍ قال: (مَن أحلَلْنا له شَيئًا أصابَه مِن أعمالِ الظَّالمينَ فهو حَلالٌ؛ لأنَّ الأئِمَّةَ مِنَّا مُفوَّضٌ إليهم، فما أحَلُّوا فهو حَلالٌ، وما حَرَّموا فهو حَرامٌ) [1342] يُنظر: ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 330). .
لقد قال اللهُ جَلَّ شَأنُه في اليهودِ والنَّصارى الذينَ يتَّبعونَ عُلماءَهم فيما يحلُّونَ ويُحرِّمونَ من دونِ شَرعِ الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [التوبة: 31] ، فجَعَل سُبحانَه اتِّباعَهم فيما يُحِلُّونَ مِنَ الحَرامِ، ويحرِّمونَ مِنَ الحَلالِ عِبادةً لهم [1343] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/113)، ((تفسير ابن كثير)) (2/373). وفي كتبِ الشِّيعةِ روايةٌ توافِقُ هذا التَّفسيرَ، قال أبو عبدِ اللهِ جعفَرٌ الصَّادِقُ: (أما واللهِ ما دعوهم إلى عبادةِ أنفُسِهم، ولو دعَوهم ما أجابوهم، ولكِنْ أحلُّوا لهم حرامًا، وحرَّموا عليهم حلالًا من حيثُ لا يشعُرون) يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/53)، ((مجمع البيان)) للطبرسي (3/48)، ((البرهان)) للبحراني (2/120)، ((تفسير الصافي)) للكاشاني (2/336). ، قال ابنُ عَطيَّةَ: (تَلقَّوا الحَلالَ والحَرامَ مِن جِهَتِهم، وهو أمرٌ لا يُتَلقَّى إلَّا مِن جِهةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ) [1344] ((المحرر الوجيز)) (8/166). .
فشابَهَ غُلوُّ الشِّيعةِ في أئِمَّتِهم ومَشايِخِهم غُلوَّ اليهودِ والنَّصارى في رُؤَسائِهم؛ فالجَميعُ اتَّخَذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا مِن دونِ اللهِ سُبحانَه!
وحينَما اعتَقدوا في أئِمَّتِهم أنَّهم جِهةُ تَشريعٍ رَأوا أنَّ النَّاسَ جَميعًا عَبيدٌ للأئِمَّةِ، فرَوَوا عن عليٍّ الرِّضا أنَّه قال: (النَّاسُ عَبيدٌ لنا في الطَّاعةِ، مَوالٍ لنا في الدِّينِ، فلْيُبلِغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ) [1345] يُنظر: ((الأمالي)) للمفيد (ص: 48). .
واللهُ سُبحانَه يقولُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ [آل عمران: 79] ، فالنَّاس جَميعًا عَبيدٌ للهِ وحدَه لا لأحَدٍ سِواه، ولو كان مِن عِبادِ اللهِ المُرسَلينَ الذينَ آتاهم اللهُ الكِتابَ والحُكمَ والنُّبوَّةَ، فكيف بأئِمَّةِ الشِّيعةِ؟!
وبما أنَّ الأئِمَّةَ -حَسَبَ اعتِقادِ الشِّيعةِ- جِهةُ تَحليلٍ وتَحريمٍ، فإنَّ لهم الخيارَ في أن يُبَيِّنوا للنَّاسِ أمرَ الحَلالِ والحَرامِ وأن يكتُموه؛ فعن مُعلَّى بنِ مُحَمَّدٍ عن الوشَّاءِ أنَّه سَأل الرِّضا عن قَولِ اللهِ تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] ، فقال: (نحن أهلُ الذِّكرِ، ونحن المسؤولون، قلتُ: فأنتم المسؤولون ونحن السَّائِلونَ؟ قال: نَعَم، قلتُ: حَقًّا علينا أن نَسألَكم؟ قال: نَعَم، قلتُ: حَقًّا عليكم أن تُجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا؛ إن شِئْنا فعَلْنا، وإن شِئْنا لم نَفعَلْ) [1346] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/210). ، وفي هذا المَعنى رِواياتٌ كثيرةٌ عِندَهم [1347] يُنظر: ((الكافي))، بابُ أنَّ أهلَ الذِّكرِ الذين أمَر اللهُ الخَلقَ بسؤالِهم هم الأئمَّةُ عليهم السَّلامُ (1/210-212)، ((بحار الأنوار)) بابُ أنَّهم عليهم السَّلامُ الذِّكرُ وأهلُ الذِّكرِ وأنَّهم المسؤولون، وأنَّه فُرِض على شيعتِهم المسألةُ ولم يُفرَضْ عليهم الجوابُ (23/172-188). ويُنظر: ((تفسير العياشي)) (2/261)، ((قرب الإسناد)) للحميري (ص: 152). .
مَعَ أنَّ هذا لم يكُنْ حَقًّا حتَّى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي أمَرَه اللهُ بتَبليغِ الحَقِّ، فقال اللهُ تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، وقال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] .
وقد جاءَ الوعيدُ الشَّديدُ لِمَن كتَمَ ما أنزَل اللهُ مِنَ الهدى والحَقِّ، فقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] .
وقد ورَدَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن سُئِل عن عِلمٍ ثُمَّ كتَمَه أُلجِمَ يومَ القيامةِ بلِجامٍ مِن نارٍ)) [1348] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (266) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (95)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3658)، وحسَّنه الترمذي، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين الحاكم في ((المستدرك)) (344) وقال: هذا حديثٌ تداوله النَّاسُ بأسانيدَ كثيرةٍ تجمَعُ ويُذاكَرُ بها، وصحَّح إسنادَه الذهبي في ((الكبائر)) (287)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/194)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3658). .
ولأنَّ البَيانَ والتَّعليمَ خاضِعٌ لإرادةِ أئِمَّةِ الشِّيعةِ، فقد ظَلَّ الشِّيعةُ -كما تَقولُ أخبارُهم- (لا يَعرِفونَ مَناسِكَ حَجِّهم، وحلالَهم وحرامَهم، حتَّى كان أبو جَعفرٍ مُحَمَّدٌ الباقِرُ، ففتح لهم، وبَيَّنَ مَناسِكَ حَجِّهم، وحلالَهم وحرامَهم) [1349] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/20). .
ولم يكتَفوا بذلك بل زَعَموا أنَّ لأئِمَّتِهم حَقَّ إضلالِ النَّاسِ، وإجابَتِهم بالأجوِبةِ المُختَلفةِ المُتَناقِضةِ؛ لأنَّه قد فُوِّضَ إليهم ذلك؛ فعن موسى بنِ أشيَمَ قال: (دَخَلتُ على أبي عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ فسَألتُه عن مَسألةٍ فأجابَني فيها بجَوابٍ، فأنا جالسٌ إذ دَخَل رَجُلٌ فسَأله عنها بعَينِها فأجابَه بخِلافِ ما أجابَني، فدَخل رَجُلٌ آخَرُ فسَأله عنها بعَينِها فأجابَه بخِلافِ ما أجابَني وخِلافِ ما أجابَ به صاحِبي، ففزِعتُ مِن ذلك وعَظُمَ عليَّ! فلمَّا خَرَجَ القَومُ نَظَرَ إليَّ وقال: يا ابنَ أشيَمَ، كأنَّك جَزِعتَ؟ فقُلتُ: جُعِلتُ فِداك، إنَّما جَزِعتُ مِن ثَلاثةِ أقاويلَ في مَسألةٍ واحِدةٍ! فقال: يا ابنَ أشيَمَ، إنَّ اللهَ فوَّضَ إلى داوُدَ أمرَ مُلكِه، فقال: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39] ، وفوَّض إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه أمرَ دينِه، فقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وإنَّ اللهَ فوَّضَ إلى الأئِمَّةِ مِنَّا وإلينا ما فوَّضَ إلى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه؛ فلا تَجزَعْ) [1350] يُنظر: ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 329). .

انظر أيضا: